صفحة:غابة الحق.pdf/58

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
تحتاج هذه الصفحة إلى تصحيح.

لأميرنا برجًا يبلغ رأسه إلى السماء؛ فكان البعض يقطع من الجبال حجارة، والبعض يصنع طينًا، وآخرون يشوون لبِنًا، وغيرهم يسرد ترابًا، وما برحوا يحفلون بموسم البنيان حتى انتصب برج عظيم وصارت تخفق عليه راية أمير القبيلة.

وهكذا شرع كلٌّ من الناس يبني له بيتًا ولمواشيه مذودًا حتى قامت مدينة عظيمة المشاد، يضج في شوارعها أفواج وافرة من العباد. ولما صارت الأسواق تطن بمطارق معامل المعادن، والشوارع ترن بأصوات الصنائع والأشغال، والساحات ترتجف تحت أقدام المحافل والمعامع، والمراسح تتموَّج لدى لطم أمواج الأصوات الاحتفالية الآتية من أفواه آلات الطرب، صار يدوِّي في آذان الشعوب المتفرِّقة صوت ذلك الضجيج المرتفع واللغط الهادر، فكانوا يتقاطرون أجواقًا أجواقًا، ويخيمون في ظلال المدينة طالبين من سكانها أن يقبَلوهم في الجوار لكي يتخلصوا من مشاقِّ البادية ويفوزوا براحة الحضر.

وهكذا كانت تلك المدينة تقبلهم بكل إكرام على شرط أن يخضعوا لأحكامها وشرائعها ويؤدِّوا الأعشار لأميرها؛ فلم تلبث أن تعاظمت جدًّا، وتضاعفت مساحةً وسكانًا، وصارت محاطة بأسوار رفيعة وحصون منيعة، حتى أضحت مركز رهبة يدور عليه احترام القبائل وموضوع عظمة يُحمل عليه حسد البشر.

وبينما كانت هذه المدينة الزاهرة رافلةً بأذيال اليمن والكرامة،