العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية/3
بحث ثان جرى
إن الحمد والشكر بينهما عموم وخصوص
فالحمد أعم من جهة أسبابه التي يقع عليها فإنه يكون على جميع الصفات والشكر لا يكون إلا على الإحسان والشكر أعم من جهة ما به يقع فإنه يكون بالاعتقاد والقول والفعل والحمد يكون بالفعل أو بالقول أو بالاعتقاد
أورد الشيخ الإمام زين الدين ابن المنجى الحنبلي أن هذا الفرق إنما هو من جهة متعلق الحمد والشكر لأن كونه يقع على كذا ويقع بكذا خارج عن ذاته فلا يكون فرقا في الحقيقة والحدود إنما يتعرض فيها لصفات الذات لا لما خرج عنها
فقال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية
المعاني على قسمين مفردة ومضافة فالمعاني المفردة حدودها لا توجد فيها بتعلقاتها وأما المعاني الإضافية فلا بد أن يوجد في حدودها تلك الإضافات فإنها داخلة في حقيقتها ولا يمكن تصورها إلا بتصور تلك المتعلقات فتكون المتعلقات جزءا من حقيقتها فتعين ذكرها في الحدود
والحمد والشكر معينان بالمحمود عليه والمشكور عليه فلا يتم حقيقتهما ذكر إلا بذكر متعلقهما فيكون متعلقهما داخلا في حقيقتهما
فاعترض الصدر ابن المرحل بأنه ليس للمتعلق من المتعلق صفة ثبوتية فلا يكون للحمد والشكر من متعلقهما صفة ثبوتية فإن المتعلق صفة نسبية والنسب أمور عدمية وإذا لم تكن صفة ثبوتية لم تكن داخلة في الحقيقة لأن العدم لا يكون جزءا من الوجود
فقال الشيخ تقي الدين قولك ليس للمتعلق من المتعلق صفة ثبوتية ليس على العموم بل قد يكون للمتعلق من المتعلق صفة ثبوتية وقد لا يكون وإنما الذي يقوله أكثر المتكلمين ليس لمتعلق القول من القول صفة ثبوتية
ثم الصفات المتعلقة نوعان احدهما إضافة محضة مثل الأبوة والبنوة والفوقية والتحتية ونحوها فهذه الصفة هي التي يقال فيها هي مجرد نسبة وإضافة والنسب أمور عدمية والثاني صفة ثبوتية مضافة إلى غيرها كالحب والبغض والإرادة والكراهة والقدرة وغير ذلك من الصفات فإن الحب صفة ثبوتية متعلقة بالمحبوب فالحب معروض للإضافة بمعنى أن الإضافة صفة عرضت له لا أن نفس الحب هو الإضافة ففرق بين ما هو إضافة وبين ما هو صفة مضافة فالإضافة يقال فيها إنها عدمية قال وأما الصفة المضافة فقد تكون ثبوتية كالحب
قال ابن المرحل الحب أمر عدمي لأن الحب نسبة والنسب عدمية
قال الشيخ تقي الدين كون الحب والبغض والإرادة والكراهة أمرا عدميا باطلا بالضرورة وهو خلاف إجماع العقلاء
ثم هو مذهب بعض المعتزلة في أرادة الله فإنه زعم أنها صفة سلبية بمعنى أنه غير مغلوب ولا مستكره وأطبق الناس على بطلان هذا القول وأما إرادة المخلوق وحبه وبغضه فلم نعلم أحدا من العقلاء قال إنه عدمي
فأصر ابن المرحل على أن الحب الذي هو ميل القلب إلى المحبوب أمر عدمي وقال المحبة أمر وجودي
قال الشيخ تقي الدين المحبة هي الحب فإنه يقال أحبه وحبه حبا ومحبة ولا فرق وكلاهما مصدر
قال ابن المرحل وأنا أقول إنهما إذا كانا مصدرين فهما أمر عدمي
قال له الشيخ تقي الدين الكلام إذا انتهى إلى المقدمات الضرورية فقد انتهى و وتم وكون الحب والبغض أمرا وجوديا معلوم بالاضطرار فأن كل أحد يعلم أن الحي إن كان خاليا عن الحب كان هذا الخلو صفة عدمية فاذا صار محبا فقد تغير الموصوف وصار له صفة ثبوتية زائدة على ما كان قبل أن يقوم به الحب ومن يحس ذلك من نفسه يجده كما يجد شهوته ونفرته ورضاه وغضبه ولذته وألمه
ودليل ذلك أنك تقول أحب يحب محبة ونقيض أحب لم يحب ولم يحب صفة عدمية ونقيض العدم الاثبات
قال ابن المرحل هذا ينتقض بقولهم امتنع يمتنع فإن نقيض الامتناع لا امتناع وامتناع صفة عدمية
قال الشيخ تقي الدين الامتناع أمر اعتباري عقلي فإن المتنع ليس له وجود خارجي حتى تقوم به صفة وإنما هو معلوم بالعقل
وباعتبار كونه معلوما له ثبوت علمي وسلب هذا الثبوت العلمي عدم هذا الثبوت فلم ينقض هذا قولنا نقيض العدم ثبوت وأما الحب فأنه صفة قائمة بالمحب فأنك تشير إلى عين خارجية وتقول هذا الحي صار محبا بعد أن لم يكن محبا فتخبر عن الوجود الخارجي فإذا كان نقيضها عدما خارجيا كانت وجودا خارجيا
وفي الجملة فكون الحب والبغض صفة ثبوتية وجودية معلوم بالضرورة فلا يقبل فيه نزاع ولا يناظر صاحبه إلا مناظرة السوفسطائية
قلت وإذا كان الحب والبغض ونحوهما من الصفات المضافة المتعلقة بالغير صفات وجودية وظهر الفرق بين الصفات التي هي إضافة ونسبة وبين الصفات التي هي مضافة منسوبة فالحمد والشكر من القسم الثاني فإن الحمد أمر وجودي متعلق بالمحمود عليه وكذلك الشكر أمر وجودي متعلق بالمشكور عليه فلا يتم فهم حقيقتهما إلا بفهم الصفة الثبوتية لهما التي هي متعلقة بالغير وتلك الصفة داخلة في حقيقتهما فإذا كان متعلق أحدهما أكبر من متعلق الآخر وذلك التعلق إنما هو عارض لصفة ثبوتية لهما وجب ذكر تلك الصفة الثبوتية في ذكر حقيقتهما
والدليل على هذا أن من لم يفهم الإحسان امتنع أن يفهم الشكر فعلم أن تصور متعلق الشكر داخل في تصور الشكر
قلت ولو قيل إنه ليس هذا إلا أمرا عدميا فالحقيقة إن كانت مركبة من وجود وعدم وجب ذكرهما في تعريف الحقيقة كما أن من عرف الأب من حيث هو أب فإن تصوره موقوف على تصور الأبوة التي هي نسبة وإضافة وإن كان الأب أمرا وجوديا
فالحمد والشكر متعلقان بالمحمود عليه والمشكور عليه وإن لم يكن هذا المتعلق عارضا لصفة ثبوتية فلا يفهم الحمد والشكر إلا بفهم هذا المتعلق كما لا يفهم معنى الأب إلا بفهم معنى الأبوة الذي هو التعلق وكذلك الحمد والشكر أمران متعلقان بالمحمود عليه والمشكور عليه
وهذا التعلق جزء من هذا المسمى بدليل أن من لم يفهم الصفات الجميلة لم يفهم الحمد ومن لم يفهم الإحسان لم يفهم الشكر
فإذا كان فهمهما موقوفا على فهم متعلقهما فوقوفه على فهم التعلق أولى فإن التعلق فرع على المتعلق وتبع له فإذا توقف فهمهما على فهم المتعلق الذي هو أبعد عنهما من التعلق فتوقفه على فهم التعلق أولى وإن كان التعلق أمرا عدميا والله أعلم
قال له الشيخ تقي الدين بن تيمية قوله وأحل الله البيع قد أتبع بقوله وحرم الربا وعامة أنواع الربا يسمى بيعا والربا وإن كان اسما مجملا فهو مجهول واستثناء المجهول من المعلوم يوجب جهالة المستثنى فيبقى المراد إحلال البيع الذي ليس بربا فما لم يثبت أن الفرد المعين ليس بربا لم يصح إدخاله في البيع الحلال وهذا يمنع دعوى العموم وإن كان الربا اسما عاما فهو مستثنى من البيع أيضا فيبقى البيع لفظا مخصوصا فلا يصح ادعاء العموم على الإطلاق
قال ابن المرحل هذا من باب التخصيص وهنا عمومان تعارضا وليس من باب الاستثناء فإن صيغ الاستثناء معلومة وإذا كان هذا تخصيصا لم يمنع ادعاء العموم فيه
قال الشيخ تقي الدين هذا كلام متصل بعضه ببعض وهو من باب التخصيص المتصل وتسميه الفقهاء استثناء كقوله له هذه الدار ولي منها هذا البيت فإن هذا بمنزلة قوله إلا هذا البيت وكذلك لو قال أكرم هؤلاء القوم ولا تكرم فلانا وهو منهم كان بمنزلة قوله إلا فلانا وإذا كان كذلك صار بمنزلة قوله أحل الله البيع إلا ما كان منه ربا
فمن ادعى بعد هذا أنه عام في كل ما يسمى بيعا فهو مخطىء
قال أبن المرحل أنا أسلم أنه إنما هو عام في كل بيع لا يسمى ربا
قال له الشيخ تقي الدين وهذا كان المقصود ولكن بطل بهذا دعوى عمومه على الإطلاق فإن دعوى العموم على الإطلاق ينافي دعوى العموم في بعض الأنواع دون بعض وهذا كلام بين
وادعى مدع أن فيه قولين احدهما أنه عام مخصوص والثاني أنه عموم مراد
فقال الشيخ تقي الدين فإن دعوى أنه عموم مراد باطل قطعا فإنا نعلم أن كثيرا من أفراد البيع حرام
فاعترض ابن المرحل بأن تلك الأفراد حرمت بعد ما أحلت فيكون نسخا
قال الشيخ تقي الدين فيلزم من هذا أن لا نحرم شيئا من ا لبيوع بخبر واحد ولا بقياس فإن نسخ القرآن لا يجوز بذلك وإنما يجوز تخصيصه به وقد اتفق الفقهاء على التحريم بهذه الطريقة
قال ابن المرحل رجعت عن هذا السؤال لكن أقول هو عموم مراد في كل ما يسمى بيعا في الشرع فإن البيع من الأسماء المنقولة إلى كل بيع صحيح شرعي
قال الشيخ تقي الدين البيع ليس من الأسماء المنقولة فإن مسماه في الشرع والعرف هو المسمى اللغوي لكن الشارع اشترط لحله وصحته شروطا كما قد كان أهل الجاهلية لهم شروط أيضا بحسب اصطلاحهم وهكذا سائر أسماء العقود مثل الإجارة والرهن والهبة والقرض والنكاح إذا أريد به العقد وغير ذلك هي باقية على مسمياتها والنقل إنما يحتاج إليه إذا أحدث الشارع معاني لم تكن العرب تعرفها مثل الصلاة والزكاة والتيمم فحينئذ يحتاج إلى النقل ومعاني هذه العقود ما زالت معروفة
قال ابن المرحل أصحابي قد قالوا إنها منقولة
قال الشيخ تقي الدين لو كان لفظ البيع في الآية المراد به البيع الصحيح الشرعي لكان التقدير أحل الله البيع الصحيح الشرعي أو أحل الله البيع الذي هو عنده حلال وهذا مع أنه مكرر فإنه يمنع الاستدلال بالآية فإنا لا نعلم دخول بيع من البيوع في الآية حتى نعلم أنه بيع صحيح شرعي ومتى علمنا ذلك استغنينا عن الاستدلال بالآية
قال ابن المرحل متى ثبت أن هذا الفرد يسمى بيعا في اللغة قلت هو بيع في الشرع لأن الأصل عدم ا لنقل وإذا كان بيعا في الشرع دخل في الآية
قال الشيخ تقي الدين هذا إنما يصح لو لم يثبت أن الاسم منقول أما إذا ثبت أنه منقول لم يصح إدخال فرد فيه حتى يثبت أن الاسم المنقول واقع عليه وإلا فيلزم من هذا أن كل ما سمي في اللغة صلاة وزكاة وتيمما وصوما وبيعا وإجارة ورهنا أنه يجوز إدخاله في المسمى الشرعي بهذا الاعتبار وعلى هذا التقدير فلا يبقى فرق بين الأسماء المنقولة وغيرها وإنما يقال الأصل عدم النقل إذا لم يثبت بل متى ثبت النقل فالأصل عدم دخول هذا الفرد في الاسم المنقول حتى يثبت أنه داخل فيه بعد النقل
فلتتأمل هذه الأبحاث الثلاثة وكل ما فيها قلت فإنه من كلام الشيخ تقي الدين قرره بعد المناظرة
