انتقل إلى المحتوى

تفسير المراغي/الجزء الرابع والعشرون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
ملاحظات:


[تتمة سورة الزمر]

بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة الزمر (39): الآيات 32 الى 35]

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35)

تفسير المفردات

مثوى: مقاما من ثوى بالمكان يثوى ثويّا وثواء: إذا أقام به، والذي جاء بالصدق: هو الرسول ، وصدق به هم أتباعه، أسوأ الذي عملوا: أي ما عملوه من المعاصي قبل الإسلام، ويجزيهم أجرهم: أي يثيبهم على الطاعات التي فعلوها في الدنيا.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فيما سلف بعض هنات المشركين، وبعض مقابحهم وأعقبه بمثل يشرح حالهم - أردف ذلك نوعا آخر منها، وهو أنهم يكذبون فيثبتون لله ولدا ويثبتون له شركاء، ويكذّبون القائل المحق، فيكذبون محمدا بعد قيام الأدلة القاطعة على صدقة، وبعد أن ذكر وعيد هؤلاء أعقبه بوعد الذي جاء بالصدق، ووعد المصدقين له، فذكر أن الله يؤتيهم من فضله الثواب، ويمنع عنهم العقاب.

الإيضاح

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ) أي لا أحد يبلغ ظلمه ظلم من افترى على الله الكذب، فجعل معه آلهة أخرى، أو ادعى أن الملائكة بنات الله، وهو أيضا كذّب بالحق الذي جاء به رسوله من دعاء الناس إلى التوحيد، وأمرهم بالقيام بفرائض الشرع ونهيهم عن محرماته وإخبارهم بالبعث والنشور.

وفي قوله (إِذْ جاءَهُ) بيان لأنهم كذّبوا به من غير وقفة ولا إعمال رويّة بتمييز بين حق وباطل كما يفعل أهل النّصفة فيما يسمعون.

وبعد أن ذكر حالهم أردفه وعيدهم فقال:

(أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) أي أليس في النار مأوى ومسكن لمن كفروا بالله وأبوا تصديق رسوله وامتنعوا عن اتباعه فيما يدعو إليه من التوحيد والشرائع التي أنزلها عليه.

وخلاصة هذا - ألا يكفيهم ذلك جزاء على أعمالهم.

وبعد أن ذكر حال المكذبين ووعيدهم أردفه ذكر الصادقين المصدقين، ومدحهم على ما فعلوا فقال:

(وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) أي والذي جاء بالصدق

وهو الرسول ، وصدّق به وهم أتباعه الذين نهجوا نهجه وساروا على طريقه - هم الذين اتقوا الله فوحدوه وبرئوا من الأوثان والأصنام وأدّوا فرائضه واجتنبوا نواهيه، رجاء ثوابه وخوف عقابه.

ثم ذكر ما وعدهم به من ثواب عظيم ونعيم مقيم فقال:

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) أي لهم من الكرامة عند ربهم ما تشتهيه أنفسهم وتقرّبه أعينهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وذلك جزاء من أحسن عملا، فأخلص لربه في السر والنجوى، وراقبه في أقواله وأفعاله، وعلم أنه محاسب على النّقير والقطمير، والجليل والحقير.

ثم بين سبحانه ما هو الغاية لهم عند ربهم فقال:

(لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) وذلك أعظم ما يرجونه من دفع الضر عنهم والنفس إذا علمت زوال المكروه عنها كان لها في ذلك سرور ولذة تعدل السرور واللذة بجلب المنافع لها.

(وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ويثيبهم بمحاسن أعمالهم ولا يجزيهم بمساويها، وقدّم تكفير السيئات على إعطاء الثواب، لأن دفع المضار أهم من جلب المسارّ.

وفي ذكر تكفير الأسوإ إشارة إلى استعظامهم للمعصية مطلقا لشدة خوفهم من الله، وإلى أن الحسن الذي يعلمونه هو الأحسن عند الله لحسن إخلاصهم فيه.

[سورة الزمر (39): الآيات 36 الى 40]

أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40)

تفسير المفردات

بكاف عبده: أي يكفيه وعيد المشركين وكيدهم، الذين من دونه: هم الأصنام، ذي انتقام: أي مما عاداه وعادى رسوله.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أنه يؤتى المؤمنين ما يشاءون في الجنة ويكفر عنهم سيئاتهم - أردف ذلك بيان أنه يكفيهم في الدنيا ما أهمهم، ولا يضيرهم ما يخوّفونهم به من غضب الأوثان والأصنام، فإن الأمور كلها بيده تعالى فمن يضلله فلا هادي له، ومن يهده فلا مضل له، وهو ذو العزة المنتقم الجبار. ثم ذكر أن قول المشركين يخالف فعلهم، فحين تسألهم من خلق السموات والأرض يقولون الله؟ وهم مع ذلك يعبدون غيره، ثم سألهم سؤال تعجيز: هل ما تعبدونه من وثن أو صنم يستطيع أن يكشف ضرا أراده الله بأحد، أو يمنع خيرا قدره الله لأحد؟ إذا فالله حسبي وعليه أتوكل.

وبعد أن أعيت رسوله الحيلة في أمرهم - أمره سبحانه أن يقول لهم: اعملوا كما تشاءون، وعلى نحو ما تحبون، إني عامل على طريقتى، ويوم الحساب ترون المحق من المبطل، ومن سيحل به العذاب المقيم الذي سيخزيه يوم يقوم الناس لرب العالمين.

الإيضاح

(أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ؟) أي الله وحده هو الذي يدفع عن عباده الآفات: ويزيل عنهم المصايب والويلات، ويعطيهم جميع المشتهيات، والمراد أنه يكفى من عبده وتوكل عليه.

وأتى بالكلام على طريق الأسلوب الإنكارى للإشارة إلى كفايته تعالى على أبلغ وجه، كأنها من الظهور بحيث لا يتيسر لأحد أن ينكرها.

ثم رتب على ذلك ما هو كالنتيجة لما سلف فقال:

(وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) أي ويخوفك المشركون بغير الله من الأوثان والأصنام عبثا وباطلا، لأن كل نفع أو ضر فلا يصل إلا بإرادته تعالى. وقد روى أنهم خوّفوا النبي مضرة الأوثان فقالوا: أتسبّ آلهتنا؟ لئن لم تكفّ عن ذكرها لتخبلنّك أو تصيبنّك بسوء. وقال قتادة: مشى خالد بن الوليد إلى العزّى ليكسرها بالفأس، فقال له سادتها: أحذّركها يا خالد، فإن لها شدة لا يقوم لها شيء، فعمد خالد إلى العزّى فهشم أنفها حتى كسرها بالفأس اهـ.

وفي الآية إيماء إلى أنه سبحانه يكفى نبيه دينه ودنياه، ويكفى أتباعه أيضا، ويكفيهم شر الكافرين.

ونحو الآية قوله: « فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ » وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم: « وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطانًا؟ ».

ثم أبان شديد جهلهم لتوعدهم بما لا يضر ولا ينفع فقال:

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي ومن يضلله الله لتدسيته نفسه وحبه للاثم والفسوق ومعصية الرسول، فما له من هاد يهديه إلى الرشاد ويخلّصه من الضلال.

(وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ) أي ومن يوفقه الله إلى أسباب السعادة بتزكية نفسه وتحبيبها إلى صالح العمل، فلا مضل له يصرفه عن مقصده أو يصيبه بسوء يغيّر سلوكه إذ لا رادّ لفعله، ولا معارض لإرادته، وإلى ذلك أشار بقوله:

(أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ) أي الله عزيز لا يغالب، ومنيع لا ينازع ولا يمانع، وذو انتقام من أعدائه لأوليائه، فهو الذي لا يضام من استند إلى جنابه، أو لجأ إلى بابه.

ثم أقام الدليل على غفلتهم وشديد جهلهم في عبادتهم للأصنام والأوثان مع تفرده تعالى بالخالقية لكل شيء وعدم خلقها شيئا فقال:

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) أي إن هؤلاء المشركين يقرون بوجود الإله العالم الحكيم لوجود الدليل، ووضوح السبيل الذي لا يمكن إنكاره، فإذا هم سئلوا اعترفوا به، وإذا كان كذلك فكيف ساغ لهم عبادة غير الخالق أو تشريك مخلوق مع خالقه في العبادة؟ وقد كانوا يذكرون بحسن العقول وكمال الفطنة، ولكنهم لما قلدوا أسلافهم، وأحسنوا الظن بهم، هجروا ما يقتضيه العقل، وعملوا بما هو محض الجهل.

ثم أمر سبحانه رسوله أن يبكتهم ويوبخهم بعد هذا الاعتراف فقال:

(قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ؟) أي أخبروني عن آلهتكم هذه، هل تقدر على كشف ما أراده الله بي من الضر أو منع ما أراده لي من الخير؟ وإذا لم تكن لها قدرة على شيء فلا ينبغي التعويل عليها ولا الكدّ في عبادتها، بل نعبد الإله القادر الذي تكون عبادته كافية جلب السراء ودفع الضراء.

قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية سألهم النبي فسكتوا. وقال غيره: قالوا لا تدفع شيئا من قدر الله ولكنها تشفع فنزل قوله:

(قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ) في جميع أمورى من جلب نفع أو دفع ضر، فلا أخاف شيئا من أصنامكم التي تخوفونني بها.

(عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) أي عليه لا على غيره يعتمد العاملون.

وفي الحديث « من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله عز وجل أوثق منه بما في يديه، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله عز وجل ».

وروي عن ابن عباس أنه قال: « احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. واعلم أن الناس لو اجتمعوا على أن يضروك بشىء لم يكتبه الله عليك لم يضروك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشىء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك، رفعت الأقلام وجفّت الصحف، واعمل لله بالشكر في اليقين. واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا ».

ونحو الآية قول هود عليه السلام: « إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها » حين قال له قومه: « إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ ».

ولما أورد عليهم الحجة التي لا دافع لها أمر رسوله أن يقول لهم على وجه التهديد:

(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) أي اعملوا على ما أنتم تعتقدون في أنفسكم من القوة والشدة واجتهدوا في أنواع مكركم وكيدكم فإني عامل أيضا في تقرير ديني والسعي في نشره بين الناس، فسوف تعلمون أن العذاب والخزي في الدنيا يصيبنى أو يصيبكم، فيظهر حينئذ أيّنا المبطل أنا أو أنتم، ويحل علي العذاب المقيم الدائم في الآخرة أو عليكم.

[سورة الزمر (39): الآيات 41 الى 45]

إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)

المعنى الجملي

بعد أن حاجّهم الرسول بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة على وحدانيته تعالى - سلاه على إصرار هم على الكفر الذي كان يعظم عليه وقعه كما قال: « فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا » وقال: « لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ » وأزال عن قلبه الخوف فأعلمه أنه أنزل عليه الكتاب بالحق وأنه ليس عليه إلا إبلاغه، فمن اهتدى فنفع ذلك عائد إليه، ومن ضل فضير ضلاله عليه، وما وكل عليهم ليجبرهم على الهدى.

ثم ذكر أنه تعالى يقبض الأرواح حين انقضاء آجالها ويقطع صلتها بها ظاهرا وباطنا، وظاهرا فقط حين النوم، فيمسك الأولى ولا يردها إلى البدن، ويرسل الثانية إلى البدن حين اليقظة، وفي ذلك دلائل على القدرة لمن يتفكر ويتدبر.

ثم أبان أن هذه الأصنام التي اتخذت شفعاء لا تملك لنفسها شيئا ولا تعقل شيئا، فكيف تشفع؟ وبعدئذ ذكر مقابحهم ومعايبهم وأنه إذا قيل لا إله إلا الله وحده ظهرت آثار النفرة في وجوههم، وإذا ذكرت الأصنام ظهرت علامات الفرح والسرور فيها، وهذا منتهى الجهل والحمق الشديد.

الإيضاح

(إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ) أي إنا أنزلنا إليك القرآن بالحق لتبلّغه للانس والجن مبشرا برحمة الله، ومنذرا بعقابه، وفيه مناط مصالحهم في معاشهم ومعادهم والهادي لهم إلى الصراط المستقيم.

(فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ) أي فمن عمل بما فيه واتبعه فإنما بغى الخير لنفسه، إذ أكسبها رضا خالقها، وفاز بالجنة ونجا من النار.

(وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي ومن حاد عن البيان الذي بيناه لك، فضّل عن الحجة، فإنما يجور على نفسه، وإليها يسوق العطب والهلاك، لأنه يكسبها سخط الله وأليم عقابه في دركات الجحيم « يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ».

(وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي وما أنت أيها الرسول برقيب على من أرسلت إليهم ترقب أعمالهم وتحفظ عليهم أفعالهم، إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب.

ونحو الآية قوله: « إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ » وقوله: « فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ».

ثم ذكر سبحانه نوعا من أنواع قدرته البالغة، وصفته العجيبة فقال:

(اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) أي الله هو الذي يقبض الأنفس حين انقضاء آجالها بالموت، ويقطع تعلقها بالأجساد تعلق المتصرّف فيه.

(وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) أي ويتوفى الأنفس التي لم يحضر أجلها، فيقبضها عن التصرف في الأجساد مع بقاء الأرواح متصلة بها.

(فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) أي فيمسك التي قضى عليها الموت فلا يردها إلى الأجساد.

(وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي ويرسل النائمة إلى الأجساد حين اليقظة إلى أجل مسمى وهو وقت الموت.

روي عن ابن عباس أنه قال: إن في ابن آدم نفسا وروحا بينهما مثل شعاع الشمس فالنفس التي بها العقل والتمييز، والروح هي التي بها النفس والتحريك، فيتوفيان عند الموت، وتتوفى النفس وحدها حين النوم.

وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله « إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بداخلة إزاره (طرفه الذي يلي الجسد ويلى الجانب الأيمن) فإنه لا يدرى ما خلفه عليه، ثم ليقل باسمك ربى وضعت جنبى، وباسمك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين ».

وأخرج أحمد والبخاري وأبو داود وابن أبي شيبة عن أبي قتادة « أن النبي قال لهم ليلة الوادي: ان الله تعالى قبض أرواحكم حين شاء، وردّها عليكم حين شاء ».

وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: « كنت مع النبي في سفر فقال: من يكلؤنا الليلة؟ فقلت أنا، فنام ونام الناس ونمت فلم نستيقظ إلا بحرّ الشمس، فقال رسول الله : أيها الناس إن هذه الأرواح عارية في أجساد العباد، فيقبضها الله إذا شاء ويرسلها إذا شاء ».

وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن سليم بن عامر أن عمر بن الخطاب قال:

العجب من رؤيا الرجل أنه يبيت فيرى الشيء ولم يخطر على باله فتكون رؤياه كأخذ باليد، ويرى الرجل الرؤيا فلا تكون رؤياه شيئا! فقال علي كرم الله وجهه، أفلا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين؟ يقول الله تعالى: « اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى »

فالله يتوفى الأنفس كلها، فما رأت وهي عنده سبحانه في السماء فهي الرؤيا الصادقة، وما رأت إذا أرسلت إلى أجسادها فهي الكاذبة، لأنها إذا أرسلت إلى أجسادها تلقتها الشياطين في الهواء فكذبتها، وأخبرتها بالأباطيل فكذبت فيها، فعجب عمر من قوله رضي الله عنهما اهـ.

ومن هذا تعلم أن النفس علويّة هبطت من المحل الأرفع، وشغلت بتدبير منزلها في ليلها ونهارها، ولا تزال تنتظر العود إلى ذيّاك الحمى، فحين النوم تنتهز الفرصة، فيحصل لها نوع توجه إلى عالم النور، وتستعد لقبول بعض آثاره، والاستضاءة بشىء من أنواره فمتى رأت وهي في تلك الحال فاضت عليها أنواره فكانت الرؤيا صادقة، ومتى رأت وهي راجعة القهقرى إلى ما ابتليت به من تدبير منزل تحوم فيه شياطين الأوهام، وتزدحم فيه أي ازدحام، كانت رؤياه كاذبة، وهي في كلتا الحالين متفاوتة بحسب الاستعداد والله ولى التوفيق، ومنه الهداية لأقوم طريق.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي إن فيما ذكر لآيات عظيمة دالة على كمال قدرته تعالى وحكمته لمن يتفكر في طريق تعلق الأنفس بالأبدان وتوفيها عنها بانقطاع تصرفها حين الموت مع بقائها في عالم آخر إلى أن يعيد الله الخلق، وفي قطع تصرفها في الظاهر فقط في حال النوم، ثم إرسالها حال اليقظة إلى انقضاء آجالها.

ثم أنكر على المشركين اتخاذ الأصنام شفعاء، فقال:

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ) أي بل اتخذ المشركون آلهتهم التي يعبدونها لتشفع لهم عند الله في قضاء حاجاتهم؟.

وإجمال المعنى - إنه لا ينبغي لهم ذلك، إذ لا يخطر على بال عاقل فائدة لهذا، ومن ثم أمر رسوله أن يتهكم بهم ويحمّقهم على ما يفعلون فقال:

(قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ) أي قل لهم أيها الرسول: أتتخذونهم شفعاء كما تزعمون، ولو كانوا لا يملكون لكم نفعا، ولا يعقلون أنكم تعبدونهم.

ثم أمر رسوله أن يخبرهم أن الشفاعة لله وحده فقال:

(قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعًا) فليس لأحد منها شيء إلا بإذنه لمن ارتضى كما قال: « مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ؟ » وقال: « وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى » والخلاصة - إنه تعالى مالك الشفاعة كلها، لا يستطيع أحد أن يشفع لديه إلا أن يكون المشفوع له مرتضى والشفيع مأذونا له، وكلاهما ليس بموفور لهؤلاء.

ثم بين العلة في أن الشفاعة جميعا له فقال:

(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له السلطان في السموات والأرض، وكل من فيها ملك له، ومنها ما تعبدون من دونه، فاعبدوا مالك الملك كله الذي لا يتصرف أحد في شيء منه إلا بإذنه ورضاه.

(ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي ثم إليه مصيركم بعد البعث وهو معاقبكم على إشراككم به سواه إن أنتم متم على هذه الحال.

وخلاصة ذلك اعبدوا من يقدر على نفعكم في الدنيا وعلى صركم فيها، وفي الآخرة بعد مماتكم يجازيكم بما قدمتم من عمل، خيرا كان أو شرا.

ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد الذي تقشعرّ منه الجلود خشية.

ثم ذكر هفوة من هفواتهم التي تصدر منهم، وتدل على غفلة عظيمة وتناقض بين الاعتراف بالألوهية والإنكار لها فقال:

(وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)

الاشمئزاز أن يمتلىء القلب غيظا وغما ينقبض عنهما أديم الوجه كما يرى في وجه العابس المحزون، والاستبشار أن يمتلىء القلب سرورا فتنبسط له بشرة الوجه.

أي إنه إذا قيل لا إله في الكون إلا الله وحده نفرت قلوب أولئك المشركين الذين لا يؤمنون بالبعث والمعاد بعد الموت، وإذا ذكرت الآلهة التي يدعونها من دون الله فقيل: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى إن استبشروا وفرحوا لفرط افتنانهم بهم ونسيانهم حق الله تعالى.

قال ابن عباس في الآية: اشمأزت قست ونفرت قلوب هؤلاء الأربعة الذين لا يؤمنون بالآخرة أبو جهل بن هشام والوليد بن عتبة وصفوان وأبي بن خلف اه ونحو الآية قوله تعالى حكاية عنهم: « وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُورًا ».

قال السيد الآلوسي في تفسيره ناعيا حال المسلمين اليوم: وقد رأينا كثيرا من الناس على نحو هذه الصفة التي وصف الله تعالى بها المشركين يهشون لذكر أموات يستغيثون بهم ويطلبون منهم، ويطربون من سماع حكايات كاذبة عنهم توافق أهواءهم ومعتقداتهم فيهم، ويعظمون من يحكم لهم ذلك، وينقبضون من ذكر الله تعالى وحده ونسبة الاستقلال بالتصرف إليه عز وجل، وسرد ما يدل على مزيد عظمته وجلاله، وينفرون ممن يفعل ذلك كل النفرة وينسبونه إلى ما يكره، وقد قلت يوما لرجل يستغيث في شدة ببعض الأموات، وينادى يا فلان أغثنى، فقلت له: قل يا الله فقد قال سبحانه: « وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ » فغضب وبلغني أنه قال: فلان منكر على الأولياء، وسمعت من بعضهم أنه قال: الولي أسرع إجابة من الله عز وجل، وهذا من الكفر بمكان، نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزيغ والطغيان ا هـ

[سورة الزمر (39): الآيات 46 الى 48]

قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48)

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عن المشركين حبهم للشرك ونفرتهم من التوحيد - أمر رسوله بالالتجاء إليه لما قاساه في أمر دعوتهم من شديد مكابرتهم وعنادهم، تسلية له، وبيانا لأن سعيه مشكور، وجدّه معلوم لديه، وتعليما لعباده أن يلجئوا إليه حين الشدة، ويدعوه بأسمائه الحسنى، ثم ذكر أحوالهم يوم القيامة حين يرون الشدائد والأهوال وما ينتظرهم من العذاب.

الإيضاح

(قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي قل: يا الله يا مبدع السموات والأرض. ويا عالم ما غاب عنا وما تشهده العيون والأبصار، أنت تحكم بين عبادك فتفصل بينهم بالحق، يوم تجمعهم لفصل القضاء فيما كانوا فيه يختلفون في الدنيا من القول فيك وفي عظمتك وسلطانك، فتقضى بيننا وبين المشركين الذين إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم، وإذا ذكر من دونه استبشروا وفرحوا.

أخرج مسلم وأبو داود والبيهقي في الأسماء والصفات عن عائشة قالت: « كان رسول الله إذا قام من الليل افتتح صلاته: اللهم ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم.

وروى أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: « كان رسول الله يعلمنا أن نقول: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت رب كل شيء وإله كل شيء، أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك ورسولك والملائكة يشهدون، أعوذ بك من الشيطان وشركه، وأعوذ بك أن أقترف على نفسي إثما أو أجرّه إلى مسلم ».

قال أبو عبد الرّحمن رضي الله عنه: كان رسول الله يعلم عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن يقول ذلك حين يريد أن ينام.

وقال أبو بكر الصديق: « أمرني رسول الله أن أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضطجعى من الليل: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة لا إله إلا أنت رب كل شيء ومليكه، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، أو أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم » رواه الترمذي.

وبعد أن ذكر معتقداتهم الفاسدة ذكر في وعيدهم أمورا:

(1) (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي ولو أن هؤلاء المشركين ملكوا كل ما في الأرض من الأموال وملكوا مثله معه، وقبل ذلك منهم يوم القيامة لافتدوا به أنفسهم من أهوال ذلك العذاب الشديد الذي سيعذبون به، وقد تقدم إيضاح هذا في سورة آل عمران.

(2) (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) أي وظهر لهم من عذاب الله الذي أعدّه لهم ما لم يكن في حسبانهم ولم يحدّثوا أنفسهم به.

وفي هذا وعيد عظيم لهم وتهديد بالغ غاية لاغاية وراءها.

قال مجاهد: عملوا أعمالا توهموا أنها حسنات فإذا هي سيئات، وقال عكرمة بن عمار: جزع محمد بن المنكدر عند موته جزعا شديدا فقيل له: ما هذا الجزع؟ قال أخاف آية من كتاب الله (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) فأنا أخشى أن يبدو لي ما لم أكن أحتسب.

(3) (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي وظهر لهم حين تعرض عليهم صحائف أعمالهم ما كانوا اجترحوه من السيئات وارتكبوه من الآثام وعلموا أنهم مجازون على النقير والقطمير، وأحاط بهم العذاب من كل جانب، وأيقنوا أنهم مواقعوه لا محالة لاستهزائهم بما كان ينذرهم به الرسول .

[سورة الزمر (39): الآيات 49 الى 52]

فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)

المعنى الجملي

بعد أن حكى عن المشركين بعض هنواتهم الفاسدة - حكى عنهم هناة أخرى هي أنهم حين الوقوع في الضر من أفقر ومرض يفزعون إلى الله ويلجئون إليه علما منهم أنه لا دافع له إلا هو، وإذا نالتهم بعض النعم من فضله زعموا أن ذلك بكسبهم، وحسن صنيعهم، وجميل تدبيرهم، والحقيقة أن ما أوتوه إنما هو فتنة لهم واختبار لحالهم، ليعلم أيشكرون على ما حباهم به من النعم أم يكفرون، ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك.

وما هذه المقالة ببدع منهم بل قالها كثير قبلهم فلم ينفعهم ذلك شيئا، ثم ذكر أن بسط الرزق وتقتيره بيد الله يبسطه تارة ويقبضه أخرى، وليس ذلك لسعة الحيلة وحسن التدبير وحدهما، فإنا نرى كثيرا من العقلاء وأرباب التدبير للمال وحسن تصريفه في ضيق شديد، وكثيرا من الجهلاء والحمقى في بحبوحة من العيش ورغد عظيم منه.

الإيضاح

(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا، ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ، بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي إن أمر المشرك عجيب يدعو إلى الدهشة والحيرة، فإذا هو أصيب بضر من فقر أو مرض جأر إلى الله واستعان به لكشف ذلك الضر عنه - وإذا تغيرت الحال ونال شيئا من الرخاء أو زال عنه ما به من العلة قال: إنما أوتيت هذا لعلمي بوجوه المكاسب وجدي واجتهادي أو لذهابي إلى الأطباء واهتمامي بالعلاج فلم أدخر دواء نافعا إلا بذلت نفيس المال للحصول عليه.

وهذا منه تناقض عجيب، ففي الحال الأولى يستغيث بربه، وفي الحال الثانية ينسب السلامة إلى نفسه ويقطع صلتها عن المنعم بها الذي أوجدها وأرادها، وفي الحق إن ما أعطيه من النعم إنما هو فتنة واختبار لحاله، أيشكر أم يكفر، أيطيع أم يعصى؟

ولكن أكثرهم لا يعلمون أن ذلك استدراج من الله وامتحان لهم، ومن ثم يقولون ما يقولون، ويدّعون من الدعاوى ما لا يفقهون.

