العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية/20
ترجمة الشيخ عماد الدين ابن شيخ الحزاميين
منهم الشيخ الإمام القدوة الزاهد العارف عماد الدين أبو العباس أحمد بن ابراهيم بن عبد الرحمن الواسطي المعروف بابن شيخ الحزاميين توفي يوم السبت السادس والعشرين من شهر ربيع الآخر من سنة إحدى عشرة وسبعمائة
وكان رجلا صالحا ورعا كبير الشأن منقطعا إلى الله متوفرا على العبادة والسلوك
وكان قد كتب رسالة وبعثها إلى جماعة من أصحاب الشيخ وأوصاهم فيها بملازمة الشيخ والحث على اتباع طريقته وأثنى فيها على الشيخ ثناء عظيما
وهذه نسخة الرسالة التي كتبها
كتاب نفيس جدا للشيخ عماد الدين في الثناء على الشيخ ابن تيمية والوصاية به
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسبحان الله وبحمده تقدس في علوه وجلاله وتعالى في صفات كماله وتعاظم في سبحات فردانيته وجماله وتكرم في إفضاله وجمال نواله جل أن يمثل بشيء من مخلوقاته أو يحاط به بل هو المحيط بمبتدعاته لا تصوره الأوهام ولا تقله الأجرام ولا يعقل كنه ذاته البصائر ولا الأفهام
الحمد لله مؤيد الحق وناصره ودافع الباطل وكاسره ومعز الطائع وجابره ومذل الباغي وداثره الذي سعد بحظوة الاقتراب من قدسه من قام بأعباء الاتباع في بنانه وأسه وفاز بمحبوبيته في ميادين أنسه من بذل مايهواه في طلبه من قلبه وحسه وتثبت في مهامه الشكوك منتظرا زوال لبسه سبحانه وبحمده له المثل الأعلى والنور الأتم الأجلى والبرهان الظاهر في الشريعة المثلى
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي شهدت لوحدانيته الفطر وأسلم لربوبيته ذو العقل والنظر وظهرت أحكامه في الآي والسور وتم اقتداره في تنزل القدر
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي شهدت بنبوته الهواتف والأحبار فكان قبل ظهوره ينتظر وتلاحقت عند مبعثه معجزاته من حنين الجذع وانقياد الشجر صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل الخشية والحذر والعلم المنور فهم قدوة التابع للأثر
وبعد فهذه رسالة سطرها العبد الضعيف الراجي رحمة ربه وغفرانه وكرمه وامتنانه أحمد بن ابراهيم الواسطي عامله الله بما هو أهله فإنه أهل التقوى وأهل المغفرة
إلى إخوانه في الله السادة العلماء والأئمة الأتقياء ذوي العلم النافع والقلب الخاشع والنور الساطع الذين كساهم الله كسوة الاتباع وأرجو من كرمه أن يحققهم بحقائق الانتفاع
السيد الأجل العالم الفاضل فخر المحدثين ومصباح المتعبدين المتوجه إلى رب العالمين تقي الدين أبي حفص عمر بن عبد الله بن عبد الأحد بن شقير
والشيخ الأجل العالم الفاضل السالك الناسك ذي العلم والعمل المكتسى من الصفات الحميدة أجمل الحلل الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الأحد الآمدي
والسيد الأخ العالم الفاضل السالك الناسك التقي الصالح الذي سيماء نور قلبه لائح على صفحات وجهه شرف الدين محمد بن المنجى
والسيد الأخ الفقيه العالم النبيل الفاضل فخر المحصلين زين الدين عبد الرحمن بن محمود بن عبيدان البعلبكي
والسيد الأخ العالم الفاضل السالك الناسك ذي اللب الراجح والعمل الصالح والسكينة الوافرة والفضيلة الغامرة نور الدين محمد بن محمد بن محمد بن الصائغ
وأخيه السيد الأخ العالم التقي الصالح الخير الدين العالم الثقة الأمين الراجح ذي السمت الحسن والدين المتين في اتباع السنن فخر الدين محمد
