صفحة:داعي السماء.pdf/54

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
صُححّت هذه الصفحة، لكنها تحتاج إلى التّحقّق.
نشأة بلال

ولا أمانته وتسليمه. بل قال : ما عملت عملًا في الإسلام أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهورًا تامٍّا في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لله لي أن أصلي

فكان اصطفاء النبي هذا الصديق المؤمن الأمين اصطفاء المربي الكبير للرجل تثمر فيه التربية والقدوة الحسنة كما يثمر فيه الصنيع الجميل، ويُحب للطف محضره كما يحب لخلوص طويته وفضائل نفسه، وقد كان كالحارس الملازم لشخص النبي عليه السلام في طويل صحبته بين الحرب والسلم والإقامة والسفر، ولكنه عليه السلام لم يكن يتخذه حارسًا يحميه كما يحمي الحراس الأمراء والسلاطين، وإنما كان يستصحبه في إقامته وسفره استصحاب الحراس لأنه كان يستريح إلى رؤيته والشعور بصدق مودته ووفائه، وكانت مودة بلال لمولاه وهاديه تبدو منه حيث يريد وحيث لا يريد، فإذا اشتد الهجير في رحلة من الرحلات أسرع إلى تظليله بثياب الوشي والنبي لا يسأله ذلك، وإذا تهيئوا للقتالضرب له قبة من أدم يرقب الموقعة منها، وجعل يتردد بينها وبين الميدان ليطمئن عليه ويتلقى الأمر منه، فلم يفرقهما موقف ضنك ولا موقف خطر، ولم ينقض يوم إلا جمعتهما فيه الصلوات الخمس ومجالس العظة والحديث، ما لم يكن في غيبة قصيرة لشأن من شئون الدين الذي لم يكن له شأن سواه.

ولما فتحت مكة أمره النبي عليه السلام أن يقيم الأذان على ظهر الكعبة فأقامه والمشركون وجوم يغبطون آباءهم لأنهم لم يشهدوا ذلك اليوم ولم يسمعوا ما سمعوه فيه، ودخل النبي الكعبة، فكان في صحبته ثلاثة هم عثمان بن طلحة صاحب مفاتيحها وأسامة بن زيد ابن النبي بالتبني، وبلال.

وما زال يصحب النبي مجاهدًا حتى قُبض عليه السلام، فأقام الأذان بعد وفاته أيامًا على أرجح الأقوال ثم أبى أن يؤذن وأصر على الإباء، لأنه كان إذا قال في الأذان بكى وبكى معه سامعوه، فلم يطب له المقام حيث كان « أشهد أن محمدًا رسول لله » يصحب النبي ويراه ثم هو بعد لا يصحبه ولا يراه، وآثر الاغتراب على فرط حبه لمكة والمدينة، وآثر الجهاد على فرط حاجته إلى الراحة في غُرَّة الستين، واتفقت أرجح الأقوال على أنه استعفى الصديق من الأذان معه واستأذنه في الخروج إلى الشام مع المجاهدين. فأذن له بعد إلحاح منه، واشترك في معارك لا نعلمها على التفصيل، ثم سكن إلى ضيعة صغيرة بجوار دمشق يزرعها ويعيش من غلتها، ولم يسمع عنه خبر بعد ذلك إلا يوم أذن للخليفة الفاروق بدعوة من كبار الصحابة والتابعين، ويوم تصدى لمحاسبة خالد في مجلس الحكم بين يدي أبي عبيدة.

53