ثم بين أن هذه مقالة ليست وليدة أفكارهم بل سبقهم بها كثير ممن قبلهم فقال:

(قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي قد زعم مثل هذا الزعم وادعى مثل هذه الدعوى كثير ممن سبقهم من الأمم، فلم يغن عنهم شيئا ما كانوا يكسبون من متاع الدنيا ويجمعون من حطامها حين جاءهم أمر ربهم على تكذيبهم رسله واستهزائهم بهم.

ثم بين ما سلف فقال:

(فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أي فحلّ بهم جزاء سيئات ما كسبوا من الأعمال، فعوجلوا بالخزي في الدنيا كالخسف الذي لحق بقارون، والصاعقة التي نزلت بقوم لوط، وسيصيبهم النكال الدائم في الآخرة.

ثم أوعد سبحانه مشركي قومه على ما سينالهم في الدنيا والآخرة فقال:

(وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أي والذين كفروا بالله من قومك وظلموا أنفسهم سيصيبهم أيضا وبال السيئات التي اكتسبوها، كما أصاب الذين من قبلهم، فأصابهم القحط سبع سنين متوالية وقتل صناديدهم يوم بدر، وأسر منهم العدد الكثير.

(وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي وما هم بفائتين الله هر با يوم القيامة، بل مرجعهم إليه ويصنع بهم ماشاء من العقوبة.

ثم أقام سبحانه الدليل على عظيم قدرته وبديع حكمته فقال:

(أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ؟) أي أولم ير هؤلاء المشركون أن الله هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء تارة، ويضيق على من يريد أخرى، كما يشاهد من اختلاف الناس في سعة الرزق وضيقه، وليس ذلك لجهل في الكاسب أو علم لديه، فربما كان العاقل القادر ضيق الرزق، والجاهل أو المريض ذا سعة وبسطة في المال.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن في هذا لدلالات لقوم يؤمنون بالله ويقرون بوحدانيته، وهم الدين يعلمون أن الذي يفعل ذلك هو الله لا سواه.

وإنما خص المؤمنين بذلك، لأنهم المنتفعون بالآيات، المتفكرون فيها.

[سورة الزمر (39): الآيات 53 الى 59]

قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59)

تفسير المفردات

الإسراف: تجاوز الحد في كل ما يفعله المرء، وكثرة استعماله في إنفاق المال وتبذيره، والمراد هنا الإفراط في المعاصي، لا تقنطوا: أي لا تيأسوا، والإنابة: الرجوع. والإسلام لله: لإخلاص له، أحسن ما أنزل إليكم من ربكم: هو القرآن، بغتة: أي فجأة، يا حسرتا: أي يا حسرتى وندمى، فرّطت: أي قصرت، في جنب الله: أي في عبادته وطاعته، لمن الساخرين: أي المستهزئين، كرة: أي رجعة.

المعنى الجملي

بعد أن أوعد الكافرين فيما سلف - أردفه ذكر رحمته وفضله على عباده المؤمنين بغفران ذنوبهم إذا هم تابوا وأنابوا إليه وأخلصوا له العمل، ليكون في ذلك مطمع لهؤلاء الضالين ومنبهة لهم من ضلالهم.

أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: إن أهل مكة قالوا: يزعم محمد أن من عبد الأوثان ودعا مع الله إلها آخر، وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له، فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا الآلهة وقتلنا النفس ونحن أهل شرك فأنزل الله (قُلْ يا عِبادِيَ) الآية.

الإيضاح

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) أي قل أيها الرسول للمؤمنين الذين أسرفوا على أنفسهم وتجاوزوا حدود الله، فارتكبوا محارمه وتركوا أوامره: لا تيأسوا من مغفرة الله، فهو يغفر الذنوب جميعا لمن تاب إليه ولجأ إلى جنابه، وإن كثرت وكانت كز بد البحر.

روى البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وزنوا فأكثروا، فأتوا محمدا فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزل: « وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ » ونزل: « قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ».

والمراد من الآية الأولى قوله: « إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحًا » الآية.

وروى أحمد عن ثوبان مولى رسول الله قال: ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية: « قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ » إلى آخر الآية، فقال رجل يا رسول الله فمن أشرك، فسكت رسول الله ثم قال: « ألا ومن أشرك - ثلاث مرات ».

وروى أحمد أيضا عن عمرو بن عنبسة رضي الله عنه قال: « جاء إلى النبي شيخ كبير يتوكأ على عصا له فقال: يا رسول الله إن لي غدرات وفجرات، فهل يغفر لي؟ قال : ألست تشهد أن لا إله إلا الله؟ قال بلى وأشهد أنك رسول الله، فقال : قد غفر لك غدراتك وفجراتك ».

فهذه الأحاديث كلها دالة على أن المراد أنه يغفر جميع ذلك مع التوبة والإخلاص في العمل، ولا يقنطنّ عبد من رحمة الله، فإن باب الرحمة واسع كما قال: « أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ » وقال: « وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ».

وروى الطبراني من طريق الشعبي عن سنيد بن شكل أنه قال: سمعت ابن مسعود يقول: إن أعظم آية في كتاب الله « اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ » وإن أجمع آية في القرآن بخير وشر « إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ » وإن أكثر آية في القرآن فرجا في سورة الغرف « قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ » وإن أشد آية في كتاب الله تفويضا « وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ » فقال له مسروق: صدقت.

وبعد أن نهاهم عن القنوط أخبرهم بما يدفع ذلك ويرفعه، فيحل الرجاء مكانه.

وجاء بما لا يبقى بعده شك ولا يخالج القلب عند سماعه ظن فقال:

(إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) أي إن الله يغفر كل ذنب، كائنا ما كان إلا ما أخرجه النص القرآنى، وهو الشرك بقوله: « إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ».

فيا لها من بشارة ترتاح لها قلوب المؤمنين المحسنين ظنهم بربهم، الصادقين في رجائه، الخالعين ثياب القنوط، البعيدين عن سوء الظن بمن لا يتعاظمه ذنب، ولا يبخل بمغفرته ورحمته على عباده، المتوجهين إليه في طلب العفو، الملتجئين إليه في مغفرة ذنوبهم.

ثم ذكر علة ذلك فقال:

(إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) بهم أن يعاقبهم على ذنوبهم بعد التوبة منها.

فمن أبى هذا التفضل العظيم، والعطاء الجسيم، وظن أن تقنيط عباد الله وتأييسهم من رحمته - أولى بهم مما بشرهم الله به - فقد ركب أعظم الشطط، وغلط أقبح الغلط، فإن التبشير هو الذي جاءت به نصوص الكتاب، وهو المسلك الذي سلكه رسول الله كما صح عنه من قوله: « يسّروا ولا تعسّروا، وبشّروا ولا تنفّروا ».

وبعد أن وعد سبحانه بالمغفرة أمر بشيئين:

(1) الإنابة إليه بقوله: (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) أي أيها الناس أنيبوا إلى ربكم بالتوبة، وارجعوا إليه بالطاعة، واستجيبوا إلى ما دعاكم إليه من توحيده وإفراد الألوهية قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تجدوا نصيرا ولا معينا من عذابه النازل بكم.

(2) اتباع الأحسن بقوله: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) أي واتبعوا ما أمركم به ربكم في تنزيله، واجتنبوا ما نهاكم عنه فيه، من قبل أن يأتيكم العذاب فجأة وأنتم لا تعلمون به حتى يغشاكم، ولا يخفى ما في هذا من تهديد ووعيد.

ولما خوّفهم بالعذاب ذكر علة ذلك فقال:

(1) (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) أي بادروا إلى العمل واحذروا أن تقول بعض الأنفس: يا حسرتا على تقصيرى في طاعة الله، وسخريتى واستهزائى بدين الله وكتابه، وبرسوله وبالمؤمنين.

(2) (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) أي أو تقول: لو أن الله أرشدنى إلى دينه وطاعته، لكنت ممن اتقى الله فترك الشرك والمعاصي.

(3) (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي أو تقول حين رؤية العذاب: ليت لي رجعة إلى الدنيا فأكون من المهتدين المحسنين لعقيدتهم وأعمالهم.

وخلاصة ذلك - إن هذا المقصر تحسر على التفريط في الطاعة، وفقد الهداية ثم تمنى الرجعة إلى الدنيا لتدارك ما فات.

فأجابه سبحانه بقوله:

(بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي إنه لا فائدة من ذلك، فقد جاءتك آياتي في الدنيا على لسان رسولي الذي أرسلته إليك وفي كتابى الذي يتلوه عليك، ويذكّرك بما فيه من وعد ووعيد، وتبشير وإنذار فكذبت بها واستكبرت عن قبولها، وكنت ممن يعمل عمل الكافرين ويستنّ بسنتهم، ويتّبع مناهجهم.

ونحو الآية قوله: « وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ ».

[سورة الزمر (39): الآيات 60 الى 61]

وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)

تفسير المفردات

وجوههم مسودة: أي ما يظهر عليها من آثار الذل والحشرة، والمثوى: المقام، والمفازة: الظفر بالبغية على أتمّ وجه.

المعنى الجملي

بعد أن أوعد المشركين فيما سلف بما سيكون لهم من الأهوال يوم القيامة، ووعد المتقين بما يمنحهم من الفوز والنعيم في ذلك اليوم - أردف ذلك ذكر حال لكل منهما تبدو للعيان، ويشاهدها كل إنسان، يوم العرض والحساب.

الإيضاح

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) أي وترى أيها الرسول يوم القيامة وجوه الذين كذبوا على الله، فزعموا أن له ولدا وأن له شريكا وعبدوا آلهة من دونه - مجلّلة بالسواد، لما أحاط بها من الكآبة والحزن الذي علاها، والغم الذي لحقها.

ثم علل هذا وأكده بقوله:

(أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) أي أليست النار كافية لهم سجنا وموئلا، ولهم فيها الخزي والهوان بسبب تكبرهم وإبائهم عن الانقياد للحق.

وقد بين الرسول معنى الكبر فقال: « هو سفه الحق وغمص (احتقار) الناس »

وفي حديث عبد الله بن عمرو عن النبي « يحشر المتكبرون يوم القيامة كالذرّ، يلحقهم الصّغار حتى يؤتى بهم إلى سجن جهنم ».

(وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ) أي وينجّى الله من عذاب جهنم الذين اتقوا الشرك والمعاصي وينيلهم ما يبتغون، ويعطيهم فوق ما كانوا يؤملون.

وعن النبي تفسير هذه الآية من حديث أبي هريرة قال: « يحشر الله مع كل امرئ عمله، فيكون عمل المؤمن معه في أحسن صورة وأطيب ريح، فكلما كان رعب أو خوف قال له: لا ترع فما أنت بالمراد به ولا أنت المعني به، فإذا كثر ذلك عليه، قال فما أحسنك؟ فمن أنت؟ فيقول أما تعرفنى؟ أنا عملك الصالح حملتنى على ثقلى، فوالله لأحملنّك ولأدفعن عنك، فهي التي قال الله: « وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ».

ثم بين هذه المفازة فقال:

(لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي لا يمسهم أذى جهنم ولا يحزنون على ما فاتهم من مآرب الدنيا، إذ هم قد صاروا إلى ما هو خير منه، نعيم مقيم، في جنات تجرى من تحتها الأنهار، ورضوان من الله أكبر.

وخلاصة ذلك - إنهم آمنوا من كل فزع، وبعدوا من كل شر، وفازوا بكل خير.

[سورة الزمر (39): الآيات 62 الى 67]

اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)

تفسير المفردات

وكيل: أي قيّم بالحفظ والحراسة فيتولى التصرف بحسب الحكمة والمصلحة، مقاليد: أي مفاتيح لفظ فارسى معرّب، واحده إقليد معرب، إكليد جمع جمعا شاذا، ليحبطن عملك: أي ليذهبن هباء ولا يكون له أثر، وما قدروا الله حق قدره: أي ما عظموه حق التعظيم على الوجه الذي يليق به، والقبضة: المرة من القبض وتطلق على المقدار المقبوض، بيمينه: أي بقدرته.

المعنى الجملي

بعد أن بسط الوعد والوعيد يوم القيامة لأهل التوحيد وأهل الشرك - عاد إلى ذكر دلائل الألوهية والوحدانية، ثم انتقل إلى النعي على الكافرين في أمرهم لرسوله بعبادة الأوثان والأصنام، ثم بين أن الأنبياء جميعا أوحى إليهم ألا يعبدوا إلا الله وحده، وألا يشركوا به سواه، وأنهم إن فعلوا غير ذلك حبطت أعمالهم وكانوا من الخاسرين، ثم كرر النعي عليهم مرة أخرى بأنهم لم يعرفوا الله حق معرفته إذ لو عرفوه لما جعلوا هذه المخلوقات الخسيسة مشاركة له في العبودية.

الإيضاح

(اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ) أي هو سبحانه الخالق للأشياء جميعا من خير وشر وإيمان وكفر بمباشرة المتصف بهما لأسبابهما، وكلها تحت جبروته وقهره.

(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي وهو القائم على كل الأشياء يتولاها بحراسته وحفظه بحسب ما تقتضيه المصلحة، فهي محتاجة إليه في بقائها كما هي محتاجة إليه في وجودها.

ثم فصل ذلك بعض التفصيل فقال:

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي هو حافظ الخزائن ومدبرها ومالك مفاتيحها فله التصرف في كل شيء مخزون فيها.

والخلاصة - هو القادر عليهما والحافظ لهما.

أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عثمان قال: « سألت رسول الله عن قول الله: « لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » فقال لي يا عثمان: لقد سألتني عن مسألة لم يسألني عنها أحد قبلك. « مقاليد السموات والأرض: لا إله إلا الله والله أكبر، وسبحان الله والحمد لله، وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير »

وعلى هذا فالمراد أن هذه الكلمات يوحّد بها ويمجّد وهي مفاتيح خير السموات والأرض، من تكلم بها أصابه خيرهما.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي والذين كفروا بالأدلة التي وضعت في الأكوان وجاءت في القرآن، دالة على وحدانية الله وعظيم قدرته وبديع حكمته - أولئك هم المغبونون حظوظهم من خيرات السموات والأرض، لأنهم حرموا من ذلك في الآخرة بخلودهم في النار.

ثم أمر رسوله أن يوبخ المشركين على أمره بعبادة الأصنام والأوثان فقال:

(قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) أي قل لمشركي قومك الداعين لك إلى عبادة الأصنام والقائلين لك: هودين آبائك: أفتأمروني أيها الجاهلون بعد مشاهدتى الآيات الدالة على تفرده سبحانه وتعالى بالألوهية - أن أعبد غيره، والعبادة لا تصلح لشيء سواه.

روي عن ابن عباس « أن قريشا دعت رسول الله أن يعطوه ما لا فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوجوه ما أراد من النساء ويطئون عقبه (أي يغطون دعوته ويزيلونها) وقالوا هذا لك يا محمد وتكفّ عن شتم آلهتنا ولا تذكرها

بسوء، قال حتى أنظر ما يأتينى من ربى فنزل: « قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ » إلى آخر السورة، ونزل (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي - إلى قوله - مِنَ الْخاسِرِينَ) ».

وعنه أيضا: إن المشركين من جهلهم دعوا رسول الله إلى عبادة آلهتهم وهم يعبدون معه إلهه.

ثم بين أنه حذر وأنذر عباده من الشرك بلسان جميع الأنبياء فقال:

(وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي ولقد نزل عليك الوحي من ربك بأنه إذا حصل منك إشراك به بعبادة صنم أو وثن ليبطلنّ كل عمل لك من أعمال الخير كصلة رحم وبرّ ببائس فقير ولا تنالنّ به ثوابا ولا جزاء ولتكونن ممن خسروا حظوظهم في الدنيا والآخرة، وأوحى إلى الرسل من قبلك بمثل هذا.

فاحذر أن تشرك بالله شيئا فتهلك، وهذا كلام سيق على سبيل الفرض والتقدير، لتهييج المخاطب المعصوم، وللايذان بشناعة الإشراك وقبحه، حتى لينهى عنه من لا يكاد يفعله فكيف بغيره؟ والحكم بحبوط عمل المشرك في الآخرة مقيّد بما إذا مات وهو كذلك بدليل قوله في الآية الأخرى: « وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ».

ثم رد عليهم ما أمروه به من عبادة الأصنام وأمره بعبادته وحده فقال:

(بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ) أي لا تعبد ما أمرك به قومك، بل الله فاعبده دون سواه من الأنداد والأوثان.

(وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لإنعامه عليك بما هداك إليه من التوحيد والدعاء إلى دينه، وما اختصك به من الرسالة.

ثم أكد ما سلف بقوله:

(وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عظموه حق التعظيم، إذ عبدوا غيره معه، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، القادر على كل شيء، المالك لكل شيء، وكل شيء تحت قهره وقدرته.

روى البخاري عن ابن مسعود قال: « جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله فقال يا محمد: إنا نجد أن الله عز وجل يجعل السموات على أصبع، والأرضين على أصبع، والشجر على أصبع، والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه، تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله : وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ » الآية.

وأخرج الشيخان والنسائي وابن ماجه في جماعة آخرين عن ابن عمر « إن رسول الله قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر: « وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ » وهو يقول هكذا بيده يحركها يقبل بها ويدبر، يمجّد الرب نفسه، أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم، فرجف برسول الله المنبر حتى قلنا:

ليخرّنّ به ».

(وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) أي إن الأرض جميعا تحت ملكه يوم القيامة يتصرف فيها كيف يشاء، ولا يتصرف فيها سواه، والسموات مطويات طى السجل للكتب بقدرته التي لا يتعاصى معها شيء، وفي هذا رمز إلى أن ما يشركونه معه في الأرض أو في السماء مقهور تحت سلطانه جل شأنه.

روى البخاري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: « يقبض الله الأرض، ويطوى السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ »

وقد علمت أن السلف يجرون المتشابه على ما هو عليه، وأن الخلف يؤولونه، والأول أسلم، والثاني أحكم.

قال سفيان بن عيينة: كل ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه، فتفسيره تلاوته والسكوت عليه ا هـ.

وقال صاحب الكشاف: والغرض من هذا الكلام إذا أخذته بجملته ومجموعه تصوير عظمته، والتوقيف على كنه جلاله لا غير، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز ا هـ.

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) به من المعبودات التي يجعلونها شركاء له مع القدرة العظيمة، والحكمة الباهرة.

[سورة الزمر (39): الآيات 68 الى 70]

وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70)

تفسير المفردات

الصور: القرن ينفخ فيه، صعق: أي غشى عليه، ينظرون: أي ينتظرون ماذا يفعل بهم؟ وأشرقت الشمس: أضاءت، وشرقت: طلعت، بنور ربها: أي عدله، ووضع الكتاب: أي ووضعت صحائف الأعمال بأيدي العاملين، بالحق: أي بالعدل، ما عملت: أي جزاء ما عملت.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عظمته تعالى بأنه خالق كل شيء، وهو الوكيل على كل شيء، وبيده مقاليد السموات والأرض - أردف ذلك ذكر دلائل أخرى تدل على كمال قدرته وعظيم سلطانه، فبذكر مقدمات يوم القيامة من نفخ الصور النفخة الأولى التي يموت بها أهل الأرض جميعا، ثم النفخة الثانية التي يقوم بها الناس جميعا من قبورهم، ثم الفصل بينهم للجزاء والحساب، فتوفى كل نفس جزاء ما عملت من خير أو شر، وهو سبحانه العليم بأفعالهم جميعا.

الإيضاح

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى، فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) بيّن سبحانه ما يكون بعد قبض الأرض وطي السماء والنفخ في الصور النفخة الأولى، إذ هما نفختان يموت الخلق في الأولى منهما ويحيون في الثانية بعد أن كانوا عظاما ورفاتا.

أخرج ابن ماجه والبزار وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري مرفوعا « إن صاحبي الصور بأيديهما قرنان يلاحظان النظر، متى يؤمران »؟.

وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: « ذكر رسول الله صاحب الصور وقال: عن يمينه جبريل وعن يساره ميكائيل ».

وليس في القرآن ولا في صححيح الأخبار ما يدل على تعيين من استثناهم الله من الصعق والفزع، ومن ثم قال قتادة لا ندري من هم؟.

ونحو الآية قوله: « فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ » وقوله: « يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ».

وقوله: « وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ».

(وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) أي وأضاءت أرض المحشر بما يقيمه فيها من الحق والعدل، ويبسطه من القسط في الحساب ووزن الحسنات والسيئات.

(وَوُضِعَ الْكِتابُ) أي ووضعت صحائف الأعمال بأيدي العاملين كما قال: « وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتابًا يَلْقاهُ مَنْشُورًا ».

وقال في آية أخرى « ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ».

(وَجِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ) ليكونوا شهداء على أممهم كما قال: « فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيدًا ».

(وَالشُّهَداءِ) أي الحفظة من الملائكة الذين يقيدون أعمال العباد خيرها وشرها كما يدل على ذلك قوله: « وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ ». فالسائق يسوق للحساب، والشهيد يشهد عليها.

وبعد أن بيّن أنه يحضر في محفل القيامة جميع ما يحتاج إليه في فصل الحكومات وقطع الخصومات - بين أنه يوصل إلى كل أحد حقه كاملا غير منقوص، ودل على ذلك بأربع عبارات:

(1) (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ) أي وقضى بينهم بالعدل والصدق.

(2) (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقص ثواب ولا زيادة في عقاب، ونحو الآية قوله: « وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ ». وقوله: « إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ».

(3) (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) أي، وأعطيت كل نفس جزاء ما عملت جزاء كاملا.

(4) (وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) في الدنيا دون حاجة إلى كاتب ولا حاسب، فلا يفوته شيء من أعمالهم، ومن ثمّ يكون حكمه بينهم بالقسطاس المستقيم.

والخلاصة - أنه إنما وضع الكتاب وجىء بالنبيين والشهداء لتكميل الحجة وقطع المعذرة، لا لحاجة إليها في علمه تعالى بما يعملون وما يقولون، ثم جزائهم على ما قدموا من خير أو شر.

[سورة الزمر (39): الآيات 71 الى 72]

وسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)

تفسير المفردات

السوق: الحث على السير بعنف وإزعاج علامة على الاهانة والاحتقار، والزمر: الأفواج المتفرقة بعضها في إثر بعض، والخزنة: واحدهم خازن نحو سدنة وسادن، وينذرونكم: أي يخوّفونكم، حقت: أي وجبت.

المعنى الجملي

بعد أن شرح أحوال أهل القيامة على سبيل الإجمال بقوله: « وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ » - فصّل ذلك فذكر ما يحل بالأشقياء من الأهوال، وما يلقونه من التأنيب والتوبيخ من خزنة جهنم على طريق السؤال والجواب التهكمى وهو أشد وقعا على الأبي العيوف الذي تأبى نفسه الهوان والاحتقار.

الإيضاح

(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَرًا) أي وسيق الكافرون بربهم، المشركون به الأصنام والأوثان، إلى جهنم سوقا عنيفا، أفواجا متفرقة بعضها في إثر بعض بحسب ترتب طبقاتهم في الضلال والشر - بزجر وتهديد ووعيد، كما يساق المجرمون في الدنيا إلى السجون جماعات مع الإهانة والتحقير على ضروب شتى.

ونحو الآية قوله: « يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا » أي يدفعون إليها دفعا.

(حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) أي حتى إذا وصلوا إليها فتحت لهم أبوابها سريعا ليدخلوها، كأبواب السجون لا تزال مغلقة حتى يأتي أرباب الجرائم الذين يسجنون فيها، فتفتح ليدخلوها، فإذا دخلوها أغلقت عليهم.

ثم ذكر سؤال الخزنة لهم على طريق التوبيخ، والاهانة فقال:

(وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟) أي ألم يأتكم رسل من جنسكم تفهمون ما ينبئونكم به من طاعة ربكم والاعتراف بوحدانيته وترك الشرك به، ويسهل عليكم مراجعتهم حين يقيمون عليكم الحجج والبراهين مبينين صدق ما دعوكم إليه، وينذرونكم أهوال هذا اليوم؟.

فأجابوهم معترفين ولم يقدروا على الجدل الذي كانوا يتعللون به في الدنيا لوضوح السبل أمامهم، ولا سبيل حينئذ إلى الإنكار والجحود.

(قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) أي قالوا بلى قد أتانا رسل من ربنا فأنذرونا وأقاموا الحجج والبراهين، ولكنا كذبناهم وخالفناهم لما سبق لنا من الشّقوة والضلالة، فعدلنا بسوء اختيارنا عن الحق إلى الباطل، وفعلنا الشر دون الخير، وعبدنا ما لا يضر ولا ينفع، وتركنا عبادة الواحد القهار.

ونحو الآية قوله: « كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ».

وبعد أن اعترفوا هذا الاعتراف.

(قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أي قالت لهم الملائكة الموكلون بعذابهم: ادخلوا جهنم ماكثين فيها أبدا لا خروج لكم منها، ولا زوال لكم عنها.

(فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي فبئس المصير، وبئس المقيل لكم بسبب تكبركم في الدنيا، وإبائكم عن اتباع الحق، فهو الذي صيركم إلى ما أنتم فيه، فبئس الحال وبئس المآل.

[سورة الزمر (39): الآيات 73 الى 75]

وسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75)

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أحوال الأشقياء وما يلاقونه يوم القيامة من الأهوال - أردفها ذكر أحوال السعداء، وما يلاقونه إذ ذاك من النعيم، وما يقال لهم وما يقولون.

ثم أخبر بأن ملائكته محدقون حول العرش، يسبحون بحمد ربهم، ويعظمونه وينزهونه عن النقائص، وأنه سيقضى بين الخلائق بالعدل، وأن أولئك المتقين سيقولون: الحمد لله رب العالمين على ما تفضل به علينا وأنعم.

