صفحة:غابة الحق.pdf/32

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
تحتاج هذه الصفحة إلى تصحيح.

إشارة لطرده من حلاوة الحياة القاصرة إلى الدخول في مرارة الحياة المستقلة؛ وحينئذٍ يميل بوجهه إلى مواجهة عالم الغلبات، فتدفعه شرائع الاستقلال الحيوي في عبودية الموجودات، وتعصف به زوابع الأقدار في مفازة الطبيعة، فيعود مدافعًا ومحاذيًا جميع الكائنات أملًا في الخلاص من فواعلها وتأثيراتها الطارئة عليه، فيخضع للحرارة ليستعين بها على الفرار من سلطة البرد. ويميل إلى هذا الأخير ليدفع عنه غلبة تلك الأولى، ويبسط يديه لدى مكارم المملكة الآلية1 علنًا ليسترجع منها ما اقتنصته من بنيته بالانحلال أو التنفس خفية. ويبتني من الجوامد بيوتًا لتحميه من حوادث الجوِّ وهجير الشمس، ويستنجد المعادن لوقاية أبنيته من غوائل الصواعق المنقضة، ويستخدم أجنحة البخار ليطير بها إلى كل فسحات الأرض. وهكذا لا تبرح طيور أفكاره تحوم على دوحة الطبيعة، وأقدام آماله تعدو في ميادين العالم حتى تنتصر أخيرًا على جميع قواته كل تلك الأكوان، وتزجه في أودية العدم حيثما تحيط به ظلمات الفناء وتكتنفه غمرات السكوت، بعد حياة قد تقضت بالتعبد لكافة الحادثات، وجرت تحت رق المصائب والأتعاب والأمراض، خاضعة لقويٍّ مقتدر أو ضعيف مستتر حسبما تقتضي الغاية أو الضرورة؛ فلا حرية إذن للإنسان.

وهكذا تجري على هذا المجرى سائر الموجودات، أما ترى الحيوان القوي كيف يستعبد الضعيف؟ أما ترى أن كل الحيوانات كيف تسترق لخدمتها جميع جماهير الوجود

  1. قوله الآلية: أي عالم الحيوانات والنباتات.