العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية/19
قيام جماعة من الغوغاء على الشيخ بجامع مصر وضربه وقيام أهل الحسينية وغيرهم انتصارا للشيخ ثم صفحه هو عمن آذوه
فلما كان في رابع شهر رجب من سنة إحدى عشرة وسبعمائة جاء رجل فيما بلغني إلى أخيه الشيخ شرف الدين وهو في مسكنه بالقاهرة فقال له إن جماعة بجامع مصر قد تعصبوا على الشيخ وتفردوا به وضربوه
فقال حسبنا الله ونعم الوكيل وكان بعض أصحاب الشيخ جالسا عند شرف الدين قال فقمت من عنده وجئت إلى مصر فوجدت خلقا كثيرا من الحسينية وغيرها رجالا وفرسانا يسألون عن الشيخ فجئت فوجدته بمسجد الفخر كاتب المماليك على البحر واجتمع عنده جماعة وتتابع الناس وقال له بعضهم يا سيدي قد جاء خلق من الحسينية ولو أمرتهم أن يهدموا مصر كلها لفعلوا
فقال لهم الشيخ لأي شيء قال لأجلك
فقال لهم هذا ما يحق
فقالوا نحن نذهب إلى بيوت هؤلاء الذين آذوك فنقتلهم ونخرب دورهم فإنهم شوشوا على الخلق وأثاروا هذه الفتنة على الناس فقال لهم هذا ما يحل قالوا فهذا الذي قد فعلوه معك يحل هذا شيء لا نصبر عليه ولا بد أن نروح إليهم ونقاتلهم على ما فعلوا
والشيخ ينهاهم ويزجرهم
فلما أكثروا في القول قال لهم إما أن يكون الحق لي أو لكم أو لله فإن كان الحق لي فهم في حل منه وإن كان لكم فإن لم تسمعوا مني ولا تستفتوني فافعلوا ما شئتم وإن كان الحق لله فالله يأخذ حقه إن شاء كما يشاء
قالوا فهذا الذي فعلوه معك هو حلال لهم
قال هذا الذي فعلوه قد يكونون مثابين عليه مأجورين فيه
قالوا فتكون أنت على الباطل وهم على الحق فإذا كنت تقول إنهم مأجورين فاسمع منهم ووافقهم على قولهم
فقال لهم ما الأمر كما تزعمون فإنهم قد يكونون مجتهدين مخطئين ففعلوا ذلك باجتهادهم والمجتهد المخطىء له أجر
فلما قال لهم ذلك قالوا فقم واركب معنا حتى نجيء إلى القاهرة
فقال لا وسأل عن وقت العصر فقيل له إنه قريب فقام قاصدا إلى الجامع لصلاة العصر
فقيل له يا سيدي قد تواصوا عليك ليقتلوك وفي الجامع قد يتمكنون منك بخلاف غيره فصل حيث كان فأبى إلا المضي إلى الجامع والصلاة فيه
فخرج وتبعه خلق كثير لا يرجعون عنه فضاقت الطريق بالناس
فقال له من كان قريبا منه ادخل إلى هذا المسجد مسجد في الطريق واقعد فيه حتى يخف الناس لئلا يموت أحد من الزحام
فدخل ولم يجلس فيه ووقف وأنا معه فلما خف الناس خرج يطلب الجامع العتيق فمر في طريقه على قوم يلعبون بالشطرنج على مسطبة بعض حوانيت الحدادين فنفض الرقعة وقلبها فبهت الذي يلعب بها والناس من فعله ذلك
ثم مشى قاصدا للجامع والناس يقولون هنا يقتلونه الساعة يقتلونه
فلما وصل إلى الجامع قيل الساعة يغلق الجامع عليه وعلى أصحابه ويقتلون
فدخل الجامع ودخلنا معه فصلى ركعتين فلما سلم منها أذن المؤذن بالعصر فصلى العصر ثم افتتح بقراءة الحمد لله رب العالمين ثم تكلم في المسألة التي كانت الفتنة بسببها إلى أذان المغرب
فخرج أتباع خصومه وهم يقولون والله لقد كنا غالطين في هذا الرجل لقيامنا عليه والله إن الذي يقوله هذا هو الحق ولو تكلم هذا بغير الحق لم نمهله إلى أن يسكت بل كنا نبادر إلى قتله ولو كان هذا يبطن خلاف ما يظهر لم يخف علينا وصاروا فرقتين يخاصم بعضهم بعضا
قال ورحنا مع الشيخ إلى بيت ابن عمه على البحر فبتنا عنده
واقعة أخرى في أذى الشيخ بمصر
وقال الشيخ علم الدين وفي العشر الأوسط من رجب من سنة إحدى عشرة وسبعمائة وقع أذى في حق الشيخ تقي الدين بمصر وظفر به بعض المبغضين له في مكان خال وأساء عليه الأدب وحضر جماعة كثيرة من الجند وغيرهم إلى الشيخ بعد ذلك لأجل الانتصار له فلم يجب إلى ذلك
وكتب إلي المقاتلي يذكر أن ذلك وقع من فقيه بمصر يعرف بالمبدي حصل منه إساءة أدب ثم بعد ذلك طلب وتودد وشفع فيه جماعة الشيخ ما تكلم ولا اشتكى ولو حصل من شكوى أهين ذلك غاية الإهانة لكن قال أنا ما أنتصر لنفسي
وأقام الشيخ بعد هذا مدة بالديار المصرية
خروج الشيخ إلى الشام مع الجيش المصري
ثم إنه توجه إلى الشأم صحبة الجيش المصري قاصدا الغزاة
فلما وصل معهم إلى عسقلان توجه إلى بيت المقدس وتوجه منه إلى دمشق وجعل طريقه على عجلون وبعض بلاد السواد وزرع ووصل إلى دمشق في أول يوم من شهر ذي القعدة سنة اثنتي عشرة وسبعمائة ومعه أخواه وجماعة من أصحابه وخرج خلق كثير لتلقيه وسروا سرورا عظيما بمقدمه وسلامته وعافيته
وكان مجموغ غيبته عن دمشق سبع سنين وسبع جمع
وقد توفي في أثناء غيبة الشيخ عن دمشق غير واحد من كبار أصحابه وساداتهم