وسنستعين بهذه الأحوال البارزة لتثبت كيف يصعب على المنطق العقلي أن يتخلص من تأثير العاطفة والدين .
فلنقسم الرجال الذين فُوِّض اليهم أمر القضاء بين الناس كي نصل الى هـذا الغرض ، حينئذ نرى على أسفل درجة في السلم أولى النفوس الذين يتكون رأيهـم بتأثير المنطق العاطفي دون غيره ، ثم نرى على أعلى درجة في ذلك السلم رجالاً ذوى أمزجة نفسية لا تؤثر فيهم سوى براهين المنطق العقلي .
والى الصنف الأول ينتسب المحلفون في محاكم الجنايات ، فالمحلفون لكثرة عددهم تتألف منهم جموع ويكتسبون ما للجموع من صفات أي لا تؤثر الأدلة العقلية فيهم الا قليلا ، فيمكن تحويل قناعتهم بالتأثير في مشاعرهم ، وعلى ذلك فان المرأة التي تقترف جناية كبيرة ويكون لها ذرية صغار يجدون في طلبها باكين لا تلبث أن تصير محطا لتوجع المحلفين ورحمتهم ، وإذا كانت المجرمة امرأة حسناء قتلت عاشقها بتأثير الحسد والغيرة فإن المحلفين في فرنسا يرحمونها أكثر مما يرحمون الأولى فيبرئونهـا وأما في إنكلترا فيحكمون عليها بالإعدام ، وبهذه الحالة يتحلى انا تأثير العرق في تكوين الآراء .
وفوق الصنف المذكور الذي تستحوذ عليه المشاعر يجيء قضاة المحاكم الابتدائية فهؤلاء هم من الحداثة بحيث يمكن أن تؤثر أدلة المشاعر فيهم ، واذا كان المحامي مشهوراً فانه يخلبهم ، ومع هذا فقد يتأثرون الأدلة العقلية ، اللهم اذا لم تعترضها منافعهم الشخصية ، واحيانا يكون لرغبتهم في الرقى والعوامل السياسية تأثير عظيم في آرائهم ، ولذلك تكون أحكامهم متقلبة مشتبها فيها ، يحدث عندي هـذا الاعتقاد كون محاكم الاستئناف تنقض ثلث احكامهم على وجه التقريب .
ودرجة قضاة محاكم الاستئناف هي فوق درجة أولئك ، إذ لما كان هؤلاء القضاة اكبر سنًا واعظم تجربة فانهم يخضعون لتأثير المنطق العقلي أكثر مما لتأثير المنطق العاطفي .
ثم نشاهد على ذروة السلم قضاة محكمة النقض والابرام ، فبما أن القضاة المذكورين طعنوا في السن فأصبحوا من الشيوخ وصارت علائم الهرم بادية عليهم،