الإيضاح

(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا) أي وسيق المتقون إلى الجنة جماعة إثر جماعة على النجائب وفودا إلى الجنة، المقربون فالأبرار ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، كل طائفة منهم مع من يشاكلهم، الأنبياء مع الأنبياء، والصديقون مع أشكالهم، والشهداء مع أضرابهم، والعلماء مع أقرانهم.

والمراد بالسوق هنا الإسراع بهم إلى دار الكرامة والرضوان كما يفعل بمن يكرّم من الوافدين على بعض الملوك وبالسوق المتقدم طردهم إلى العذاب والهوان كما يفعل بالأسير إذا سبق إلى الحبس أو القتل، فشتان ما بين السوقين.

(حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) أي حتى إذا وصلوا إليها وقد فتحت لهم أبوابها، كما تفتح الخدم باب المنزل للضيف قبل قدومه وتقف منتظرة حضوره فرحا بمقدمه - فرحوا بما أفاء الله به عليهم من النعيم، وبما شاهدوا مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر روى عن عمر بن الخطاب أنه قال: « ما منكم من أحد يتوضأ فيسّبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء » أخرجه مسلم وغيره.

وروي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله « أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب دري في السماء إضاءة ».

واخرج الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد أن رسول الله قال: « في الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمّى الريان لا يدخله إلا الصائمون »

ثم أخبر سبحانه أن خزنة الجنة يسلمون على المؤمنين فقال:

(وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي وقال لهم الخزنة: سلام عليكم من جميع المكاره والآلام، فلا يعتريكم مكروه بعد ذلك.

(طِبْتُمْ) نفسا بما أتيح لكم من النعيم المقيم، وقد يكون المعنى: طبتم في الدنيا فلم تدنسوا أنفسكم بالشرك والمعاصي، وطاب سعيكم، وطاب جزاؤكم.

(فَادْخُلُوها خالِدِينَ) أي فادخلوها ما كثين فيها أبدا، لا زوال ولا فناء، ولا تحوّل عنها.

(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) أي وقال المؤمنون إذا عاينوا ذلك النعيم المقيم، والعطاء العظيم في الجنة: الحمد لله الذي صدقنا ما وعدنا به على السنة رسله الكرام، كما دعوا بذلك في الدنيا وقالوا: « رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ » وقالوا: « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ ».

(وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) أي وجعلنا نتصرف في أرض الجنة تصرف الوارث فيما يرث، فنتخذ منها مباءة ومسكنا حيث شئنا.

(فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي فنعم الأجر أجرنا على عملنا، وثوابنا الذي أعطيتنا.

(وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي وترى أيها الرائي الملائكة محيطين بجوانب العرش، قائمين بجميع ما يطلب منهم، فيسمع لحفوفهم صوت التسبيح والتقديس، ويصلّون حول العرش، شكرا لربهم وتنزيها له عن كل نقص.

(وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ) أي وقضى بين العباد بالعدل، فأدخل بعضهم الجنة وبعضهم النار، أعاذنا الله منها.

(وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي وختمت خاتمة القضاء بينهم بالشكر للذي بدأ خلقهم وصوّرهم فأحسن صورهم، ومن له ملك السموات والأرض وما بينهما من المخلوقات التي لا يعلم عدّها إلا هو.

وقد بدأ سبحانه هذه الآية بالحمد وختمها بالحمد، للتنبيه إلى تحميده في بداية كل أمر ونهايته.

وقال قتادة: « افتتح الخلق بالحمد في قوله: « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ » واختتم بالحمد في قوله تبارك وتعالى: « وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ».

اللهم صل على محمد عبدك ورسولك خاتم النبيين والمرسلين صلاة دائمة إلى يوم الدين.

مجمل مشتملات هذه السورة الكريمة

(1) وصف الكتاب الكريم.

(2) الأمر بعبادة الله وحده والنعي على المشركين في عبادتهم للأوثان والأصنام.

(3) إقامة الأدلة على وحدانية الله.

(4) طبيعة المشرك في السراء والضراء.

(5) ضرب الأمثال في القرآن وفائدة ذلك.

(6) تمنى المشركين الفداء حين يرون العذاب.

(7) الوعد بغفران ذنوب من أسرفوا على أنفسهم إذا تابوا.

(8) ما يرى على وجوه أهل النار من الكآبة والحزن.

(9) ذكر أحوال يوم القيامة.

(10) وصف ذهاب أهل النار إلى المحشر وما يشاهد وبه من الأهوال

(11) وصف ذهاب أهل الجنة وما يشاهدونه فيها من النعيم المقيم.

(12) بعد فصل القضاء يقول أهل الجنة (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

سورة غافر

هي مكية إلا آيتي 56، 57 فمدنيتان، وآيها خمس وثمانون، نزلت بعد سورة الزمر.

ومناسبتها لقبلها:

(1) إنه ذكر في سابقتها ما يئول إليه حال الكافر وحال المؤمن، وذكر هنا أنه غافر الذنب، ليكون ذلك استدعاء للكافر إلى الإيمان والإقلاع عن الكفر.

(2) إنه ذكر في كل منهما أحوال يوم القيامة، وأحوال الكفار فيه وهم في المحشر وهم في النار.

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: آل حم ديباج القرآن. وعنه أيضا: إذا وقعت في آل حم فقد وقعت في روضات دمثات أتأنّق فيهن. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن لكل شيء لبابا، ولباب القرآن آل حم. وروى أن النبي قال: « لكل شيء ثمرة، وإن ثمرة القرآن ذوات حم، هن روضات حسان مخصبات متجاورات، فمن أحب أن يرتع في رياض الجنة فليقرأ الحواميم ».

وعنه أيضا « مثل الحواميم في القرآن كمثل الحبرات في الثياب ».

[سورة غافر (40): الآيات 1 الى 3]

بسم الله الرحمن الرحيم

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)

الإيضاح

(حم) تقدم الكلام في أمثال هذه الحروف المقطعة في أوائل السور بما يغنى عن إعادته هنا، وقد اخترنا هناك أن أحسن الآراء في ذلك أنها كلمات يراد بها التنبيه في أول الكلام نحو (ألا) و(يا) وينطق بأسمائها فيقال (حاميم) بتفخيم الألف وتسكين الميم، ويجمع على حواميم وحواميمات، وأنكر ذلك الجواليقي والحريري وابن الجوزي وقالوا لا يقال ذلك بل يقال آل حم، ويؤيد ذلك أن صاحب الصحاح نقل عن الفرّاء أن قول العامة الحواميم ليس من كلام العرب، وحديث ابن مسعود وقد تقدم: إذا وقعت في آل حم فقد وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهن، وعلى هذا قول الكميت بن زيد في الهاشميات:

وجدنا لكم في آل حم آية تأولها منا تقي ومعزب

يريد بذلك قوله تعالى: « قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى » (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي هذا القرآن تنزيل من الله الغالب القاهر في ملكه، الكثير العلم بخلقه، وبما يقولون وما يفعلون.

وفي هذا إيماء إلى أنه ليس بمتقوّل ولا مما يجوز أن يكذّب به.

(غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ) أي وهو الذي يغفر ما سلف من الذنوب، ويقبل التوبة في مستأنف الأزمنة لمن تاب وخضع، وهو شديد العقاب لمن تمرد وطغى وآثر الحياة الدنيا وعتا عن أوامر الله وبغى، المتفضل على عباده، المتطول عليهم بما هم فيه من المنن والنعم التي لا يطيقون القيام بشكرها ولا شكر واحدة منها كما قال: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها).

وذكر (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) لترغيب عباده العاصين، وذكر (شَدِيدِ الْعِقابِ) لترهيبهم، وفي مجموع هذا الحثّ على فعل المراد من تنزيل الكتاب وهو التوحيد والإيمان بالبعث والإخلاص لله في العمل والإقبال عليه، وقد جمع القرآن هذين الوصفين في مواضع كثيرة منه كقوله: (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) ليبقى العبد بين الرجاء والخوف.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا نظير له، فيجب اتباع أوامره وترك نواهيه.

(إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي إليه وحده المرجع والمآب، فيجازى كل نفس بما كسبت.

أخرج أبو عبيد وابن سعد وابن مردويه والبيهقي في الشّعب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (من قرأ حم المؤمن إلى - إليه المصير، وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسى، ومن قرأهما حين يمسى حفظ بهما حتى يصبح).

[سورة غافر (40): الآيات 4 الى 6]

ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6)

تفسير المفردات

الجدل: شدة اللدد في الخصومة، تقلبهم: أي تصرفهم فيها للتجارة وطلب المعاش، والأحزاب: الجماعات الذين تحزبوا واجتمعوا على معاداة الرسل، وهمّت: أي عزمت، ليأخذوه: أي ليقتلوه ويعذبوه، ليدحضوا: أي ليزيلوا، حقت: أي وجبت، كلمة ربك: أي حكمه بالإهلاك.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أن القرآن كتاب أنزله لهداية الناس وسعادتهم في دنياهم وآخرتهم إذا هم عملوا بهديه - ذكر أحوال من يجادل فيه لغرض إبطاله وإخفاء نوره، ثم أرشد رسوله ألا يغتر بأحوال أولئك المجادلين وتركهم سالمين في أبدانهم وأموالهم يتصرفون في البلاد للتجارة، لسعة الرزق والتمتع بزخرف الدنيا، فإنه سيأخذهم أخذ عزيز مقتدر كما فعل بأمثالهم من الأمم الماضية ممن كذبوا رسلهم فحلّ بهم البوار في الدنيا، وسينزل بهم النكال في الآخرة في جهنم وبئس القرار.

الإيضاح

(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ما يخاصم في القرآن بالطعن فيه وتكذيبه كقولهم مرة إنه شعر، وأخرى إنه سحر وثالثة إنه أساطير الأولين إلى أشباه ذلك من سخيف المقال - إلا الذين جحدوا به وأعرضوا عن الحق مع ظهوره.

وهذا النوع من الجدل هو المذموم، وإليه الاشارة بقوله « لا تماروا في القرآن، فإن المراء فيه كفر »

أما الجدل لتقرير الحق وإيضاح الملتبس، وكشف المعضل، واستنباط المعاني، ورد أهل الزيغ بها، ورفع اللبس، ودفع ما يتعلق به المبطلون من متشابهات القرآن، فهو وظيفة الأنبياء، ومنه قوله تعالى حكاية عن قوم نوح لنوح « يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا ».

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: « هاجرت إلى رسول الله يوما فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج يعرف في وجهه الغضب، فقال إنما هلك من كان قبلهم باختلافهم في الكتاب » رواه مسلم.

وقال أبو العالية: آيتان ما أشدهما علي: « ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا » الآية، وقوله: « وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ » ولما حكم سبحانه على المجادلين في آيات الله بالكفر نهى رسوله أن يغتر بشىء من حظوظهم الدنيوية فقال:

(فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) أي فلا يغررك ما يفعلونه من التجارة النافعة في البلاد، وما يحصلون عليه من المكاسب في رحلة الشتاء في اليمين ورحلة الصيف في الشام، ثم يرجعون سالمين غانمين، فإنهم معاقبون عما قليل، وهم وإن أمهلوا فإنهم لا يهملون. قال الزجاج: لا يغررك سلامتهم بعد كفرهم، فإن عاقبتهم الهلاك.

وفي هذا تسلية له ووعيد لهم.

ثم قال مسليا رسوله على تكذيب من كذبه من قومه، بأن له أسوة في سلفه الأنبياء، فإن أقوامهم كذبوهم وما آمن منهم إلا قليل فقال:

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي كذبت قوم نوح والأمم الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب، فحلّت بهم نقمتنا بعد بلوغ أمدهم كما هي سنتنا في أمثالهم من المكذبين، كعاد وثمود ومن بعدهم، وكانوا في جدلهم على مثل الذي عليه قومك.

(وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) أي وحرصت كل أمة على تعذيب رسولهم بحبسه وإصابة ما أرادوا منه. وقال قتادة والسدي ليقتلوه، فقد جاء الأخذ بمعنى الإهلاك في قوله تعالى: « أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ ».

(وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) أي وخاصموا رسولهم بالباطل بإيراد الشبه التي لا حقيقة لها كقولهم: « ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا » ليبطلوا به الحق الذي جاء به من عند الله، وليطفئوا النور الذي أوتيه، قال يحيى بن سلام: جادلوا الأنبياء بالشرك ليبطلوا الإيمان.

(فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) أي فأهلكتهم واستأصلت شأفتهم فلم أبق منهم ديّارا ولا نافخ نار وصاروا كأمس الدابر، وإنكم لتمرون على ديارهم مصبحين وممسين كما قال: « وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ »

وهكذا سأفعل بقومك إن هم أصروا على الكفر والجدل في آيات الله، وإلى ذلك أشار بقوله:

(وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) أي وكما حق على الأمم التي كذبت رسلها، وقصصت عليك خبرها أن يحل بها عقابي - وجبت كلمة ربك على الذين كفروا بالله من قومك، لأن الأسباب واحدة وهي كفرهم وعنادهم للحق، واهتمامهم بإطفاء نور الله الذي بثه في الأرجاء لإصلاح نظم العالم وسعادته في دينه ودنياه، وارتقاء النفوس البشرية والسموّ بها عن الاستخذاء إلى شجر أو حجر أو حيوان، طمعا في خير يرجى منه، وشفاعة تنفع عند الله.

[سورة غافر (40): الآيات 7 الى 9]

الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)

تفسير المفردات

العرش: مركز تدبير العالم كما تقدم إيضاح ذلك في سورة يونس، وندع أمر وصفه إلى عالم الغيب فهو العليم بعرشه ووصفه، وقهم: أي احفظهم من وقيته كذا أي حفظته، السيئات: أي الجزاء المرتب عليها.

المعنى الجملي

بعد أن أبان ما أظهره المشركون للمؤمنين من العداوة، ومجادلتهم للرسل بالباطل لاطفاء نور دعوتهم - أردف ذلك بيان أن أشرف المخلوقات وهم الملائكة الذين يحملون العرش والحافّون حول العرش - يحبون المؤمنين ويطلبون لهم ولآبائهم وأزواجهم وذرياتهم المغفرة من ربهم، فلا تبال أيها الرسول بهؤلاء المشركين ولا تقم لهم وزنا، وكفاك نصرة حملة العرش والحافين حوله.

الإيضاح

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي إن الملائكة الذين يحملون عرش ربهم، والملائكة الذين هم حوله ينزهون الله متلبسين بحمده على نعمه، ويقرون بأن لا إله إلا هو ولا يستكبرون عن عبادته، ويسألون أن يغفر لمن أقروا بمثل ما أقروا به من توحيد الله والبراءة من كل معبود سواه.

ونحن نؤمن بما جاء في الكتاب الكريم من حمل الملائكة للعرش، ولا نبحث عن كيفيته ولا عن عدد الحاملين له، فإن ذلك من الشؤون التي لم يفصلها لنا الكتاب ولا السنة المتواترة فنكل أمر علمها إلى ربنا، وعلينا التسليم بما جاء في كتابه.

وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الحمل يراد به التدبير والحفظ، وأن الحفيف والطواف بالعرش يراد به القرب من ذي العرش سبحانه، ومكانة الملائكة لديه، وتوسطهم في نفاذ أمره.

ثم بين سبحانه كيفية استغفارهم للمؤمنين فقال حاكيا عنهم:

(رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا) أي وسعت رحمتك وعلمك كل شيء من خلقك، والمراد أن رحمتك تسع ذنوبهم وخطاياهم، وعلمك يحبط بجميع أعمالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم.

(فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي فصفح عن المسيئين إذا تابوا وأقلعوا عن ذنوبهم، واتبعوا ما أمرتهم به من فعل الخيرات، وترك المنكرات، واجعل بينهم وبين عذاب الجحيم وقاية بأن تلزمهم الاستقامة، وتتم نعمتك عليهم، فإنك وعدت من كان كذلك بالبعد عن هذا العذاب، ولا يبدّل القول لديك.

قال مطرّف بن عبد الله: وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة، ووجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشيطان، وتلا هذه الآية.

وقال خلف بن هشام البزّار القارئ: كنت أقرأ على سليم بن عيسى، فلما بلغت « وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا » بكى، ثم قال يا خلف: ما أكرم المؤمن على الله، يكون نائما على فراشه والملائكة يستغفرون له.

(رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) أي ربنا وأدخلهم الجنات التي وعدتهم إياها على ألسنة رسلك، وأدخل معهم في الجنة الصالحين من الآباء والأزواج والذرية، لتقرّبهم أعينهم، فإن الاجتماع بالأهل والعشيرة في موضع السرور يكون أكمل للبهجة وأتم للأنس.

قال سعيد بن جبير: يدخل الرجل الجنة فيقول يا رب أين أبى وجدي وأمي؟

وأين ولدي وولد ولدي؟ وأين زوجاتى؟ فيقال إنهم لم يعملوا كعملك، فيقول: يا رب كنت أعمل لي ولهم، فيقال أدخلوهم الجنة، ثم تلا: « الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ » إلى قوله: « وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ » ويقرب من هذه الآية قوله: « وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ».

(إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي أنت الغالب الذي لا يمتنع عليه مقدور، الحكيم الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة من الأمور.

ثم عمموا في الدعاء لهم بأن يمنع عنهم العقوبات الدنيوية والأخروية فقالوا:

(وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) أي واصرف عنهم سوء عاقبة سيئاتهم التي كانوا قد أتوها قبل توبتهم، ولا تؤاخذهم بذلك فتعذبهم بها.

(وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ) أي ومن تصرف عنه سوء عاقبة ما ارتكب من السيئات يوم القيامة فقد رحمته ونجيته من عذابك.

(وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي وهذا هو الفوز الذي لا فوز أجمل منه، ولا مطمع وراءه لطامع، إذ وجدوا بأعمال منقطعة نعيما لا ينقطع، وبأفعال قليلة ملكا لا نصل العقول إلى كنه جلاله.

[سورة غافر (40): الآيات 10 الى 17]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقًا وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17)

تفسير المفردات

المقت: أشد البغض، والروح: الوحي، يوم التلاقي: هو يوم القيامة وسمى بذلك لالتقاء الخالق بالمخلوق، بارزون: أي ظاهرون لا يسترهم جبل ولا أكمة ولا نحوهما.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أحوال المشركين المجادلين في آيات الله - أردف ذلك بيان أنهم يوم القيامة يعترفون بذنوبهم وباستحقاقهم ما سيحل بهم من النكال والوبال، ويسألون الرجوع إلى الدنيا ليتلافوا ما فرط منهم.

وبعد أن هددهم أعقب ذلك بما يدل على كمال قدرته وحكمته بإظهاره للآيات وإنزاله للأرزاق، وأنه أرفع الموجودات، لأنه مستغن عن كل ما سواه، وكل ما سواه محتاج إليه، وأنه ينزل الوحي على من يشاء من عباده، لينذر بالعذاب يوم الحساب والجزاء.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) أي إن الكافرين تناديهم الملائكة يوم القيامة وهم يتلظّون النار ويذوقون العذاب، فيمقتون أنفسهم ويبغضونها أشد البغض، بسبب ما أسلفوا من سيئ الأعمال التي كانت سبب دخولهم في النار - إن مقت الله لكم في الدنيا حين كان يعرض عليكم الإيمان فتكفرون - أشد من مقتكم أنفسكم اليوم وأنتم على هذه الحال.

والخلاصة - إن مقت الله لأهل الضلال حين عرض عليهم الإيمان في الدنيا فتركوه وأبوا أن يقبلوه - أكبر مما مقتوا أنفسهم حين عاينوا عذابه يوم القيامة، قاله قتادة ومجاهد والحسن البصري وابن جرير.

ثم ذكر ما يقولونا حين ينادون بهذا النداء فقال:

(قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) أي قالوا ربنا خلقتنا أمواتا، وأمتنا حين انقضاء آجالنا، وأحييتنا أو لا ينفخ الأرواح فينا ونحن في الأرحام، وأحييتنا بإعادة أرواحنا إلى أبداننا حين البعث نقله ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس وابن مسعود، وجعلوا ذلك نظير آية البقرة: « كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتًا فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ».

(فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) أي فاعترفنا أننا أنكرنا البعث فكفرنا وفعلنا من الذنوب ما لا يحصى عدّا، لأن من لم يخش عاقبة يتماد في غيه، ولكن حين رأينا الإماتة والإحياء قد تكررا علينا علمنا أن الله قادر على الإعادة قدرته على الإنشاء فاعترفنا بذنوبنا التي اقترفناها.

ثم طلبوا الرجوع إلى الدنيا لإصلاح ما فاتهم فقالوا:

(فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) أي فهل أنت معيدنا إلى الدنيا لنعمل غير الذي كنا نعمل، فإنك قادر على ذلك.

وهذا أسلوب يستعمل في التخاطب حين اليأس، قالوه تحيّرا أو تعللا عسى أن يتاح لهم الفرج.

ونحو الآية قوله: « وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ » وقوله: « رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ. قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ ».

فما كان جوابهم عما طلبوا إلا الرفض الباتّ مع ذكر السبب فقال:

(ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) أي لا سبيل إلى رجعتكم إلى الدار الدنيا، لأن طباعكم لا تقبل الحق بل تنفيه، فإنكم كنتم فيها إن دعى الله وحده كفرتم وأنكرتم أن تكون الألوهية له خاصة، وإن أشرك به مشرك صدقتموه وآمنتم بقوله، فأنتم هكذا تكونون لو رددتم إلى الدنيا كما قال: « وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ».

ثم ذكر ما ترتب على أعمالهم التي عملوها وما ضرّوا بها إلا أنفسهم فقال:

(فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) أي فالحكم حينئذ لله الذي لا يحكم إلا بالحق، ولا يقضى إلا بما تقتضيه الحكمة، وهو ذو الكبرياء والعظمة الذي ليس كمثله شيء، ومن ثم اشتدت سطوته بمن أشركوا به، واقتضت حكمته خلودهم في النار، فلا سبيل إلى خروجكم منها أبدا إذ أشركتم به سواه.

ثم ذكر ما يدل على كبريائه وعظمته فقال:

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) أي هو الذي يظهر قدرته لخلقه، بما يشاهدونه في العالم العلوي والسفلى من الآيات العظام الدالة على كمال خالقها وقدرة مبدعها وتفرده بالألوهية كما قال:

وفي كل شيء له آية تدلّ على أنه واحد

ثم خصص من هذه الآيات ما هم في أشد الحاجة إليه وهو المطر فقال:

(وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقًا) أي وهو الذي ينزل لكم المطر الذي يخرج به من الزرع والثمار ما تشاهدونه مما هو مختلف الألوان والطعوم والروائح والأشكال، مما أبدعته يد القدرة ووشّته بأبدع الحلي والمناظر.

(وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) أي وما يعتبر بتلك الآيات، ويستدل بها على عظمة خالقها، إلا من ينيب إلى ربه، ويتفكر في بديع ما خلق، وعظيم ما أوجد، ويترك التقليد واتباع الهوى.

والخلاصة - إن دلائل التوحيد مركوزة في العقول لا يحجبها إلا الاشتغال بعبادة غير الله، فإذا أناب العبد إلى ربه زال الغطاء، وظفر بالفوز، وظهرت له سبل النجاة.

ولمّا ذكر ما نصبه من الأدلة على التوحيد أمر عباده بدعائه وإخلاص الدين له فقال:

(فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) أي إذا علمتم أن التذكر خاص بمن ينيب، فادعوا الله وحده مخلصين له العبادة التي أمركم بها، وخالفوا المشركين في مسلكهم، ولا تلتفتوا إلى كراهتهم لذلك، ودعوهم يموتوا بغيظهم ويهلكوا بحسرتهم.

وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن الزبير « أن رسول الله كان يقول عقب الصلوات المكتوبة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ».

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: « ادعوا الله تبارك وتعالى وأنتم موقنون بالاجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء قلب غافل لاه ».

وبعد أن ذكر من صفات كبريائه إظهاره للآيات وإنزاله للأرزاق - ذكر ثلاث صفات أخرى تدل على جلاله وعظمته فقال:

(1) (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) أي إنه أرفع الموجودات وأعظمها شأنا، لأن كل شيء محتاج إليه، وهو مستغن عما عداه، وإنه أزلى أبدي ليس لوجوده أول ولا آخر، وإنه العالم بكل شيء « وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ».

(2) (ذُو الْعَرْشِ) أي إنه مالك العرش ومدبره، فهو مستول على عالم الأجسام وأعظمها العرش، كما هو مستول على عالم الأرواح وهي مسخرة له، وإلى ذلك أشار قوله:

(3) (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي يلقى الوحي بفضائه على من يشاء من عباده الذين يصطفيهم لرسالته، وتبليغ أحكامه إلى من يريد من خلقه.

ونحو الآية قوله: « يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ » وقوله: « وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ».

(لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ. يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) أي لينذر بالعذاب يوم يلتقى العابدون والمعبودون، يوم هم ظاهرون لا يكنّهم شيء، ولا يسترهم شيء.

(لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ ءٌ) فيعلم ما فعله كل منهم، فيجازيه بحسب ما قدمت يداه، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

ونحو الآية قوله: « يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ ».

ثم ذكر ما يقال عند بروز الخلق للحساب والجزاء فقال:

(لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) أي يقول الرب تعالى: لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد، فيجيب سبحانه فيقول: لله الواحد القهار أي هو الواحد الذي لا مثل له، القهار لكل شيء سواه بقدرته، الغالب بعزته. وقيل: المجيب هم أهل المحشر، فقد روى أبو وائل عن ابن مسعود قال: يحشر الناس على أرض بيضاء مثل الفضة لم يعص الله عز وجل عليها، فيؤمر مناد ينادى (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟) فيقول العباد مؤمنهم وكافرهم (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) يقول المؤمنون هذا الجواب سرورا وتلذذا، ويقوله الكافرون غمّا وانقيادا وخضوعا.

وبعد أن ذكر صفات قهره في ذلك اليوم - أردفها بيان صفات عدله وفضله فقال:

(الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) أي اليوم يثاب كل عامل بعمله، فيلاقى أجره، ففاعل الخير يجزى الخير وفاعل الشر يجزى بما يستحق، لا يبخس أحد ما استوجبه من أجر عمله في الدنيا فينقص منه إن كان محسنا، ولا يحمل على مسىء إثم ذنب لم يعمله.