وقال الحافظ أبو عبد الله الذهبي في أثناء كلامه في ترجمة الشيخ رحمه الله
وله باع طويل في معرفة مذاهب الصحابة والتابعين وقل أن يتكلم في مسألة إلا ويذكر فيها مذاهب الأربعة وقد خالف الأربعة في مسائل معروفة وصنف فيها واحتج لها بالكتاب والسنة
ولما كان معتقلا بالاسكندرية التمس منه صاحب سبتة أن يجيز له مروياته وينص على أسماء جملة منها فكتب في عشر ورقات جملة من ذلك بأسانيدها من حفظه بحيث يعجز أن يعمل بعضه أكبر محدث
وله الآن عدة سنين لا يفتي بمذهب معين بل بما قام عليه الدليل عنده
ولقد نصر السنة المحضة والطريقة السلفية واحتج لها ببراهين ومقدمات وأمور لم يسبق إليها
وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا وجسر هو عليها حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشأم قياما لا مزيد عليه وبدعوه وناظروه وكابروه وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي بل يقول الحق المر الذي أداه إليه اجتهاده وحدة ذهنه وسعة دائرته في السنن والأقوال
مع ما اشتهر عنه من الورع وكمال الفكرة وسرعة الإدراك والخوف من الله والتعظيم لحرمات الله
فجرى بينه وبينهم حملات حربية ووقائع شامية ومصرية وكم من نوبة قد رموه عن قوس واحدة فينجيه الله
فإنه دائم الابتهال كثير الاستغاثة قوي التوكل ثابت الجأش له أوراد وأذكار يدمنها بكيفية وجعية
وله من الطرف الآخر محبون من العلماء والصلحاء ومن الجند والأمراء ومن التجار والكبراء وسائر العامة تحبه لأنه منتصب لنفعهم ليلا ونهارا بلسانه وقلمه
وأما شجاعته فيها تضرب الأمثال وببعضها يتشبه أكابر الأبطال
فلقد أقامه الله في نوبة غازان والتقى أعباء الأمر بنفسه وقام وقعد وطلع وخرج واجتمع بالملك مرتين وبقطلوشاه وببولاي وكان قبجق يتعجب من إقدامه وجرأته على المغول
وله حدة قوية تعتريه في البحث حتى كأنه ليث حرب
وهو أكبر من أن ينبه مثلي على نعوته فلو حلفت بين الركن والمقام لحلفت أنى ما رأيت بعيني مثله ولا والله ما رأى هو مثل نفسه في العلم
قلت ما فعله الشيخ رحمه الله في نوبة غازان من جميع أنواع الجهاد وسائر أنواع الخير من إنفاق الأمول وإطعام الطعام ودفن الموتى وغير ذلك معروف مشهور
ثم بعد ذلك بعام سنة سبعمائة لما قدم التتار إلى أطراف البلاد وبقي الخلق في شدة عظيمة وغلب على ظنهم أن عسكر مصر قد تخلوا عن الشأم ركب الشيخ وسار على البريد إلى الجيش المصري في سبعة أيام ودخل القاهرة في اليوم الثامن يوم الاثنين حادي عشر جمادي الأولى وأطلاب المصريين داخلة وقد دخل السلطان الملك الناصر فاجتمع بأركان الدولة واستصرخ بهم وحضهم على الجهاد وتلا عليهم الآيات والأحاديث وأخبرهم بما أعد الله للمجاهدين من الثواب فاستفاقوا وقويت هممهم وأبدوا له العذر في رجوعهم مما قاسوا من المطر والبرد منذ عشرين ونودي بالغزاة وقوى العزم وعظموه وأكرموه وتردد الأعيان إلى زيارته
واجتمع به في هذه السنة الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد وسمع كلامه وذكر أنهم سألوه بعد انقضاء المجلس فقال هو رجل حفظة
قيل له فهلا تكلمت معه فقال هذا رجل يحب الكلام وأنا أحب السكوت
ولقد أخبرني الذهبي عن الشيخ رحمه الله أنه أخبره أن ابن دقيق العيد قال له بعد سماع كلامه ما كنت أظن أن الله بقى يخلق مثلك
وفي اليوم السابع والعشرين من شهر جمادى المذكور وصل الشيخ إلى دمشق على البريد
وكتب في هذه الحادثة كتابا وصورته هذا
صورة كتاب
كتبه شيخ الإسلام علامة الزمان تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله ورضي عنه
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى من يصل إليه من المؤمنين والمسلمين
سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو وهو للحمد أهل وهو على كل شيء قدير ونسأله أن يصلي على صفوته من خليقته وخيرته من بريته محمد عبده ورسوله وعلىآله وسلم تسليما
أما بعد فقد صدق الله وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا والله تعالى يحقق لنا تمام الكلام بقوله وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطأوها وكان الله على كل شيء قديرا
فإن هذه الفتنة التي ابتلي بها المسلمون مع هذا العدو المفسد الخارج عن شريعة الإسلام قد جرى فيها شبيه ما جرى للمسلمين مع عدوهم على عهد رسول الله في المغازي التي أنزل الله فيها كتابه وابتلى بها نبيه والمؤمنين ما هو أسوة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا إلى يوم القايمة فإن نصوص الكتاب والسنة اللذين هما دعوة محمد يتناولان عموم الخلق بالعموم اللفظي والمعنوي أو بالعموم المعنوي وعهود الله في كتابه وسنة رسوله تنال آخر هذه الآمة كما نالت أولها وإنما قص الله علينا قصص من قبلنا من الأمم لتكون عبرة لنا فنشبه حالنا بحالهم ونقيس أواخر الأمم بأوائلها فيكون للمؤمن من المتأخرين شبه بما كان للمؤمن من المتقدمين ويكون للكافر والمنافق من المتأخرين شبه بما كان للكافر والمنافق من المتقدمين كما قال تعالى لما قص قصة يوسف مفصلة وأجمل ذكر قصص الأنبياء ثم قال لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب ما كان حديثا يفترى أي هذه القصص المذكورة في الكتاب ليست بمنزلة ما يفترى من القصص المكذوبة كنحو ما يذكر في الحروب وفي السير المكذوبة
وقال تعالى لما ذكر قصة فرعون فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى
وقال في سيرة نبينا محمد مع أعدائه ببدر وغيرها قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار
وقال تعالى في محاصرته لبني النضير هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار فأمرنا أن نعتبر بأحوال المتقدمين علينا من هذه الأمة وممن قبلها من الأمم
وذكر في غير موضع أن سنته في ذلك سنة مطردة وعادته مستمرة
فقال تعالى لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا
وقال تعالى ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا
وأخبر سبحانه أن دأب الكافرين من المستأخرين كدأب الكافرين من المستقدمين
فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه في عباده ودأب الأمم وعاداتهم لا سيما في مثل هذه الحادثة العظيمة التي طبق الغافقين خيرها واستطار في جميع ديار الإسلام شررها وأطلع فيها النفاق ناصية رأسه وكشر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه وكاد فيه عمود الكتاب أن يجتث ويخترم وحبل الإيمان أن ينقطع ويصطلم وعقر دار المؤمنين أن يحل بها البوار وأن يزول هذا الدين باستيلاء الفجرة التتار وظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض أن ما وعدهم الله ورسوله إلا غرورا وأن لن ينقلب حزب الله ورسوله إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبهم وظنوا ظن السوء وكانوا قوما بورا ونزلت فتنة تركت الحليم فيها حيران وأنزلت الرجل الصاحي منزلة السكران وتركت الرجل اللبيب لكثرة الوسواس ليس بالنائم ولا اليقظان وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان حتى بقي للرجل بنفسه شغل عن أن يغيث اللهفان وميز الله فيها أهل البصائر والايقان من الذين في قلوبهم مرض أو نفاق وضعف إيمان ورفع بها أقواما إلى الدرجات العالية كما خفض بها أقواما إلى المنازل الهاوية وكفر بها عن آخرين أعمالهم الخاطئة وحدث من أنواع البلوى ما جعلها قيامة مختصرة من القيامة الكبرى
فإن الناس تفرقوا فيها ما بين شقي وسعيد كما يتفرقون كذلك في اليوم الموعود وفر الرجل فيها من اخيه وأمه وأبيه إذ كان لكل امرىءمنهم شأن يغنيه وكان من الناس من أقصى همته النجاة بنفسه لا يلوي على ماله ولا ولده ولا عرسه كما أن منهم من فيه قوة على تخليص الأهل والمال وآخر فيه زيادة معونة لمن هو منه ببال وآخر منزلته منزلة الشفيع المطاع وهم درجات عند الله في المنفعة والدفاع ولم تنفع المنفعة الخالصة من الشكوى إلا الإيمان والعمل الصالح والبر والتقوى وبليت فيها السرائر وظهرت الخبايا التي كانت تكتمها الضمائر وتبين أن البهرج من الأقوال والأعمال يخون صاحبه أحوج ما كان إليه في المآل وذم سادته وكبراءه من أطاعهم فأضلوه السبيل كما حمد ربه من صدق في إيمانه فاتخذ مع الرسول سبيلا وبان صدق ما جاءت به الآثار النبوية من الأخبار بما يكون وواطأتها قلوب الذين هم في هذه الأمة محدثون كما تواطأت عليه المبشرات التي أريها المؤمنون وتبين فيها الطائفة المنصورة الظاهرة على الدين الذين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى يوم القيامة
حيث تحزب الناس ثلاثة أحزاب حزب مجتهد في نصر الدين وآخر خاذل له وآخر خارج عن شريعة الإسلام
وانقسم الناس ما بين مأجور ومعذور وآخر قد غره بالله الغرور وكان هذا الامتحان تمييزا من الله وتقسيما ليجزي الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما
ووجه الاعتبار في هذه الحادثة العظيمة أن الله بعث محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وشرع له الجهاد إباحة له أولا ثم إيجابا له ثانيا لما هاجر إلى المدينة وصار له فيها أنصار ينصرون الله ورسوله فغزا بنفسه مدة مقامه بدار الهجرة وهو نحو عشر سنين بضعا وعشرين غزوة أولها بدر وآخرها تبوك أنزل الله في أول مغازيه سورة الأنفال وفي آخرها سورة براءة وجمع بينهما في المصحف لتشابه أول الأمر وآخره كما قال أمير المؤمنين عثمان لما سئل عن القران بين السورتين من غير فصل بالبسملة
وكان القتال منها في تسع غزوات
فأول غزوات القتال بدر وآخرها حنين والطائف وأنزل الله فيها ملائكته كما أخبر به القرآن ولهذا صار الناس يجمعون بينهما في القول وإن تباعد ما بين الغزوتين مكانا وزمانا
