صفحة:غابة الحق.pdf/115

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
تحتاج هذه الصفحة إلى تصحيح.

جهوري هكذا

إنه منذ خمس عشرة سنة بينما كنا ذات يوم أنا وأخي هذا مرجان (وأومأ إلى الزنجي الآخر) نسرح مع والدتنا في برية السودان على نحو غلوة من قريتنا، وكانت سنِّي لم تتجاوز العشر، وسنه لم تبلغ الثماني. وإذا بقافلة من فلاحي مصر نظرناها تخب في القفر بين الأمواج الرملية المستعرة بإيقاد الهجير آخذة طريق جبال القمر حيثما يتوهم انبعاث النيل. فعندما نظر إلينا بعض الركاب أخذوا يعرضون علينا عن بُعد قطعًا كانت تتلامع بأشعة الشمس مُظهِرِين قصد دفعها لنا، فهرعنا إليهم حالًا رغمًا عن ممانعة والدتنا وقتئذٍ المشتقة عند حدْس القلب. وإذ دنونا منهم على أملٍ قبضوا علينا سريعًا وأردفونا على الإبل وأطلقوا الوخد ضاربين في أودية الرمال، فطفقنا نتباكى ونتصايح باسطين أيدينا إلى والدتنا التي كانت تولول وتنوح عن بُعد بحنين يجرح الفؤاد، وتنسف الرمل على رأسها وهي تركض لتدركنا زاعمة إمكان إنقاذنا.

أما نحن فكنا نزيد في العويل ونبالغ في استنجادها كلما كانت تقرب منا. ولم تزل هذه المسكينة تجهد خطواتها حتى أدركت محلنا فأخذت تترامى على أقدام مقتنصينا سافحة دموعها السخنة وتتململ وتترجى بلغتنا التي لا يفهمونها صارخة بصوت يحرك الجلمود: أستحلفكم بما تعبدونه ردوا عليَّ ولديَّ كرمًا لرب النيل، أعطوني ولديَّ ولا تتركوني أمُتْ بفراقهما كمدًا، ردوا عليَّ ثمرة أحشائي وأنا أعطيكم كل ما أملكه من الخرز