صفحة:غابة الحق.pdf/125

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
تحتاج هذه الصفحة إلى تصحيح.

ومع ذلك لا يجب على التمدن أن يستأصل جميع جذورك من أرضه يا أيها الجهل؛ فإنه لا بد من بعض دخل لك في غوطته استدراكًا لشيوع الدعوى بتمام العلم مع ما بين غير أهله شيوعًا لا ينكر ضرره؛ لأن الإنسان المدعي بالمعارف على غير أصل إنما ينشئ أضرارًا جَمَّة؛ إذ يزرع في عقول أصحابه ورفقائه الذين يثقون به قواعد وحقائق كاذبة باطلة، وهم ينقلونها إلى غيرهم إلى أن تشيع وتذيع، وربما صارت أساسات يبني الناس عليها ما يفضي بهم إلى الضلال والطغيان، فيعود مقتضيًا لنفوذ أنوار الحقائق في أبصار بصائرهم عناء عظيم، ويكون سبب ذلك هذر الجاهل المدعي. فيجب إذن للتمدن أن يترك يدًا لقائد الجهل في دائرته لكي يوحي إليه بواسطة تغلب العلم أن يلطم أفواه تبعته، ويضع أقفالًا عليها؛ فلا يعودون يفوهون بما يؤذي؛ إذ يصيرون خاضعين لتبعة العلم ومجتهدين في نوال الحقائق قدر الإمكان، وعارفين أنفسهم أنهم منتسبون إلى الجهل. حتى إن المتوغلين في بواطن الأشياء أيضًا كثيرًا ما يلتجئون إلى حكم الجهل لكثرة ما يرون من المجهولات التي يفوتهم إدراكها، وكلما ازداد الإنسان علمًا ومعرفة وَجَدَ لحكم الجهل عليه اتِّسَاعًا وغلبة؛ لأن نسبة ما يمكن علمه إلى عالم المجهول هي كنسبة ما يمكن للنظر إحاطته من البحر إلى ساحة المياه جميعها أو ما يمكن رُؤياه من النجوم الظاهرة القليلة إلى بقية الأجرام المختلفة الممتنع عددها، فكما أن كروية البحر ورحابة الفلك تقدمان للنظر أمدًا وعددًا أكثر كلما ارتفع الناظر وقوَّى أسطرلابه إلى أن يحكم أخيرًا