فإن بدرا كانت في رمضان في السنة الثانية من الهجرة ما بين المدينة ومكة شامي مكة وغزوة حنين في آخر شوال من السنة الثامنة وحنين واد قريب من الطائف شرقي مكة
ثم قسم النبي غنائمها بالجعرانة واعتمر عمرة الجعرانة
ثم حاصر الطائف فلم يقاتله أهل الطائف زحفا وصفوفا وإنما قاتلوه من وراء جدار
فآخر غزوة كان فيها القتال زحفا واصطفافا هي غزوة حنين
وكانت غزوة بدر أول غزوة ظهر فيها المسلمون على صناديد الكفار وقتل الله وأسر رؤوسهم مع قلة المسلمين وضعفهم فإنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ليس معهم إلا فرسان وكان يعتقب الاثنان والثلاثة على البعير الواحد وكان عدوهم بقدرهم أكثر من ثلاث مرات في قوة وعدة وهيأة وخيلاء
فلما كان من العام المقبل غزا الكفار المدينة وفيها النبي وأصحابه فخرج إليهم النبي وأصحابه في نحو من ربع الكفار وتركوا عيالهم بالمدينة لم ينقلوهم إلى موضع آخر وكانت أولا الكرة للمسلمين عليهم ثم صارت للكفار فانهزم عامة عسكر المسلمين إلا نفرا قليلا حول النبي منهم من قتل ومنهم من جرح وحرصوا على قتل النبي حتى كسروا رباعيته وشجوا جبينه وهشموا البيضة على رأسه وأنزل الله فيها نحوا من شطر سورة أل عمران من قوله وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال قال فيها إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم وقال فيها ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين وقال فيها أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير
وكان الشيطان قد نفق في الناس أن محمدا قد قتل فمنهم من تزلزل لذلك فهرب ومنهم من ثبت فقاتل فقال الله تعالى وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات او قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين
وكان هذا مثل حال المسلمين لما انكسروا في العام الماضي
وكانت هزيمة المسلمين في العام الماضي بذنوب ظاهرة وخطايا واضحة من فساد النيات والفخر والخيلاء والظلم والفواحش والإعراض عن حكم الكتاب والسنة وعن المحافظة على فرائض الله والبغي على كثير من المسلمين الذين بأرض الجزيرة والروم
وكان عدوهم في أول الأمر راضيا منهم بالموادعة والمسالمة شارعا في الدخول في الإسلام وكان مبتدئا في الإيمان والأمان وكانوا هم قد أعرضوا عن كثير من أحكام الإيمان
فكان من حكمة الله ورحمته بالمؤمنين أن ابتلاهم بما ابتلاهم به ليمحص الله الذين آمنوا وينيبوا إلى ربهم وليظهر من عدوهم ما ظهر منه من البغي والمكر والنكث والخروج عن شرائع الإسلام فيقوم بهم ما يستوجبون به النصر وبعدوهم ما يستوجب به الانتقام
فقد كان في نفوس كثير من مقاتلة المسلمين ورعيتهم من الشر الكبير ما لو يقترن به ظفر بعدوهم الذي هو على الحال المذكورة لأوجب لهم ذلك من فساد الدين والدنيا مالا يوصف
كما أن نصر الله المسلمين يوم بدر كان رحمة ونعمة وهزيمتهم يوم أحد كان نعمة ورحمة على المؤمنين
فإن النبي قال لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء فشكر الله كان خيرا له وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له
فلما كانت حادثة المسلمين عام أول شبيهة بأحد وكان بعد أحد بأكثر من سنة وقيل بسنتين قد ابتلي المسلمون بغزوة الخندق كذلك في هذا العام ابتلي المؤمنون بعدوهم كنحو ما ابتلي المسلمون مع النبي عام الخندق وهي غزوة الأحزاب التي أنزل الله فيها سورة الأحزاب وهي سورة تضمنت ذكر هذه الغزاة التي نصر الله فيها عبده وأعز فيها جنده المؤمنين وهزم الأحزاب الذين تحزبوا عليه وحده بغير قتال بل بثبات المؤمنين بلقاء عدوهم
ذكر فيها خصائص رسول الله وحقوقه وحرمته وحرمة أهل بيته لما كان هو القلب الذي نصره الله فيها بغير قتال كما كان ذلك في غزوتنا هذه سواء وظهر فيها سر تأييد الدين كما ظهر في غزوة الخندق وانقسم الناس فيها كانقسامهم عام الخندق
وذلك أن الله تعالى منذ بعث محمدا وأعزه بالهجرة والنصرة صار الناس ثلاثة أقسام
قسما مؤمنين وهم الذين آمنوا به ظاهرا وباطنا
وقسما كفارا وهم الذين أظهروا الكفر به
وقسما منافقين وهم الذين آمنوا ظاهرا لا باطنا
ولهذا افتتح سورة البقرة بأربع آيات في صفة المؤمنين وآيتين في صفة الكافرين وثلاث عشر آية في صفة المنافقين
وكل واحد من الإيمان والكفر والنفاق له دعائم وشعب كما دلت عليه دلائل الكتاب والسنة وكما فسره أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه في الحديث المأثور عنه في الإيمان ودعائمه وشعبه
فمن النفاق ما هو أكبر يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار كنفاق عبد الله بن أبي وغيره بأن يظهر تكذيب الرسول أو جحود بعض ما جاء به أو بغضه أو عدم اعتقاد وجوب اتباعه أو المسرة بانخفاض دينه أو المساءة بظهور دينه ونحو ذلك مما لا يكون صاحبه إلا عدوا لله ورسوله
وهذا القدر كان موجودا في زمن رسول الله وما زال بعده بل هو بعده أكثر منه على عهده لكون موجبات الإيمان على عهده أقوى فإذا كانت مع قوتها كان النفاق موجودا فوجوده فيما دون ذلك أولى
وكما أنه كان يعلم بعض المنافقين ولا يعلم بعضهم كما بينه قوله وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم كذلك خلفاؤه بعده وورثته قد يعلمون بعض المنافقين ولا يعلمون بعضهم
وفي المنتسبين إلى الإسلام من عامة الطوائف منافقون كثيرون في الخاصة والعامة ويسمون الزنادقة
وقد اختلف العلماء في قبول توبتهم في الظاهر لكون ذلك لا يعلم إذ هم دائما يظهرون الإسلام
وهؤلاء يكثرون في المتفلسفة ممن المنجمين ونحوهم ثم في الأطباء ثم في الكتاب أقل من ذلك
ويوجدون في المتصوفة والمتفقهة وفي المقاتلة والأمراء وفي العامة أيضا
ولكن يوجدون كثيرا في نحل أهل البدع لا سيما الرافضة ففيهم من الزنادقة والمنافقين ما ليس في أحد من أهل النحل ولهذا كانت الخرمية والباطنية والقرامطة والإسماعيلية والنصيرية ونحوهم من المنافقين الزنادقة منتسبة إلى الرافضة
وهؤلاء المنافقون في هذه الأوقات لكثير منهم ميل إلى دولة هؤلاء التتار لكونهم لا يلزمونهم شريعة الإسلام بل يتركونهم وما هم عليه
وبعضهم إنما ينفرون عن التتار لفساد سيرتهم في الدنيا واستيلائهم على الأموال واجترائهم على الدماء والسبي لا لأجل الدين
فهذا ضرب النفاق الأكبر
وأما النفاق الأصغر فهو النفاق في الأعمال ونحوها مثل أن يكذب إذا حدث ويخلف إذا وعد ويخون إذا ائتمن أو يفجر إذا خاصم ففي الصحيحين عن النبي قال آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان وفي رواية صحيحة وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو عن النبي قال أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر
ومن هذا الباب الإعراض عن الجهاد فإنه من خصال المنافقين قال النبي من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق رواه مسلم
وقد أنزل الله سورة براءة التي تسمى الفاضحة لأنها فضحت المنافقين أخرجاه في الصحيحين عن ابن عباس قال هي الفاضحة ما زالت تنزل ومنهم ومنهم حتى ظنوا أن لا يبقى أحد إلا ذكر فيها
وعن المقداد بن الأسود قال هي سورة البحوث لأنها بحثت عن سرائر المنافقين
وعن قتادة قال هي المثيرة لأنها أثارت مخازي المنافقين
وعن ابن عباس قال هي المبعثرة والبعثرة والإثارة متقاربان
وعن ابن عمر أنها المقشقشة لأنها تبرىء من مرض النفاق يقال تقشقش المريض إذا برأ
وقال الأصمعي وكان يقال لسورتي الإخلاص المقشقشتان لأنهما يبرئان من النفاق
وهذه السورة نزلت في آخر مغازي النبي غزوة تبوك عام تسع من الهجرة وقد عز الإسلام وظهر فكشف الله فيها أحوال المنافقين ووصفهم فيها بالجبن وترك الجهاد ووصفهم بالبخل عن النفقة في سبيل الله والشح على المال وهذان داءان عظيمان الجبن والبخل
قال النبي شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع حديث صحيح ولهذا قد يكونان من الكبائر الموجبة للنار كما دل عليه قوله ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة وقال تعالى ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا
لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير
وأما وصفهم بالجبن والفزع فقال تعالى ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يحدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجحمون
فأخبر سبحانه أنهم وإن حلفوا أنهم من المؤمنين فما هم منهم ولكن يفزعون من العدو فلو يجدون ملجأ يلجأون إليه من المعاقل والحصون التي يفر إليها من يترك الجهاد أو مغارات وهي جمع مغارة ومغارات سميت بذلك لأن الداخل يغور فيها أي يستتر كما يغور الماء
أو مدخلا وهو الذي يتكلف الدخول إليه إما لضيق بابه أو لغير ذلك أي مكانا يدخلون إليه ولو كان الدخول بكلفة ومشقة لولوا عن الجهاد إليه وهم يجحمون أي يسرعون إسارعا لا يردهم شيء كالفرس الجموح الذي إذا حمل لا يرده اللجام
وهذا وصف منطبق على أقوام كثيرين في حادثتنا وفيما قبلها من الحوادث وبعدها
وكذلك قال في سورة محمد فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم أي فبعدا لهم طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم وقال تعالى إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون فحصر المؤمنين فيمن آمن وجاهد
وقال تعالى لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون
فهذا إخبار من الله بأن المؤمن لا يستأذن الرسول في ترك الجهاد
وإنما يستأذنه الذي لا يؤمن فكيف بالتارك من غير استئذان
ومن تدبر القرآن وجد نظائر هذا متضافرة على هذاالمعنى
وقال في وصفهم بالشح وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون
فهذه حال من أنفق كارها فكيف بمن ترك النفقة رأسا
وقال ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون
وقال ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون
