صفحة:داعي السماء.pdf/52

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
صُححّت هذه الصفحة، لكنها تحتاج إلى التّحقّق.
نشأة بلال

عبء نفقته ونفقة المستضعفين من أمثاله، فقال له: لقد أعتقته يا رسول لله. وعمل بعد ذلك خازنًا له ثم خازنًا للنبي ومؤذنًا للمسلمين بعد إقامة الأذان.

واستراح بلال بعد عتقه من إيذاء السادة للعبيد ولكنه لم يسترح ولا استراح غيره من إيذاء الأحرار للأحرار ولا سيما المستضعفين الذين لا تحميهم العصبية ولا الخوف من الثأر. فقد كان المشركون يتعقبون المسلمين بكل ما استطاعوا من عنت ومساءة، واشتدوا في ذلك حتى هموا بقتل النبي عليه السلام، وجمعوا كلمة القبائل على هذه النية ليفرقوا دمه الزكي بينها فلا تقوى هاشم وحدها على محاربتها أو تصمد لعداوتها. فأشفق النبي الكريم على صحبه وأذن لهم في الهجرة قبله، وكان بلال ممن هاجر إلى المدينة على إيثار منه للبقاء في مكة. فلما وصل النبي عليه السلام وصاحبه الصديق إلى المدينة كانت «أوبأ أرض لله من الحمى » ولكنها أرحم بهم من جيرة المشركين في مكة.

ونزل الصديق وعامر بن فهيرة وبلال في بيت واحد فأصيبوا جميعًا بالحمى — ولعلها الملاريا كما رجحنا في غير هذا الكتاب — فكان بلال إذا تركته الحمى اضطجع بفناء البيت ثم رفع عقيرته يترنم بصوته الجهوري قائلًا:

ألا ليتَ شِعري هل أبيتنَّ ليلةً
بفخٍّ وحولي إذخرٌ وجليلُ
وهل أَرِدَنْ يومًا مياهَ مَجِنَّةٍ
وهل يَبْدُوَنْ لي شامةٌ وطفيلُ
 

وهي مواضع ومنابت بمكة وجوارها تشوقها بلال في العلة لما ابتعد عنها، وليس أعجب في الوفاء لموطن الصبا من هذا الوفاء؛ لأن بلالًا قد لقي عند تلك المواطن والمنابت قسوة في جاهليته وتعذيبًا في إسلامه وخطرًا على حياته، ولكنه عاش فيها مع الصبا الأول وعاش فيها مع الإيمان الأول، فهي حبيبة إليه أثيرة لديه، وإن لقي الحفاوة والسلامة في الهجرة منها إلى غيرها.

وقد لزم بلال النبي والصديق بالمدينة ومكة وسائر المغازي والأسفار بعد ذلك. وكان لمسجد المدينة الذي اشترك النبي عليه السلام في بنائه حظُّ الأذان الأول، فكان لبلال حظ السبق بهذا الأذان. ولم يزل له حظ التقدم على سائر المؤذنين في حضرة النبي حتى قُبضعليه السلام، ومُيِّز بالتقدم عليهم لتقدمه في الإسلام ولجهارة صوته وحسن أدائه، وإن كان تقدمه في الإسلام هو أرجح المزيتين التي استحق بها التفضيل والتكريم.

51