روى مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله فيما يحكيه عن ربه « يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا - إلى أن قال - يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم، ثم أوفّيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله تبارك وتعالى، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه ».

ثم بين سبحانه أنه يصل إلى الخلق في ذلك اليوم ما يستحقون بلا إبطاء فقال:

(إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي إن الله سريع حسابه لعباده على أعمالهم التي عملوها في الدنيا، فيحاسب الخلائق كلهم كما يحاسب نفسا نفسا واحدة، لإحاطة علمه بكل شيء، فلا يعزب عنه مثقال ذرة.

أخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود قال: « يجمع الله الخلق كلهم يوم القيامة بصعيد واحد بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يعص الله فيها قط، فأول ما يتكلم أن ينادى مناد لمن الملك اليوم - إلى قوله الحساب ».

ونحو الآية قوله: « ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ » وقال: « وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ».

[سورة غافر (40): الآيات 18 الى 20]

وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)

تفسير المفردات

يوم الآزفة: يوم القيامة وسميت بذلك لقربها يقال أزف السفر: أي قرب، قال:

أزف الترحّل غير أنّ ركابنا لما تزل برحالنا وكأن قد

والحناجر: واحدها حنجرة أو حنجور كحلقوم لفظا ومعنى، وهي لحمة بين الرأس والعنق، كاظمين: أي ممسكين أنفسهم على قلوبهم لئلا تخرج، والحميم: القريب، خائنة الأعين: يراد بها النظر إلى ما لا يحل، ما تخفى الصدور: أي ما تكتمه الضمائر.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فيما سلف أن الأنبياء ينذرون الناس بيوم التلاقي - أعقب ذلك بذكر أوصاف هائلة تصطك منها المسامع، وتشيب من هولها الولدان لهذا اليوم المهيب.

الإيضاح

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ) أي وأنذر أيها الرسول مشركي قومك يوم القيامة، ليقلعوا عن قبيح أعمالهم، وذميم معتقداتهم التي يستحقون عليها شديد العذاب، ذلك اليوم الذي يعظم فيه الخوف حتى ليخيل أن القلوب قد شخصت من الصدور، وتعلقت بالحلوق، فيرومون ردها إلى مواضعها من صدورهم، فلا هي ترجع ولا هي تخرج من أبدانهم فيموتوا.

ثم بين أنه لا ينفع الكافرين في ذلك اليوم أحد فقال:

(ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) أي ليس للذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله قريب ينفعهم، ولا شفيع تقبل شفاعته لهم، بل تقطعت بهم الأسباب من كل خير.

ثم وصف سبحانه شمول علمه بكل شيء وإن كان في غاية الخفاء فقال:

(يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) أي يعلم ربكم ما خانت أعين عباده وما نظرت به إلى ما لا يحل كما يفعل أهل الرّيب، قال ابن عباس في الآية: هي الرجل يكون في القوم فتمر بهم المرأة فيريهم أنه يغضّ بصره عنها، وإذا غضوا نظر إليها، وإذا نظروا غض بصره عنها.

وقد اطّلع الله من قلبه أنه ودّ أن ينظر إلى عورتها، أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر.

(وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) أي لا يخفى عليه شيء من أمورهم حتى ما يحدّثون به أنفسهم وتضمره قلوبهم.

(وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ) أي والله يحكم بالعدل في الذي خانته الأعين بنظرها، وأخفته الصدور من النوايا، فيجزى الذين أغمضوا أبصارهم وصرفوها عن محارمه حذار الموقف بين يديه بالحسنى، ويجزى الذين رددوا النظر، وعزمت قلوبهم على مواقعة الفواحش جزاءهم الذي أوعدهم به في دار الدنيا.

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْ ءٍ) أي والأوثان والآلهة التي يعبدها هؤلاء المشركون من قومك - لا يقضون بشىء لأنهم لا يعلمون شيئا ولا يقدرون على شيء، فاعبدوا الذي يقدر على كل شيء، ولا يخفى عليه شيء.

وغير خاف ما في هذا من التهكم بآلهتهم.

(إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي إنه تعالى هو السميع لما تنطق به الألسنة، البصير بما تفعلون من الأفعال، وهو محيط بكل ذلك ومحصيه عليكم، فيجازيكم عليه جميعا يوم الجزاء.

ولا يخفى ما في هذا من الوعيد لهم على ما يقولون ويفعلون، والتعريض بحال ما يدعون من دون الله.

[سورة غافر (40): الآيات 21 الى 22]

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22)

المعنى الجملي

بعد أن بالغ سبحانه في تخويف الكفار بعذاب الآخرة - أردفه تخويفهم بعذاب الدنيا، فطلب إليهم أن ينظروا إلى من قبلهم ممن كانوا أشد منهم قوة، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، إذ كذبوا رسلهم حين جاءوهم بالبينات.

الإيضاح

حذر الله هؤلاء المشركين مما حل بمن قبلهم من الأمم التي كانت أقوى منهم وأعظم آثارا كعاد وثمود، (والسعيد من وعظ بغيره) فقال واعظا ومذكرا: ألم يسر هؤلاء المشركون بالله في البلاد فيروا عاقبة الذين كانوا من قبلهم من الأمم ممن سلكوا سبيلهم في الكفر وتكذيب الرسل، وقد كانوا أشد منهم بطشا، وأبقى في الأرض آثارا، فلم تنفعهم شدة قواهم، ولا عظيم آثارهم إذ جاء أمر الله، فأخذوا بما أجرموا من المعاصي واكتسبوا من الآثام، فأبيدوا جميعا وصارت مساكنهم خاوية بما ظلموا، وما كان لهم من عذاب الله من حافظ يدفعه عنهم؟

قصص موسى عليه السلام مع فرعون

[سورة غافر (40): الآيات 23 الى 27]

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27)

تفسير المفردات

السلطان: الحجة والبرهان، فرعون: ملك القبط بالديار المصرية، وهامان وزيره، وقارون كان أكثر الناس في زمانه تجارة ومالا، عذت: التجأت وتحصنت، متكبر: أي مستكبر عن اتباع الحق.

المعنى الجملي

لما سلى رسوله بذكر عاقبة الكفار الذين كذبوا بالأنبياء قبله بمشاهدة آثارهم - سلاه أيضا بذكر قصص موسى مع فرعون مع ما أوتى من الحجج الباهرة، كذبه فرعون وقومه وأمروا بقتل أبناء بني إسرائيل، وأمر فرعون بقتل موسى خوفا أن يبدل دينهم أو يعيث في الأرض فسادا، فتعوّذ موسى بربه ورب بني إسرائيل من كل جبار متكبر لا يؤمن بالجزاء والحساب.

الإيضاح

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ. إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ) يقول سبحانه مسليا نبيه على تكذيب من كذبه من قومه، ومبشرا له بأن العاقبة والنصر له في الدنيا والآخرة كما جرى لموسى بن عمران عليه السلام، فإن الله أرسله بالآيات البينات إلى فرعون وهامان وقارون فكذبوه وجعلوه ساحرا مجنونا حين عجزوا عن معارضته.

وخص فرعون وهامان وقارون بالذكر، لأنهم الرؤساء المكذبون والناس تبع لهم.

ولما عجزوا عن مقارعة الحجة بالحجة لجئوا إلى استعمال القوة كما هو دأب المحجوج المغلوب على أمره، وإلى هذا أشار بقوله:

(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) أي فلما جاءتهم الآيات البينات الدالة على توحيد الله ووجوب العمل بطاعته، قالوا غيظا وحنقا وعجزا عن المعارضة: اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه من أبناء بني إسرائيل وأبقوا نساءهم لخدمتنا.

قال قتادة: هذا قتل غير القتل الأول، لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الولدان بعد ولادة موسى، فلما بعث الله موسى أعاد القتل على بني إسرائيل عقوبة لهم فكان يأمر بقتل الذكور وترك الإناث ليمتنعوا من الإيمان، ولئلا يكثر جمعهم ويشتد عضدهم بالذكور من أولادهم، لكن الله شغلهم عن ذلك بما أنزل عليهم من أنواع العذاب كالضفادع والقمّل والدم والطوفان إلى أن خرج بنو إسرائيل من مصر.

وإلى هذا أشار سبحانه بقوله:

(وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي وما مكرهم وقصدهم وهو تقليل عدد بني إسرائيل لئلا ينصروا عليهم - إلا ذاهب سدى وباطلا، فالناس لا يمتنعون من الإيمان وإن فعل بهم ما فعل، وإن القدر المقدور لا محالة نافذ، والقضاء المحتوم لا بدّ واقع، والنصر حليف المؤمنين، كما وعد في كتابه المكنون « كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ».

والخلاصة - إن ما أظهروه من الإبراق والإرعاد سيضمحل لا محالة ويذهب هباء أمام تلك القوة القاهرة وسيكون النصر للمتقين.

ثم ذكر أنه ما كفاهم قتل البنين واستحياء البنات من بني إسرائيل بل أرادوا أن يجتثوا هذه الشجرة من أصلها، كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله:

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) أي وقال فرعون لملئه: دعونى أقتل موسى وليدع ربه الذي أرسله إلينا ليمنعه منا، وكان إذا همّ بقتله كفوه وقالوا له: ليس هذا بالذي يخاف منه وهو أضعف من ذلك شأنا، وما هو إلا ساحر يصاوله ساحر مثله، وإنك إن قتلته أدخلت الشبهة في نفوس القوم واعتقدوا أنك عجزت عن مقابلة الحجة بالحجة، وما يزالون به هكذا يحاورونه ويداورونه حتى يكف عن قتله.

وربما يكون قد قال ذلك تمويها على قومه وإيهاما أن حاشيته هم الذين يكفونه عن قتله، وما يكفه عن ذلك إلا ما في نفسه من هول الفزع الذي استحوذ عليه، كما يرشد إلى ذلك قوله « وَلْيَدْعُ رَبَّهُ » فإن ظاهره الاستهانة به بدعائه ربه سبحانه كما يقال: ادع ناصرك فإني منتقم منك، وباطنه أن فرائصه كانت ترتعد من دعائه ربه، فلهذا تكلم بما تكلم به مظهرا أنه لا يبالى بدعائه ربه، كما يقول القائل ذرونى أفعل كذا وما كان فليكن.

ثم ذكر السبب في قتله فقال:

(إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) أي إني أخاف أن يفسد موسى عليكم أمر دينكم الذي أنتم عليه من عبادة غير الله ويدخلكم في دينه الذي هو عبادة الله وحده، أو يوقع بين الناس الخلاف والفتنة، إذ يجتمع إليه الهمل الشّرّد ويكثرون من الخصومات والمنازعات وإثارة القلاقل والاضطرابات، فتتعطل المزارع والمتاجر وتعدم المكاسب.

والخلاصة - إنه يقول: إني أخاف أن يفسد عليكم أمر دينكم بالتبديل، أو يفسد عليكم أمر دنياكم بالتعطيل، وهما أمران أحلاهما مرّ.

وقد جعل ظهور ما دعا إليه موسى وانتشاره في الأرض واهتداء الناس به فسادا، وليس الفساد إلا ما هو عليه هو ومن تابعه.

ولما هدد فرعون موسى بالقتل استعاذ بالله من كل متعظم عن الإيمان به لا يؤمن بالبعث والنشور، فصانه من كل بليّة، وإلى ذلك أشار بقوله:

(وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) أي إني استجرت بالله ربى وربكم، واستعنت به من شر كل مستكبر لا يذعن للحق، ولا يؤمن بيوم يحاسب الله فيه الخلائق، فيجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بما أساء، وإنما خص الاستعاذة بمن جمع بين الاستكبار والتكذيب بالجزاء، لأنهما عنوان قلة المبالاة بالعواقب، وعنوان الجرأة على الله وعلى عباده، فمن لم يؤمن بيوم الحساب لم يكن للثواب على الإحسان راجيا، ولا من العقاب على الإساءة وقبيح ما يأتي من الأفعال خائفا.

وفي قوله (بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) حثّ لهم على موافقته في العياذ به سبحانه، والتوجه إليه جل شأنه بالأرواح، فالأرواح الطاهرة إذا تظاهرت كان ذلك أدنى إلى الإجابة، وأقرب إلى تحقق الغرض، ومن ثم شرعت صلاة الجماعة، وإنما قال (مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ) ولم يقل « منه » سلوكا لطريق التعريض، وتحاشيا مما قد يعرض له من الأذى إذا هو سمع كلامه فهو واف بالغرض ومبين للعلة التي لأجلها أبى واستكبر.

[سورة غافر (40): الآيات 28 الى 29]

وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29)

تفسير المفردات

الرجل المؤمن: هو ابن عم فرعون وولي عهده وصاحب شرطته وهو الذي نجامع موسى وهو المراد بقوله: « وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى »، والبينات: هي الشواهد الدالة على صدقه، والمسرف: المقيم على المعاصي المستكثر منها، والكذاب: المفتري، ظاهرين: أي غالبين عالين على بني إسرائيل، ما أريكم إلا ما أرى: أي ما أعلمكم إلا ما أعلم من الصواب.

المعنى الجملي

بعد أن حكى عن موسى أنه مازاد حين سمع مقالة فرعون الداعية إلى قتله، على أن استعاذ بالله من شره - أردف ذلك بيان أن الله قيّض له من يدافع عنه من آل فرعون أنفسهم ويذبّ عنه على أكمل الوجوه وأحسنها، ويبالغ في تسكين تلك الفتنة، ويجتهد في إزالة ذلك الشر.

الإيضاح

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ، أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ؟) أي وقال رجل من آل فرعون يكتم إيمانه منهم خوفا على نفسه: أينبغي لكم أن تقتلوا رجلا ما زاد على أن قال: ربى الله وقد جاءكم بشواهد دالة على صدقه؟ ومثل هذه المقالة لا تستدعى قتلا ولا تستحق عقوبة فاستمع فرعون لكلامه، وأصغى لمقاله وتوقف عن قتله، قال ابن عباس: لم يكن في آل فرعون مؤمن غيره وغير امرأة فرعون وغير المؤمن الذي قال: « إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ».

وخلاصة ذلك - أترتكبون هذه الفعلة الشنعاء، وهي قتل النفس المحرمة من غير روية ولا تأمل ولا اطلاع على سبب يوجب قتله؟ وما لكم علة في ارتكابها إلا كلمة الحق، وهي قوله: ربي الله.

أخرج البخاري وغيره من طريق عروة بن الزبير قال: قيل لعبد الله بن عمرو ابن العاص: أخبرنا بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله قال: بينا رسول الله يصلّى بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبيه ودفعه عن النبي ثم قال: « أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ؟ ».

وأخرج البزار وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن علي بن أبي طالب أنه قال: « أيها الناس أخبروني من أشجع الناس؟ قالوا أنت، قال أما إني ما بارزت أحدا إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني عن أشجع الناس؟ قالوا لا نعلم، فمن؟ قال أبو بكر: رأيت رسول الله وأخذته قريش فهذا يجؤه، وهذا يتلتله، وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلها واحدا، قال: فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا، ويجأ هذا ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله؟ ثم رفع بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم قال: أنشدكم: أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال: ألا تجيبون؟ فوالله لساعة من أبي بكر خير من مثل مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه، فأثنى الله عليه في كتابه، وهذا رجل أعلن إيمانه وبذل ماله ودمه ».

ثم ذكر من الحجج ما يؤيد به رأيه فقال:

(1) (وَإِنْ يَكُ كاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) أي إن كان كاذبا في قيله إن الله أرسله إليكم ليأمركم بعبادته وترك دينكم الذي أنتم عليه، فإنما إثم كذبه عليه دونكم، وإن يك صادقا في قيله ذلك أصابكم الذي أوعدكم به من العقوبة على مقامكم على الدين الذي أنتم عليه مقيمون، فلا حاجة بكم إلى قتله فتسخطوا ربكم سخطين: سخطا على الكفر، وسخطا على قتل رسوله.

وفي قوله: بعض الذي يعدكم - مبالغة في التحذير، فإنه إذا حذرهم من بعض العذاب أفاد أنه مهلك مخوف فما بال كله؟ إلى ما فيه من الإنصاف وإظهار عدم التعصب.

(2) (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) أي إنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله، ولما عاضده بتلك المعجزات، إلى أنه لو كان كذلك لخذله وأهلكه، فلا حاجة لكم إلى قتله.

وفي هذا تعريض بفرعون بانه مسرف في القتل والفساد، كذاب في ادعاء الربوبية، لا يهديه الله إلى سبيل الرشاد، ولا يلهمه طريق الخير والفلاح.

(3) (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا؟) أي يا قوم قد علوتم الناس وقهرتموهم، فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم، ولا تتعرضوا لبأس الله وعذابه بقتله، فإنه لا قبل لكم به، وإن جاءنا لم يمنعه عنا أحد.

وفي قوله: ينصرنا وجاءنا، تطييب لقلوبهم، وإيذان بأنه ناصح لهم، ساع في تحصيل ما يجديهم، ودفع ما يرديهم، سعيه في حق نفسه، ليتأثروا بنصحه.

ولما سمع فرعون ما قاله هذا الرجل من النصح جاء بمراوغة يوهم بها قومه أنه لهم من النصيحة والرعاية بمكان مكين، وأنه لا يسلك بهم إلا مسلكا يكون فيه جلب النفع لهم ودفع الضر عنهم كما حكى سبحانه عنه بقوله:

(قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) أي قال فرعون مجيبا هذا المؤمن الناهي عن قتل موسى: لا أشير عليكم برأى سوى ما ذكرته من وجوب قتله حسما للفتنة، وإني لأرى أن هذا هو سبيل الرشاد والصلاح، ولا أعدّ غير هذا صوابا.

[سورة غافر (40): الآيات 30 الى 35]

وقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبادِ (31) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)

تفسير المفردات

الأحزاب: أي الأقوام الذين تحزبوا على أنبيائهم وكذبوهم، والدأب: العادة، يوم التناد: يوم القيامة، سمى بذلك لأن الناس ينادى فيه بعضهم بعضا للاستغاثة.

قال أمية بن أبي الصّلت:

وبثّ الخلق فيها إذ دحاها فهم سكانها حتى التّناد

عاصم: أي مانع، مرتاب: أي شاك في دينه، ويوسف: هو يوسف بن يعقوب عليه السلام، وروى عن ابن عباس أنه يوسف بن إفرائيم بن يوسف بن يعقوب، أقام فيهم نبيا عشرين سنة، والسلطان: الحجة، والمقت: أشد الغضب.

المعنى الجملي

بعد أن سمع ذلك المؤمن رأى فرعون في موسى وتصميمه على قتله، وإقامة البراهين على صحة رأيه، وأنه لا سبيل إلى العدول عن ذلك - أعاد النصح مرة أخرى لقومه، لعلهم يرعوون عن غيهم ويثوبون إلى رشدهم، فذكّرهم بأس الله وسنته في المكذبين للرسل، وضرب لهم الأمثال بما حل بالأحزاب من قبلهم كقوم نوح وعاد وثمود، ثم ذكّرهم بأهوال يوم القيامة، يوم لا عاصم من عذاب الله، ثم أعقب ذلك بتذكيرهم بما فعل آباؤهم الأولون مع يوسف من قبل من تكذيبهم برسالته ورسالة من بعده، فأحل الله بهم من البأس ما صاروا به مثلا في الآخرين، وكأنّ لسان حاله يقول: هأنذا قد أسمعت، ونصحت فما قصرت، والأمر إليكم فيما تفعلون.

الإيضاح

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ. مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي وقال ناصحا قومه: يا قوم إني أخاف عليكم إن كذبتم موسى وتعرضتم له بسوء أن يحل بكم مثل ما حل بالذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية وكذبوهم كقوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم، فقد نزل بهم من بأس الله وعذابه ما لم يجدوا له واقيا ولا عاصما، وهذه سنة الله في المكذبين جميعا، فحذار حذار أيها القوم، إني لكم ناصح أمين، وما أهلكهم إلا بسوء أفعالهم وعظيم ما اجترحوا من الآثام والمعاصي وما ظلمهم الله، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. وإلى هذا أشار بقوله:

(وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبادِ) أي وما أهلك الله هذه الأمم ظلما لهم بغير جرم اجترموه، بل أهلكهم بإجرامهم وكفرهم، وتكذيبهم رسله، بعد أن جاءوهم بالبينات، فأنفذ فيهم قدره، وأحل بهم وعيده.

وبعد أن خوفهم العذاب الدنيوي خوفهم العذاب الأخروي فقال:

(وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ. يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ) أي إني أخاف عليكم عذاب يوم القيامة حين ينادى بعضكم بعضا، ليستغيث به من شدة الهول، أو حين ينادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم، وينادى « أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ قالُوا نَعَمْ » وينادى « أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ ».

يوم تولون مدبرين هربا من زفير النار وشهيقها، فلا يجديكم ذلك شيئا، ولا تجدون من يعصمكم من العذاب، فتردّون إليه وينالكم منه ما قدّر لكم وكتب عليكم.

ثم نبه إلى شدة ضلالتهم وعظيم جهالتهم فقال:

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي ومن يخذله الله ولا يلهمه رشده فما له هاد يهديه إلى طريق النجاة ويوفقه إلى الخلاص.

وفي هذا إيماء إلى أنه يئس من قبولهم نصحه.

ثم وبخهم بأنهم ورثوا التكذيب بالرسل من آبائهم الأولين، وأسلافهم الغابرين فقال:

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا) أي ولقد جاء آباءكم يوسف من قبل موسى بالآيات الواضحات، والمعجزات الباهرات، فلم يزالوا في ريب من أمره، وشك من صدقه، فلم يؤمنوا به، حتى إذا مات قالوا: لن يبعث الله رسولا من بعده يدعو إليه ويحذّر بأسه، ويخوّف من عقابه، فالتكذيب متوارث، والعناد قديم، والريب دأب آبائكم الغابرين، وقد نسب تكذيب الآباء إليهم، لما تقدم من أن الأمم متكافلة فيما بينها، فينسب ما حدث من بعضها إلى جميعها، إذا تواطئوا واتفقوا عليه كما جاء في قصص ثمود حين كذّب قدار فعقر الناقة فنسب التكذيب إلى ثمود جميعها كما قال: « كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها. إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها. فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها. فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها. فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها. وَلا يَخافُ عُقْباها ».

والخلاصة - إنهم كفروا بيوسف في حياته، وكفروا بمن بعده من الرسل بعد موته، وظنوا أن ذلك لا يجدد عليهم الحجة.

وقد قالوا هذه المقالة على سبيل التشهي والتمني من غير حجة ولا برهان، ليكون لهم أساس في تكذيب من بعده، وليس إقرارا منهم برسالته، بل هو ضم إلى الشك في رسالته التكذيب برسالة من بعده.

ثم بين أنه لا عجب في تكذيبهم فقد طمس الله بصائرهم، وران على قلوبهم، حين دسّوا أنفسهم بقبيح الخصال وعظيم الآثام.

(كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) أي مثل هذا الضلال الواضح، يضل الله ويصد عن سبيل الحق، وقصد السبيل من هو مسرف في معاصيه مستكثر منها، شاك في وحدانيته ووعده ووعيده، لغلبة الوهم عليه، وانهما كه في التقليد.

ثم بين هؤلاء المسرفين المرتابين فقال:

(الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) أي إن المسرفين المرتابين هم الدين يخاصمون في حجج الله التي أتتهم بها رسله ليدحضوها بالباطل من الحجج التي لا مستساغ لها من عقل ولا نقل، فيتمسكون بتقليد الآباء والأجداد، ويتمسكون بترّهات الأباطيل التي لا يتقبلها ذوو الحصافة والرأي.

ثم أكد ما سلف وقرره وتعجب من حالهم فقال:

(كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي كبر ذلك الجدل بغضا لدى الله والمؤمنين، فمقت الله إياهم يكون بما يستتبعه من سوء العذاب، ومقت المؤمنين تظهر آثاره في هجرهم إياهم، والاحتراس من التعامل معهم، وعدم الركون إليهم في الدين والدنيا.

ثم بين أن هذه سنة الله فيهم وفي أمثالهم فقال:

(كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) أي كما طبع الله على قلوب المسرفين الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم، يطبع على قلوب جميع المتكبرين الجبارين الذين أبوا أن يوحدوا الله ويصدقوا رسله، واستعظموا عن اتباع الحق، فيصدر عنهم أمثال ما ذكر من الإسراف والارتياب والجدل بغير الحق.

ونسب التكبر إلى القلب، لأنه هو الذي يتكبر وسائر الأعضاء تبع له، ولهذا قال النبي « إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ».

قال قتادة: آية الجبابرة القتل بغير حق.

[سورة غافر (40): الآيات 36 الى 37]

وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِبًا وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37)

تفسير المفردات

هامان: وزير فرعون، الصرح: القصر الشامخ المنيف، الأسباب: واحدها سبب، وهو ما يتوصل به إلى شيء من حبل وسلم وطريق، والمراد هنا الأبواب.

قال زهير بن أبي سلمى:

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أسباب السماء بسلم

والتباب: الخسران والهلاك، ومنه قوله تعالى: « تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ » وقوله سبحانه: « وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ».

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فيما سلف تكبر فرعون وجبروته - أبان هنا أنه بلغ من عتوّه وتمرده وافترائه في تكذيب موسى أن أمر وزيره هامان أن يبنى له قصرا شامخا من الآجرّ ليصعد به إلى السماء، ليطلع إلى إله موسى، ومقصده من ذلك الاستهزاء به ونفى رسالته، وأكد ذلك بالتصريح بقوله: « وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِبًا » ثم أرشد إلى أن هذا وأمثاله صنيع المكذبين الضالين، وأن عاقبة تكذيبهم الهلاك والخسران.