وقال في السورة يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون
فانتظمت هذه الآية حال من أخذ المال بغير حقه أو منعه عن مستحقه من جميع الناس فإن الأحبار هم العلماء والرهبان هم العباد
وقد أخبر أن كثيرا منهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون أي يعرضون ويمنعون
يقال صد عن الحق صدودا وصد غيره
وهذا يندرج فيه ما يؤكل بالباطل من وقف أو عطية على الدين كالصلاة والنذور التي تنذر لأهل الدين ومن الأموال المشتركة كأموال بيت المال ونحو ذلك
فهذا فيمن يأكل المال بالباطل بشبهة دين
ثم قال والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فهذا يندرج فيه من كنز المال عن النفقة الواجبة في سبيل الله والجهاد أحق الأعمال باسم سبيل الله سواء كان ملكا أو مقدما أو غنيا أو غير ذلك
وإذا دخل في هذا ما كنز من المال الموروث والمكسوب فما كنز من الأموال المشتركة التي يستحقها عموم الأمة ومستحقها مصالحهم أولى وأحرى
فصل
فإذا تبين بعض معنى المؤمن والمنافق فإذا قرأ الإنسان سورة الأحزاب وعرف من المنقولات في الحديث والتفسير والفقه والمغازي كيف كانت صفة الواقعة التي نزل بها القرآن ثم اعتبر هذه الحادثة بتلك وجد مصداق ما ذكرنا وأن الناس انقسموا في هذه الحادثة إلى الأقسام الثلاثة كما انقسموا في تلك وتبين له كثير من المتشابهات
افتتح الله السورة بقوله يأيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين وذكر في أثنائها قوله وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ولا تطع الكافرين والمنافقين ثم قال واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا
فأمره باتباع ما أوحى إليه من الكتاب والحكمة التي هي سنته وبأن يتوكل على الله
فبالأولى تحقق قوله إياك نعبد
وبالثانية تحقق قوله وإياك نستعين
ومثل ذلك قوله فاعبده وتوكل عليه وقوله عليه توكلت وإليه أنيب
وهذا وإن كان مأمورا به في جميع الدين فإن ذلك في الجهاد أوكد لأنه يحتاج إلى أن يجاهد الكفار والمنافقين وذلك لا يتم إلا بتأييد قوي من الله ولهذا كان الجهاد سنام العمل وانتظم سنام جميع الأحوال الشريفة
ففيه سنام المحبة كما في قوله فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم
وفيه سنام التوكل وسنام الصبر فإن المجاهد أحوج الناس إلى الصبر والتوكل ولهذا قال تعالى والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون وقال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين
ولهذا كان الصبر واليقين اللذين هما أصل التوكل يوجبان الإمامة في الدين كما دل عليه قوله تعالى وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون
ولهذا كان الجهاد موجبا للهداية التي هي محيطة بأبواب العلم كما دل عليه قوله تعالى والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
وفي الجهاد أيضا حقيقة الزهد في الحياة الدنيا وفي الدار الدنيا وفيه أيضا حقيقة الإخلاص فإن الكلام فيمن جاهد في سبيل الله لا في سبيل لراياسة ولا في سبيل المال ولا في سبيل الحمية وهذا لا يكون إلا لمن قاتل ليكون الدين كله لله ولتكون كلمة الله هي العليا
وأعظم مراتب الإخلاص تسليم النفس والمال للمعبود كما قا تعالى إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون
والجنة اسم للدار التي حوت كل نعيم أعلاه النظر إلى الله إلى ما دون ذلك مما تشتهيه الآنفس وتلذ الأعين مما قد نعرفه
وقد لا نعرفه كما قال الله تعالى فيما رواه عنه رسوله أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
فقد تبين بعض أسباب افتتاح هذه السورة بهذا
ثم إنه تعالى قال يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا
وكان مختصر القصة
أن المسلمين يحزب عليهم عامة المشركين الذين حولهم وجاءوا بجموعهم إلى المدينة ليستأصلوا المؤمنين
فاجتمعت قريش وحلفاؤها من بني أسد وأشجع وفزارة وغيرهم من قبائل نجد
واجتمعت أيضا اليهود من قريظة والنضير فإن بني النضير كان النبي قد أجلاهم قبل ذلك كما ذكره الله تعالى في سورة الحشر فجاءوا في الأحزاب إلى قريظة وهم معاهدون للنبي ومجاورون له قريبا من المدينة فلم يزالوا حتى نقضت قريظة العهد ودخلوا في الأحزاب فاجتمعت هذه الأحزاب العظيمة وهم بقدر المسلمين مرات متعددة فرفع النبي الذرية من النساء والصبيان في آطام المدينة وهي مثل الجواسق ولم ينقلهم إلى مواضع أخر وجعل ظهرهم إلى سلع وهو الجبل القريب من المدينة من ناحية الغرب والشأم وجعل بينه وبين العدو خندقا والعدو قد أحاط بهم من العالية والسافلة وكان عدوا شديد العداوة لو تمكن من المؤمنين لكانت نكايته فيهم أعظم النكايات
وفي هذه الحادثة تحزب هذا العدو من مغل وغيرهم من أنواع الترك ومن فرس ومستعربة ونحوهم من أجناس المرقدة ومن نصارى من الأرمن وغيرهم ونزل هذا العدو بجانب ديار المسلمين وهو بين الإقدام والإحجام مع قلة من بإزائهم من المسلمين ومقصودهم الاستيلاء على الدار واصطلام أهلها كما نزل أولئك بنواحي المدينة بإزاء المسلمين
ودام الحصار على المسلمين عام الخندق على ما قيل بضعا وعشرين ليلة وقيل عشرين ليلة
وهذا العدو عبر الفرات سابع عشر ربيع الآخر وكان أول انصرافه راجعا عن حلب لما رجع مقدمهم الكبير قازان بمن معه يوم الأثنين حادي أو ثاني عشر جمادي الأولى يوم دخل العسكر عسكر المسلمين إلى مصر المحروسة واجتمع بهم الداعي وخاطبهم في هذه القضية وكان الله سبحانه وتعالى لما ألقى في قلوب المؤمنين ما ألقى من الاهتمام والعزم ألقى في قلوب عدوهم الروع والانصراف
وكان عام الخندق برد شديد وريح شديدة منكرة بها صرف الله الأحزاب عن المدينة كما قال تعالى فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها
وهكذا هذا العام أكثر الله فيه الثلج والمطر والبرد على خلاف أكثر العادات حتى كره أكثر الناس ذلك وكنا نقول لهم لا تكرهوا ذلك فإن لله فيه حكمة ورحمة
وكان ذلك من أعظم الأسباب التي صرف الله به العدو فإنه كثر عليهم الثلج والمطر والبرد حتى هلك من خيلهم ما شاء الله وهلك أيضا منهم من شاء الله وظهر فيهم وفي بقية خيلهم من الضعف والعجز بسبب البرد والجوع ما رأوا أنهم لا طاقة لهم معه بقتال حتى بلغني عن بعض كبار المقدمين في أرض الشأم أنه قال لا بيض الله وجوهنا عدونا في الثلج إلى شعره ونحن قعود لا نأخذهم
وحتى علموا أنهم كانوا صيدا للمسلمين لو يصطادونهم لكن في تأخير الله اصطيادهم حكمة عظيمة
وقال الله في شأن الأحزاب إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا
وهكذا هذا العام جاء العدو من ناحيتي علو الشأم وهو شمال الفرات وهو قبلي الفرات فزاغت الأبصار زيغا عظيما وبلغت القلوب الحناجر لعظم البلاء لا سيما لما استفاض الخبر بانصراف العسكر إلى مصر وتقرب العدو وتوجهه إلى دمشق وظن الناس بالله الظنونا
هذا يظن أنه لا يقف قدامهم أحد من جند الشأم حتى يصطلموا أهل الشام
وهذا يظن أنهم لو وقفوا لكسروهم كسرة وأحاطوا بهم إحاطة الهالة بالقمر
وهذا يظن أن أرض الشأم ما بقيت تسكن ولا بقيت تكون تحت مملكة الإسلام
وهذا يظن أنهم يأخذونها ثم يذهبون إلى مصر فيستولون عليها فلا يقف قدامهم أحد فيحدث نفسه بالفرار إلى اليمن ونحوها
وهذا إذا أحسن ظنه قال إنهم يملكونها العام كما ملكوها عام هولاكو سنة سبع وخمسين ثم قد يخرج العسكر من مصر فيستنقذها منهم كما خرج ذلك العام وهذ ظن خيارهم
وهذا يظن أن ما أخبره به أهل الآثار النبوية وأهل التحديث والمبشرات أماني كاذبة وخرافات لاغية
وهذا قد استولى عليه الرعب والفزع حتى يمر الظن بفؤاده مر السحاب ليس له عقل يتفهم ولا لسان يتكلم
وهذا قد تعارضت عنده الإمارات وتقابلت عنده الإرادات لا سيما وهو لا يفرق من المبشرات بين الصادق والكاذب ولا يميز في التحديث بين المخطىء والصائب ولا يعرف النصوص الأثرية معرفة العلماء بل إما أن يكون جاهلا بها وقد سمعها سماع العبر ثم قد لا يتفطن لوجوه دلالتها الخفية ولا يهتدي لدفع ما يتخيل أنه معارض لها في بادىء الرؤية
فلذلك استولت الحيرة على من كان متسما بالاهتداء وتراجمت به الآراء تراجم الصبيان بالحصباء هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا ابتلاهم الله بهذا الابتلاء الذي يكفر به خطيئاتهم ويرفع به درجاتهم وزلزلوا بما يحصل لهم من الرجفات ما استوجبوا به أعلى الدرجات
قال الله تعالى وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا
وهكذا قالوا في هذه الفتنة فيما وعدهم أهل الوراثة النبوية والخلافة الرسالية وحزب الله المحدثون عنه حتى حصل لهؤلاء التأسي برسول الله كما قال الله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة
فأما المنافقون فقد مضى التنبيه عليهم
وأما الذين في قلوبهم مرض فقد تكرر ذكرهم في هذه السورة فذكروا هنا وفي قوله لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة وفي قوله فيطمع الذي في قلبه مرض
وذكر الله مرض القلب في مواضع فقال تعالى إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم
والمرض في القلب كالمرض في الجسد فكما أن هذا هو إحالة عن الصحة والاعتدال من غير موت فكذلك قد يكون في القلب مرض يحيله عن الصحة والاعتدال من غير أن يموت القلب سواء أفسد إحساس القلب وإدراكه أو أفسد عمله وحركته
وذلك كما فسروه هو من ضعف الإيمان إما بضعف علم القلب واعتقاده وإما بضعف عمله وحركته فيدخل فيه من ضعف تصديقه ومن غلب عليه الجبن والفزع فإن أدواء القلب من الشهوة المحرمة والحسد والجبن والبخل وغير ذلك كلها أمراض وكذلك الجهل والشكوك والشبهات التي فيه
وعلى هذا قوله فيطمع الذي في قلبه مرض هو إرادة الفجور وشهوة الزنا كما فسروه به ومنه قول النبي وأي داء أدوى من البخل
وقد جعل الله تعالى كتابه شفاء لما في الصدور
