العقد الفريد/الجزء الثالث/6
كتاب المجنبة الثانية في التوقيعات والفصول والصدور وأخبار الكتبة
قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مَضى قولنا في الخُطب وفضائلها وذِكْر طِوالها وقِصارها ومَقامات أَهْلها ونحن قائلون بعون الله وتَوفيقه في التَوقيعات والفُصَول والصُّدور وأَدَوات الكِتابة وأَخبار الكًتَاب وفَضْلِ الإيجاز إذ كان أشرفُ الكلام كُلَه حُسْناً وأَرفعُهقَدْراً وأَعظمُه مِن القلوب مَوْقعاً وأقلُه على اللسان عَملاً ما دَلّ بعضُه على كُلّه وكَفى قليلُه عن كَثيرة شَهِد ظاهرُه على باطنه وذلك أن تَقِلَّ حُروفه وتَكْثَر معانيه. ومنه قولُهم: رُبّ إشارة أبلغُ من لَفظ. ليس أَن الإشارة تُبيّنَ ما لا يُبينه الكلامُ وتَبْلغُ ما يَقْصُر عنه اللسان ولكنّها إذا قامت مَقام اللَّفظ وسَدّت مَسد الكلام كانت أبلغَ لقلّة مؤونتها وخِفّة محملها. قال أَبرْويز لكاتبه: اجْمَع الكَثِيرَ ممّا تُريد من المعنى في القليل ممّا تقول. يحُضُّه على الإيجاز ويَنهاه عن الإكثار في كًتبه. أَلَا تَراهم كيف طَعنوا على الإسهاب والإكثار حتى كان بعضُ الصحابة يقول: أعوذ بالله من الإسهاب! قيل له: وما الإسهاب قال: المُسْهَب الذي يتخلل بلسانه تَخلّل الباقر ويَشول به شَوَلان الروْق. وقال النبيّ ﷺ
ولم أجد أحداً من الألف يَذُم الإيجاز ويَقْدح فيهِ ويَعيبه ويَطْعن عليه. وتحب العربُ التخْفيف والحَذْف ولهَربها مات التثْقيل والتطويل كان قَصْرُ المَمْدود أحبَّ إليها من مدّ المَقْصور وتَسْكينُ المُتحرّك أخف عليها من تَحْريك الساكن لأنّ الحَركة عَمَل والسُّكون راحة. وفي كلام العرب الاختصار والإطناب والاختصار عندهم أحمد في الجُملة وإن كان للإطناب مَوْضع لا يَصْلح إلا له. وقد تُومِىء إلى الشيء فَتَستغني عن التَّفسير بالإيماءة كما قالوا: لمحةٌ دالّة. كتب عمرو بنُ مَسْعدة إلى ضَمْرة الحَرُوريّ كتاباً فنظر فيه جعفر بن يحيى فَوقَّع في ظهره: إذا كان الإكثار أبلغَ كان الإيجاز مُقَصِّراً وإذا كان الإيجاز كافياً كان الإكثار عيَّاً. وبَعث إلى مَروانَ بن محمد قائدٌ مِن قُوَاده بغلام أَسْود فأَمر عبدَ الحميد الكاتبَ أن يكتبَ إليه يَلْحاه وُيعنِّفه فكَتب وأَكثر فاستثقل ذلك مَروانُ وأَخذ الكتاب فوقّع في أسفله: أَمَا إنك لو عَلِمْت عدداً أقل من واحد ولوناً شرَّاً من أسود لبعثتَ به. وتكلّم ربيعةُ الرّأي فأَكْثر وأَعْجبه إكثارُه فالتفت إلى أعرابيّ إلى جنبه فقال له: ما تَعدّون البلاغة عندكم يا أعرابيّ قال له: حَذْف الكلام وإيجازالصواب. قال: فما تَعدّون العِيّ قال: ما كُنتَ فيه منذُ اليوم. فكأنما أَلقمه حَجراً.
