صفحة:داعي السماء.pdf/55

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
صُححّت هذه الصفحة، لكنها تحتاج إلى التّحقّق.
داعي السماء

وأدركته الوفاة في نحو السبعين — لأنه كان ترب الصديق على أرجح الأقوال — وقيل: إنه مات في طاعون عمواس، وقيل سنة عشرين للهجرة أو إحدى وعشرين. واستعذب الموت؛ لأنه سيجمع بينه وبين النبي وصحبه كما كان يقول في ساعات الاحتضار، فكانت زوجته تعول إلى جانبه وتصيح صيحة الوله: واحزناه! فيجيبها في كل مرة: بل وافرحاه! غدًا نلقى الأحبة؛ محمدًا وصحبه.

وكانت وفاته بدمشق فدفن عند الباب الصغير، وقبره وقبره رضيلله عنه معروف يزار.

وليس أدل على قدر بلال عند الصحابة والتابعين من ذلك الوجد الذي اختلجت به حناياهم وهو يؤذن لهم في دمشق بعد انقطاعه عن الأذان تلك السنين الطوال. بكى عمر وبكى معه الشيوخ الأجلاء حتى اخضلت اللحى البيضواضطربت الأنفاس التي لا تضطرب في مقام الروع. ولو بدا لهم أنهم يستمعون إلى صوت آدمي ينطلق من حنجرة من اللحم والدم لما اختلجوا تلك الخلجة ولا تولاهم ما تولاهم يومئذ من الوجد والرهبة، ولكنهم أنصتوا لوحي الغيب حين أصغوا إليه، وقام في أفئدتهم أنه صوت جدير بمحضر النبي عليه السلام يسمعه معهم كما سمعوه معه آونة من الزمان. فهم إذن في عليين أو أقرب من عليين، وهم إذن على مسمع ومشهد من ذات لله جل وعلا وذات النبي عليه السلام في جواره، وهم إذن أرواح علوية يضيق اللحم والدم بفيضها الإلهي فترجف من الوجد وتنكسر الأجساد بالبكاء مغلوبة في عالم الأرواح وآفاق السماء.

رحم لله بلالًا … إنه كان داعي السماء ليرفع أبناء الأرضبدعوتها. وقد رفعتهم في ذلك اليوم إلى الأفق الأعلى؛ إلى الحضرة التي ترتجف فيها الأجساد لأنها غريبة في ذلك الجوار.

 

وحق للمسلمين في ذلك العهد أن يقرنوا بين محضرالنبي وصوت بلال حيث كان. فمن سيرة بلال الوجيزة نعلم أنه كان يأوي إلى كفالة النبي في حياته البيتية كما كان يأوي إليه في حياته الدينية. وأن أحدًا من الصحابة لم يكن يذكرهم بالنبي عليه السلام كما كان يذكرهم به مؤذنه وصاحبه ووليه طوال حياته حيث يرونه أو حيث يستمعون إليه، وقد شغل النبي بمعيشته في بيته كما شغل بعتقه ورزقه وتقويم دينه، ففي روايات مختلفة أنه تزوج بوصية منه عليه السلام، وفي إحدى هذه الروايات:

 

إن بني أبي البكير جاءوا إلى رسول لله عليه السلام فقالوا: زوج أختنا فلانًا، فقال لهم: «أين أنتم عن بلال؟» ثم جاءوا مرة أخرى فقالوا: يا رسول لله،

54