رسالة ابن فضلان (ت. سامي الدهان) /كتب الرحلة في العصر
رحلة ابن فضلان
كتب الرحلة في العصر
يبدو أن الشعب العربي كان مفطوراً على حب الرحلة والسفر منذ فجر نشأته، فقد ذكر التاريخ أنباء متواترة عن تنقله وأسفاره ، في سبيل الرزق والتجارة والمعرفة. زار كثير من أفراده بقاعاً وأقاليم بعيدة، فبلغ إلى أقاصي بلاد الشام والحبشة، وطوف كثير من أبنائه في بلاد نائية، فكأنه لم يعرف الهدوء والقرار على مصاعب السفر والرحلة آنذاك. وقد كان للقبائل رحلات، وللأفراد أسفار، ذكر بعضها في الشعر، فكانت رحلات الشعراء إلى الحيرة ودمشق وبلاد الروم، حتى لقد بلغ امرؤ القيس القسطنطينية ونسب إليه شعر قاله في أنقرة. وكان لقريش رحلتان إحداهما في الصيف والأخرى في الشتاء.
ولما جاء الإسلام اندفع الشعب العربي إلى خارج الجزيرة وبلغ في عصر واحد تخوم المشرق والمغرب، فعرف بلاداً كانت في قمة الحضارة والرقي، أخذ عنها، وأفاد منها، فأدخل منها في حياته وعيشه وملبسه ما أدخل، ووقف عنــــد مستوى حضاريّ رفيع ، ظل يرقى به، ويحافظ عليه، حتى تحدرت من حوله الأمم وسقطت همتها في الرقي، وبقي وحده منارة وينبوعاً، تستنير بهديه الشعوب في حلكة حياتها وظلمة انحدارها.
وما أشرق القرن الثامن للميلاد حتى كان للعرب ملك فسيح الرقعة في إمبراطورية عريضة، حدودها تخوم الهند في الشرق والمحيط الأطلسي في الغرب وجبال القوقاز في الشمال وصحارى إفريقية في الجنوب.
وكانت إدارة هذه الامبراطورية تفرض أموراً كثيرة منها معرفة الجزية والخراج، فقد كان معظم الولايات تعدّ الخليفة العبّاسيّ رئيسها الديني ، تؤدي إليه الأموال، فبعض باسم الضمان، وبعض باسم المصالحة، وآخرون باسم الهدية، وكانت هذه الأموال تقوم بكثير من نفقات الخلافة، وتعزّز السلطان وتحفظ مهابَته وكيانه. فكان من أوجب الأمور لمعرفة الجباية وجمع الأموال أن يعرف الحاكمون حال المسالك والممالك، والبلاد والأقاليم، وأن يقوم بوصف ذلك رجال وقفوا كثيراً من وقتهم على الرحلة وتسقط المعلومات والأخبار، فنشأت كتب الرحلة، وظهرت كتب الجغرافيا، على نمط قريب مما ألف اليونان في هذا الباب.
ومنذ القرن الثالث الهجري، كثر التأليف في المسالك والممالك فألف المصنّفون في الأقاليم والتقاسيم، وصوروا ما عليها من مدن وجبال وأنهار فكتب الكنديّ وابن خرداذبة، وقدامة بن جعفر، واليعقوبي، وابن الفقيه الهمذاني، وابن رستة، وابن حوقل، والاصطخرى وغيرهم، ووصفوا بلاد المشرق والمغرب من الصين إلى الأندلس، وذكروا حال الشعوب وتقاليدها وعقائدها ووصفوا حال البلاد وطرقها وحاصلاتها وخراجها على الوجه الذي تم لهم. فبلغ بعضُهم إلى الدقة والتوفيق حين سجل ما رأى، ونقد ما سمع. وفشل بعضهم في جمع كلّ ما طرق سمعه من أخبار لا يكاد العقل يصدّقها. ولكنهم على كل حال كانوا صورة لما يدور في حلقات العلم والمعرفة لعصر هم من آراء ومعلومات وأخبار قد نقف أمام بعضها موقف الشك والنقد، بعد عشرة قرون أو تزيد، وقد توفرت لنا سبل عديدة لم تكن متوفرة لذلك الزمان، فأصبح رسم الدروب والمناطق ووضع الخرائط والمصورات بحثاً علمياً مستقلاً في أبعد حدود الرقيّ، وغدت الرحلة والتنقل والمشاهدة على أيسر ما يستطيع الانسان أن يفعل ، ولكنَّ الفضل أبداً للمتقدم، والموازنة المنصفة تقتضينا أن نذكر ما بين زمانهم وزماننا من وسائل ووسائط وطرق.