أول مَن وضع الكتابة
أوّل من وضع الخطّ العربيّ والسّرياني وسائرَ الكُتُب آدمُ ﷺ قبل موته بثلثمائة سَنة كَتبه في الطين ثم طَبخه فلمّا انقضى ما كان أصاب الأرضَ من الغَرق وَجد كُلُّ قوم كتابهم فكتبوا به. فكان إسماعيل عليه الصلاةُ والسلامُ وجد كتابَ العرب. ورُوي عن أبي ذَرّ عن النبي ﷺ أنّ إدريس أولُ مَن خَط بالقلم بعد آدم ﷺ وعن ابن عباس أَنً أولَ من وَضع الكتابةَ العربيّة إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وكان أَوَّلَ مَن نطق بها فوُضعت على لفظه ومَنطقه. وعن عمرَ بن شَبة بأسانيده: أن أولَ مَن وضع الخطّ العربي: أبجد وهَوًز وحُطي وكَلمن وسعفص وقرشت هم قوم من الجبلة الآخرة وكانوا نزولا عند عَدْنان بن أُدد وهم من طَسْم وجديس. وحُكي أنًهم وضعوا الكُتب على أسمائهم فلما وجدوا حُروفاً في الألفاظ ليست في أسمائهم أَلْحقوها بها وسموها الروادف وهي: الثاء والخاء والذال والضاد والظاء والغين على حَسب ما يلحق في حروف الجُمل. وعنه أن أول مَن وضع الخط نفيس ونصر وتَيْما بنو إسماعيل بن إبراهيم ووضعوه مُتَّصل الحروف بعضها ببعض حتى فَرّقه نَبْت وهَمَيْسَع وقَيذر. وحكوا أيضاً أن ثلاثة نفر من طيىء اجتمعوا ببقعة وهم: مُرامِر بن مُرّة وأسْلم بن سِدْرة وعامر بن جَدَرة فوضعوا الخط وقاسُوا هجاء العربيّة على هجاء السّريانية فتعلّمه قوِم من الأنبار. وجاء الإسلامُ وليس أحد يكتب بالعربيّة غيرَ سبعة عشر إنساناً وهم عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه وعُمرُ بن الخطّاب وطَلحة بن عبيد الله وعثمان وأبو عُبيدة بن الجَرّاح وأبان بن سعيد بن العاص وخالد بن سعيد أخوه وأبو حُذيفة بن عُتبة ويزيد بن أبي سفيان وحاطب بن عمرو بن عبد شمس والعلاء بن الحَضْرمي وأبو سَلمة ابن عبد الأسد وعبد الله بن سعد بن أبي سَرح وحُويطب بن عبد العُزّى وأبو سُفيان بن حَرْب ومعاوية ولده وجُهيم بن الصلت بن مخرَمة.
استفتاح الكتب
إبراهيم بن محمد الشَّيباني قال: لم تزل الكتب تُستفتح باسمك اللهم حتى أنزلت سورة هود وفيها: بسم الله مَجْراها ومُرْساها فكتب: بسم الله ثم نزلت سورة بني إسرائيل: قل أدعوا الله أو أدعوا الرَّحمَن فكتب بسم الله الرحمن ثم نَزلت سورة النمل: " إنّه من سُليمان وإنه بسم الله الرَحمن الرحيم " فاستفتح بها رسول الله ﷺ وصارت سُنة. وكان رسول الله ﷺ يكتب إلى أصحابه وأمراء جُنوده: مِن محمد رسول الله إلى فلان. وكذلك كانوا يَكتبون إليه يبدءون بأنفسهم فممن كَتب إليه وبدأ بنفسه: أبو بَكْر والعلاء بن الحَضْرمي وغيرُهما وكذلك كُتُب الصحابة والتابعين ثم لم تَزل حتى وَلي الوليد بنِ عبد الملك فعظم الكِتَابَ وأَمر أن لا يُكاتبه الناسُ بمثل ما يُكاتِب به بعضهمِ بعضاً فَجَرت به سُنّة الوليد إلى يومنا هذا إلّا ما كان من عُمر بن عبد العزيز ويزيد الكامل فإنهما عَمِلا بسنة رسول اللهّ ﷺ ثم رجع الأمر إلى رأي الوليد والقومّ عليه إلى اليوم.