الإيضاح

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ. أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) أي وقال فرعون بعد سماعه عظة المؤمن وتحذيره له من بأس الله إذا كذب بموسى وقتله: يا هامان ابن لي قصرا منيفا عالى الذّرا رفيع العماد، علّنى أبلغ أبواب السماء وطرقها، حتى إذا وصلت إليها رأيت إله موسى، ولا يريد بذلك إلا الاستهزاء والتهكم، وتكذيب دعوى الرسالة من رب السموات والأرض.

والخلاصة - إن هذا نفى لرسالته من عند ربه.

ثم أكد هذا النفي الضمنى بالتصريح به بقوله:

(وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِبًا) أي وإني لأظنه كاذبا فيما يقول ويدّعى من أن له في السماء ربّا أرسله إلينا، وقد قال هذا تمويها وتلبيسا على قومه، توصلا بذلك إلى بقائهم على الكفر، وإلا فهو يعلم أن الإله ليس في جهة العلو فحسب، وكأنه يقول: لو كان إله موسى موجودا لكان له محل، ومحله إما الأرض وإما السماء، ولم نره في الأرض، فإذا هو في السماء، والسماء لا يتوصل إليها إلا بسلم، فيجب أن نبنى الصرح لنصل إليه.

ثم بين السبب الذي دعاه إلى ما صنع فقال:

(وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) أي وهكذا زين الشيطان لفرعون هذا العمل السيّء، فانهمك في غيّه، واستمر في طغيانه، ولم يرعو بحال، وصدّ عن سبيل الرشاد بأمثال هذه التمويهات والشبهات، وما كان ذلك إلا لسوء استعداده وتدسيته نفسه والسير بها قدما في شهواتها دون أن يكون لها وازع يصدها عن غيها، ويثوب بها إلى رشدها.

والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

ثم ذكر عاقبة مكره وتدليسه وأنه ذاهب سدى وأن الله ناصر أولياءه، ومهلك أعداءه و« مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ » وإلى هذا أشار بقوله:

(وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) أي وما احتياله الذي يحتال به ليطّلع على إله موسى إلا في خسار وذهاب مال، لأنها نفقة تذهب باطلا سدى دون أن يصل إلى شيء مما أراده من القضاء على دعوة موسى، فالنصر في العاقبة له « وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ».

[سورة غافر (40): الآيات 38 الى 46]

وقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46)

تفسير المفردات

الرشاد: ضد الغي والضلال، متاع: أي يستمتع به أياما قليلة ثم ينقطع ويزول، دار القرار: أي دار البقاء والدوام، إلى النجاة: أي إلى الإيمان بالله الذي ثمرته وعاقبته النجاة، إلى النار: أي إلى اتخاذ الأنداد والأوثان الذي عاقبته النار، ما ليس لي به علم: أي ما لا وجود له ولم يقم عليه دليل ولا برهان، لا جرم: أي حقّا، دعوة: أي استجابة دعوة لمن يدعو إليه، مردّنا: أي مرجعنا، وأن المسرفين، أي الذين يغلب شرهم على خيرهم، فستذكرون: أي فسيذكر بعضكم بعضا حين معاينة العذاب، وقاه: حفظه، يعرضون عليها: أي تعرض أرواحهم عليها.

المعنى الجملي

اعلم أن هذا المؤمن لما رأى تمادى قومه في تمردهم وطغيانهم أعاد إليهم النصح مرة أخرى، فدعاهم أولا إلى قبول هذا الدين الذي هو سبيل الخير والرشاد، ثم بين لهم حقارة الدنيا وعظم شأن الآخرة، وأنها هي الدار التي لا زوال لها، ثم ذكر أنه يدعوهم إلى الإيمان بالله الذي يوجب النجاة والدخول في الجنات، وهم يدعونه إلى الكفر الذي يوجب الدخول في النار، ثم أردف هذا بيان أن الأصنام لا تستجاب لها دعوة، فلا فائدة في عبادتها، ومردّ الناس جميعا إلى الله العليم بكل الأشياء، وهو الذي يجازى كل نفس بما كسبت، وأن المسرفين في المعاصي هم أصحاب النار ثم ختم نصحه بتحذيرهم من بأس الله وتفويض أمره إلى الله الذي يدفع عنه كل سوء يراد به ثم أخبر سبحانه بأنه استجاب دعاءه فوقاه السوء الذي دبروه له وحفظه مما أرادوه من اغتياله، وأحاط بآل فرعون سوء العذاب فغرقوا في البحر، ويوم القيامة يكون لهم أشد العذاب في النار.

الإيضاح

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) أي يا قوم إن اتبعتمونى فقبلتم مني ما أقول لكم سلكتم الطريق الذي به ترشدون باتباعكم دين الله الذي ابتعث به موسى.

ثم زهدهم في الدنيا التي قد آثروها على الآخرة، فصدوا عن التصديق برسول الله فقال:

(يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) أي يا قوم ما هذا النعيم الذي عجّل لكم في هذه الحياة الدنيا إلا قليل المدى تستمعون به إلى أجل أنتم بالغوه ثم تموتون، وإن الآخرة هي دار الاستقرار التي لا زوال لها، ولا انتقال منها، ولا ظعن عنها إلى غيرها، وفيها إما نعيم مقيم، وإما عذاب أليم.

ثم بين كيف تحصل المجازاة في الآخرة وأشار إلى أن جانب الرحمة فيها غالب على جانب العقاب فقال:

(مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) أيمن عمل في دار الدنيا معصية من المعاصي كائنة ما كانت، فلا يعذب إلا بقدرها من غير مضاعفة للعقاب، ومن عمل بطاعة الله وائتمر بأمره، وانتهى عما نهى عنه، ذكرا كان أو أنثى وهو مؤمن بربه مصدق بأنبيائه ورسله، فأولئك يدخلون الجنة ويمتعون بنعيمها بلا تقدير ولا موازنة للعمل بل يجازون أضعافا مضاعفة بلا انقضاء ولا نفاد.

ثم كرّر ذلك المؤمن دعاءهم إلى الله وصرح بإيمانه ولم يسلك المسالك المتقدمة من إيهامه لهم أنه منهم وأنه إنما تصدى لتذكيرهم كراهة أن يصيبهم بعض ما توعدهم به موسى كما يقول الرجل المحب لقومه تحذيرا لهم من الوقوع فيما يخاف عليهم من مواضع الهلكة فقال:

(وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ؟) أي أخبروني كيف أنتم وما حالكم، أدعوكم إلى النجاة من عذاب الله بإيمانكم بالله وإجابة رسوله وتصديق ما جاء به من عند ربه، وتدعوننى إلى عمل أهل النار بما تريدون مني من الشرك؟.

ثم فسر الدعوتين بقوله:

(تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) أي تدعوننى إلى الكفر بالله والإشراك به في عبادته ما لم يقم دليل على ألوهيته، وأنا أدعوكم إلى من استجمع صفات الألوهية من كمال القدرة والغلبة والعلم والإرادة والتمكن من المجازاة والقدرة على التعذيب والغفران.

ثم أكد ما سلف بقوله:

(لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ) أي حقا إن ما تدعوننى إليه من الأصنام لا يجيب دعوة من يدعوه، فهو لا ينفع ولا يضر في الدنيا ولا في الآخرة.

ونحو الآية: « إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ » وقوله: « وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ. وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ ».

(وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ) أي وأن منقلبنا بعد الموت والبعث إلى الله، وحينئذ يجازى كل نفس بما كسبت من خير أو شر.

(وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) أي وأن المشركين بالله المتعدّين حدوده هم أهل الجحيم خالدين فيها أبدا قاله قتادة وابن سيرين، وقال ابن مسعود ومجاهد والشعبي: هم السفهاء السفاكون للدماء بغير حقها الذين ركبوا أهواءهم ودسّوا أنفسهم بصنوف المعاصي.

ثم ختم نصحه بكلمة فيها تحذير ووعيد لهم، ليتفكروا في عاقبة أمرهم لعلهم يرعوون عن غيهم فقال:

(فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ) أي فستعلمون صدق ما أمرتكم به ونهيتكم عنه وتتذكرونه فتندمون حيث لا ينفع الندم، وإني قد بالغت في نصحكم وتذكيركم بما لم يبق بعده مستزاد لمستزيد.

ثم ابتدأ كلاما آخر يبين به اطمئنانه إلى ما يجرى به القدر ويخبئه له الغيب كما هو دأب المؤمنين الصادقين فقال:

(وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ) أي وأتوكل على ربى وأفوض إليه أمري وأستعين به ليعصمنى من كل سوء. قيل إنه قال ذلك لما أرادوا قتله والإيقاع به. وقال مقاتل: هرب هذا المؤمن إلى الجبل فطلبوه فلم يقدروا عليه.

ثم ذكر ما هو كالعلة لذلك فقال:

(إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) أي إنه خبير بهم فيهدى من يستحق الهداية، ويضل من يستحق الإضلال لسوء استعداده وتدسيته نفسه، وله الحجة الدامغة، والحكمة البالغة، والقدرة النافذة.

ثم أخبر سبحانه أنه قد كانت النصرة له والهلاك لعدوه فقال:

(فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا، وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) أي فحفظه الله مما أرادوا به من المكر السيئ في الدنيا، إذ نجاه مع موسى عليه السلام، وفي الآخرة بإدخاله دار النعيم، وأحاط بفرعون وقومه سوء العذاب في الدنيا بالغرق في اليمّ، وفي الآخرة بدخول جهنم وبئس القرار.

وفي هذا إيماء إلى أنهم قصدوه بالسوء، وقد روى عن ابن عباس أنه لما ظهر إيمانه قصد فرعون قتله فهرب ونجا.

ثم فصّل ما أجمله من سوء العذاب بقوله:

(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) أي تعرض أرواحهم من حين موتهم إلى قيام الساعة على النار بالغداة والعشى وينفّس عنهم فيما بين ذلك، ويدوم هذا إلى يوم القيامة، وحينئذ يقال لخزنة جهنم: أدخلوا آل فرعون النار.

قال بعض العلماء. وفي هذه الآية دليل على عذاب القبر، ويؤيده ما روى البخاري ومسلم أن رسول الله قال « إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشى، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، ويقال هذا مقعدك حين يبعثك الله تعالى إليه يوم القيامة، ثم قرأ: « النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ».

وروى ابن مسعود عن النبي قال: « ما أحسن محسن مسلم أو كافر إلا أثابه الله، قلنا يا رسول الله ما إثابة الكافر، قال المال والولد والصحة وأشباه ذلك، قلنا وما إثابته في الآخرة؟ قال: عذابا دون العذاب وقرأ: « أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ ».

وقد أثبت علماء الأرواح حديثا، نعيم الروح وعذابها، وشبهوا ذلك بما يراه النائم حين نومه، فقد نرى نائمين في سرير واحد يقوم أحدهما مذعورا كئيبا وجلا مما شاهد في نومه، بينما نرى الثاني مستبشرا فرحا بما لاقى من المسرة والنعيم، فيروى أنه كان في حديقة غناء وشاهد كذا وكذا مما فيها من بهجة وبهاء، وجمال ورواء.

[سورة غافر (40): الآيات 47 الى 50]

وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50)

تفسير المفردات

المحاجة: المجادلة والخصام بين اثنين فأكثر، الضعفاء: الأتباع والمرءوسون، والمستكبرون: السادة أولو الرأي فيهم، والتبع: واحدهم تابع كخدم وخادم، مغنون: أي دافعون، نصيبا: أي قسطا وجزءا، حكم: قضى، الخزنة: واحدهم خازن وهم القوّام يتعذيب أهل النار، ضلال: أي في ضياع وخسار.

الإيضاح

(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا) أي واذكر أيها الرسول لقومك وقت حجاج أهل النار وتخاصمهم وهم في النار، فيقول الأتباع للقادة السادة: إنا أطعناكم فيما دعوتمونا إليه في الدنيا من الكفر والضلال، فتكبرتم على الناس بنا.

(فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ؟) أي فهل تقدرون أن تحتملوا عنا قسطا من العذاب فتخففوه عنا، فقد كنا نسارع إلى محبتكم في الدنيا، ومن قبلكم جاءنا العذاب، ولو لا أنتم لكنا مؤمنين.

ومقصدهم من هذا المقال تخجيلهم وإيلام قلوبهم، وإلا فهم يعلمون أنهم لا قدرة لهم على ذلك التخفيف.

فيرد عليهم أولئك الرؤساء بما حكاه الله عنهم بقوله:

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها) أي قال رؤساؤهم الذين أبوا الانقياد للأنبياء: إنا جميعا واقعون في العذاب، فلو قدرنا على إزالته عن أنفسنا لدفعناه عنكم.

وخلاصة مقالهم: إنا وأنتم في العذاب سواء.

(إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) بفصل قضائه، فلا يؤاخذ أحدا بذنب غيره، وكل منا كافر، وكل منا يستحق العقاب، ولا يغني أحد عن أحد شيئا.

ولما يئس الأتباع من المتبوعين رجعوا إلى خزنة جهنم يطلبون منهم الدعاء كما حكى الله عنهم بقوله:

(وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذابِ) أي وقال أهل جهنم لخدمها وقوّامها مستغيثين بهم من عظيم ما هم فيه من البلاء رجاء أن يجدوا لديهم فرجا من ذلك الكرب الذي هم فيه: ادعوا ربكم أن يخفف عنا مقدار يوم من العذاب.

فرد عليهم الخزنة موبخين لهم على سوء ما كانوا يصنعون مما استحقوا عليه شديد العذاب.

(قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ؟) أي أوما جاءتكم الرسل بالحجج على توحيد الله لتؤمنوا به وتبرءوا مما دونه من الآلهة؟.

فأجابوهم:

(قالُوا بَلى) أي قالوا أتونا فكذبناهم، ولم نؤمن بهم ولا بما جاءوا به من البينات الواضحة، والبراهين الساطعة، حينئذ تهكم بهم خزنة جهنم.

(قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي قالوا لهم: إذا كان الأمر كما ذكرتم فادعوا أنتم وحدكم، فإنا لا ندعو لمن كفر بالله وكذب رسله، وإن دعاءكم لا يفيدكم شيئا فما هو إلا في خسران وتبار، وسواء دعوتم أو لم تدعوا فإنه لا يستجاب لكم ولا يخفف عنكم.

روى الترمذي وغيره عن أبي الدرداء قال: « يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون منه فيغاثون بالضريع لا يسمن ولا يغني من جوع، فيأكلون لا يغني عنهم شيئا، فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصّة فيغصّون به، فيذكرون أنهم كانوا في الدنيا يجيزون الغصص بالماء، فيستغيثون بالشراب فيرفع لهم الحميم بالكلاليب، فإذا دنا من وجوههم شواها، فإذا وقع في بطونهم قطّع أمعاءهم وما في بطونهم، فيستغيثون بالملائكة يقولون: « ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذابِ » فيجيبونهم: « أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ »

[سورة غافر (40): الآيات 51 الى 56]

إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)

تفسير المفردات

يوم يقوم الأشهاد: هو يوم القيامة، والأشهاد: واحدهم شهيد بمعنى شاهد، والهدى: ما يهتدى به من المعجزات والصحف والشرائع، والإبكار: أول النهار إلى نصفه، والعشى: من النصف إلى آخر النهار، والسلطان: الحجة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه في أول السورة أنه لا يجادل في آيات الله إلا القوم الكافرون، ثم رد على أولئك المبطلين المجادلين تسلية لرسوله وتصبيرا له على تحمل أذى قومه - أردف ذلك وعده له بالنصرة على أعدائه في الدنيا والآخرة، وتلك سنة الله، فهو ينصر الأنبياء والرسل ويقيّض لهم من ينصرهم على أعدائهم ويملأ قلوبهم بنور اليقين، ويلهمهم أن النصرة لهم آخرا مهما تقلبت بهم الأمور.

الإيضاح

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) أي إنا لنجعل رسلنا هم الغالبين لأعدائهم القاهرين لهم، وننصر معهم من آمن بهم في الحياة الدنيا إما بإعلائهم على من كذبوهم كما فعلنا بداود وسليمان، فأعطيناهما من الملك والسلطان ما قهرا به كل كافر، وكما فعلنا بمحمد بإظهاره على من كذبه من قومه، وإما بانتقامنا ممن حادّهم وشاقهم بإهلاكهم وإنجاء الرسل كما فعلنا بنوح وقومه من إغراقهم وإنجائه، وكما فعلنا بموسى وفرعون وقومه، إذ أهلكناهم غرقا ونجينا موسى ومن آمن معه من بني إسرائيل - وإما بانتقامنا منهم بعد وفاة رسلنا كما نصرنا شعيبا بعد مهلكه بتسليطنا على من قتله من سلّطنا حتى انتصرنا بهم ممن قتله.

وكذلك ننصرهم عليهم يوم القيامة يوم يقوم الأشهاد من الملائكة والأنبياء والمؤمنين على الأمم المكذبة لرسلها - بالشهادة بأن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم وأن الأمم قد كذبتهم.

(يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) أي يوم لا ينفع أهل الشرك اعتذارهم، لأنهم لا يعتذرون إلا بباطل كما حكى سبحانه عنهم من قولهم: « وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ».

(وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) أي ولهم في هذا اليوم الطرد من رحمة الله، ولهم شر ما في الآخرة من العذاب الأليم، والقرار في سواء الجحيم.

ولما بين أنه ينصر الأنبياء والمرسلين في الدنيا والآخرة ذكر نوعا من تلك النصرة في الدنيا فقال:

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ. هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي ولقد أعطينا موسى من المعجزات والشرائع ما يهتدى به الناس في الدنيا والآخرة، وأنزلنا عليه التوراة هدى لقومه، فتوارثوها خلفا عن سلف وصارت هداية لهم وتذكرة لأولى العقول السليمة التي بعدت من شوائب التقليد والوهم.

وبعد أن بين سبحانه أنه ينصر رسله والمؤمنين وضرب لذلك مثلا بحال موسى خاطب نبيه محمدا بقوله:

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) أي فاصبر أيها الرسول لأمر ربك، وبلّغ قومك ومن أمرت بإبلاغه ما أنزل إليك، وأيقن بأن الله منجز وعده، وناصرك وناصر من صدقك وآمن بك، على من كذبك وأنكر ما جئت به من عند ربك، وسل ربك غفران ذنبك وعفوه عنك، وصلّ شكرا له طرفى النهار كما جاء في الآية الأخرى: « وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ ».

وقد يكون المراد من ذلك المواظبة على ذكر الله وألا يفتر اللسان عنه، ولا يغفل القلب حتى يدخل في زمرة الملائكة الذين قال سبحانه في وصفهم: « يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ ».

ولما ابتدأ عزّ اسمه بالرد على الذين يجادلون في آيات الله واتصل الكلام بعضه ببعض على النسق المتقدم، نبه هنا إلى السبب الذي يحملهم على تلك المجادلة فقال:

(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) أي إن الذين يخاصمونك أيها الرسول فيما أتيتهم به من عند ربك من الآيات بغير حجة - ما يحملهم على هذا الجدل إلا كبر في صدورهم يمنعهم عن اتباعك وعن قبول الحق الذي جئتهم به، إذ لو سلموا بنبوتك لزمهم أن يكونوا تحت لوائك وطوع أمرك ونهيك، لأن النبوة ملك ورياسة، وهم في صدورهم كبر لا يرضون معه أن يكونوا في خدمتك، وما هم ببالغي موجب الكبر وهو دفع الرياسة والنبوة عنك، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وليس ذلك بالذي يدرك بالأماني.

والخلاصة - إنه ما يحملهم على تكذيبك إلا ما في صدورهم من الكبر والحسد لك، وما هم ببالغي إرادتهم فيه، فإن الله قد أذلهم.

ثم أمر رسوله أن يستعيذ من هؤلاء المجادلين المستكبرين، فيقيه من أذاهم وشرهم ويكلؤه ويحفظه منهم فقال:

(فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي فالتجىء إلى الله تعالى في دفع كيد من يشنؤك ويبغى عليك، فهو السميع لأفوالهم، البصير بأفعالهم، لا يخفى عليه شيء منها.

[سورة غافر (40): الآيات 57 الى 59]

لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59)

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أنهم يجادلون في آيات الله بغير سلطان، وكان من جدلهم أنهم ينكرون البعث، ويعتقدون استحالته، ويعملون أقيسة وهمية، وقضايا جدلية، كقولهم: « مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ » وقولهم: « أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ » ذكر هنا برهانا يؤيد إمكان حدوثه ويبعد عن أذهانهم استحالته، وهو خلقه للسموات والأرض ابتداء على عظم أجرامهما، ومن قدر على ذلك فهو قادر على إعادتكم كما جاء في الآية الأخرى: « أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ».

الإيضاح

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) أي لخلق السموات والأرض ابتداء من غير سبق مادة - أعظم في النفوس وأجل في الصدور، من خلق الناس لكبر أجرامهما، واستقرارهما من غير عمد، وجريان الأفلاك بالكواكب بلا سبب، وقد جرت العادة في مزاولة الأفعال أن علاج الشيء الكبير أشق من علاج الشيء الصغير، فمن قدر على ذلك قدر على ما دونه كما قال: « أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ».

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي ولكن هؤلاء المشركين لا يتدبرون هذه الحجة ولا يتأملونها ولا يعلمون أن الله لا يعجزه شيء.

وبعد أن ذكر سبحانه الجدل بالباطل ذكر مثلا للمجادل بالباطل والمحق بين به أنهما لا يستويان فقال:

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي وما يستوى الكافر الذي لا يتأمل حجج الله بعينيه فيتدبرها ويعتبر بها، فيعلم وحدانيته وقدرته على خلق ما يشاء ويؤمن بذلك ويصدق به - والمؤمن الذي يرى بعينيه تلك الحجج فيتفكر فيها ويتعظ بها ويعلم ما تدل عليه من توحيده وعظيم سلطانه وقدرته على خلق الأشياء جميعها صغيرها وكبيرها، وقد ضرب لهما مثل الأعمى والبصير، ليستبين ذلك الفارق على أتم وجه وأعظم تفصيل، فما الأمثال إلا وسائل للايضاح تبين للناس المعقولات وهي لابسة ثوب المحسوسات، فيتضح ما أنبهم منها وخفى من أمرها كما قال: « وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ».

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِي ءُ) أي وكذلك لا يستوي المؤمنون المطيعون لربهم والعاصون المخالفون لأمره، ونحو الآية قوله: « وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ. وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ ».

(قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ) أي ما أقل ما تتذكرون حجج الله فتعتبرون بها وتتعظون، ولو تذكرتم واعتبرتم لعرفتم خطأ ما أنتم عليه مقيمون من إنكاركم قدرة الله على إحياء من فنى من خلقه وإعادته لحياة أخرى غير هذه الحياة.

ولما قرر الدليل على إمكان وجود يوم القيامة والبعث والنشر - أردفه الإخبار بأنه واقع لا محالة فقال:

(إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) أي إن يوم القيامة الذي يحيي فيه الله الموتى للثواب والعقاب لآت لا شك فيه، فأيقنوا بمجيئه، وأنكم مبعوثون من بعد مماتكم، ومجازون بأعمالكم، فتوبوا إلى ربكم واشكروا له جزيل إنعامه، ليدخلكم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، وفيها ترون ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) أي ولكن أكثر الناس لا يصدّقون بمجيئه، ومن ثم ركبوا رءوسهم وعاثوا في الأرض فسادا، واجترحوا السيئات دون خوف الرقيب الحسيب.

[سورة غافر (40): الآيات 60 الى 65]

وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرارًا وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65)

تفسير المفردات

ادعوني: أي اعبدوني، أستجب لكم: أي أثبكم على عبادتكم إياي، داخرين: أي صاغرين أذلاء، لتسكنوا فيه: أي لتستريحوا فيه، مبصرا: أي يبصر فيه، تؤفكون: أي تصرفون، قرارا: أي مستقرا، بناء: أي قبة ومنه أبنية العرب لقبابهم التي تضرب للسكنى فيها، فتبارك: أي تقدس وتنزه، الدين: الطاعة.

المعنى الجملي

بعد أن أثبت أن يوم القيامة حق، وكان المرء لا ينتفع فيه إلا بطاعة الله والتضرع له، وأشرف أنواع الطاعات الدعاء أي العبادة، لا جرم أمر الله تعالى بها في هذه الآية.

ولما كانت العبادة لا تنفع إلا إذا أقيمت الأدلة على وجود المعبود، ذكر من ذلك تعاقب الليل والنهار وخلق السموات والأرض وخلق الإنسان في أحسن صورة ورزقه من الطيبات.

الإيضاح

(وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) أي اعبدوني أثبكم، هكذا روى عن ابن عباس والضحاك ومجاهد في جماعة آخرين، ويؤيده أن القرآن كثيرا ما استعمل الدعاء بمعنى العبادة كقوله: « إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثًا » وما

رواه النعمان بن بشير قال:

قال رسول الله « الدعاء هو العبادة » ثم قرأ: « وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي إلى قوله: داخِرِينَ ». أخرجه الترمذي والبخاري في الأدب والحاكم وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية.

ويجوز أن يراد بالدعاء والاستجابة معناهما الظاهر، ويرجحه ما روى عن عائشة قالت: قال رسول الله « الدعاء الاستغفار »

وعن أبي هريرة قال:

قال رسول الله « من لم يدع الله يغضب عليه ». أخرجه أحمد والحاكم.

وعن معاذ بن جبل أن النبي قال « لا ينفع حذر من قدر، ولكن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم بالدعاء » أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني.

وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله « الدعاء مخ العبادة » أخرجه الترمذي.

وعن ابن عباس قال: « أفضل العبادة الدعاء » وقرأ هذه الآية.

وأخرج البخاري في الأدب عن عائشة قالت « سئل النبي أي العبادة أفضل؟ فقال: دعاء المرء لنفسه ».

ثم صرح سبحانه بأن المراد من الدعاء العبادة فقال:

(إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) أي إن الذين يتعظمون عن إفرادى بالعبادة وإفرادى بالألوهة سيدخلون جهنم صاغرين أذلاء.