وقال النبي إنما شفاء العي بالسؤال
وكان يقول في دعائه اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء
ولن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه
كما ذكروا أن رجلا شكا إلى أحمد بن حنبل خوفه من بعض الولاة فقال لو صححت لم تخف أحدا أي خوفك من أجل زوال الصحة من قلبك
ولهذا أوجب الله على عباده أن لا يخافوا حزب الشيطان بل لا يخافون غيره تعالى فقال إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين أي يخوفكم أولياءه
وقال لعموم بني إسرائيل تنبيها لنا وإياي فارهبون
وقال فلا تخشوا الناس واخشون وقال لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني وقال تعالى اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون وقال إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله وقال الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وقال ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه
فدلت هذه الآية وهي قوله تعالى إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض على أن المرض والنفاق في القلب يوجب الريب في الأنباء الصادقة التي توجب كفر الإنسان من الخوف حتى يظنوا أنها كانت غرورا لهم كما وقع في حادثتنا هذه سواء
ثم قال تعالى وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا
وكان النبي قد عسكر بالمسلمين عند سلع وجعل الخندق بينه وبين العدو فقالت طائفة منهم لا مقام لكم هنا لكثرة العدو فارجعوا إلى المدينة
وقيل لا مقام لكم على دين محمد فارجعوا إلى دين الشرك
وقيل لا مقام لكم على القتال فارجعوا إلى الاستئمان والاستجارة بهم وهكذا لما قدم هذا العدو كان من المنافقين من قال ما بقيت الدولة الإسلامية تقوم فينبغي الدخول في دولة التتار وقال بعض الخاصة ما بقيت أرض الشام تسكن بل ننتقل عنها إما إلى الحجاز واليمن وإما إلى مصر وقال بعضهم بل المصلحة الاستسلام لهؤلاء كما قد استسلم لهم أهل العراق والدخول تحت حكمهم فهذه المقالات الثلاث قد قيلت في هذه النازلة كما قيلت في تلك وهكذا قال طائفة من المنافقين والذين في قلوبهم مرض لأهل دمشق خاصة والشأم عامة لا مقام لكم بهذه الأرض
ونفى المقام بها أبلغ من نفي المقام وإن كانت قد قرئت بالضم أيضا فإن من لم يقدر أن يقوم بالمكان فكيف يقيم به
قال الله تعالى ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا
كان قوم من هؤلاء المذمومين يقولون والناس مع النبي عند سلع داخل الخندق والنساء والصبيان في آطام المدينة يا رسول الله إن بيوتنا عورة أي مكشوفة فليس بينها وبين العدو حائل
وأصل العورة الخالي الذي يحتاج إلى حفظ وستر يقال أعور مجلسك إذا ذهب ستره أو سقط جداره ومنه عورة العدو
وقال مجاهد والحسن أي ضائعة يخشى عليها السراق وقال قتادة قالوا بيوتنا مما يلي العدو فلا نأمن على أهلنا فائذن لنا أن نذهب إليها لحفظ النساء والصبيان
قال الله تعالى وما هي بعورة لأن الله يحفظها إن يريدون إلا فرارا فهم يقصدون الفرار من الجهاد ويحتجون بحجة العائلة
وهكذا أصاب كثيرا من الناس في هذه الغزاة صاروا يفرون من الثغر إلى المعاقل والحصون وإلى الأماكن البعيدة كمصر ويقولون ما مقصودنا إلا حفظ العيال وما يمكن إرسالهم مع غيرنا وهم يكذبون فقد كان يمكنهم جعلهم في حصن دمشق لودنا العدو كما فعل المسلمون على عهد رسول الله وقد كان يمكنهم إرسالهم والمقام للجهاد فكيف بمن فر بعد إرسال عياله
قال الله تعالى ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا فأخبر أنه لو دخلت عليهم المدينة من جوانبها ثم طلبت منهم الفتنة وهي الافتنان عن الدين بالكفر أو النفاق لأعطوا الفتنة ولجاءوها من غير توقف
وهذه حال أقوام لو دخل عليهم هذا العدو المنافق المجرم ثم طلب منهم موافقته على ما هو عليه من الخروج عن شريعة الإسلام وتلك فتنة عظيمة لكانوا معه على ذلك كما ساعدهم في العام الماضي أقوام بأنواع من الفتنة في الدين والدنيا ما بين ترك واجبات وفعل محرمات إما في حق الله وإما في حق العباد كترك الصلاة وشرب الخمور وسب السلف وسب جنود المسلمين والتجسس لهم على المسلمين ودلالتهم على أموال المسلمين وحريمهم وأخذ أموال الناس وتعذيبهم وتقوية دولتهم الملعونة وإرجاف قلوب المسلمين منهم إلى غير ذلك من أنواع الفتنة
ثم قال تعالى ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا وهذه حال أقوام عاهدوا ثم نكثوا قديما وحديثا في هذه الغزوة
فإن في العام الماضي وفي هذا العام في أول الأمر كان من أصناف الناس من عاهد على أن يقاتل ولا يفر ثم فر منهزما لما اشتد الأمر
ثم قال الله تعالى قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا فأخبر الله أن الفرار لا ينفع لا من الموت ولا من القتل فالفرار من الموت كالفرار من الطاعون
ولذلك قال النبي إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه والفرار من القتل كالفرار من الجهاد
وحرف لن ينفي الفعل في الزمن المستقبل والفعل نكرة والنكرة في سياق النفي تعم جميع أفرادها
فاقتضى ذلك أن الفرار من الموت أو القتل ليس فيه منفعة أبدا وهذا خبر الله الصادق فمن اعتقد أن ذلك ينفعه فقد كذب الله في خبره
والتجربة تدل على مثل ما دل عليه القرآن فإن هؤلاء الذين فروا في هذا العام لم ينفعهم فرارهم بل خسروا الدين والدنيا وتفاوتوا في المصائب والمرابطون الثابتون نفعهم ذلك في الدين والدنيا حتى الموت الذي فروا منه كثر فيهم وقل في المقيمين فمات مع الهرب من شاء الله والطالبون للعدو والمعاقبون له لم يمت منهم أحد ولا قتل بل الموت قل في البلد من حين خرج الفارون وهكذا سنة الله قديما وحديثا
ثم قال تعالى وإذا لا تمتعون إلا قليلا يقول لو كان الفرار ينفعكم لم ينفعكم إلا حياة قليلة ثم تموتون فإن الموت لا بد منه
وقد حكى عن بعض الحمقى أنه قال فنحن نريد ذلك القليل وهذا جهل منه بمعنى الآية فإن الله لم يقل إنهم يتمتعون بالفرار قليلا لكنه ذكر أنه لا منفعة فيه أبدا
ثم ذكر جوابا ثانيا أنه لو كان ينفع لم يكن فيه إلا متاع قليل
ثم إنه ذكر جوابا ثالثا وهو أن الفار يأتيه ما قضي له من المضرة ويأتي الثابت ما قضي له من المسرة فقال قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا
ونظيره قوله في سياق آيات الجهاد أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وقوله يأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيى ويميت والله بما تعملون بصير
فمضمون الأمر أن المنايا محتومة فكم ممن حضر الصفوف فسلم وكم ممن فر من المنية فصادفته كما قال خالد بن الوليد لما احتضر لقد حضرت كذا وكذا صفا وإن ببدني بضعا وثمانين ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم وهأنذا أموت على فراشي كما يموت العنز فلا قرت أعين الجبناء
ثم قال تعالى قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا
قال العلماء كان من المنافقين من يرجع من الخندق فيدخل المدينة فإذا جاءهم أحد قالوا له ويحك اجلس فلا تخرج ويكتبون بذلك إلى إخوانهم الذين بالعسكر أن ائتونا بالمدينة فإنا ننتظركم يثبطونهم عن القتال وكانوا لا يأتون العسكر إلا أن لا يجدوا بدا فيأتون العسكر ليرى الناس وجوههم فإذا غفل عنهم عادوا إلى المدينة فانصرف بعضهم من عند النبي فوجد أخاه لأبيه وأمه وعنده شواء ونبيذ فقال أنت ههنا ورسول الله ﷺ بين الرماح والسيوف فقال هلم إلي فقد أحيط بك وبصاحبك
فوصف المثبطين عن الجهاد وهم صنفان بأنهم إما أن يكونوا في بلد الغزاة أو في غيره فإن كانوا فيه عوقوهم عن الجهاد بالقول أو بالعمل أو بهما وإن كانوا في غيره راسلوهم أو كاتبوهم بأن يخرجوا إليهم من بلد الغزاة ليكونوا معهم بالحصون أو بالبعد كما جرى في هذه الغزاة
فإن أقواما في العسكر والمدينة وغيرها صاروا يعوقون من أراد الغزو وأقواما بعثوا من المعاقل والحصون أو غيرها إلى إخوانهم هلم إلينا
قال الله تعالى فيهم ولا يأتون البأس إلا قليلا أشحة عليكم أي بخلاء عليكم بالقتال معكم والنفقة في سبيل الله وقال مجاهد بخلاء عليكم بالخير والظفر والغنيمة
وهذه حال من بخل على المؤمنين بنفسه وماله أو شح عليهم بفضل الله من نصره ورزقه الذي يجريه بفعل غيره فإن أقواما يشحون بمعروفهم وأقواما يشحون بمعروف الله وفضله وهم الحساد
ثم قال تعالى فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت من شدة الرعب الذي في قلوبهم يشبهون المغمى عليه وقت النزع فإنه يخاف ويذهل عقله ويشخص بصره ولا يطرف فكذلك هؤلاء لأنهم يخافون القتل فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد
ويقال في اللغة صلقوكم وهو رفع الصوت بالكلام المؤذي ومنه الصالقة وهي التي ترفع صوتها بالمصيبة يقال صلقه وسلقه وقد قرأ طائفة من السلف بها لكنها خارجة عن المصحف إذا خاطبه خطابا شديدا قويا ويقال خطيب مسلاق إذا كان بليغا في خطبته لكن الشدة هنا في الشر لا في الخير كما قال بألسنة حداد أشحة على الخير وهذا السلق بالألسنة الحادة
وهذا يكون بوجوه تارة يقول المنافقون للمؤمنين هذا الذي جرى علينا بشؤمكم فإنكم أنتم الذين دعوتم الناس إلى هذا الدين وقاتلتم عليه وخالفتموهم فإن هذا مقالة المنافقين للمؤمنين من الصحابة
وتارة يقولون أنتم الذين أشرتم علينا بالمقام هنا والثبات بهذا الثغر إلى هذا الوقت وإلا فلو كنا سافرنا قبل هذا لما أصابنا هذا
وتارة يقولون أنتم مع قلتكم وضعفكم تريدون أن تكسروا العدو وقد غركم دينكم كما قال تعالى إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم
وتارة يقولون أنتم مجانين لا عقل لكم تريدون أن تهلكوا أنفسكم والناس معكم
وتارة يقولون أنواعا من الكلام المؤذي الشديد وهم مع ذلك أشحة على الخير أي حراص على الغنيمة والمال الذي قد حصل لكم