ختم الكتاب وعنوانه
وأمّا خَتْم الكتاب وعنوانه: فإن الكتب لم تزل مَشهورةً غيرَ مُعنونة ولا مختومة حتى كُتبت صحيفة المُتلمِّس فلما قرأها خُتمت الكتب وعُنونت. وكان يُؤتىَ بالكتاب فيقال: مَن عُنِيَ به فسُمّى عُنْواناً. وقال حسَّان بن ثابت في قتل عثمان: صَحِّوا بِأَشْمَط عُنْوانُ السجود به يُقَطِّع الليلَ تَسْبيحاً وقُرآنَا وقال آخر: وحاجةٍ دون أخرى قد سَمَحْتُ بها جعلتُها للذي أحببتُ عُنوانَا وقال أهلُ التفسير في قول اللهّ تعالى: إني أُلْقِي إليّ كِتَابٌ كَرِيم أي مختوم إذ كانت كَرامة الكتابة خَتمه.
تأريخ الكتاب
لا بد من تأريخ الكتاب لأنه لا يُدَلّ على تحقيق الأخبار وقُرْب عهد الكِتاب وبُعْده إلا بالتأريخ. فإذا أردتَ أن تُؤَرّخ كتابَك فانْظُر إلى ما مَضى منِ الشَهر وما بِقِي منه فإن كان ما بَقي أكثر من نصف الشهر كتبت: لكذا وكذا ليلةً مضت من شهر كذا وإن كان الباقي أقلَّ من النصف جعلتَ مكان: مَضت بقيت. وقد قال بعضُ الكتاب: لا تكتب إذا أرّخت إلا بما مَضى من الشهر لأنه معروف وما بقي منه مجهول لأنك لا تدري أيتمّ الشَّهر أم لا. ولا تَجعل سِحاءة كتابك غليظة إلا في كُتب العُهود والسجلاّت التي يُحتاج إلى بقاء خواتيمها وطَوابعها فإنَّ عبد الله بن طاهر كتب إليه بعضُ عمّاله على العراق كتاباً وجعل سِحَائته غليظة فأمر بأشخاص الكاتب إليه فلما ورَد عليه قال عبدُ الله بن طاهر: إن كانت معك فأس فاقطع خَتم كتابك ثم ارجعِ إلى عملك وإن عُدت إلى مثلها عُدنا إلى إشخاصك لقطعها. ولا تُعظِّم الطَينة جداً وطِنْ كُتُبكَ بعد كَتْبك عناوينها فإن ذلك من أدب الكاتب فإن طِينت
تفسير الأمي
فأما الأمي فمجازُه على ثلاثة وجوه: قولهم أمي منسوب إلى أُمّة رسول الله ﷺ ويقال: رجل أمي إذا كان من أم القُرى. قال الله تعالى: " لِتُنْذِر أمّ القُرَى ومَن حَوْلَها " وأما قوله تعالى: النبيّ الأمي فإنما أراد به الذي لا يقرأ ولا يكتب. والأمية في النبيّ ﷺ فضيلة لأنها أدلُّ على صِدْق ما جاء به أنه من عند الله لا من عنده وكيف يكون مِن عنده وهو لا يَكْتب ولا يقرأ ولا يقول الشَعر ولا يُنشده. قال المأمون لأبي العلاء المِنْقري: بَلَغني أنك أمي وأنك لا تُقيم الشَعر وأنك تلحن في كلامك. فقال: يا أمير المؤمنين أمّا اللّحن فربما سَبقني لساني بالشيء منه وأما الأمية وكَسْر الشعر فقد كان النبيّ ﷺ أميّاً وكان لا يُنشد الشعر. فقال المأمون: سألتُك عن ثلاثة عُيوب فيك فزِدتني رابعاً وهو الجهل أمَا علمتَ يا جاهل أن ذلك في النبي ﷺ فَضيلة وفيك وفي أمثالك نَقيصة!