وفي هذا وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء الله، وفيه لطف بعباده عظيم، وإحسان إليهم كبير، من حيث توعد من ترك طلب الخير منه، واستدفاع الشر بالدعاء بهذا الوعيد البالغ، وعاقبه بهذه العقوبة الشديدة، فيا عباد الله وجهوا رغباتكم إليه، وعوّلوا في كل مطالبكم على من أمركم بتوجيهها إليه، وأرشدكم إلى التوكل عليه، وكفل لكم الإجابة بإعطاء مطالبكم، وحصول رغباتكم، فهو الكريم الجواد الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ويغضب على من لم يطلب من فضله العظيم، وملكه الواسع ما يحتاج إليه من أمور الدين والدنيا.

ولما أمر بالدعاء، والاشتغال به لا بد أن يسبق بمعرفة المدعوّ - ذكر الدليل عليه بذكر بعض نعمه فقال:

(1) (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أي إن الله الذي لا تصلح الألوهة إلا له، ولا تنبغى العبادة لغيره - هو الذي جعل الليل للسكون والاستراحة من الحركة والتردد في طلب المعاش والحصول على ما يفى بحاجات الحياة.

(2) (وَالنَّهارَ مُبْصِرًا) أي وجعل النهار مضيئا بشمسه ذات البهجة والرواء، لتتصرفوا فيه بالأسفار، وجوب الأقطار، والتمكن من مزاولة الصناعات، ومختلف التجارات.

ثم ذكر نتيجة لما تقدم فقال:

(إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) أي فهو المتفضل عليهم بالنعم التي لا تحصى، ولا يمكن أن تستقصى.

ثم بين أن كثيرا من عباده جحدوا هذه النعم، واستكبروا عن عبادة المنعم فقال:

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) هذه النعم، ولا يعترفون بها، إما لجحودهم وكفرهم بها كما هو شأن الكفار، وإما لإهمالهم النظر وغفلتهم عما يجب من شكر المنعم كما هو حال الجاهلين.

ونحو الآية قوله: « إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ » وقوله: « إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ».

ثم بين كمال قدرته المقتضية لوجوب توحيده فقال:

(ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟) أي ذلكم الذي فعل كل هذا، وأنعم عليكم بهذه النعم هو الله الواحد الأحد خالق جميع الأشياء لا إله غيره ولا رب سواه، فكيف تنقلبون عن عبادته، والإيمان به وحده، مع قيام البرهان الساطع، والدليل الواضح، وتعبدون غيره من الأصنام التي لا تخلق شيئا وهي مخلوقة منحوتة بأيديكم.

ثم ذكر أن هؤلاء ليسوا ببدع في الأمم قبلهم، بل قد سبقهم إلى هذا خلق كثير فقال:

(كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) أي كما ضل هؤلاء بعباده غير الله ضل وأفك الذين من قبلهم فعبدوا غيره بلا دليل ولا برهان، بل للجهل والهوى.

وبعد أن ذكر من الدلائل تعاقب الليل والنهار ذكر منها خلق الأرض والسماء فقال:

(اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرارًا وَالسَّماءَ بِناءً) أي الله الذي جعل لكم الأرض مستقرا تعيشون عليها، وتتصرفون فيها، وتمشون في مناكبها، وجعل لكم السماء سقفا محفوظا مزينا بنجوم ينشأ عنها الليل والنهار والظلام والضياء.

وبعد أن ذكر دلائل الآفاق والأكوان - ذكر دلائل الأنفس فقال:

(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي وخلقكم فأحسن خلقكم، إذ خلق كلا منكم منتصب القامة، بادى البشرة، متناسب الأعضاء، مهيأ لمزاولة الصناعات، واكتساب الكمالات، ورزقكم من طيبات المطاعم والمشارب.

(ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي ذلكم الذي أنعم عليكم بهذه النعم، هو الذي لا تنبغى الألوهة إلا له، ولا تصلح الربوبية لغيره، لا من لا ينفع ولا يضر، فتقدس سبحانه وتنزه وهو رب العالمين.

ثم نبه إلى وحدانيته وأمر بإخلاص العبادة فقال:

(هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي هو الحي الذي لا يموت، وما سواه فمنقطع الحياة غير دائمها، لا معبود بحق غيره ولا تصلح الألوهة إلا له، فادعوه مخلصين له الطاعة، ولا تشركوا في عبادته شيئا سواه من وثن أو صنم، ولا تجعلوا له ندّا ولا عدلا.

ثم أمر عباده أن يحمدوه على جزيل نعمه وجليل إحسانه فقال:

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي احمدوه سبحانه فهو مالك جميع أصناف الخلق من ملك وإنس وجن، لا الآلهة التي تعبدونها، ولا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا فضلا عن نفع غيرها وضره، وعن ابن عباس أنه قال: « من قال لا إله إلا الله فليقل إثرها: الحمد لله رب العالمين » وذلك قوله: « فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ».

[سورة غافر (40): الآيات 66 الى 68]

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْرًا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)

المعنى الجملي

بعد أن أثبت سبحانه لنفسه صفات الجلال والكمال - أمر رسوله أن يخبرهم بأنه نهى عن عبادة غيره، وأورد ذلك بألين قول وألطفه، ليصرفهم عن عبادة الأوثان، ثم بين أن سبب النهى هو البينات التي جاءته، إذ قد ثبت بصريح العقل أن إله العالم الذي تجب عبادته هو الموصوف بصفات العظمة، لا الأحجار المنصوبة، والخشب المصوّرة، ثم ذكر أنه بعد أن نهى عن عبادة غيره أمر بعبادته تعالى، وقد ذكر من الأدلة على وجوده خلق الأنفس على أحسن الصور ورزقها من الطيبات، ثم تكوين الجسم من ابتداء كونه نطفة وجنينا إلى الشيخوخة ثم الموت.

الإيضاح

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي) أي قل أيها الرسول لمشركي قومك من قريش وغيرهم: إني نهيت أن أعبد ما تعبدون من دون الله من وثن أو صنم، حين جاءتنى الأدلة من عند ربي وهي آيات الكتاب الذي أنزله علي وهي مؤيدة لأدلة العقل ومنهة لها.

وجملة ذلك - إن الآيات التنزيلية مفسرات للآيات التي في الأكوان والأنفس.

ولما بين أنه نهى عن عبادة غير الله - أردف ذلك أنه أمر بعبادته تعالى فقال:

(وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي وأمرت أن أنقاد له تعالى وأخلص له ديني.

ثم ذكر من الدلائل على وجوده تعالى تكوين الإنسان من ابتداء النطفة إلى وقت الشيخوخة فقال:

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي هو الذي خلقكم من التراب، إذ كل إنسان مخلوق من المنى، والمنى مخلوق من الدم، والدم يتولد من الأغذية، والأغذية تنتهى إلى النبات، والنبات يتكون من التراب والماء - ثم ذلك التراب يصير نطفة ثم علقة إلى مراتب كثيرة حتى ينفصل الجنين من بطن الأم.

وقد رتب سبحانه عمر الإنسان ثلاث مراتب:

(1) الطفولة. (2) بلوغ الأشد. (3) الشيخوخة، ومن الناس من يتوفى قبل المرتبة الأخيرة. وهو يفعل ذلك لتبلغوا الأجل المسمى وهو يوم القيامة، ولتعقلوا ما في التنقل في هذه الأطوار المختلفة من فنون العبر والحكم.

وكما استدل بهذه التغيرات على وجود الإله القادر - استدل على ذلك بانتقال الإنسان من الحياة إلى الموت، ومن الموت إلى الحياة فقال:

(هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْرًا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي قل لهم أيها الرسول: هو الذي يحيى من يشاء بعد مماته، ويميت من يشاء من الأحياء وإذا أراد كون أمر من الأمور التي يريد تكوينها، فإنما يقول له كن فيكون بلا معاناة ولا كلفة.

وهذا تمثيل لتأثير قدرته في المقدورات حين تعلق إرادته بوجودها، وتصوير سرعة ترتب المكوّنات على تكوينه من غير أن يكون هناك آمر ومأمور.

[سورة غافر (40): الآيات 69 الى 76]

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)

تفسير المفردات

الكتاب: القرآن، يسحبون: أي يجرّون، الحميم: الماء الحار، يسجرون: أي يحرقون، يقال سجر التنور إذا ملأه بالوقود، ومنه: « وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ » أي: المملوء، ضلوا عنا: أي غابوا، تفرحون: أي تبطرون، تمرحون: تختالون أشرارا وبطرا.

المعنى الجملي

عود على بدء بالتعجيب من أحوال المجادلين الشنيعة وآرائهم الفاسدة، والتمهيد لما يعقبه من بيان تكذيبهم بالقرآن وسائر الكتب والشرائع، وترتيب الوعيد على ذلك.

الإيضاح

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ؟) أي انظر واعجب من هؤلاء المكابرين في آياتنا الواضحة الموجبة للإيمان بها الزاجرة عن الجدل فيها، كيف يصرفون عنها مع تعاضد الدواعي على الإقبال عليها وانتفاء الصوارف عنها، وقيام الأدلة على صحتها، وأنها في نفسها موجبة للتوحيد.

ثم بين صفات هؤلاء المبطلين بقوله:

(الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) أي هم الذين كذبوا بالقرآن وبجميع ما أرسلنا به رسلنا، من إخلاص العبادة له سبحانه، والبراءة مما يعبد من دونه من الآلهة والأنداد، والاعتراف بالبعث بعد الممات.

ثم هددهم وأوعدهم على ما يفعلون فقال:

(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) أي فسوف يعلم هؤلاء المكذبون حقيقة ما نخبرهم به وصدق ما هم به اليوم مكذبون من هذا الكتاب، حين تجعل الأغلال والسلاسل في أعناقهم، يسحبون بها في الحميم، فينسلخ كل شيء عليهم من جلد ولحم وعروق، ثم تملأ بهم النار.

ونحو الآية قوله: (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ » وقوله: « خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ. ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ. ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ، إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ».

ثم ذكر أنهم يسألون سؤال تبكيت وتوبيخ عن آلهتهم التي كانوا يعبدونها فقال:

(ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا) أي ثم يسألون ويقال لهم: أين الأصنام التي كنتم تعبدونها من دون الله ليغيثوكم وينقذوكم مما أنتم فيه من البلاء والعذاب؟ فيجيبون ويقولون: غابوا عنا وأخذوا طريقا غير طريقنا وتركونا في البلاء - لا، بل الحق أننا ما كنا ندعوا في الدنيا شيئا يعتدّ به، وهذا كما نقول حسبت أن فلانا شيء فإذا هو ليس بشىء، إذا خبرته فلم تر عنده خيرا.

والخلاصة - إنهم اعترفوا بأن عبادتهم إياها كانت عبادة باطلة.

(كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ) أي كما أضل الله تعالى هؤلاء وأبطل أعمالهم، كذلك يفعل بأعمال جميع من يدين بالكفر فلا ينتفعون بشىء منها.

ثم بين السبب فيما يأتيهم من هذا العذاب فقال:

(ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) أي هذا الذي فعلنا بكم اليوم من شديد العذاب، بسبب فرحكم لذي كنتم تفرحونه في الدنيا، بارتكاب الشرك والمعاصي، ومرحكم وبطركم فيها بتمتعكم باللذات.

(ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي ادخلوا أبواب جهنم السبعة المقسومة لكم كما قال تعالى: « لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ » خالدين فيها أبدا، فبئس منزل المتكبرين على الله في الدنيا أن يوحّدوه ويؤمنوا برسله - جهنم.

[سورة غافر (40): الآيات 77 الى 78]

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)

المعنى الجملي

كان الكلام من أول السورة إلى هنا في تزييف طرق المجادلين في آيات الله، وهنا أمر رسوله بالصبر على أذاهم وتكذيبهم، إن الله سينجز له ما وعده من النصر والظفر على قومه، ويجعل العاقبة له ولمن اتبعه من المؤمنين في الدنيا والآخرة.

الإيضاح

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) أي فاصبر أيها الرسول على ما يجادلك به هؤلاء المشركون في آيات الله التي أنزلها عليك وعلى تكذيبهم إياك، فإن الله منجز لك فيهم ما وعدك من الظفر بهم، والعلوّ عليهم، وإحلال العقاب بهم، إما في الدنيا وإما في الآخرة كما قال:

(فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) أي فإما نرينّك في حياتك بعض الذي نعدهم من العذاب والنقمة كالقتل والأسر يوم بدر فذاك ما يستحقونه أو نتوفينك قبل ذلك فإلينا يرجعون يوم القيامة، فنجازيهم بأعمالهم وننتقم منهم أشد الانتقام، ونأخذهم أخذ عزيز مقتدر.

ونحو الآية قوله: « فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ».

ثم قال مسلّيا رسوله:

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) أي ولقد أرسلنا رسلا وأنبياء من قبلك إلى أممهم، منهم من أنبأناك بأخبارهم في القرآن وبما لا قوه من قومهم وهم خمسة وعشرون، ومنهم من لم نقصص عليك فيه خبرهم ولا أوصلنا إليك علم ما كان بينهم وبين أقوامهم.

وعن أبي ذر قال: « قلت يا رسول الله كم عدّة الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا » رواه الإمام أحمد.

(وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي وليس في الرسل أحد إلا آتاه الله آيات ومعجزات جادله قومه فيها وكذبوه، وجرى عليه من الإيذاء ما يقارب ما جرى عليك فصبر على ما أوذى، وكانوا يقترحون عليه المعجزات على سبيل التعنت والعناد لا للحاجة إليها، فكان من الحكمة عدم إجابتهم إلى ما طلبوا، ولم يكن ذلك بقادح في نبوتهم، فلا عجب أن يقترح قومك عليك المعجزات التي لم يكن إظهارها صلاحا، ولا جرم إذ لم يجابوا إلى ما طلبوا، لأن المصلحة في عدم إجابتهم إليه.

(فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) أي فإذا جاء أمر الله وهو عذابه ونكاله المحيط بالمكذبين قضى بالعدل، فنجّى رسله والذين آمنوا معهم، وأهلك الذين افتروا على الله الكذب وجادلوا في آياته وزعموا أن له شركاء.

[سورة غافر (40): الآيات 79 الى 81]

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)

المعنى الجملي

بعد أن أوعد المبطلين وبالغ في ذلك بما فيه العبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد - عاد إلى ذكر الدلائل على وجوده ووحدانيته بذكر نعمة من نعمه التي لا تحصى، ثم لفت أنظارهم إلى ما يحيط بهم من أدلة هم عنها معرضون.

الإيضاح

(اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها، وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) المراد من الأنعام هنا: الإبل خاصة، لأنها ذات المنافع التي ذكرت في الآية، وقد عدد سبحانه لها الفوائد التالية:

(1) أكلها واستعمالها طعاما لهم ولضيفانهم، وقد كانوا يتفاخرون بنحرها عند قدوم الطارق.

(2) لها منافع أخرى كالأوبار والأصواف التي تتخذ منها بيوت الشّعر والملابس الصوفية وقد كانوا يستعملونها كثيرا، ولألبان التي تستعمل شربا ويستخرج منها الجبن ليكون إداما لهم في طعامهم وسائر حاجتهم المعيشية والجلود التي تدبغ لتكون نعالا وفرشا على ضروب شتى.

(3) استعمالها للنجعة وطلب مساقط الغيث لحاجتهم إلى الكلأ والقوت لهم ولما شيتهم والسفر من صقع إلى صقع ومن قطر إلى آخر، وهي لما لها من خفّ مفرطح أنسب حيوان للسير في رمال الصحراء ومن ثم قالوا « الجمل سفينة الصحراء » وقال شاعرهم يصف ذلك:

ما فرّق الألّاف بعد الله إلا الإبل وما غراب البين إلا ناقة أو جمل

وقد كانت من أهم سبل المواصلات في الأزمنة الغابرة في البر كما كانت السفن كذلك في البحر.

ونحو الآية قوله في سورة النحل « وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ ».

ثم ذكر أن هناك آيات من آياته الباهرة التي لا مجال لإنكارها فقال:

(وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ) أيإنه تعالى له آيات يراها خلقه عيانا ويشاهدونها متجددة كل يوم وفي كل آن.

وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد

فأيّا منها تنكرون وبأيها تعترفون، وهي ظاهرة بادية للعيان لا سبيل إلى جحدها.

وقصارى ذلك - إنكم لا تقدرون على إنكار شيء من آياته إلا أن تعاندوا وتكابروا.

[سورة غافر (40): الآيات 82 الى 85]

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثارًا فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85)

المعنى الجملي

ختم سبحانه هذه السورة بتهديد الذين يجادلون في آياته، طلبا للرياسة والجاه، والحصول على المال، وكسب حظوظ الدنيا، وأبان أن هذه الدنيا فانية ذاهبة، فما فيها من مال وجاه ظل زائل، لا يغني عنهم من الله شيئا، وقد ضرب لهم المثل بمن كانوا قبلهم ممن كانوا أكثر عددا وأشد قوة وآثارا في الأرض فلم ينفعهم شيء من ذلك حين حل بهم بأس الله، ثم ذكر أن المكذبين حين رأوا البأس تركوا الشرك وآمنوا بالله وحده، وأنّى لهم ذلك؟، وهيهات هيهات.

فذلك لا يحديهم فتيلا ولا قطميرا، سنة الله في عباده ألا ينفع الإيمان حين حلول العذاب.

صاح هل ريت أو سمعت براع ردّ في الضّرع ما قرى في الحلاب؟

الإيضاح

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثارًا فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي أفلم يسر هؤلاء المجادلون في آيات الله من مشركي قريش - في البلاد، فإنهم أهل سفر إلى الشام واليمن، فينظروا فيما وطئوا من البلاد - إلى ما حل بالأمم قبلهم، ويشاهدوا ما أحللنا بهم من بأسنا حين تكذيبهم رسلنا، وجحودهم بآياتنا، وكيف كانت عاقبة أمرهم، وقد كانوا أكثر منهم عددا، وأشد بطشا، وأقوى جندا، وأبقى في الأرض أثرا، لأنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتا، ويتخذون مصانع، ويبنون أهراما ضخمة، فلما جاءهم بأسنا، وحلت بهم نقمتنا لم يغن ذلك عنهم شيئا، ولا رد عنهم العذاب الذي حل بهم.

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي فلما جاء هذه الأمم المكذبة للرسل من أرسلوا إليهم بالأدلة الواضحة، والبراهين الظاهرة، فرحوا بما عندهم من شبهات ظنوها علما نافعا كقولهم: « وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ » وقولهم: « لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا » وقولهم:

(مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ » ولكن حل بهم ما كانوا يستعجلون به رسلهم استهزاء وسخرية.

وقد سمى ما عندهم من العقائد الزائفة، وشبههم الدّاحضة علما، تهكما واستهزاء بهم.

ثم ذكر حالهم حين عاينوا العذاب فقال:

(فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) أي فلما عاينوا عذابنا النازل بهم قالوا آمنا بالله، وكفرنا بتلك المعبودات الباطلة، والآلهة الزائفة، التي لا تجدى فتيلا ولا قطميرا.

ثم بين أن ذلك لا يفيدهم شيئا فقد فات الأوان، فلا يفيد الندم ولا الاعتراف بالحق شيئا

ندم البغاة ولات ساعة مندم والبغي مرتع مبتغيه وخيم

فقال سبحانه:

(فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أي فلم يفدهم إيمانهم عند ما عاينوا عقابنا، وحين نزل بهم عذابنا، ومضى فيهم حكمنا، فمثل هذا الإيمان لا يفيد شيئا كما قال تعالى لفرعون حين الغرق وحين قال: « آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ » - « آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ؟ ».

وبعدئذ ذكر سبحانه أن هذه سنته فيهم وفي أمثالهم من المكذبين فقال:

(سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) أي وهكذا كانت سنة الله في الذين سلفوا إذا عاينوا عذابه ألا ينفعهم إيمانهم حينئذ، بعد أن جحدوا به وأنكروا وحدانيته، وعبدوا من دونه من الأصنام والأوثان.

وقصارى ذلك - إن حكم الله في جميع من تاب حين معاينة العذاب ألا تقبل منه توبة، وقد جاء في الحديث « إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرر » أي فإذا غرغر وبلغت الروح الحلقوم فلا توبة، ولهذا قال: « وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ ».

اللهم اقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، وآمن روعتنا: واجعلنا من الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله.

مجمل ما حوته السورة الكريمة

(1) وصف الكتاب الكريم.

(2) الجدل بالباطل في آيات الله.

(3) وصف الملائكة الذين يحملون العرش ومن حوله.

(4) طلب أهل النار الخروج منها لشدة الهول ثم رفض هذا الطلب.

(5) إقامة الأدلة على وجود الإله القادر.

(6) إنذار المشركين بأهوال يوم القيامة.

(7) قصص موسى عليه السلام مع فرعون وما دار من الحوار بين فرعون وقومه والذي يكتم إيمانه.

(8) أمر الرسول بالصبر على أذى قومه كما صبر أولو العزم من الرسل.

(9) تعداد نعم الله على عباده في البر والبحر.

سورة فصلت

هي مكية وآيها أربع وخمسون، نزلت بعد غافر.

أخرج ابن أبي سيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: « اجتمعت قريش يوما فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرّق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر بم يردّ عليه؟ فقالوا ما نعلم أحدا غير عتبة ابن ربيعة فقالوا ائته يا أبا الوليد، فأتاه فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله؟ أنت خير أم عبد المطلب؟، فسكت رسول الله . قال عتبة فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك، أما والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرّقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا، وأن في قريش كاهنا، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف، يا رجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا، فقال رسول الله : فرغت؟ قال: نعم، فقال رسول الله : « بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ » - حتى بلغ - « فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ » فقال عتبة: حسبك حسبك، ما عندك غير هذا؟ قال: لا، فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك؟ قال ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه به إلا كلمته، قالوا فهل أجابك؟ قال والذي نصبها بنية (يريد الكعبة) ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، قالوا ويلك يكلمك الرجل بالعربية وما تدرى ما قال؟ قال لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة ».

وأخرج أبو نعيم والبيهقي في الدلائل عن ابن عمر قال: « لما قرأ النبي على عتبة بن ربيعة حم أتى أصحابه فقال يا قوم: أطيعونى في هذا اليوم واعصوني بعده، فوالله لقد سمعت من هذا الرجل كلاما ما سمعت أذنى قط كلاما مثله وما دريت ما أرد عليه ».

وفي هذا الباب روايات كثيرة تدل على اجتماع قريش وإرسالهم عتبة بن ربيعة وتلاوته أول هذه السورة عليه.

ومناسبتها ما قبلها:

(1) إنهما اشتركتا في تهديد قريش وتقريعهم، فقد توعدهم في السورة السابقة بقوله: « أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ » إلخ وهددهم هنا بقوله: « فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ».

(2) إن كلتيهما بدئت بوصف الكتاب الكريم.

[سورة فصلت (41): الآيات 1 الى 5]

بسم الله الرحمن الرحيم

حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5)

تفسير المفردات

لا يسمعون: أي لا يقبلون ولا يطيعون، من قولهم: تشفعت إلى فلان فلم يسمع قولي: أي لم يقبله ولم يعمل به فكأنه لم يسمعه، والأكنة واحدها كنان كأغطية وغطاء: وهي خريطة السهام والمراد أنها في أغطية متكاثفة، والوقر: الثقل في السمع.

الإيضاح

(حم) تقدم الكلام في هذا في السورة قبلها.

(تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أي هذا القرآن منزل من الله الرّحمن الرّحيم على نبيه محمد ، وخص هذين الوصفين (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) بالذكر لأن الخلق في هذا العالم كالمرضى المحتاجين إلى الدواء، والقرآن مشتمل على كل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية، وعلى ما يحتاج إليه الأصحاء من الأغذية، فكان رحمة لهم ولطفا بهم كما قال: « وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ».

ونحو الآية قوله: « وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ».

(كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) أي هو كتاب بينت آياته، وميزت لفظا بفواصل ومقاطع، ومبادئ للسور وخواتم لها، وميزت معنى بكونها وعدا ووعيدا، ومواعظ ونصائح وتهذيب أخلاق ورياضة نفس، وقصص الأولين، وتواريخ الماضين.

ونحو الآية قوله: « كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ، ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ».

(قُرْآنًا عَرَبِيًّا) أي أنزلناه بلغة العرب، ليسهل عليهم فهمه كما قال: « وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ».

وفي هذا امتنان من الله عليهم، ليسهل عليهم قراءته وفهمه.

(لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) معانيه، لكونه جاء بلسانهم، فهم أهل اللسان فيفهمونه بلا واسطة، وغيرهم لا يفهمه إلا بوساطتهم.

(بَشِيرًا وَنَذِيرًا) أي بشيرا لأوليائه بالجنة والنعيم المقيم إن داوموا على العمل بما فيه من أوامر ونواه، ونذيرا لأعدائه بالعذاب الأليم إن همأصروا على التكذيب به والجدل فيه بالباطل وترك أوامره وفعل نواهيه.

ثم بين حال المشركين حين أنزل إليهم فقال:

(فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي فاستكبر أكثر المشركين عن الإصغاء إليه، ولم يقبلوه ولم يطيعوا ما فيه من أوامر ونواه، إعراضا عن الحق.

ثم صرحوا بنفرتهم منه، وتباعدهم عنه، وذكروا لذلك ثلاثة أسباب، تعللا واحتقارا لدعوته:

(1) (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) أي إن قلوبنا في أغطية متكاثفة مما تدعونا إليه من الإيمان بالله وحده وترك ما ألفينا عليه آباءنا، فهي لا تفقه ما تقول من التوحيد، ولا يصل إليها قولك.

(2) (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) أي وفي آذاننا صمم يمنعها من استماع قولك.

(3) (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) أي ومن بيننا وبينك ستر يمنعنا عن إجابتك.

روي أن أبا جهل استغشى على رأسه ثوبا وقال: يا محمد بيننا وبينك حجاب استهزاء منه.

وقصارى ما يقولون: إن قلوبهم نابية عن إدراك ما جئت به من الحق وتقبّله واعتقاده، كأنها في غلف وأغطية تمنع من نفوذه فيها، وأسماعهم لا يدخل إليها شيء منه، كأن بها صمما، ولتباعد الدينين وتباعد الطريقين كان بينهم وبين رسول الله حجاب كثيف، وحاجز منيع.