قال قتادة إن كان وقت قسمة الغنيمة بسطوا ألسنتهم فيكم يقولون أعطونا فلستم بأحق بها منا افأما عند البأس فأجبن قوم وأخذلهم للحق وأما عند الغنيمة فأشح قوم
وقيل أشحة على الخير أي بخلاء به لا ينفعون لا بنفوسهم ولا بأموالهم
وأصل الشح شدة الحرص الذي يتولد عنه البخل والظلم من منع الحق وأخذ الباطل كما قال النبي إياكم والشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالظلم فظلموا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا
فهؤلاء أشحاء على إخوانهم أي بخلاء عليهم وأشحاء على الخير أي حراص عليه فلا ينفقونه كما قال وإنه لحب الخير لشديد
ثم قال تعالى يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا
فوصفهم بثلاثة أوصاف
أحدها أنهم لفرط خوفهم يحسبون الأحزاب لم ينصرفوا عن البلد وهذه حال الجبان الذي في قلبه مرض فإن قلبه يبادر إلى تصديق الخبر المخوف وتكذيب خبر الأمن
الوصف الثاني أن الأحزاب إذا جاءوا تمنوا أن لا يكونوا بينكم بل يكونون في البادية بين الأعراب يسألون عن أنبائكم إيش خبر المدينة وإيش جرى للناس
والوصف الثالث أن الأحزاب إذا أتوا وهم فيكم لم يقاتلوا إلا قليلا
وهذه الصفات الثلاث منطبقة على كثير من الناس في هذه الغزوة كما يعرفونه من أنفسهم ويعرفه منهم من خبرهم
ثم قال تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا
فأخبر سبحانه أن الذين يبتلون بالعدو كا ابتلي رسول الله فلهم فيه أسوة حسنة حيث أصابهم مثل ما أصابه فليتأسوا به في التوكل والصبر ولا يظنون أن هذه نقم لصاحبها وإهانة له فإنه لو كان كذلك ما ابتلي بها خير الخلائق بل بها ينال الدرجات العالية وبها يكفر الله الخطايا لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا وإلا فقد يبتلى بذلك من ليس كذلك فيكون في حقه عذابا كالكفار والمنافقين
ثم قال تعالى ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما
قال العلماء كان الله قد أنزل في سورة البقرة أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب فبين الله سبحانه منكرا على من حسب خلاف ذلك أنهم لا يدخلون الجنة إلا بعد أن يبتلوا
مثل هذه الأمم قبلهم بالبأساء وهي الحاجة والفاقة والضراء وهي الوجع والمرض والزلزال وهي زلزلة العدو
فلما جاء الأحزاب عام الخندق فرأوهم قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وعلموا أن الله قد ابتلاهم بالزلزال وأتاهم مثل الذين خلوا من قبلهم وما زادهم إلا إيمانا وتسليما لحكم الله وأمره
وهذه حال أقوام في هذه الغزوة قالوا ذلك
وكذلك قوله من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه أي عهده الذي عاهد الله عليه فقاتل حتى قتل أو عاش
والنحب النذر والعهد وأصله من النحيب وهو الصوت ومنه الانتحاب في البكاء وهو الصوت الذي تكلم به في العهد
ثم لما كان عهدهم هو نذرهم الصدق في اللقاء ومن صدق في اللقاء فقد يقتل صار يفهم من قوله قضى نحبه أنه استشهد لا سيما إذا كان النحب نذر الصدق في جميع المواطن فإنه لا يقضيه إلا بالموت وقضاء النحب هو الوفاء بالعهد كما قال من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه أي أكمل الوفاء وذلك لمن كان عهده مطلقا بالموت او القتل
ومنهم من ينتظر قضاءه إذا كان قد وفى البعض فهو ينتظر تمام العهد
وأصل القضاء الإتمام والإكمال
ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم وكان الله غفورا رحيما
بين الله سبحانه أنه أتى بالأحزاب ليجزي الصادقين بصدقهم حيث صدقوا في إيمانهم كما قال تعالى إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون
فحصر الإيمان في المؤمنين المجاهدين وأخبر أنهم هم الصادقون في قولهم آمنا لا من قال كما قالت الأعراب آمنا والإيمان لم يدخل في قلوبهم بل انقادوا واستسلموا
وأما المنافقون فهم بين امرين إما أن يعذبهم وإما أن يتوب عليهم فهذا حال الناس في الخندق وفي هذه الغزوة
وأيضا فإن الله تعالى ابتلى الناس بهذه الفتنة ليجزي المصادقين بصدقهم وهم الثابتون الصابرون لينصروا الله ورسوله ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم
ونحن نرجو من الله أن يتوب على خلق كثير من هؤلاء المذمومين فإن منهم من ندم والله سبحانه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات وقد فتح الله للتوبة بابا من قبل المغرب عرضه أربعون سنة لا يغلقه حتى تطلع الشمس من قبله
وقد ذكر أهل المغازي منهم ابن اسحق أن النبي قال في الخندق الآن نغزوهم ولا يغزونا فما غزت قريش ولا غطفان ولا اليهود المسلمين بعدها بل غزاهم المسلمون ففتحوا خيبر ثم فتحوا مكة
كذلك إن شاء الله هؤلاء الأحزاب من المغل وأصناف الترك ومن الفرس والمستعربة والنصارى ونحوهم من أصناف الخارجين عن شريعة الإسلام الآن نغزوهم ولا يغزونا ويتوب الله على من شاء من المسلمين الذين خالط قلوبهم مرض أو نفاق بأن ينيبوا إلى ربهم ويحسن ظنهم في الإسلام وتقوى عزيمتهم على جهاد عدوهم
فقد أراهم الله من الآيات ما فيه عبرة لأولي الأبصار كما قال ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا
فان الله صرف الأحزاب عام الخندق بما أرسل عليهم من ريح الصبا ريح شديدة باردة وبما فرق به بين قلوبهم حتى شتت شملهم ولم ينالوا خيرا إذ كان همهم فتح المدينة والاستيلاء على الرسول والصحابة كما كان هم هذا العدو فتح الشام والاستيلاء على من بها من المؤمنين فردهم الله بغيظهم حيث أصابهم من الثلج العظيم والبرد الشديد والريح العاصف والجوع المزعج ما الله به عليم
وقد كان بعض الناس يكره تلك الثلوج والأمطار العظيمة التي وقعت في هذا العام حتى طلبوا الاستصحاء غير مرة وكنا نقول لهم هذا فيه خيرة عظيمة وفيه لله حكمة وسر فلا تكرهوه فكان من حكمته أنه فيما قيل أصاب قازان وجنوده حتى أهلكهم وهو كان فيما قيل سبب رحيلهم وابتلي به المسلمون ليتبين من يصبر على أمر الله وحكمه ممن يفر عن طاعته وجهاد عدوه
وكان مبدأ رحيل قازان فيمن معه من ارض الشأم وأراضي حلب يوم الاثنين حادي عشر جمادي الأولى يوم دخلت مصر عقيب العسكر واجتمعت بالسلطان وأمراء المسلمين وألقى الله في قلوبهم من الاهتمام بالجهاد ما ألقاه فلما ثبت الله قلوب المسلمين صرف العدو جزاء منه وبيانا أن النية الخالصة والهمة الصادقة ينصر الله بها وإن لم يقع الفعل وإن تباعدت الديار
وذكر أن الله فرق بين قلوب هؤلاء المغل والكرج وألقى بينهم تباغضا وتعاديا كما القى سبحانه عام الأحزاب بين قريش وغطفان وبين اليهود كما ذكر ذلك أهل المغازي فإنه لم يتسع هذا المكان لأن نصف فيه قصة الخندق بل من طالعها علم صحة ذلك كما ذكره أهل المغازي مثل عروة بن الزبير والزهري وموسى بن عقبة وسعيد بن يحيى الأموي ومحمد بن عائذ ومحمد بن اسحق والواقدي وغيرهم
ثم تبقى بالشأم منهم بقايا سار إليهم من عسكر دمشق أكثرهم مضافا إلى عسكر حماة وحلب وما هنالك وثبت المسلمون بإزائهم وكانوا أكثر من المسلمين بكثير لكن في ضعف شديد تقربوا إلى حماة وأذلهم الله تعالى فلم يقدموا على المسلمين قط وصار من المسلمين من يريد الإقدام عليهم فلم يوافقه غيره فجرت مناوشات صغار كما قد كان يجري في غزوة الخندق حيث قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيها عمرو بن عبد ود العامري لما اقتحم الخندق هو ونفر قليل من المشركين
كذلك صار يتقرب بعض العدو فيكسرهم المسلمون مع كون العدو المتقرب أضعاف من قد سرى إليه من المسلمين وما من مرة إلا وقد كان المسلمون مستظهرين عليهم وساق المسلمون خلفهم في آخر النوبات فلم يدركوهم إلا عند عبور الفرات وبعضهم في جزيرة فيها فرأوا أوائل المسلمين فهربوا منهم وخالطوهم وأصاب المسلمون بعضهم وقيل إنه غرق بعضهم
وكان عبورهم وخلو الشأم منهم في أوائل رجب بعد أن جرى ما بين عبور قازان أولا وهذا العبور رجفات ووقعات صغار وعزمنا على الذهاب إلى حماة غير مرة لأجل الغزاة لما بلغنا أن المسلمين يريدون غزو الذين بقوا وثبت بإزائهم المقدم الذي بحماة ومن معهم من العسكر ومن أتاه من دمشق وعزموا على لقائهم ونالوا أجرا عظيما وقد قيل إنهم كانوا عدة لحمانات إما ثلاثة أو أربعة
وكان من المقدر أنه إذا عزم الأمر وصدق المؤمنون الله يلقى في قلوب عدوهم الرعب فيهربون لكن أصابوا من البليدات بالشمال مثل تيزين والفوعة ومعرة مصرين وغيرها ما لم يكونوا وطئوه في العام الماضي
وقيل إن كثيرا من تلك البلاد كان فيهم ميل إليهم بسبب الرفض وأن عند بعضهم فرامين منهم لكن هؤلاء ظلمة ومن أعان ظالما بلي به والله تعالى يقول وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون
وقد ظاهرهم على المسلمين الذين كفروا من أهل الكتاب من أهل سيس والأفرنح فنحن نرجو من الله أن ينزلهم من صياصيهم وهي الحصون ويقال للقرون الصياصى ويقذف قلوبهم الرعب
وقد فتح الله تلك البلاد ويغزوهم إن شاء الله تعالى فيفتح أرض العراق وغيرها وتعلو كلمة الله ويظهر دينه فإن هذه الحادثة كان فيها أمور عظيمة جازت حد القياس وخرجت عن سنن العادة وظهر لكل ذي عقل من تأييد الله لهذا الدين وعنايته بهذه الأمة وحفظه للأرض التي بارك فيها للعالمين بعد أن كاد الإسلام أن وكر العدو كرة فلم يلوعن وخذل الناصرون فلم يلووا على وتحير السائرون فلم يدروا من ولا إلى وانقطعت الأسباب الظاهرة وأهطعت الأحزاب القاهرة وانصرفت الفئة الناصرة وتخاذلت القلوب المتناصرة وثبتت الفئة الناصرة وأيقنت بالنصر القلوب الطاهرة واستنجزت من الله وعده العصابة المنصورةالظاهرة ففتح الله أبواب سمواته لجنوده القاهرة وأظهر علىالحق آياته الباهرة وأقام عمود الكتاب بعد ميله وثبت لواء الدين بقوته وحوله وأرغم معاطس أهل الكفر والنفاق وجعل ذلك آية للمؤمنين إلى يوم التلاق