شرف الكتّاب وفضلهم
فمن فضلهم قولُ الله تعالى على لسان نبيه ﷺ: " علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم " وقوله تعالى: " كِرَاماً كاتبين ". وقولُه: " بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ " وللكُتاب أحكام بينة كأحكام القُضاة يُعرفون بها ويُنسبون إليها ويتقلدًون التدبير وسيارة المُلك بها دون غيرهم وبهم يُقام أوَد الدين وأمور العالمين. فمن أهل هذه الصناعة: عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه وكان مع شرفه ونُبله وقَرابته من رسول اللهّ ﷺ يكتب الوحي ثم أفضت إليه الخلافة بعد الكتابة وعثمان بن عفان كانا يكتبان الوحي فإن غابا كتب ابن بن كعب وزيد بن ثابت فإن لم يَشهد واحد منهما كَتب غيرُهما. وكان خالد بن سعيد بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان يكتبان بين يديه في حَوائجه وكان المُغيرة بن شُعبة والحُصين بن نمير يكتبان ما بين الناس وكانا ينوبان عن خالد ومُعاوية إذا لم يحضرا وكان عبد الله بن الأرقم ابن عبد يغوث والعلاء بن عُقبة يكتبان وبين القوم في قبائلهم ومِياههم وفي دور الأنصار بين الرجال والنساء وكان ربما كتب عبدُ الله بن الأرقم إلى الملوك عن النبي ﷺ وعلى آله وكان حُذيفة بن اليمان يكتب خَرْص ثمار الحجاز وكان زيدُ بن ثابت يكتب إلى الملوك مع ما كان يكتبه من الوحي وقيل: إنه تعلّم بالفارسية من رسول كِسْرى وبالرومية من حاجب النبيّ ﷺ وبالحبشية من خادم النبي ﷺ وبالقِبْطية من خادمه عليه الصلاة والسلام. ورُوي عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب بين يدي رسول الله ﷺ يوماً فقام لحاجة فقال لي: ضَع القلم على أذنك فإنه أذكر للمُملي وأقضى للحاجة. وكان مُعَيْقيب بن أبي فاطمة يكتب مغانم النبيّ ﷺ. وكان حَنْظلة بن الربيع بن المُرقَّع بن صَيفيّ ابن أخي أكثم بن صيْفيّ الأسيديّ خليفة كُل كاتب من كُتَاب النبيّ ﷺ إذا غاب عن عمله فغلب عليه اسم الكاتب وكان يضع عنده خاتمه وقال له: الزمني وأذكر في بكل شيء أنا فيه وكان لا يأتي على مالك ولا طعام ثلاثة أيام إِلا أذكره فلا يَبيت ﷺ وعنده منه شيء. ومَرّ رسول الله ﷺ يوماً بامرأة مقتولة يوم فتْح مكة فقال لحنظلة: الحق خالداً وقل له: لا تقتلن ذُرْية ولا عَسِيفا. ومات حَنظلة بمدينة الرها فقالت فيه امرأته وحُكي أنه من قول الجِن وهذا محال: يا عَجَبَ الدَّهْرِ لمَحْزونة تَبْكي على ذي شَيْبَةٍ شاحِبِ إن تسألنّي اليومَ ما شَفّني أخبرْك قِيلا ليس بالكاذب أن سَوادَ الرأس أوْدَى به وَجْدي على حَنْظلةَ الكاتب ولما وَجّه عمر بن الخطاب رضي الله عنه سعداً إلى العراق وكتب إليه أن يسبع القبائل أسباعاً ويَجعل على كل سُبع رجلاً فَفعل سعد ذلك وجعل السبع الثالثِ تميماً وأسداً وغطفان وهوازن وأميرَهم حنظلَة بن الربيع الكاتب وكان أحدَ من سُيَر إلى يَزْدجرد يدعوه إلى الإسلام. وكان الحْصين بن نُمير من بني عبد مناة شَهد بَيْعة الرِّضوان ودعاه رسولُ الله ﷺ يكتب صُلْح الحّديبية فأبى ذلك سهَيْل بن عمرو وقال: لا يكْتب إلا رجل منّا فكتب عليّ بن أبي طالب. ورُوي عنه عليه السلام أنه قال: لما جاء سُهَيل بن عمرو ونحن مع رسول الله ﷺ بالحُدَيبية حين صالَح قُريشاً كان عبدُ الله بن سعد بن أبي سرح يكتب له ثم ارتد ولَحِق بالمُشركين وقال: إن محمداً يكتب بما شِئْتُ. فَسمع ذلك رجل من الأنصار فَحَلف بالله إن أمكنه الله منه ليضربنِّه ضَرْباً بالسَّيف فلما كان يوم فَتح مكة جاء به عثمانُ وكان بينهما رَضاع فقال: يا رسولَ اللهّ هذا عبدُ الله قد أقبل تائباً فأعْرضَ عنه والأنصاريُّ مُطيفٌ به ومعه سَيفُه فمدّ رسولُ اللهّ ﷺ جمعه يدَه وبايعه وقال للأنصاري: لقد تَلَوَّمتُك أنْ تُوفِي بنَذرك. فقال: هلَّا أومضت إليّ. فقال ﷺ: لا يَنْبغي لي أن أومض.