والأخ العزيز الصالح الطالب لطريق ربه والراغب في مرضاته وحبه العالم الفاضل الولد شرف الدين محمد بن سعد الدين سعد الله ابن نجيح
وغيرهم من اللائذين بحضرة شيخهم وشيخنا السيد الإمام الأمة الهمام محيي السنة وقامع البدعة ناصر الحديث مفتي الفرق الفائق عن الحقائق وموصلها بالأصول الشرعية للطالب الذائق الجامع بين الظاهر والباطن فهو يقضي بالحق ظاهرا وقلبه في العلى قاطن أنموذج الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين الذين غابت عن القلوب سيرهم ونسيت الأمة حذوهم وسبلهم فذكرهم بها الشيخ فكان في دارس نهجهم سالكا ولموات حذوهم محييا ولأعنة قواعدهم مالكا الشيخ الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحيم بن عبد السلام ابن تيمية أعاد الله علينا بركته ورفع إلى مدارج العلى درجته وأدام توفيق السادة المبدو بذكرهم وتسديدهم وأجزل لهم حظهم ومزيدهم
السلام عليكم معشر الإخوان ورحمة الله وبركاته جعلنا الله وإياكم ممن ثبت على قرع نوائب الحق جأشه واحتسب لله ما بذله من نفسه في إقامة دينه وما احتوشته من ذلك وحاشه واحتذى حذو السبق الأولين من المهاجرين والأنصار والذين لم تأخذهم في الله لومة لائم
فما ضرهم من خذلهم ولا من خالفهم مع قلة عددهم في أول الأمر فكانوا مع ذلك كل منهم مجاهد بدين الله قائم ونرجو من كرم الله تعالى أن يوفقنا لأعمالهم ويرزق قلوبنا قسطا من أحوالهم وينظمنا في سلكهم تحت سجفتهم ولوائهم مع قائدهم وإمامهم سيد المرسلين وإمام المتقين محمد صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين
أذكركم رحمكم الله بما أنتم به عالمون عملا بقوله تعالى وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين
وأبدأ من ذلك بأن أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله وهي وصية الله تعالى إلينا وإلى الأمم من قبلنا كما بين سبحانه وتعالى قائلا وموصيا ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله
وقد علمتم تفاصيل التقوى على الجوارح والقلوب بحسب الأوقات والأحوال من الأقوال والأعمال والإرادات والنيات
وينبغي لنا جميعا أن لا نقنع من الأعمال بصورها حتى نطالب قلوبنا بين يدي الله تعالى بحقائقها ومع ذلك فلتكن لنا همة علوية تترامى إلى أوطان القرب ونفحات المحبوبية والحب فالسعيد من حظي من ذلك بنصيب وكان مولاه منه على سائر الأحوال قريبا بخصوص التقريب منه فيكتسى العبد من ذلك ثمرة الخشية والتعظيم للعزيز العظيم فالحب والخشية ثابتان في الكتاب العزيز والسنة المأثورة قال تعالى يحبهم ويحبونه والذين آمنوا أشد حبا لله وقال تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء وفي الحديث أسألك حبك وحب من أحبك وحب عمل يقربني إلى حبك وفي الحديث لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله
ومعلوم أن الناس يتفاوتون في مقامات الحب والخشية في مقام أعلى من مقام ونصيب أرفع من نصيب فلتكن همة أحدنا من مقامات الحب والخشية أعلاه ولا يقنع إلا بذروته وذراه فالهمم القصيرة تقنع بأيسر نصيب والهمم العلية تعلو مع الأنفاس إلى قريب الحبيب لا يشغلنا عن ذلك ما هو دونه من الفضائل والعاقل لا يقنع بأمر مفضول عن حال فاضل ولتكن الهمة منقسمة على نيل المراتب الظاهرة وتحصيل المقامات الباطنة فليس من الإنصاف الانصباب إلى الظواهر والتشاغل عن المطالب العلوية ذوات الأنوار البواهر