فالله يتم هذه النعمة بجمع قلوب أهل الإيمان على جهاد أهل الطغيان ويجعل هذه المنة الجسيمة مبدأ لكل منحة كريمة وأساسا لإقامة الدعوة النبوية القويمة ويشفي صدور المؤمنين من أعاديهم ويمكنهم من دانيهم وقاصيهم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما
قال المؤلف رحمه الله
كتبت أول هذا الكتاب بعد رحيل قازان وجنوده لما رجعت من مصر في جمادي الآخرة وأشاعوا أنه لم يبق منهم أحد ثم لما بقيت تلك الطائفة اشتغلنا بالاهتمام بجهادهم وقصد الذهاب إلى إخواننا بحماة وتحريض الأمراء على ذلك حتى جاءنا الخبر بانصراف المتبقين منهم فكملته في رجب والله أعلم
والحمد لله وحده وصلى الله على أشرف الخلق محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين
قلت وفي أول شهر رمضان من سنة اثنتين وسبعمائة كانت وقعة شقحب المشهورة وحصل للناس شدة عظيمة وظهر فيها من كرامات الشيخ وإجابة دعائه وعظيم جهاده وقوة إيمانه وشدة نصحه للإسلام وفرط شجاعته ونهاية كرمه وغير ذلك من صفاته ما يفوق النعت ويتجاوز الوصف
ولقد قرأت بخط بعض أصحابه وقد ذكر هذه الواقعة وكثرة من حضرها من جيوش المسلمين قال
واتفقت كلمة إجماعهم على تعظيم الشيخ تقي الدين ومحبته وسماع كلامه ونصيحته واتعظوا بمواعظه وسأله بعضهم مسائل في أمر الدين ولم يبق من ملوك الشأم تركي ولا عربي إلا واجتمع بالشيخ في تلك المدة واعتقد خيره وصلاحه ونصحه لله ولرسوله وللمؤمنين
قال ثم ساق الله سبحانه جيش الإسلام العرمرم الممصري صحبة أمير المؤمنين والسلطان الملك الناصر وولاة الأمر وزعماء الجيش وعظماء المملكة والأمراء المصريين عن آخرهم بجيوش الإسلام سوقا حثيثا للقاء التتار المخذولين فاجتمع الشيخ المذكور بالخليفة والسلطان وأرباب الحل والعقد وأعيان الأمراء عن آخرهم وكلهم بمرج الصفر قبلي دمشق المحروسة وبينهم وبين التتار أقل من مقدار ثلاث ساعات مسافة ودار بين الشيخ المذكور وبينهم ما دار بين الشاميين وبينه وكان بينهم ومعهم كأحد أعيانهم واتفق له من اجتماعهم ما لم يتفق لأحد قبله من أبناء جنسه حيث اجتمعوا بجملتهم في مكان واحد في يوم واحد على أمر جامع لهم وله مهم عظيم يحتاجون فيه إلى سماع كلامه هذا توفيق عظيم كان من الله تعالى له لم يتفق لمثله
وبقي الشيخ المذكور رضي الله عنه هو وأخوه وأصحابه ومن معه من الغزاة قائما بظهوره وجهاده ولأمة حربه يوصي الناس بالثبات ويعدهم بالنصر ويبشرهم بالغنيمة والفوز بإحدى الحسنيين إلى أن صدق الله وعده وأعز جنده وهزم التتار وحده ونصر المؤمنين وهزم الجمع وولوا الدبر وكانت كلمة الله هي العليا وكلمة الكفار هي السفلى وقطع دابر القوم الكفار والحمد لله رب العالمين
ودخل جيش الإسلام المنصور إلى دمشق المحروسة والشيخ في أصحابه شاكيا في سلاحه داخلا معهم عالية كلمته قائمة حجته ظاهرة ولايته مقبولة شفاعته مجابة دعوته ملتمسة بركته مكرما معظما ذا سلطان وكلمة نافذة وهو مع ذلك يقول للمداحين له أنا رجل ملة لا رجل دولة
شجاعة الشيخ وبأسه عند قتال الكفار
ولقد أخبرني حاجب من الحجاب الشاميين أمير من أمرائهم ذو دين متين وصدق لهجة معروف في الدولة قال
قال لي الشيخ يوم اللقاء ونحن بمرج الصفر وقد تراءى الجمعان يا فلان أوقفني موقف الموت
قال فسقته إلى مقابلة العدو وهم منحدرون كالسيل تلوح أسلحتهم من تحت الغبار المنعقد عليهم
ثم قلت له يا سيدي هذا موقف الموت وهذا العدو قد أقبل تحت هذه الغبرة المنعقدة فدونك وما تريد
قال فرفع طرفه إلى السماء وأشخص بصره وحرك شفتيه طويلا ثم انبعث وأقدم على القتال وأما أنا فخيل إلي أنه دعا عليهم وأن دعاءه استجيب منه في تلك الساعة
قال ثم حال القتال بيننا والالتحام وما عدت رأيته حتى فتح الله ونصر وانحاز التتار إلى جبل صغير عصموا نفوسهم به من سيوف المسلمين تلك الساعة وكان آخر النهار
قال وإذا أنا بالشيخ وأخيه يصيحان بأعلى صوتيهما تحريضا على القتال وتخويفا للناس من الفرار
فقلت يا سيدي لك البشارة بالنصر فإنه قد فتح الله ونصر وها هم التتار محصورون بهذا السفح وفي غد إن شاء الله تعالى يؤخذون عن آخرهم
قال فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو أهله ودعا لي في ذلك الموطن دعاء وجدت بركته في ذلك الوقت وبعده
هذا كلام الأمير الحاجب
قال ثم لم يزل الشيخ بعد ذلك على زيادة في الحال والقال والجاه والتحقيق في العلم والعرفان حتى حرك الله سبحانه عزمات نفوس ولاة الأمر لقتال أهل جبل كسروان وهم الذين بغوا وخرجوا على الإمام وأخافوا السبل وعارضوا المارين بهم من الجيش بكل سوء
فقام الشيخ في ذلك اتم قيام وكتب إلى أطراف الشأم في الحث على قتال المذكورين وأنها غزاة في سبيل الله
ثم تجهز هو بمن معه لغزوهم بالجبل صحبه ولي الأمر نائب المملكة المعظمة أعز الله نصره والجيوش الشآمية المنصورة وما زال مع ولي الأمر في حصارهم وقتالهم حتى فتح الله الجبل وأجلى أهله وكان من أصعب الجبال وأشقها ساحة وكانت الملوك المتقدمة لا تقدم على حصاره مع علمها بما عليه أهله من البغي والخروج على الإمام والعصيان وليس إلا لصعوبة المسلك ومشقة النزول عليهم
وكذلك لما حاصرهم بيدرا بالجيش رحل عنهم ولم ينل منهم منالا لذلك السبب ولغيره وذلك عقيب فتح قلعة الروم ففتحه الله على يدي ولي الأمر نائب الشام المحروس أعز الله نصره
وكان فتحه أحد المكرمات والكرامات المعدودة للشيخ لسببين على ما يقوله الناس
أحدهما لكون أهل هذا الجبل بغاة رافضة سبابة تعين قتالهم
والثاني لأن جبل الصالحية لما استولت الرافضة عليه في حال استيلاء الطاغية قازان أشار بعض كبرائهم بنهب الجبل وسبي أهله وقتلهم وتحريق مساكنهم انتقاما منهم لكونهم سنية وسماهم ذلك المشير نواصب فكان ما كان من أمر جبل الصالحية بذلك القول وتلك الإشارة
قالوا فكوفىء الرافضة بمثل ذلك بإشارة كبير من كبراء أهل السنة وزنا يوزن جزاء على يد ولي الأمر وجيوش الإسلام
والمشير المذكور هو الشيخ المشار إليه
ولما فتح الجبل وصار الجيش بعد الفتح إلى دمشق المحروسة عكف خاص الناس وعامهم على الشيخ بالزيارة والتسليم عليه والتهنئة بسلامته والمسألة له منهم عن كيفية الحصار للجبل وصورة قتال أهله وعما وقع بينهم وبين الجيوش من المراسلات وغيرها فحكى بحث للشيخ مع أحد الرافضة في عصمة غير الأنبياء
وحكى أيضا أنه تجادل مع كبير من كبراء أهل جبل كسروان له اطلاع على مذهب الرافضة
قال وكان الجدل والبحث في عصمة الإمام وعدم عصمته وفي أن أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه معصوم من الصغائر والكبائر في كل قول وفعل وهذه دعوى الجليلي وأن الشيخ حاجه في أن العصمة لم تثبت إلا للأنبياء عليهم السلام
قال وإنني قلت له إن عليا وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما اختلفا في مسائل وقعت وفتاوى أفتى بها كل منهما وأن تلك الفتاوى والمسائل عرضت على النبي فصوب فيها قول ابن مسعود رضي الله عنه
هذا معنى كلام الشيخ في حديثه عن المجادلة مع الرافضي الجيلي وإن اختلفت العبارة. انتهى ما ذكره
وكان توجه الشيخ تقي الدين رضي الله عنه إلى الكروانيين في مستهل ذي الحجة من سنة أربع وسبعمائة وصحبته الأمير قراقوش
وتوجه نائب السلطنة الأمير جمال الدين الأفرم بمن تأخر من عسكر دمشق إليهم لغزوهم واستئصالهم في ثاني شهر المحرم من سنة خمس وسبعمائة وكان قد توجه قبله العسكر طائفة بعد طائفة في ذي الحجة
وفي يوم الخميس سابع عشر وصل النائب والعسكر معه إلى دمشق بعد أن نصرهم الله تعالى على حزب الضلال من الروافض والنصيرية وأصحاب العقائد الفاسدة وأبادهم الله من تلك الأرض والحمد لله رب العالمين
رسالة الشيخ إلى السلطان الملك الناصر
ثم إن الشيخ رحمه الله بعد وقعة جبل كسروان أرسل رسالة إلى السلطان الملك الناصر يذكر فيها ما أنعم الله علىالسلطان وعلى أهل الإسلام بسبب فتوح الجبل المذكور وهي هذه
بسم الله الرحمن الرحيم
من الداعي أحمد بن تيمية إلى سلطان المسلمين ومن أيد الله في دولته الدين أو عز بها عباده المؤمنين وقمع فيها الكفار والمنافقين والخوارج المارقين نصره الله ونصر به الإسلام وأصلح له وبه أمور الخاص والعام وأحيى به معالم الإيمان وأقام به شرائع القرآن وأذل به أهل الكفر والفسوق والعصيان
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو وهو للحمد أهل وهو على كل شيء قدير ونسأله أن يصلى على خاتم النبيين وإمام المتقين محمد عبده ورسوله وعلى آله وسلم تسليما
أما بعد فقد صدق الله وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده وأنعم الله على السلطان وعلى المؤمنين في دولته نعما لم تعهد في القرون الخالية وجدد الإسلام في أيامه تجديدا بانت فضيلته على الدول الماضية وتحقق في ولايته خبر الصادق المصدوق أفضل الأولين والآخرين الذي أخبر فيه عن تجديد الدين في رءوس المئين والله تعالى يوزعه والمسلمين شكر هذه النعم العظيمة في الدنيا والدين ويتمها بتمام النصر على سائر الأعداء المارقين
وذلك أن السلطان أتم الله نعمته حصل للأمة بيمن ولايته وحسن نيته وصحة إسلامه وعقيدته وبركة إيمانه ومعرفته وفضل همته وشجاعته وثمرة تعظيمه للدين وشرعته ونتيجة اتباعه لكتاب الله وحكمته ما هو شبيه بما كان يجري في أيام الخلفاء الراشدين وما كان يقصده أكابر الأئمة العادلين من جهاد أعداء الله المارقين من الدين وهم صنفان
أهل الفجور والطغيان وذوو الغي والعدوان الخارجون عن شرائع الإيمان طلبا للعلو في الأرض والفساد وتركا لسبيل الهدى والرشاد وهؤلاء هم التتار ونحوهم من كل خارج عن شرائع الإسلام وإن تمسك بالشهادتين أو ببعض سياسة الإسلام
والصنف الثاني أهل البدع المارقون وذوو الضلال المنافقون الخارجون عن السنة والجماعة المفارقون للشرعة والطاعة مثل هؤلاء الذين غزوا بأمر السلطان من أهل الجبل والجرد والكسروان فإن ما من الله به من الفتح والنصر على هؤلاء الطغام هو من عزائم الأمور التي أنعم الله بها على السلطان وأهل الإسلام