أيام أبي بكر رضي اللهّ عنه
كان يكتب لأبي بكر عثمان بن عفان وزيدُ بن ثابت. ورُوي أنّ عبدَ الله ابن الأرقم كتب له وأن حنظلة بن الربيع كتب له أيضاًً. ولما تقلَّد الخلافةَ دَعا زيد بن ثابت وقال له: أنت شاب عاقل لا نَتَهمك على رسول الله ﷺ وكُنتَ تكتب الوَحْي فتَتبّع القرآن فأجمعه وفيه يقول حسان بنُ ثابت: فَمن للقَوافي بعد حَسّانَ وابنه ومَن للمَثاني بعد زَيْد بنِ ثابت
أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه
كَتب لعمر بن الخطاب زيدُ بن ثابت وعبدُ الله بن الأرقم وعبدُ الله ابن خَلف الخزاعيّ أبو طَلْحة الطلحات على ديوان البَصْرة. وكَتب له على ديوان الكوفة أبو جَبِيرة بن الضحّاك فلم يزل عليه إلى أن ولي عبيد الله بن زياد فعزله وولي مكانه حبيب بن سَعْد القَيْسيّ.
أيام عثمان بن عفان رضي اللهّ عنه
كان يكتب لعُثمان مروانُ بن الحَكَمَ. وكان عبد الملك بن مَرْوان يكتب له على ديوان المدينة وأبو جَبِيرة على ديوان الكُوفة وعبدُ الله بن الأرقم عل بيت المال وأبو غَطفَان بن عوف بن سعد بن دينار من بني دُهْمان من قيس عَيْلان يكتب له أيضاً وكان يكتب له أهَيب مولاه وحُمْران مولاه.
أيام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه
كان يكتب له سعيد بن نِمْران الهَمْداني ثم ولي قضاء الكُوفة لابن الزبير وكان عبد الله بن جعفر يكتب له. ورُوي أن عبد الله بن حَسن كتب له وكان عبد الله بن أبي رافع يكتب له وسِمَاك بن حَرْب.
أيام بني أمية
وكان يكتب لمُعاوية بن أبي سفيان سعيدُ بن أنس الغَسّاني. وكاتبُ يزيد بن معاوية سَرْجون بن مَنْصور وكاتبُ مَرْوان بن الحكم حُميد بن عبد الرحمن بن عوف. وكاتبُ عبد الملك بن مروان سالمٌ مولاه ثم كَتب له عبد الحميد بن يحيى وهو عبد الحميد الأكبر. وكاتبُ الوليد بن عبد الملك جَنَاح مولاه. وكاتب سُليمان بن عبد الملك عبدُ الحميد الأصغر. وكاتبُ عمر بن عبد العزيز الليثُ بن أبي رُقَية مولى أمّ الحكم وكتب له رَجاء بنُ حَيْوة وخُص به وإسماعيل بن أبي حَكِيمٍ مولى الزُبير وسليمان بن سعد الخُشَنيّ على ديوان الخَراج وكان عمر يكتب كثيرا بيده. وكاتبُ يزيد ابن عبد الملك عبدُ الحميد أيضاًً ثم لم يَزل كاتباً لبني أمية إلى أيام مَروان بن محمد وانقضاء دولة بني أمية. وكان عبد الحميد أولَ من فَتق أكمام البلاغة وسَهَّل طُرقها وفَكّ رِقاب الشَعر.
