فرع من عمله ، وجاء عمر بعده فأتم عمله وأقام الأساس ثم أقام عليه البناء .. وكانت قدرته على التأسيس هي آية الآيات فيه ، وفي ذلك العصر البداوة البادية١، لأنه التفت الى مواضعه الخليقة ٢ بالاهتمام والتقديم كأنه راجع تاريخ عشرين دولة مستفيضة الملك راسخة العمران . وهي قدرة تروعنا وتدهشنا لو شهدناها من ملك ترني على الملك ، وسلفه على عرشه سمط٣ من الملوك ، وأولى أن تروعنا وتدهشنا من رجل البادية الذي يقدم على أمر جديد ، لم تعنه فيه السوابق : ولم يهتد فيه الا بما أختار هو أن يهتدي اليه..
فبعد جمع القرآن لا نعرفه عملا يقترن به ويلازمه ويعد من أسس الدولة العربية كالعمل على تصحيح اللغة وحفظها من الخلط والفساد وكلاهما عمل لا يفطن اليه الا من طبع على سليقة التأسيس وأخذ بها من أصولها . وكلاهما فطن اليه هذا المؤسس الكبير على أهون ما يكون من البساطة والسهولة . فأشار بوضع علم النحو كما أشار بجمع آي القرآن ، وكان أثره في تدعيم الدولة الأدبية كأثره في تدعيم دولة الغزوات والفتوح..
وندر في الدولة الإسلامية من نظام لم تكن له أولية .. فيه فافتتح تاريخا ، واستهل حضارة ، وأنشأ حكومة ورتب لها الدواوين ونظم فيها أصول القضاء والإدارة ، واتخذ لها بيت مال ووسل بين أجزائها بالبريد ، وحمى ثغورها بالمرابطين ، وصنع كل شيء في الوقت الذي ينبغي أن يصنع فيه ، وعلى الوجه الذي يحسن به الابتداء . فأوجز ما يقال فيه أنه وضع دستورا لكل شيء وتركه قائما على أساس لمن شاء أن يبني عليه..
وملاك٤ النظم الحكومية كلها نظام الشورى الذي أقامه عمر على أحسن ما يقام عليه في زمانه ، فجمع عنده نخبة الصحابة للمشاورة والاستفتاء ، ومن بهم على العمالة في أطراف الدولة ، تنزيها لأقدارهم وانتفاعا
برأيهم واعتزازا بتأييدهم له و معاونتهم اياه فيما تولاه من ثواب أو عقاب