وذلك أن هؤلاء وجنسهم من أكابر المفسدين في أمر الدنيا والدين
فإن اعتقادهم أن أبا بكر وعمر وعثمان وأهل بدر وبيعة الرضوان وجمهور المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان وأئمة الإسلام وعلماءهم أهل المذاهب الأربعة وغيرهم ومشايخ الإسلام وعبادهم وملوك المسلمين وأجنادهم وعوام المسلمين وأفرادهم كل هؤلاء عندهم كفار مرتدون أكفر من اليهود والنصارى لأنهم مرتدون عندهم والمرتد شر من الكافر الأصلي ولهذا السبب يقدمون الفرنج والتتار على أهل القرآن والإيمان
ولهذا لما قدم التتار إلى البلاد وفعلوا بعسكر المسلمين مالا يحصى من الفساد وأرسلوا إلى أهل قبرص فملكوا بعض الساحل وحملوا راية الصليب وحملو إلى قبرص من خيل المسلمين وسلاحهم وأسراهم مالا يحصى عدده إلا الله وأقام سوقهم بالساحل عشرين يوما يبيعون فيه المسلمين والخيل والسلاح على أهل قبرص وفرحوا بمجيء التتار هم وسائر أهل هذا المذهب الملعون مثل أهل جزين وما حواليها وجبل عامل ونواحيه
ولما خرجت العساكر الإسلامية من الديار المصرية ظهر فيهم من الخزي والنكال ما عرفه الناس منهم ولما نصر الله الإسلام النصرة العظمى عند قدوم السلطان كان بينهم شبيه بالعزاء
كل هذا وأعظم منه عند هذه الطائفة التي كانت من أعظم الأسباب في خروج جنكسخان إلى بلاد الإسلام وفي استيلاء هولاكو على بغداد وفي قدومه إلى حلب وفي نهب الصالحية وفي غير ذلك من أنواع العداوة للإسلام وأهله
لان عندهم أن كل من لم يوافقهم على ضلالهم فهو كافر مرتد ومن استحل الفقاع فهو كافر ومن مسح على الخفين فهو عندهم كافر ومن حرم المتعة فهو عندهم كافر ومن أحب أبا بكر أو عمر أو عثمان أو ترضى عنهم أو عن جماهير الصحابة فهو عندهم كافر ومن لم يؤمن بمنتظرهم فهو عندهم كافر
وهذا المنتظر صبي عمره سنتان أو ثلاث أو خمس يزعمون أنه دخل السرداب بسامرا من أكثر من أربعمائة سنة وهو يعلم كل شيء وهو حجة الله على أهل الأرض فمن لم يؤمن به فهو عندهم كافر وهو شيء لا حقيقة له ولم يكن هذا في الوجود قط
وعندهم من قال إن الله يرى في الآخرة فهو كافر ومن قال إن الله تكلم بالقرآن حقيقة فهو كافر ومن قال إن الله فوق السموات فهو كافر ومن آمن بالقضاء والقدر وقال إن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء وأن الله يقلب قلوب عباده وأن الله خالق كل شيء فهو عندهم كافر وعندهم أن من آمن بحقيقة أسماء الله وصفاته التي أخبر بها في كتابه وعلى لسان رسوله فهو عندهم كافر
هذا هو المذهب الذي تلقنه لهم أئمتهم مثل بني العود فإنهم شيوخ أهل هذا الجبل وهم الذين كانوا يأمرونهم بقتال المسلمين ويفتونهم بهذه الأمور
وقد حصل بأيدي المسلمين طائفة من كتبهم تصنيف ابن العود وغيره وفيها هذا وأعظم منه وهم اعترفوا لنا بأنهم الذين علموهم وأمروهم لكنهم مع هذا يظهرون التقية والنفاق ويتقربون ببذل الأموال إلى من يقبلها منهم وهكذا كان عادة هؤلاء الجبلية فإنما أقاموا بجبلهم لما كانوا يظهرونه من النفاق ويبذلونه من البر طيل لمن يقصدهم
والمكان الذي لهم في غاية الصعوبة ذكر أهل الخبرة أنهم لم يروا مثله ولهذا كثر فسادهم فقتلوا من النفوس وأخذوا من الأموال مالا يعلمه إلا الله
ولقد كان جيرانهم من أهل البقاع وغيرها معهم في أمر لا يضبط شره كل ليلة تنزل عليهم منهم طائفة ويفعلون من الفساد مالا يحصيه إلا رب العباد كانوا في قطع الطرقات وإخافة سكان البيوتات على أقبح سيرة عرفت من أهل الجنايات يرد إليهم النصارى من أهل قبرص فيضيفونهم ويعطونهم سلاح المسلمين ويقعون بالرجل الصالح من المسلمين فإما أن يقتلوه أو يسلبوه وقليل منهم من يفلت منهم بالحيلة
فأعان الله ويسر بحسن نية السلطان وهمته في إقامة شرائع الإسلام وعنايته بجهاد المارقين أن غزوا غزوة شرعية كما أمر الله ورسوله بعد أن كشفت أحوالهم وأزيحت عللهم وأزيلت شبههم وبذل لهم من العدل والإنصاف ما لم يكونوا يطمعون به وبين لهم أن غزوهم اقتداء بسيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قتال الحرورية المارقين الذين تواتر عن النبي الأمر بقتالهم ونعت حالهم من وجوه متعددة أخرج منها أصحاب الصحيح عشرة أوجه من حديث علي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وسهل بن حنيف وأبي ذر الغفاري ورافع بن عمرو وغيرهم من أصحاب النبي
قال فيهم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لاتكلوا عن العمل يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان يقرأون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم شر قتلى تحت أديم السماء خير قتلى من قتلوه
وأول ما خرج هؤلاء زمن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وكان لهم من الصلاة والصيام والقراءة والعبادة والزهادة ما لم يكن لعموم الصحابة لكن كانوا خارجين عن سنة رسول الله ﷺ وعن جماعة المسلمين وقتلوا من المسلمين رجلا اسمه عبد الله بن خباب وأغاروا على دواب للمسلمين
وهؤلاء القوم كانوا أقل صلاة وصياما ولم نجد في جبلهم مصحفا ولا فيهم قارئا للقرآن وإنما عندهم عقائدهم التي خالفوا فيها الكتاب والسنة وأباحوا بها دماء المسلمين وهم مع هذا فقد سفكوا من الدماء وأخذوا من الأموال ما لا يحصى عدده إلا الله تعالى
فإذا كان علي بن أبي طالب قد أباح لعسكره أن ينهبوا ما في عسكر الخوارج مع أنه قتلهم جميعهم كان هؤلاء أحق بأخذ أموالهم وليس هؤلاء بمنزلة المتأولين الذين نادى فيهم علي بن أبي طالب يوم الجمل إنه لا يقتل مدبرهم ولا يجهز على جريحهم ولا يغم لهم مالا ولا يسبى لهم ذرية لأن مثل أولئك لهم تأويل سائغ وهؤلاء ليس لهم تأويل سائغ ومثل أولئك إنما يكونون خارجين عن طاعة الإمام وهؤلاء خرجوا عن شريعة رسول الله وسنته وهم شر من التتار من وجوه متعددة لكن التتر أكثر وأقوى فلذلك يظهر كثرة شرهم
وكثير من فساد التتر هو لمخالطة هؤلاء لهم كما كان في زمن قازان وهولاكو وغيرهما فإنهم أخذوا من أموال المسلمين أضعاف ما أخذوا من أموالهم وأرضهم فيء لبيت المال
وقد قال كثير من السلف إن الرافضة لا حق لهم من الفيء لأن الله إنما جعل الفيء للمهاجرن والأنصار والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم فمن لم يكن قلبه سليما لهم ولسانه مستغفرا لهم لم يكن من هؤلاء
وقطعت أشجارهم لأن النبي لما حاصر بني النضير قطع أصحابه نخلهم وحرقوه فقال اليهود هذا فساد وأنت يا محمد تنهى عن الفساد فأنزل الله ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين
وقد اتفق العلماء على جواز قطع الشجر وتخريب العامر عند الحاجة إليه فليس ذلك بأولى من قتل النفوس وما أمكن غير ذلك
فإن القوم لم يحضروا كلهم من الأماكن التي اختفوا فيها وأيسوا من المقام في الجبل إلا حين قطعت الأشجار وإلا كانوا يختفون حيث لا يمكن العلم بهم وما أمكن أن يسكن الجبل غيرهم لأن التركمان إنما قصدهم الرعى وقد صار لهم مرعى وسائر الفلاحين لا يتركوا عمارة أرضهم ويجيئون إليه
فالحمد لله الذي يسر هذا الفتح في دولة السلطان بهمته وعزمه وأمره وإخلاء الجبل منهم وإخراجهم من ديارهم
وهم يشبهون ما ذكره الله في قوله هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين
وأيضا فإنه بهذا قد انكسر من أهل البدع والنفاق بالشأم ومصر والحجاز واليمن والعراق ما يرفع الله به درجات السلطان ويعز به أهل الإيمان
فصل
تمام هذا الفتح وبركته تقدم مراسم السلطان بحسم مادة أهل الفساد وإقامة الشريعة في البلاد فإن هؤلاء القوم لهم من المشايخ والإخوان في قرى كثيرة من يقتدون بهم وينتصرون لهم وفي قلوبهم غل عظيم وإبطان معاداة شديدة لا يؤمنون معها على ما يمكنهم ولو أنه مباطنة العدو فإذا أمسك رؤوسهم الذين يضلونهم مثل بني العود زال بذلك من الشر ما لا يعلمه إلا الله
ويتقدم إلى قراهم وهي قرى متعددة بأعمال دمشق وصفد وطرابلس وحماة وحمص وحلب بأن يقام فيهم شرائع الإسلام والجمعة والجماعة وقراءة القرآن ويكون لهم خطباء ومؤذنون كسائر قرى المسلمين وتقرأ فيهم الأحاديث النبوية وتنشر فيهم المعالم الإسلامية ويعاقب من عرف منهم بالبدعة والنفاق بما توجبه شريعة الإسلام
فإن هؤلاء المحاربين وأمثالهم قالوا نحن قوم جبال وهؤلاء كانوا يعلموننا ويقولون لنا أنتم إذا قاتلتم هؤلاء تكونون مجاهدين ومن قتل منكم فهو شهيد
وفي هؤلاء خلق كثير لا يقرون بصلاة ولا صيام ولا حج ولا عمرة ولا يحرمون الميتة والدم ولحم الخنزير ولا يؤمنون بالجنة والنار من جنس الإسماعيلية والنصيرية والحاكمية والباطنية وهم كفار أكفر من اليهود والنصارى بإجماع المسلمين
فتقدم المارسيم السلطانية بإقامة شعائر الإسلام من الجمعة والجماعة وقراءة القرآن وتبليغ أحاديث النبي في قرى هؤلاء من أعظم المصالح الإسلامية وأبلغ الجهاد في سبيل الله
وذلك سبب لانقماع من يباطن العدو من هؤلاء ودخولهم في طاعة الله ورسوله وطاعة أولي الأمر من المسلمين
وهو من الأسباب التي يعين الله بها على قمع الأعداء
فان ما فعلوه بالمسلمين في أرض سيس نوع من غدرهم الذي به ينصر الله المسلمين عليهم وفي ذلك لله حكمة عظيمة ونصرة للإسلام جسيمة
قال ابن عباس ما نقض قوم العهد إلا أديل عليهم العدو
ولولا هذا وأمثاله ما حصل للمسلمين من العزم بقوة الإيمان وللعدو من الخذلان ما ينصر الله به المؤمنين ويذل به الكفار والمنافقين
والله هو المسئول أن يتم نعمته على سلطان الإسلام خاصة وعلى عباده المؤمنين عامة
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
عنوان الكتاب ظاهره
سلطان المسلمين ومن أيد الله في دولته الدين وقمع الكفار والمنافقين أيد الله به الإسلام ونشر عدله في الأنام