أيام الدولة العباسية
فكان كاتبُ أبي العبّاس وأبي جَعفر أبا أيوب المورياني الأهوازيّ. وكاتبُ موسى الهادي بن محمد المهدي إبراهيمَ بنَ ذَكْوان الحَراني. وكاتب هارون الرشيد بن محمد المهدي يحيى بنَ خالد البَرمكي ثم الفَصْلَ بن الرَّبيع ثم إبراهيمَ بن صُبَيح. وكاتبُ محمد بن زُبيدة الأمين الفضلَ بن الرَّبيع وكاتبُ عبد الله المأمون بن هارون الرشيد الفضلَ بنَ سَهل ثم الحسنَ بن سَهل ثم عمرو بنَ مسعدة ثم أحمدَ بن يوسف. وكاتبُ أبي إسحاق محمد المعتصم بن هارون الرشيد وهو المعروف بابن ماردة الفضلَ بن مروان ومحمدَ بن عبد الملك الزيات. وكاتبً الواثق هارون بن محمد المعتصم محمدَ بن عبد الملك الزيات أيضاًً. وكاتب المُتوكل جعفر بن محمد المعتصم إبراهيمَ بن العبّاس بن صُول مولًى لبني العبّاس. وكاتبُ المُنتصر محمد ويكنى أبا جعفر بن المتوكل أحمدَ بن الخَصيب ثم كتب للمُستعين أحمد بن محمد المعتصم فظهر من عجزه وعِيه ما أسخطه عليه ثم جعل وزارته إلى أوتامش وقام بخدمته شجاع بن القاسم كاتبه ثم سخط عليهما فقتلهما واستوزر أبا صالح عبد الله بن محمد بن يزداد ثم صرفه وقَلِّد وزارته محمد بن الفَضل الجرجاني. ثم كانت الفتنة بين المستعين والمعتز فقلد المُعْتزُ وزارتَه جَعفَر بن محمود الجرجاني فلما استقام الأمر ردّ وزارته إلى أحمد ابن إسرائيل. وكاتبَ المهتدي محمد بن الواثق جعفر بن محمود الجُرجاني ثم استوزر بعده أبا أيوب سليمان بن وهب. واستوزر المعتمد أحمدُ بن المتوكل عبيدَ الله بن يحيى بن خاقان فلما توفي استوزر بعده الحسنَ بن مخلد وكان سبب موته أنه صَدَمه غلامٌ له في الميدان يقال له رَشيق فحًمل إلى منزله فمات بعد ثلاث ساعات. وتقفد الوزارة للمُعتضد أحمدُ بن طَلحة وللمُوفق بن جعفر المتوكل عُبيدُ الله بن سليمان بن وهب وتقلّد الوزارة للمُكتفي بالله أبي محمد عليِّ بن المُعتضد بالله عليً بن محمد بن الفُرات ثم محمد بن عُبيد الله بن يحيى بن خاقان ثم علي بن عيسى ثم حامد بن العباس ثم محمد بن علي بن مُقلة الذي يوصف خطّه بالجَوْدة ثم سليمان بن الحسن بن مخلد ثم عبيد الله بن محمد الكَلْوذانيّ. ثم الحسُين بن القاسم بن عُبيد الله بن سُليمان بن وَهْب ولُقِّب بعميد الدولة وكان يكتب على كُتبه: من عَميد الدولة أبي علي بن وليّ الدولة وذُكر لقبه على الدنانير والدراهم ثم الفَضْل بن جعفر بن محمد بن الفُرات. وتقلّد الوزارة للقاهر بالله أبي مَنْصور محمدِ بن المُعتضد محمدُ بن عليّ بن مُقلة ثم محمد بن القاسم بن عُبيد الله ثم القاسم بن عُبيد الله الحُصَيني. وتقلد الوزارة للراضي بالله أبي العباس محمد بن جعفر المقتدر محمدُ بن علي بن مُقلة ثم عبدُ الرحمن بن عيسى أخو الوزير علي بن عيسى ثم محمد بن القاسم الكَرْخي ثم الفضلُ بن جعفر بن محمد بن الفُرات ثم محمد بن يحيى بن شيرزاد. وتقلّد الوزارة للمُتًقي باللهّ إبراهيم بن جعفر ابن المُقتدر كاتبهُ أحمد بن محمد بن الأفطس. ثم أبو إسحاق القَراريطي ثم علي بن محمد بن مُقلة. وتقلّد الوزارة للمُستكفي بالله أي القاسم عبد الله بن عليّ المكتفي بالله الحسين بن محمد بن أبي سُليمان ثمِ محمد بن علي السامُري المُكَنّى أبا الفَرج. ثم ولي المُطيع بالله الفضلُ بن المقتدر فوَزر له الحسن بن هارون.