والحقّ أن بعض هؤلاء المؤلفين رأى بنفسه وعاين وشاهد - كما قلنا - وكان على إلمام بما يرى، فقد كان ابن خرداذبة عاملاً للبريد والخبر خلال أواسط القرن الثالث للهجرة، في نواحي الجبل من أرض فارس، وقال المقدسي إنه رحل وسافر وأنفق في أسفاره مايزيد على عشرة آلاف درهم. وقال ابن حوقل إنه شاهد كلّ ما كتب عنه وعاينه إلا الصحراء الكبرى، وعن المقدسي وابن حوقل أخذ أكثر الجغرافيين. ولكننا نلاحظ أن هذه الكتب في جملتها قد أوجزت حين رسمت أحوال الشعوب وتقاليدها، وملابسها، فجعلت حصّتها من الصفحات كنسبة رقعتها من الأرض، لم تتبَّسط ولم تفصل الأمرَ. ولعلّها كانت تنظر قبل كلّ شيء إلى الخراج والمال، والى صلة هذه الأصقاع بعاصمة الخلافة، فقد بدأت هذه الإمبراطوية العربية تفقد وحدتها السياسية منذ انتصف القرن الثاني للهجرة، وأصبحت روابط الدين والثقافة وحدها جامعة لشمل هذا الملك الواسع، ولمّ أطرافه. وقامت صلات التجار مقام السفراء الاقتصاديين اليوم، فنهض المسلمون إلى أطراف الأرض ينقلون البضائع ويشترون السلع، وبلغوا إلى أقصى بحار الصين وسواحل البلطيق والأندلس والأطلسي وجزر المحيط الهندي، وخلّفوا في هذه الممالك نقوداً وآثاراً، يكتشفها الباحثون يوماً بعد يوم، وعليها أثر هؤلاء التجار.
وذكر المقدسي في كتابه ، أنَّ المسلمين كانوا يجلبون كثيراً من السلع من جنوبي الروسيا والبلاد الأوربية الشمالية، عدَّ منها الجلود والفراء والشمع والقلانس والعسل والسيوف، وقال أنهم كانوا يستجلبون الرقيق من الصقالبة. والصقالبة في عرفهم كانت تشمل السلافيين والجرمان وبعض سكان أوربة. وكان أهم ما يحمله هؤلاء النجار الى الأقاليم النائية، أنواع المنسوجات والتحف والفواكه.
تلك كانت رحلات التجار ومساعيهم الفردية، وكانت السلطات والحكومات تَبعثُ بوفودها - كما نقول اليوم - إلى الأقطار والممالك، وتحمّلها مسؤليات ومهمات تقوم بها، إمَّا سياسية، أو ثقافية، أو دينية، أو تجارية، أو استطلاعية خالصة. ومن هذه الوفود بعثة برية أرسلها الخليفة الواثق بالله (٢٢٧هـ - ٢٣٢هـ) إلى سدّ يأجوج ومأجوج ، حوالي منتصف القرن الثالث الهجري، حفظ منها ياقوت الحموي في معجمه على لسان. «سلّام الترجمان»، ما يحسُن الرجوع إليه والتفكّه بنوادره، والوقوف على عقلية الرحالين في ذلك الزمان . ومنها كذلك وفد أرسل إلى الصين أيام المحادثات بين السامانيّين وملك الصين، وفيه أبو دلف وصف الرحلة وصفاً بديعاً. ومن هذه الوفود الرسمية بعثات جاسوسية من الرجال والنساء كانت تستطلع الأخبار، كما حدّث ابن حوقل عن عهد هارون الرشيد أنه أرسل رجلاً يتجسس الأخبار من بلاد الروم عشرين سنة وكان سأله هارون الرشيد عن عجائب الأمور، فكان يخبره.
ونحن لا نطمح في هذه المقدمة أن نستقصى أخبار الرحالة١ المسلمين وأسماء الوفود الرسمية في القرنين الثالث والرابع الهجريين، ووصف ما وقع منهم وما تركوه من كتب، فذلك كثير واسع.. ولكننا أردنا أن نمهّد للحديث عن هذه الرحلة، ونبسط أهميتها، ونرسم عاصمة الخلافة، ونتحدث عن ابن فضلان ورحلته.
- ↑ للدكتور زكي محمد حسن كتاب في الرحالة والرحلة يحسن الرجوع إليه، عنوانه «الرحالة المسفون في العصور الوسطى» بمصر ١٩٤٥