وليكن لنا جميعا بين الليل والنهار ساعة نخلو فيها بربنا جل اسمه وتعالى قدسه نجمع بين يديه في تلك الساعة همومنا ونطرح أشغال الدنيا من قلوبنا فنزهد فيما سوى الله ساعة من نهار فبذلك يعرف الإنسان حاله مع ربه فمن كان له مع ربه حال تحركت في تلك الساعة عزائمه وابتهجت بالمحبة والتعظيم سرائره وطارت إلى العلى زفراته وكوامنه وتلك الساعة أنموذج لحالة العبد في قبره حين خلوه عن ماله وحبه فمن لم يخل قلبه لله ساعة من نهار لما احتوشه من الهموم الدنيوية وذوات الآصار فليعلم أنه ليس له ثم رابطة علوية ولا نصيب من المحبة ولا المحبوبية فليبك على نفسه ولا يرضى منها إلا بنصيب من قرب ربه وأنسه
فإذا حصلت لله تلك الساعة أمكن إيقاع الصلوات الخمس على نمطها من الحضور والخشوع والهيبة للرب العظيم في السجود والركوع
فلا ينبغي لنا أن نبخل على أنفسنا في اليوم والليلة من أربع وعشرين ساعة بساعة واحدة لله الواحد القهار نعبده فيها حق عبادته ثم نجتهد على إيقاع الفرائض على ذلك النهج في رعايته وذلك طريق لنا جميعا إن شاء الله تعالى إلى النفوذ فالفقيه إذا لم ينفذ في علمه حصل له الشطر الظاهر وفاته الشطر الباطن لإتصاف قلبه بالجمود وبعده في العباد والتلاوة عن لين القلوب والجلود كما قال تعالى تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله وبذلك يرتقي الفقيه عن فقهاء عصرنا ويتميز به عنهم فالنافذ من الفقهاء له البصيرة المنورة والذوق الصحيح والفراسة الصادقة والمعرفة التامة والشهادة على غيره بصحيح الأعمال وسقيمها ومن لم ينفذ لم تكن له هذه الخصوصية وأبصر بعض الأشياء وغاب عنه بعضها
فيتعين علينا جميعا طلب النفوذ إلى حضرة قرب المعبود ولقائه بذوق الإيقان لنعبده كأننا نراه كما جاء في الحديث
وبعد ذلك الحظوة في هذه الدار بلقاء رسول الله غيبا في غيب وسرا في سر بالعكوف على معرفة أيامه وسننه واتباعها فتبقى البصيرة شاخصة إليه تراه عيانا في الغيب كأنها معه وفي أيامه فيجاهد على دينه ويبذل ما استطاع من نفسه في نصرته
وكذلك من سلك في طريق النفوذ يرجى له أن يلقى ربه بقلبه غيبا في غيب وسرا في سر فيرزق القلب قسطا من المحبة والخشية والتعظيم اليقيني فيرى الحقائق بقلبه من وراء ستر رقيق وذلك هو المعبر عنه بالنفوذ ويصل إلى قلبه من وراء ذلك الستر ما يغمره من أنوار العظمة والجلال والبهاء والكمال فيتنور العلم الذي اكتسبه العبد ويبقى له كيفية أخرى زائدة على الكيفية المعهودة من البهجة والأنوار والقوة في الإعلان والإسرار
فلا ينبغي لنا أن نتشاغل عن نيل هذه الموهبة السنية بشواغل الدنيا وهمومها فننقطع بذلك كما تقدم بالشيء المفضول عن الأمر المهم الفاضل فإذا سلكنا في ذلك برهة من الزمان ورزقنا الله تعالى نفوذا وتمكنا في ذلك النفوذ فلا تعود هذه العوارض الجزئيات الكونيات تؤثر فينا إن شاء الله تعالى
وليكن شأن أحدنا اليوم التعديل بين المصالح الدنيوية والفضائل العلمية والتوجهات القلبية ولا يقنع أحدنا بأحد هذه الثلاثة عن الآخرين فيفوته المطلوب ومتى اجتهد في التعديل فإنه إن شاء الله تعالى بقدر ما يحصل للعبد جزء من احدهم حصل جزءا من الآخر ثم بالصبر عل ذلك تجتمع الأجزاء المحصلة فتصير مرتبة عالية عند النهاية إن شاء الله تعالى
هذا وإن كنتم أيدكم الله تعالى بذلك عالمين لكن الذكرى تنفع المؤمنين