أسماء من كتب لغير الخليفة
كان المُغيرة بن شُعْبة كاتباً لأبي موسى الأشعريّ. وكان سَعِيد بن جُبير كاتباً لعَبد الله بن عُتبة بن مسعود وكان قاضياً بعد ذلك. وكان الحسنُ بن أبي الحسن البَصريّ مع نًبله وفِقهه ووَرعه وزُهده كاتباً للرَّبيعِ بن زياد الحارثيّ بخُراسان ثم ولي قضاءُ البَصرَة لعُمر بن عبد العزيز فقيل له: من وَلِّيت القضاءَ بالبَصْرة فقال: وليتُ سيّد التابعين الحسنَ بن أبي الحسن البَصريّ. وكان محمد بن سِيرين مع عِلْمه وَورعه كاتباً لأنس بن مالك بفارس. وكان زيادُ ابن أبيه مع رأيه ودَهائه وما كان من معاوية في ادعائه يكتب للمُغيرة ابن شُعبة ثم لعبد اللهّ بن عامر بن كُرَيز ثم لعبد الله بن عبّاس ثم لأبي مُولى الأشعري. فوجّهه أبو موسى من البَصر ة لعمرَ بن الخطّاب ليرفع إليه حسابَه فأمر له عمرُ بألف درهم لما رأى منه من الذكاء وقال: له لا تَرْجع لأبي موسى فقال: يا أمير المؤمنين. أعَن خِيانة صَرَفْتَني أم عن تَقْصِير قال: لا عن واحدة منهما ولكني أكره أن أحمل فَضْل عقلك على الرعيَّة ثم وَلي بعد الكِتابة العِراقَ. وكان عامرٌ الشَّعبي مع فِقْهه وعِلْمه ونُبله كاتباً لعبد الله بن مًطيع ثم لعبد الله بن يَزيد عامل عبد الله بن الزُّبير على الكوفة ثم وَلي قضاء الكُوفة بعد الكِتابة. وكان قَبيصة بن ذُؤيب كاتباً لعبد الملك على ديوان الخَاتم. وكان عبدُ الرحمن كاتب نافع بن الحارث وهو عامل أبي بكر وعمر على مكة. وكان عبد الله بن خلف الخًزاعي أبو طَلْحة الطلحات كاتباً على ديوان البَصرة لعمر وعثمان ثم قُتل يوم الجَمَل مع عائشة رضي اللهّ عنها. وكان خارجةُ بن زيد بن ثابت على ديوان المَدينة ثم طلب الخلافة فقتل دونها. وكان يزيد بن عبد الله بن زَمْعة بن الأسْود بن المًطلب بن أسد بن عبد العُزى كاتباً على ديوان المدينة زمن يزيدَ بن معاوية وكان بعده حُميد بن عبد الرحمن بن عوف الزُّهري.