ثم بارزوه بالخلاف وشن الغارات الجدلية بما لم يبق بعده مجال للوفاق فقالوا:

(فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) أي فاعمل في إبطال أمرنا جهد طاقتك، ونحن نعمل جاهدين في فض الناس من حولك وتشتيت شمل من آمن بك حتى تبطل دعوتك.

[سورة فصلت (41): الآيات 6 الى 8]

قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)

تفسير المفردات

فاستقيموا إليه: أي فأخلصوا له العبادة، ويل: أي هلاك، لا يؤتون الزكاة: أي لا يتصدقون بجزء من مالهم للسائل والمحروم، ممنون: أي مقطوع من قولهم مننت الحبل إذا قطعته، ومنه قول ذي الإصبع:

إني لعمرك ما بابي بذي غلق على الصديق ولا خيري بممنون

المعنى الجملي

بعد أن ذكر المشركون الأسباب التي تحول بينهم وبين قبول دعوته - أمر رسوله أن يجيب عن كلامهم بأنه لا يقدر على جبرهم على الإيمان وحملهم عليه قسرا، فإنه بشر مثلهم ولا ميزة له عليهم إلا بأن الله أوحى إليه ولم يوح إليهم، ثم ذكر أن خلاصة الوحي علم وعمل، أما العلم فدعامته التوحيد، وأما العمل فأسه الاستغفار والتوبة مما فرط من الذنوب، ثم أردف ذلك التهديد لمن يشرك بالله ولا يزكى نفسه من دنس الشح والبخل، وينكر البعث والجزاء والحساب يوم القيامة، وينصرف إلى الدنيا ولذاتها، وبعد أن ذكر وعيد الكفار أعقبه بوعد المؤمنين الذين يعملون الصالحات بأن لهم عند ربهم أجرا دائما غير مقطوع ولا ممنوع.

الإيضاح

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) أي قل أيها الرسول لقومك: ما أنا إلا بشر مثلكم في الجنس والصورة والهيئة، ولست بملك ولا جنّى لا يمكنكم التلقي مني، ولا أدعوكم إلى ما تنبو عنه العقول، بل أدعوكم إلى التوحيد الذي دلت عليه الدلائل الكونية، وأيده النقل عن الأنبياء جميعا، من آدم فمن بعده، فأخلصوا له العبادة، وسلوه العفو عن ذنوبكم التي سلفت منكم، بالتوبة من شرككم - يتب عليكم ويغفر لكم.

(وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) أي وخسارة وهلاك لمن أشرك بربه ولم يواس البائس الفقير بشىء من ماله، يدفع به عوزه، ويزيل خصاصته، وأنكر البعث والحساب والجزاء، وكان يقال: الزكاة قنطرة الإسلام، فمن قطعها نجا، ومن تخلف عنها هلك.

وإنما جعل منع الزكاة مقرونا بالكفر بالآخرة، لأن أحب شيء إلى الإنسان ماله وهو شقيق روحه، فإذا بذله في سبيل الله فذاك أقوى دليل على استقامته وثباته وصدق نيته، وصفاء طويته وما خدع المؤلّفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا، بها لانت شكيمتهم، وزالت عصبيتهم وما ارتدت بنو حنيفة بعد رسول الله إلا بمنعهم للزكاة، فعرّضوا أنفسهم للحرب، والطعن والضرب، إبقاء على أموالهم ولو ذهبت مهجهم وأرواحهم.

وقصارى ذلك - دمار وهلاك لمن أشرك بربه، ولم يطهر نفسه من دنس الرذائل التي من أهمها البخل بالمال ودفع غائلة الجوع عن المسكين والفقير، وأنكر البعث والجزاء.

ونحو الآية قوله: « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها » وقوله: « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ».

وبعد أن ذكر وعيد المشركين أردفه وعد المؤمنين فقال:

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي إن الذين صدقوا الله ورسوله وعملوا بما أمر به، وانتهوا عما نهى عنه - لهم عند ربهم جزاء غير مقطوع ولا ممنوع.

قال السدي: نزلت هذه الآية في المرضى والزمنى والهرمى إذا ضعفوا عن الطاعة كتب لهم من الأجر مثل ما كانوا يعملون في الصحة.

ونحو الآية قوله: « ماكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا » وقوله: « عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ »

[سورة فصلت (41): الآيات 9 الى 12]

قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدادًا ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظًا ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)

تفسير المفردات

في يومين: أي في نوبتين، والرواسي: الجبال الثوابت، أقواتها: أي أقوات أهلها، سواء: أي كاملة لا نقصان فيها ولا زيادة، للسائلين: أي لطالبى الأقوات المحتاجين إليها، استوى: أي عمد وقصد نحوها قصدا سويا من قولهم استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجها لا يلتفت معه إلى عمل آخر، دخان: أي مادة غازية أشبه بالدخان، فقضاهن: أي فرغ من تسويتهن، أمرها: أي شأنها وما هي مستعدة له واقتضت الحكمة أن يكون فيها، بمصابيح: أي بكواكب ونجوم، وحفظا: أي وحفظناها حفظا من الآفات.

المعنى الجملي

بعد أن أمر رسوله بأن يقول للمشركين: إن ما تلقيته بالوحي أن إلهكم إله واحد، فأخلصوا له العبادة - أردف هذا ما يدل على كمال قدرته وحكمته في خلق السموات والأرض على أطوار مختلفة متعاقبة وأكمل لكل منها ما هي مستعدة له، وزين السماء بالنجوم والكواكب الثوابت والسيارات، ولا عجب فذلك تقدير العزيز الغالب على أمره، العليم بكل ما فيهما لا يخفى عليه شيء منهما، فكيف يسوغ لكم أن تجعلوا الأوثان والأصنام شركاء له، وليس لها شيء في خلقهما وتقديرهما، تعالى الله عن ذلك.

الإيضاح

(قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ؟) أي قل أيها الرسول لمشركي قومك توبيخا وتقريعا. كيف تكفرون بالله الذي خلق الأرض التي تقلّكم في نويتين؟ فتقولوا إنه لا يقدر على حشر الموتى من قبورهم، وتنسبوا إليه الأولاد وتقولوا إنه لم يبعث أنبياء - أي كيف تقولون هذا، مع أنه خلق الأرض في يومين.

(وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدادًا) أي وتجعلون له أندادا وأمثالا من الملائكة والجن والأصنام والأوثان.

ثم شدد عليهم في الإنكار وبين أن مثل هذا لا ينبغي أن يكون فقال:

(ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي ذلك الذي خلق الأرض في نوبتين نوبة جعلها جامدة بعد أن كانت كرة غازية، ومرة جعلها ستا وعشرين طبقة في ستة أطوار كما بين ذلك علماء طبقات الأرض (الجلوجيا) - هو رب العالمين لا ربها وحدها، فهو مربّى المخلوقات جميعا، فإن رباها في نوبتين فقد ربى غيرها في نوبات يعلم سبحانه عددها، فكيف يكون شيء منها ندّا له وضريبا؟.

ثم بين إحكام ذلك الخلق وحسن تدبيره فقال:

(وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها) أي وجعل فيها جبالا ثوابت مرتفعة عليها، أسسها في الأرض وهي الطبقة الصوانية، وهذه الطبقة هي التي برزت منها الجبال، فالجبال أساسها بعيدة الغور ضاربة في جميع الطبقات واصلة إلى أول طبقة، وهي الطبقة الصوانية التي لولاها لم تكن الأرض أرضا ولم نستقر عليها فأرضنا كرة من النار غطيت بطبقة صوّانية فوقها طبقات ألطف منها تكوّن فيها الحيوان والنبات على مدى الزمان، والجبال نتوءات نتأت من تلك الطبقة وارتفعت فوقها عشرات آلاف الكيلو مترات، وصارت محازن للمياه والمعادن وهداية للطرق وحافظة للهواء والسحاب.

(وَبارَكَ فِيها) أي وجعلها مباركة كثيرة الخيرات بما خلق فيها من المنافع، فجعل جبالها مبدأ لجريان الأنهار، ومخزنا للمعادن كالذهب والفضة والحديد والنحاس.

(وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) أي قدر لأهلها من الأقوات ما يناسب حال كل إقليم من مطاعم وملابس ونبات، ليكون بعض الناس محتاجا إلى بعض، فتروج المتاجر بينهم وتنتقل المحصولات من بلد إلى آخر ومن قطر إلى قطر، وفي هذا عمار للأرض وانتظام أمور العالم.

ثم ذكر فذلكة لما تقدم فقال:

(فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) أي إن خلق الأرض وجعل الرواسي فيها في نوبتين، وإكثار خيراتها وتقدير أقواتها في نوبتين فيكون ذلك في أربع نوبات كما يقول القائل خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام وإلى الكوفة في خمسة عشر يوما: أي في تتمة خمسة عشر يوما.

وقصارى ذلك - إن حصول جميع ما تقدم من خلق الأرض وخلق الجبال الرواسي فيها وتقدير الأقوات في أربعة أيام.

(سَواءً لِلسَّائِلِينَ) أي في أربعة أيام كاملة وفق مراد طالب القوت ومن له حاجة إليه وهو كل حيوان على وجه الأرض كما قال: « يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » فالناس والحيوان جميعا كلهم سائلون ربهم ما يحتاجون إليه من طعام وشراب ولباس ورداء - سؤالا طبيعيا مغروسا في جبلّتهم.

ولما كان الإنسان يهتمّ بحال ما حوله من الأرض قدّم ذكرها وبين أنها هي وما عليها قد كوّنها في أربع نوبات، فنوبة لتجمد المادة الأرضية بعد أن كانت غازا، ونوبة لتكميل بقية طبقاتها ويدخل في ذلك معادنها، ومرة للنبات وأخرى للحيوان.

ولما انتهى من الكلام في الأرض أخذ يذكر السماء، فالترتيب في الذكر فحسب فقال:

(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) أي ثم دعا داعي الحكمة إلى خلق السماء وهي مادة غازية أشبه بالدخان أو بالسحاب أو بالسديم وتسمى في العلم الحديث (عالم السديم) وقد شاهدوا من تلك العوالم اليوم عوالم كثيرة في عالم السديم آخذة في البروز كما برزت شمسنا وسياراتها، وأرضها وكانت في الأصل دخانا.

وعلى الجملة فالتكوين لم يكن في لحظة واحدة، بل كان وفق الحكمة والنظام في غير نوبة، وكفى بكتاب مقدس أن يقول: إنه خلق الأرض في نوبتين، وما عليها في نوبتين، والسموات السبع كذلك.

ثم ذكر ما كان من شأنهما بعد خلقهما فقال:

(فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) أي فقال لتلك العوالم السماوية، وللأرض التي دارت حولها: ائتيا كيف شئتما طائعتين أو كارهتين فأجابتا قالتا أتينا طائعين، قال ابن عباس: قال الله تعالى للسموات: أطلعى شمسك وقمرك وكواكبك، وأجرى رياحك وسحابك، وقال للأرض: شقى أنهارك، وأخرجى شجرك وثمارك، طائعتين أو كارهتين: « قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ».

وفي هذا دلالة على الحركة المستمرة المعبر عن سببها بالجاذبية، فهي حركة تجرى جرى طاعة لا جرى قسر، فإنا نشاهد أنا نرمى الحجر إلى أعلى قسرا فيأبى إلا أن ينزل إلى الأرض بطريق الجاذبية إلى جسم أكبر منه وهي الأرض، وهكذا الأرض مجذوبة إلى الشمس التي هي أصلها بحركة دورية دائمة طوعا لا قسرا، لأن القسرية كرمى الحجر إلى أعلى سريعة الزوال، أما حركة الطاعة فهي دائمة ما دام المطيع متخلقا بخلقه الذي هو فيه.

(فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) أي فأتم خلقهن خلقا إبداعيا وأتقن أمرهن في نوبتين سوى الأربعة الأيام التي خلق فيها الأرض، فوقع خلق السموات والأرض في ستة كما قال: « خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ » على ما اقتضته الحكمة وحسن النظام.

ومن ذلك يفهم وجه الحكمة في قوله - فقال لها وللأرض إلخ، وهي الدلالة على أن حركة الإتيان منهما كانت معا، فبينما نرى الأرض دائرة حول نفسها وحول الشمس نرى الشمس دائرة حول نفسها وحول شموس أخرى أكبر منها، فهذا هو السبب في ذكرهما معا.

وقصارى ذلك - إنه قال لهما معا وأجابتاه معا، لأن الأرض لما كانت ضمن المجموعة الشمسية كانت دائرة كبقية أجزائها.

(وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) أي وخلق في كل منها ما استعدت له، واقتضت الحكمة أن يكون فيها من بحار وبرد وثلج إلى نحو أولئك مما لا يعلمه إلا الله، قاله السدي وقتادة.

(وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) أي بكواكب مضيئة متلألئة عليها كتلألؤ المصابيح، وهي وإن تفاوتت ارتفاعا وانخفاضا فكلها ترى متلألئة.

(وَحِفْظًا) أي وحفظناها من الاضطراب في سيرها ومن اصطدام بعضها ببعض، وجعلناها تسير على نهج واحد ما دام هذا النظام باقيا حتى يأتي اليوم الموعود، فهناك تختل نظمها كما قال سبحانه: « إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ».

(ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي إن ذلك الذي تقدم هو تقدير العزيز الذي قد عزّ كلّ شيء فغلبه وقهره، العليم بحركات مخلوقاته وسكناتها، سرها ونجواها، ظاهرها وباطنها.

[سورة فصلت (41): الآيات 13 الى 18]

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) ونَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18)

تفسير المفردات

صاعقة: أي عذابا شديد الوقع كأنه صاعقة. قال المبرد: الصاعقة المرة المهلكة لأي شيء كان، وهي في الأصل الصيحة التي يحصل بها الهلاك، أو قطعة نار تنزل من السماء معها رعد شديد، من بين أيديهم ومن خلفهم: أي من كل ناحية، صرصرا: أي باردة تهلك بشدة بردها. أنشد قطرب قول الحطيئة في المديح:

المطعمون إذا هبّت بصرصرة والحاملون إذا استودوا على الناس

استودوا: أي سئلوا الدية. نحسات واحدها نحسة (بكسر الحاء) أي نكدات مشئومات، والهون: الذل.

المعنى الجملي

بعد أن أنكر عليهم عبادة الأنداد والأوثان، وطلب إليهم ألا يعبدوا إلا الله الذي خلق السموات والأرض، وزين السماء الدنيا بالمصابيح، وأوجد في الأرض جبالا رواسي أن تميد بهم، ثم أعرضوا عن كل ذلك، لم يبق حينئذ طريق للعلاج.

ومن ثم أمر رسوله أن ينذرهم بحلول شديد النقم بهم إن هم أصروا على عنادهم، كما نزل بعاد وثمود من قبلهم.

الإيضاح

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ. إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ) أي قل أيها الرسول لمشركي قومك المكذبين لما جئتهم به من الحق: إن أعرضتم عما جئتكم به من عند الله فإني أنذركم بحلول نقمته بكم كما حلت بالأمم الماضية التي كذبت رسلها كعاد وثمود ومن على شاكلتهما ممن فعل فعلهما حين جاءتهم الرسل في القرى المجاورة لبلادكم، وأمروا أهلها بعبادة الله وحده، فكذبوهم واستكبروا عن إجابة دعوتهم، واعتذروا بشتى المعاذير كما ذكر ذلك سبحانه بقوله:

(قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) أي قالوا إنا لا نصدق برسالتكم فما أرسل الله بشرا، ولو أرسل رسلا لأنزل ملائكة، وإذا فلا نتبعكم وأنتم بشر مثلنا.

وقد تقدم في غير موضع دفع هذه الشبهة الداحضة التي جاءوا بها. وقوله: « بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ » ليس إقرارا منهم بكونهم رسلا، بل ذكروه استهزاء بهم كما قال فرعون: « إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ».

أخرج البيهقي في الدلائل وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال « قال أبو جهل والملأ من قريش: قد التبس علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلا عالما بالسحر والكهانة والشعر فكلمه، ثم أتانا ببيان من أمره. فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت السحر والكهانة والشعر، وعلمت من ذلك علما، وما يخفى علي إن كان كذلك، فأتاه فقال: يا محمد أنت خير أم هاشم، أنت خير أم عبد المطلب؟ فلم يجبه، قال: لم تشتم آلهتنا وتضللنا؟ إن كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواء فكنت رئيسنا، وإن تكن بك الباءة (الميل إلى قربان النساء) زوجناك عشر نسوة تختارهن، أي بنات من شئت من قريش، وإن كان المال مرادك جمعنا لك ما تستغنى به، ورسول الله ساكت، فلما فرغ قال : بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرّحمن الرّحيم.

كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا - حتى بلغ - فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم، فرجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش، فلما احتبس عنهم قالوا لا نرى عتبة إلا قد صبأ، فانطلقوا إليه وقالوا يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت، فغضب وأقسم لا يكلم محمدا أبدا، ثم قال: والله لقد كلمته فأجابنى بشىء ما هو بشعر ولا سحر ولا كهانة، ولما بلغ صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود أمسكت بفيه وناشدته الرحم، ولقد علمت أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب ».

وقد ذكرنا هذا القصص قبل برواية أخرى، وهذه الرواية أتم من سابقتها فأعدناها تكميلا للفائدة.

ولما بين سبحانه كفر قوم عاد وثمود إجمالا وبين معاذيرهما - أردف ذلك ذكر ما لكل منهما من الجناية وما حل به من العذاب فقال:

(فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟) أي فأما عاد فبغوا وعصوا ربهم ولم يقبلوا كلام الرسول الذي جاء لهم وقالوا من أشد منا قوة حتى يستطيع قهرنا وإذلالنا، وقد كانوا قوما طوال القامة شديدى الأسر، فاغتروا بأجسامهم حين تهددهم هو بالعذاب، وقد روى في قوّتهم روايات ليس بنا حاجة إلى تصديقها كقولهم: إن الرجل منهم كان يقتلع الصخرة من الجبل بيده ويجعلها حيث يشاء.

فرد الله عليهم موبخا بقوله:

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً؟) أي أما يفكرون فيمن يبارزون بالعداوة؟ إنه العظيم الذي خلق الأشياء وركب فيها قواها الحاملة لها، وإن بطشه لشديد، وإنه لقادر على أن ينزل بهم من أنواع عقابه ما شاء، فيقول:

(كُنْ فَيَكُونُ).

(وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) أي وكانوا يعرفون أن آياتنا التي أنزلناها على رسلنا حق لا مرية فيها، ولكنهم جحدوها وعصوا رسله.

وقد يكون المراد: إنهم جحدوا الأدلة التكوينية التي نصبناها لهم، وجعلناها حجة عليهم.

ثم ذكر سبحانه ما أنزل عليهم من عذابه فقال:

(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا) أي فأرسلنا عليهم ريحا باردة تهلك بشدة بردها، وإذا هبت سمع لها صوت قوي لتكون عقوبة لهم من جنس ما اغتروا به.

ثم بين سبحانه وقت نزول العذاب عليهم فقال:

(فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) أي في أيام مشئومات نكدات متتابعات كما قال في آية أخرى: « سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا ».

ثم بين الغاية التي من أجلها نزل العذاب فقال:

(لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي أنزلنا عليهم هذا العذاب كى نذيقهم الذل والهوان في الحياة الدنيا بسبب ذلك الاستكبار.

ثم أرشد إلى أن هذا العذاب هين يسير إذا قيس بعذاب الآخرة فقال:

(وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) أي ولعذاب الآخرة أشد إهانة وخزيا من عذاب الدنيا، وهم لا يجدون إذ ذاك نصيرا ولا معينا يدفعه عنهم.

وبعد أن ذكر قصص عاد أتبعه بقصص ثمود فقال:

(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) أي وأما ثمود فبينا لهم الحق على لسان نبيهم صالح، ودللناهم على سبل النجاة بنصب الأدلة التكوينية، وإنزال الآيات التشريعية، فكذبوه واستحبوا العمى على الهدى، والكفر على الإيمان.

ثم ذكر جزاءهم على ما اختاروه لأنفسهم فقال:

(فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي فأرسلنا عليهم صيحة ورجفة وذلا وهوانا، بما كانوا يكسبون من الآثام بكفرهم بالله وتكذيبهم رسله.

(وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) أي ونجينا صالحا ومن آمن معه من المؤمنين من ذلك العذاب: فلم يمسسهم سوء ولا نزل بهم مكروه، بإيمانهم وتقواهم وصالح أعمالهم.

[سورة فصلت (41): الآيات 19 الى 24]

وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)

تفسير المفردات

يوزعون: أي يحبسن أولهم ليلحق آخرهم لكثرتهم من قولهم، وزعته: أي كففته، جلودهم: أي جوارحهم، أرداكم: أي أهلككم، مثوى: أي مقام، وإن يستعتبوا: أي يطلبوا العتبى والرضا، من المعتبين: أي المجابين إلى ما يطلبون

يقال أعتبني فلان: أي أرضاني بعد إسخاطه إياي، قال الخليل: تقول استعتبته فأعتبنى: أي استرضيته فأرضانى، قال النابغة في اعتذارياته للنعمان بن المنذر:

فإن أكُ مظلوما فعبدٌ ظلمته وإن يك ذا عتبى فمثلك يعتب

المعنى الجملي

بعد أن بين كيف عاقب أولئك الجاحدين في الدنيا وأذاقهم عذاب الهون بما كانوا يكسبون - أردف ذلك بذكر عقابهم في الآخرة، ليكون ذلك أتم للزجر وأكثر في الاعتبار لمن اعتبر.

الإيضاح


قسم ناقص

(وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) أيويقال لهم: أبشروا بالجنة التي وعدتم بها على ألسنة الرسل في الدنيا، فإنكم واصلون إليها، مستقرون بها، خالدون في نعيمها.

ثم بشرهم سبحانه بما هو أعظم من هذا كله فقال:

(نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) أينحن أعوانكم في أمور دنياكم، نلهمكم الحق، ونرشدكم إلى ما فيه خيركم وصلاحكم في دنياكم، وكذلك نكون معكم في الآخرة، نؤمّنكم من الوحشة في القبور، وعند النفخة في الصور، ويوم البعث والنشور، ونجاوز بكم الصراط المستقيم، ونوصلكم إلى جنات النعيم.

وقصارى ذلك - نحن المتولّون حفظكم وولايتكم في أمور الدنيا وأمور الآخرة ومن كان الله وليّه فاز بكل مطلب، ونجا من كل مخافة.

(وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) من صنوف اللذات وأنواع النعم.

(وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) أيولكم فيها ما تتمنون وتطلبون.

ونحو الآية قوله: « وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ ».

والجملة الأولى باعتبار شهوات أنفسهم، والثانية باعتبار ما يطلبون سواء أكان مشتهى لهم أم لا، إذ لا يلزم أن يكون كل مطلوب مشتهى كالفضائل العلمية ونحوها (نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) أي أعطاكم ربكم ذلك كرامة من لدنه، وهو الغفور لذنوبكم، الرّحيم بكم أن يعاقبكم بعد توبتكم.

[سورة فصلت (41): الآيات 33 الى 36]

وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحًا وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)

تفسير المفردات

دعا إلى الله: أي دعا إلى توحيده، المسلمين: أي الخاضعين، الحسنة: ما ترضى الله ويتقبلها، والسيئة: ما يكرهها ويعاقب عليها، ادفع: أي ردّ، والحميم: الصديق، وما يلقاها: أي يتقبلها ويحتملها، حظّ: أي نصيب وافر من الخير، ينزعنك: أي يوسوسنّ لك، وأصل النزغ: النخس، فاستعذ بالله: أي التجئ إليه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أن قرناء السوء يدعون إلى المعاصي - أردف ذلك ذكر حال أضدادهم الذين يدعون الناس إلى توحيد ربهم وطاعته، ثم أعقب هذا بأن الحسنة والسيئة لا يستويان ثوابا عند الله، تم أمر رسوله بدفع سفاهات المشركين وجهالاتهم بطريق الحسنى، لما في ذلك من تآلف القلوب، وارعواء النفوس عن غيّها، وثوبها إلى رشدها، وأرشد إلى أن هذه فعلة لا يتقبلها إلى الصابرون على احتمال المكاره، ومن لهم حظ عظيم من الثواب عند الله، ثم ختم ذلك بتلك النصيحة الذهبية، وهي أنه إذا صرف الشيطان المرء عن شيء مما شرعه الله فليتعوذ من شره ولا يطعه في أمره، والله سميع لما يقول، عليم بكل ما يفعل، وهو المجازى له على ذلك.

الإيضاح

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحًا وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟) أي لا أحد أحسن قولا ممن جمع بين خصال ثلاث:

(1) الدعاء إلى توحيد الله وطاعته، قال ابن سيرين والسدي وابن زيد والحسن:

والداعي هو رسول الله ، وكان الحسن إذا تلا هذه الآية يقول: هذا رسول الله، هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا والله أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب إليه.

(2) العمل الصالح بعمل الطاعات، واجتناب المحرمات.

(3) أن يتخذ الإسلام دينا ويخلص إلى ربه، من قولهم: هذا قول فلان أي مذهبه ومعتقده.

وقد يكون المراد أنه يتلفظ بذلك ابتهاجا بأنه منهم وتفاخرا به مع قصد الثواب.

وبعد أن ذكر محاسن الأعمال التي بين العبد وربه - ذكر محاسن الأعمال التي بين العباد بعضهم مع بعض ترغيبا لرسول الله في الصبر على أذى المشركين ومقابلة إساءتهم بالإحسان فقال:

(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) أي ولا تتساوى الحسنة التي يرضى الله بها ويثيب عليها، والسيئة التي يكرهها ويعاقب عليها.

وقد يكون المعنى - ولا تستوى دعوة الرسول إلى الدين الحق بالطرق المثلى، والصبر على سفاهة الكفار، وترك الانتقام منهم - وما أظهروه من الغلظة والفظاظة في قولهم: « قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ » وقولهم: « لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ ».

والخلاصة - إن فعلك أيها الرسول حسنة، وإن فعلهم سيئة، فإذا أتيت بهذه الحسنة استحققت التعظيم في الدنيا، والمثوبة في الآخرة، وهم بضد ذلك، فلا ينبغي أن يكون إقدامهم على السيئة مانعا من الاشتغال بالحسنة.

ثم ذكر بعض الحسنات ووضحها بذكر بعض ضروبها فقال:

(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي ادفع سفاهتهم وجهالتهم بالطريق التي هي أحسن الطرق، فقابل إساءتهم بالإحسان إليهم، والذنب بالعفو، والغضب بالصبر والإغضاء عن الهفوات، واحتمال المكاره، فإنك إن صبرت على سوء أخلاقهم مرة بعد أخرى ولم تقابل سفههم بالغضب، ولا أذاهم بمثله، استحيوا من ذميم أخلاقهم، وتركوا قبيح أفعالهم.

ثم بين نتائج الدفع بالحسنى فقال:

(فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) أي إنك إن فعلت ذلك انقلبوا من العداوة إلى المحبة، ومن البغض إلى المودة، قال عمر: ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، وقال ابن عباس: أمره الله تعالى في هذه الآية بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعل الناس ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم.

وروي أن رجلا شتم قنبرا مولى علي بن أبي طالب، فناداه علي يا قنبر دع شاتمك، واله عنه ترض الرّحمن، وتسخط الشيطان.

وقالوا: ما عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه، ولله در القائل:

وللكفّ عن شتم اللئيم تكرما أضرّ له من شتمه حين يشتم

وقال آخر:

وما شيء أحبّ إلى سفيه إذا سبّ الكريم من الجواب

متاركة السفيه بلا جواب أشدّ على السفيه من السبّاب

وقال محمود الوراق:

سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب وإن كثرت منه لدي الجرائم

فما الناس إلا واحد من ثلاثة شريف ومشروف ومثل مقاوم

فأما الذي فوقى فأعرف قدره وأتبع فيه الحق والحق لازم

وأما الذي دوني فإن قال صنت عن إجابته عرضى وإن لام لائم

وأما الذي مثلى فإن زلّ أو هفا تفضلت إن الفضل بالحلم حاكم

وقال آخر:

إن العداوة تستحيل مودة بتدارك الهفوات بالحسنات

قال مقاتل: نزلت الآية في أبي سفيان بن حرب كان معاديا للنبي فصار له وليّا في الإسلام، حميما بالمصاهرة.

ثم نبه إلى عظيم فضل هذه الطريق بقوله:

(وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) أي وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها إلا الصابرون على تحمل المكاره وتجرّع الشدائد وكظم الغيظ وترك الانتقام، فإن ذلك يشق على النفوس، ويصعب احتماله في مجرى العادة إلا من عصم الله.

وقال أنس في تفسير ذلك: الرجل يشتمه أخوه فيقول: إن كنت صادقا غفر الله لي، وإن كنت كاذبا غفر الله لك.

(وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي وما يتقبلها إلا ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة.

قال قتادة: الحظ العظيم الجنة، أي وما يلقاها إلا من وجبت له الجنة.

ثم ذكر طريقا لمنع تهييج الشر ودفع الغضب إذا بدت بوادره فقال:

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي وإن وسوس إليك الشيطان ليحملك على مجازاة المسيء فاستعذ بالله من كيده وشره، واعتصم من خطراته، إنه هو السميع لا ستعاذتك منه، واستجارتك به من نزغاته ولغير ذلك من كلامك وكلام غيرك، العليم بما ألقى في روعك من نزغاته، وحدّثتك به نفسك، وما قصدت من صلاح، ونويت من إحسان.

ومن شياطين الإنس من يفعل مثل هذا، فيصرف عن الدفع بالتي هي أحسن، فيقول لك: إن فلانا عدوك الذي فعل بك كيت وكيت، فانتهز الفرصة، وخذ ثأرك منه لتعظم في عينه وأعين الناس، ولا يظننّ فيك العجز وقلة الهمة وعدم المبالاة إلى نحو أولئك من العبارات المثيرة للغضب التي ربما لا تخطر ببال شياطين الجن - نعوذ بالله من شر كل شيطان.

والخلاصة - إن صرفك الشيطان عما شرعت فيه من الدفع بالحسنى، فاستعذ بالله من شره، وامض لشأنك. ولا تطعه.

[سورة فصلت (41): الآيات 37 الى 39]

وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)

تفسير المفردات

الآية: هي البرهان والحجة، يسأمون: أي يملّون، خاشعة: أي جامدة يابسة لا نبات فيها، اهتزت: أي تحركت، وربت: أي انتفخت.

المعنى الجملي

لما ذكر في الآيات السابقة أن أحسن الأعمال والأقوال هو الدعوة إلى الله تعالى - أردفه ذكر الدلائل على وجوده تعالى وقدرته وحكمته، تنبيها إلى أن الدعوة إلى الله هي تقرير الدلائل على ذاته وصفاته، ثم ذكر منها الدلائل الفلكية وهي الليل والنهار والشمس والقمر، ثم أتبعها بآية أرضية تشاهد رأي العين في كل حين وهي حال الأرض حين خلوّها من المطر والنبات، ثم حالها بعد نزول المطر، فهي تنتعش بعد أن كانت ميتة، وتهتز بعد أن كانت ساكنة، والذي أحياها هو الذي يحيى الموتى، إنه على كل شيء قدير.

الإيضاح

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) أي ومن حجج الله تعالى على خلقه ودلالتها على وحدانيته وعظم سلطانه - الليل والنهار، ومعاقبة كل منهما صاحبه، والشمس ونورها، والقمر وضياؤه، وتقدير منازلهما في فلكيهما، واختلاف سيرهما في السماء، ليعرف بذلك مقادير الليل والنهار والأسابيع والشهور والأعوام، وبذلك تضبط المعاملات وأوقات العبادات.

ولما كانت الشمس والقمر من أجلّ الأجرام المشاهدة في العالم العلوي والسفلى نبه إلى أنهما مخلوقان مسخران له تعالى وهما تحت قهره وسلطانه، فلا تعظموهما وعظموا خالقهما فقال:

(لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) أي لا تسجدوا أيها الناس للشمس والقمر، فإنهما إنما يجريان بمنافعكم بإجراء الله إياهما طائعين له في جريهما وهما لا يستطيعان لكم نفعا ولا ضرا، فله فاسجدوا، وإياه فاعبدوا دونهما، لأنهما لا فضيلة لهما في أنفسهما، فيستحقا بها العبادة من دون الله، ولو شاء الله لأعدمهما أو طمس نورهما.

وفي هذا رد على الصابئة الذين عبدوا الكواكب والنجوم، وزعموا أنهم بعبادتهم إياها يعبدون الله، فنهوا عن ذلك.

(فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) أي فإن استكبر هؤلاء المشركون الذين يعبدون هذه الكواكب وأبوا إلا أن يسجدوا لها وحدها دون الله - فالله لا يعبأ بهم، فالملائكة الذين في حضرة قدسه وهم خير منهم لا يستكبرون عن عبادته، بل يسبحون له ويصلون ليلا ونهارا، وهم لا يفترون عن ذلك ولا يمّلون.

ولما ذكر الدلائل الفلكية أتبعها بذكر الدلائل الأرضية فقال:

(وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) أي ومن الدلائل على قدرته تعالى على البعث، وإحياء الموتى بعد بلاها، وإعادتها لهيئتها كما كانت من بعد فنائها - أنك ترى الأرض يابسة غبراء لا نبات بها ولا زرع، فإذا نزل عليها الغيث من السماء تحركت بالنبات، وانتفخت، وأخرجت ألوان الزرع والثمار، كما يشاهد من ارتفاع الأرض وانتفاخها، ثم تصدّعها وتشققها إذا حان ظهور النبات منها، وتراه يسمو في الجوّ ويغطى قشرتها، ثم تتشعب عروقه، وتغلظ سوقه.

(إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إن الذي أحيا هذه الأرض الدارسة، وأخرج منها النبات، وجعلها تهتز بالزرع - قادر على أن يحيى أموات بنى آدم بعد مماتهم، وهو القدير على كل شيء، لا يعجزه شيء كائنا ما كان.

[سورة فصلت (41): الآيات 40 الى 42]

إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)

تفسير المفردات

يقال: ألحد الحافر في الأرض: إذا مال عن الاستقامة فحفر في شق منها، والمراد بالملحدين المنحرفون في تأويل الآيات بحملها على المحامل الباطلة، والذكر: القرآن، من بين يديه ومن خلفه: أي من جميع جهاته، حكيم: أي في جميع أفعاله، حميد: أي محمود إلى جميع خلقه بكثرة نعمه عليهم.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أن الدعوة إلى دين الله أسمى المقاصد، وأنها إنما تحصل بذكر دلائل التوحيد وصحة البعث يوم القيامة - أعقب هذا بتهديد من ينازع في تلك الدلائل بإلقاء الشبهات، ثم هددهم بضروب من التهديد، فهددهم بقوله: « لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا » وبقوله: « اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ » وبقوله: « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ » إلخ.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) أي إن الذين يميلون عن الحق في حججنا تكذيبا بها وجحودا لها - نحن بهم عالمون لا يخفون علينا، ونحن لهم بالمرصاد إذا وردوا علينا، وسنجازيهم بما يستحقون.

ولا يخفى ما في ذلك من شديد الوعيد كما يقول الملك المهيب: إن الذين ينازعوننى في ملكي أعرفهم ولا شك، فهو يريد تهديدهم وإلقاء الرعب في قلوبهم.

ثم بين كيفية الجزاء والتفاوت بين المؤمن والكافر فقال:

(أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيامَةِ؟) أي أفمن يلقى في النار لإلحاده بالآيات، وتكذيبه للرسول خير أم من آمن بها، وجاء يوم القيامة من الآمنين حين يجمع الله الخلائق للعرض عليه والحكم بينهم بالعدل؟ لا شك أنهما لا يستويان.

وظاهر الآية العموم وتمثيل حالى المؤمن والكافر، وقيل المراد بمن يلقى في النار أبو جهل، وبمن يأتي آمنا النبي .

وعن بشير بن تميم قال: نزلت في أبى جهل وعمار بن ياسر.

وبعد أن أبان لهم عاقبة الملحدين بالآيات والمؤمنين بها، هددهم بقوله:

(اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) فقد علمتم مصير المسيء والمحسن، فمن أراد أحد الجزاءين فليعمل له فإنه ملاقيه.

(إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي إنه بأعمالكم ذو خبرة وعلم لا تخفى عليه خافية منها ولا من غيرها، وهو مجازيكم بحسب أعمالكم.

ثم بين أولئك الملحدين بقوله:

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) أي إن الملحدين هم الذين جحدوا هذا القرآن وكذبوا به حين جاءهم.

ثم وصف الذكر بقوله:

(1) (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) أي وإنه لكتاب عزيز عن أن يعارض أو يطعن فيه الطاعنون، منيع عن كل عيب، محمي بحماية الله.

(2) (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) أي ليس للبطلان إليه سبيل، فلا تكذبه الكتب السابقة عليه كالتوراة والإنجيل، ولا يجىء من بعده كتاب يكذبه، قاله سعيد بن جبير والكلبي.

وقال الزجاج: معناه أنه محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه، أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه، وبه قال قتادة والسدي.

وقصارى ذلك - إن الباطل لا يتطرّق إليه، ولا يجد لديه سبيلا من جهة من الجهات حتى يصل إليه، فكل ما فيه حق وصدق، وليس فيه ما لا يطابق الواقع.

(3) (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) أي وهو تنزيل من عند ذي الحكمة بتدبير شئون عباده، المحمود على ما أسدى إليهم من النعم التي منها تنزيل هذا الكتاب، بل هي أجلّها.

[سورة فصلت (41): الآيات 43 الى 46]

ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46)

المعنى الجملي

بعد أن هدد الملحدين في آياته - سلّى رسوله على ما يصيبه من أذى المشركين وطعنهم في كتابه، وحثه على الصبر، وألا يضيق صدره بما حكاه عنهم من نحو قولهم: « وقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ. وقولهم: فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ » فما قاله أولئك الكفار في شأنه وشأن ما أنزل إليه من القرآن لا يعدو شأن ما قاله أمثالهم من الأمم السابقة، ثم أجاب عن شبهة قالوها، وهي هلا نزل القرآن بلغة العجم - بأنه لو نزل كما يريدون لأنكروا أيضا، وقالوا ما لنا ولهذا؟. ثم ذكر أن القرآن هداية وشفاء للمؤمنين، والذين لا يؤمنون به في آذانهم صمم عن سماعه، ثم ذكر أن الاختلاف في شأن الكتب عادة قديمة للأمم، فقومك ليسوا ببدع فيها بين الأمم، ثم أبان أن المرء وما عمل، فمن أحسن فلنفسه، ومن أساء فعليها، ولا يظلم ربك أحدا.

الإيضاح

(ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) أي ما يقول لك هؤلاء المشركون المكذبون ما جئتهم به من عند ربك إلا مثل ما قالته الأمم التي كذبت رسلها من قبلهم، فاصبر على ما نالك منهم من أذى كما صبر أولو العزم من الرسل، وقد يكون المعنى - ما يقال لك من التوحيد وإخلاص العبادة لله إلا ما قد قيل للرسل من قبلك، فإن الشرائع كلها متفقة على ذلك وإن اختلفت في غير هذا، تبعا للزمان والمكان.

ونحو الآية على المعنى الأول قوله: « كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ».

وعلى المعنى الثاني قوله: « إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ».

ثم ذكر علة أمره بالصبر فقال:

(إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) أي إن ربك لذو مغفرة للتائبين إليه من ذنوبهم بالصفح عنهم، وذو عقاب مؤلم لمن أصرّ علىكفره ومات على ذلك قبل التوبة.

ثم أجاب عن شبهة قالوها، وهي: هلا نزل القرآن بلغة العجم فقال:

(وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ؟) أي ولو جعلنا هذا القرآن الذي أنزل إليك بلغة العجم - لقال قومك من قريش: هلا بينت أدلته وما فيه من حكم وأحكام بلغة العرب حتى نفقهه ونعلم ما هو وما فيه، وكانوا يقولون منكرين: أقرآن أعجمي ولسان المرسل إليهم عربي؟

وخلاصة ذلك - لو نزل بلسان أعجمي لقالوا هلا بينت آياته باللسان الذي نفهمه، ولقالوا: أكلام أعجمي والمرسل إليهم عرب خلّص؟

ثم بين حال القرآن لدى المؤمنين والكافرين فقال:

(قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) أي قل لهم ردّا على قولهم « وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ »: إن هذا القرآن للذين صدقوا بما جاءهم به من عند ربهم - هاد إلى الحق، شاف لما في الصدور من ريبة وشك، ومن ثم جاء بلسانهم معجزا بيّنا في نفسه مبينا لغيره.

ونحو الآية قوله: « وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ».

(وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) أي والذين لا يؤمنون بالله ورسوله وبما جاءهم به من عنده في آذانهم ثقل عن استماع هذا القرآن فلا يستمعون له بل يعرضون عنه، وهو عليهم عمى فلا يبصرون حججه ومواعظه.

ونحو الآية قوله في وصفه « وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسارًا ».

ثم مثل حالهم باعتبار عدم فهمهم له بحال من ينادى من مكان بعيد لا يسمع من يناديه فقال:

(أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) قال الفراء تقول العرب للرجل الذي لا يفهم كلامك: أنت تنادى من مكان بعيد، ولثاقب الرأي: إنك لتأخذ الأمور من مكان قريب، شبّهت حال هؤلاء المكذبين في عدم فهمهم وانتفاعهم بما دعوا إليه، بحال من ينادى من مسافة نائية لا يسمع الصوت ولا يفهم تفاصيله ولا معانيه.

ثم بين أن هؤلاء المكذبين ليسوا بدعا بين الأمم في تكذيبهم بالقرآن، فقد اختلف من قبلهم في التوراة فقال:

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) أي ولقد أرسلنا موسى وآتيناه التوراة فاختلفوا فيها، فمن مصدّق بها ومن مكذب، وهكذا شأن قومك معك، فمن مصدق بكتابك ومن مكذّب به، فلا تأس على ما فعلوا معك، واسلك سبيل أولى العزم من الرسل صلوات الله عليهم أجمعين فقد أوذوا فصبروا وكان النصر حليفهم، والتوفيق أليفهم وكتب الله لهم الفلج والفوز على أعدائهم المشركين، وأهلك الله القوم الظالمين.

ثم أخبر سبحانه أنه أخر عذابهم إلى حين ولم يعاجلهم بالعقاب على ما اجترحوا من تكذيب الرسول وجحدهم بكتابه فقال:

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي ولو لا ما سبق من قضاء الله وحكمه فيهم من تأخير عذابهم إلى يوم القيامة بنحو قوله: « بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ » وقوله: « وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى » لعجّل الفصل بينهم فيما اختلفوا فيه بإهلاك المكذبين كما فعل بمكذبى الأمم السالفة.

ثم بين ما يقتضى إهلاكهم فقال:

(وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي وإن قومك لفى شك من أمر القرآن موجب لقلقهم واضطرابهم، فما كان تكذيبهم له عن بصيرة منهم حين قالوا ما قالوا، بل كانوا شاكين غير محققين لشيء مما كانوا فيه من عنادك ومقاومة دعوتك.

ثم بين أن الجزاء من جنس العمل وأنه لا يظلم ربك أحدا فقال:

(مَنْ عَمِلَ صالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي من عمل بطاعة الله في هذه الحياة فأتمر بأمره وانتهى عما نهى عنه فلنفسه عمل، لأنه يجازى عليه الجزاء الذي هو له أهل، فينجو من النار ويدخل جنة النعيم.

ومن عصى الله فعلى نفسه جنى، لأنه أكسبها سخطه وأليم عقابه، وقد قالوا في أمثالهم (إنك لا تجنى من الشوك العنب) وما ربك أيها الرسول بحامل عقوبة ذنب على غير مكتسبه، بمعاقب أحدا إلا على جرم اكتسبه.

ونحو الآية قوله: « أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى. وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ».

اللهم وفقنا لعمل الصالحات، وأبعدنا عن ارتكاب الآثام والموبقات، وألهمنا التوفيق لما يرضيك، والبعد عما يسخطك.

وقد كان الفراغ من تفسير هذا الجزء من الكتاب الكريم قبيل فجر الليلة السادسة عشرة من ذي الحجة سنة أربع وستين وثلاثمائة بعد الألف من هجرة النبي الكريم بمدينة حلوان من أرباض القاهرة.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلّ ربنا على محمد وآله.

فهرست أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء

4 ذكر بعض هفوات للمشركين.

5 ذكر ما أعد للمؤمنين من ثواب.

7 يكفي الله المؤمنين ما أهمهم في الدنيا.

7 من يضلل الله فلا هادي له.

9 الحديث المأثور عن ابن عباس.

10 قطع صلة الروح بالبدن حين الموت.

11 الرسول مبلغ لا مسيطر.

13 تفسير علي كرم الله وجهه للرؤيا الصادقة والكاذبة.

15 نعي السيد الآلوسي في تفسيره حال المسلمين اليوم.

16 دعاه النبي حين افتتاح صلاته بالليل.

17 ما أمر به النبي أبا بكر من الدعاء.

18 كان المشركون يلجأون إلى الله حين وقوع الضرر.

20 الله يبسط الرزق لبعض عباده ويضيق على بعض.

22 غفران الذنوب لمن تاب وأخلص العمل

23 أجمع آية في القرآن بخير وشر « إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ » وأكثر آية في القرآن فرجا في سورة الغرف.

24 يسروا ولا تعسروا.

26 وجوه المشركين ووجوه المؤمنين يوم القيامة.

29 مقاليد السموات والأرض.

30 ما أوحى به إلى الأنبياء جميعا.

31 ما أمر به النبي .

32 يقبض الله الأرض ويطوى السماء بيمينه.

33 يصعق الخلق حين النفخ في الصور.

34 يوم القيامة توضع صحائف الأعمال بأيدي العاملين.

35 يساق المجرمون حينئذ زمرا.

36 تقول الخزنة لأهل النار ألم يأتكم الرسل.

37 تقول خزنة الجنة لأهلها سلام عليكم طبتم.

38 أبواب الجنة ثمانية.

39 الملائكة من حول العرش يسبحون بحمد ربهم.

40 ما تحتوى عليه سورة الزمر من موضوعات.

41 آل حم ديباج القرآن.

42 قول العامة: الحواميم ليس من كلام العرب.

43 ذكر حال المجادلين في القرآن لأجل إبطاله.

44 قال أبو العالية: آيتان ما أشدهما على.

45 الأمم جميعا جادلت في كتبها بالباطل لتدحض الحق.

46 الملائكة من حول العرش يستغفرون للمؤمنين.

48 يدخل الرجل الجنة فيقول يا رب أين أبى وجدى وأمي إلخ؟

51 يوم القيامة يعترف المجرمون بذنوبهم واستحقاقهم للعذاب.

52 الحكم لله العلى الكبير يوم القيامة.

53 صفات الله الدالة على عظمته وجلاله.

55 في الحديث « يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي إلخ ».

56 « ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ».

57 علمه تعالى شامل لكل شيء.

58 قصص موسى عليه السلام مع فرعون.

60 أمر فرعون بقتل أبناء بني إسرائيل.

61 قال فرعون لقومه: إني أخاف أن يبدل موسى دينكم - تبرئة لنفسه من دعوى سفك الدماء.

62 تعوذ موسى بربه من الجبارين المتكبرين.

63 حديث مؤمن آل فرعون وذكر نصائحه.

64 قال علي: أشجع الناس أبو بكر.

65 رد فرعون على موسى وتصلبه في رأيه.

67 إعادة النصح كرة أخرى بضرب الأمثال.

68 توبيخهم بأن التكذيب فيهم متوارث.

69 يضل الله عن سبيل الحق المسرف في المعاصي

71 أمر فرعون وزيره هامان أن يبنى له قصرا شامخا.

72 السبب في تمرد فرعون وصده عن السبيل.

73 إعادة النصح عليهم مرة ثالثة.

75 الأصنام لا تستجاب لها دعوة.

75 تعجبه من دعوته إياهم إلى الهداية ودعوتهم إياه إلى الضلال.

76 اطمئنانه إلى ما يجرى به القدر.

81 وعد الرسول بالنصر على أعدائه.

82 في التوراة هدى لبني إسرائيل.

83 ما يحمل قومك على التكذيب بك إلا الكبر والحسد.

84 البراهين الدالة على إمكان البعث.

85 لا يستوي المؤمن والكافر ولا الأعمى والبصير.

88 من الأدلة على وجود المعبود خلق السموات والأرض وخلق الإنسان في أحسن صورة

89 قومك أيها الرسول ليسوا ببدع في الأمم.

90 أمر الله عباده أن يحمدوه على جزيل نعمه.

91 من الأدلة على وجوده تعالى خلق الأنفس على أحسن الصور.

92 مراتب عمر الإنسان ثلاث.

94 يسأل المجرمون سؤال توبيخ عن آلهتهم التي كانوا يعبدونها.

95 أمر الرسول بالصبر على أذى المشركين.

96 قص الله سبحانه أخبار بعض الرسل لا جميعهم

97 فوائد الإبل.

99 تهديد الذين يجادلون في آياته طلبا للرياسة.

100 يقول المشركون حين يرون العذاب آمنا بالله وحده.

101 لا تقبل التوبة حين معاينه العذاب.

102 حديث الرسول مع صناديد قريش وتلاوته عليهم أول سورة فصلت.

104 القرآن كتاب فصلت آياته بمقاطع وفواصل.

105 ذكر المشركون لنفرتهم من القرآن ثلاثة أسباب.

107 خلاصة الوحي علم وعمل.

109 خلق السموات والأرض على أطوار.

110 الحكمة في خلق الجبال الرواسي.

111 خلق الأرض وجبالها الرواسي وتقدير أقواتها في أربعة أيام.

112 عالم السديم.

115 إنذار المشركين بشديد العقاب إن أصروا على عنادهم.

115 ما دار بين أبى جهل وعتبة بن ربيعة من الحديث بشأن النبي .

116 ما قيل عن وصف قوم عاد.

117 ما نزل بقوم عاد من العذاب.

119 بيان المراد من شهادة السمع والأبصار والجلود.

121 على المرء في كل حال رقيب.

122 الظن قسمان: منج ومرد.

123 لا تقبل لأهل النار معاذير ولا تقال لهم عثرات.

124 تشاغل المشركين عن سماع القرآن.

126 طلب المشركين الانتقام ممن أضلوهم.

127 بشرى الملائكة للمؤمنين وولايتهم لهم.

128 قال وكيع: البشرى في ثلاثة مواطن.

130 أمر الرسول بدفع سفاهات المشركين بالحسنى.

131 قال عمر: ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه.

132 ما عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه.

133 الطريق لدفع الغضب إذا بدت بوادره.

134 الدلائل الفلكية والأرضية على وجوده تعالى.

135 الرد على الصابئة الذين عبدوا الكواكب.

136 تهديد من ينازع في دلائل الوحدانية والقدرة.

138 صفة الكتاب الكريم.

139 قال المشركون: هلا نزل القرآن بلغة العجم.

140 القرآن هدى وشفاء للذين آمنوا.

142 من عمل صالحا فلنفسه، ومن أساه فعلى نفسه جنى.

أجزاء تفسير المراغي
الأول | الثاني | الثالث | الرابع | الخامس | السادس | السابع | الثامن | التاسع | العاشر | الحادي عشر | الثاني عشر | الثالث عشر | الرابع عشر | الخامس عشر | السادس عشر | السابع عشر | الثامن عشر | التاسع عشر | العشرون | الحادي والعشرون | الثاني والعشرون | الثالث والعشرون | الرابع والعشرون | الخامس والعشرون | السادس والعشرون | السابع والعشرون | الثامن والعشرون | التاسع والعشرون | الثلاثون