أشراف الكتاب
كتاب النبي صلى الله عليه وسلم
كتب له عشرة كتاب: عليّ بن أبي طالب وعُمر بن الخطاب وعُثمان بن عفّان وخالد بن سعيد بن العاصي وأبان بن سعيد بن العاصي وأبو سَعيد بن العاصي وعمرو بن العاصي وَشرَحْبيل بن حَسَنة وزيد بن ثابت والعَلاء بن الحَضْرمي ومّعاوية بن أبي سفيان فلم يزل يكتب له حتى مات عليه الصلاةُ والسِّلام. وكان عثمان بن عفان كاتباً لأبي بكر ثم صار خليفةً. وكان مروان بن الحكم كاتباً لعثمان بن عفان ثم صار خليفة. وكان عمرو بن سعيد بن العاصيِ كاتباً على ديوان المدينة ثم طَلب الخلافة فقُتل دونها وكان المُغيرة بن شُعبة كاتباً لأبي موسى الأشعري. وكان الحسنُ بن أبي الحسن البَصريّ كاتباً للربيع ابن زياد الحارثيّ بخُراسان. وكان سعيدُ بن جُبير كاتباً لعبد الله بن عُتبة بن مَسْعود وكان فاضلاً. وكان زياد كاتباً للمُغيرة بن شعبة ثم أبي مُوسى الأشعري ثم لعبد الله بن عامر بن كُريز ثم لعبد الله بن عبّاس. وكان عامرٌ الشَعبي كاتباً لعبد الله بنِ مُطيع وهو والي الكوفة لعَبد الله بن الزِبير. وكان محمد بن سِيرين كاتباً لأنس بن مالك بفارس. وكان قَبيصة بن ذُؤيب كاتباً لعبد الملك على ديوان الخاتَم. وكان عبدُ الرحمن بن أبْزَى كاتبَ نافع بن الحارث الخُزاعي وهو عامل أبي بكر وعمر على مكة. وكان عُبيد الله بن أوس الغسّاني سيد أهل الشام كاتبَ معاوية. وكان سعيد ابن نِمْران الهمداني سيّد همدان كاتبَ علي بن أبي طالب ثم ولي بعد ذلك قضاء الكوفة لابن الزبير. وكان عبدُ الله بن خلف الخُزاعي أبو طلحة الطلحات كاتباً على ديوان البصرة لعمر وعثمان وقُتل يوم الجَمَل مع عائشة. وكان خارجةُ بن زيد بن ثابت على ديوان المدينة من قِبَل عبد الملك. وكان يزيدُ بن عبد الله بن زَمْعة بن الأسْود بن الُمَطّلب بن أسَد بن عبد العُزّى على ديوان المدينة زمانَ يزيد بن مُعاوية. وكان بعده حًميد ابنً عبد الرَّحمن بن عوف الزُّهْريّ صاحب النبي ﷺ.
من نبل بالكتابة وكان قبل خاملا
سَرْجون بن منصور الرومي كاتبٌ لمعاوية ويزيدَ ابنه ومَرْوان بن الحَكم وعبد الملك بن مَرْوان إلى أن أمره عبدُ الملك بأمرِ فتوانىَ فيه ورأى منه عبدُ الملك بعضَ التفريط فقال لسُليمان بن سَعْد كاتِبه على الرًّسائل: إنَّ سرَجون يُدِلّ علينا بصناعته وأظن أنه رأى ضَرورتنا إليه في حِسابه فما عندك فيه حِيلة فقال: بلى لو شئت لحوَّلتُ الحِساب من الرُّومية إلى العربية. قال: أفعل. قال: أَنظرني أعانِ ذلك. قال: لكَ نَظِرة ما شئْت. فحَوَّل! الديوانَ فولّاه عبدُ الملك جميعَ ذلك. وحسَّان النَّبَطيّ كاتِبُ الحجَّاج وسالم مولى هِشام بن عبد الملك وعبد الحميدُ الأكبر وعبدُ الصَمد وجَبلة بن عبد الرحمن وقَحْذم جَدّ الوليد بن هشام القَحْذمي وهو الذي قلب الدواوين من الفارسية إلى العربية. ومنهم: الفَرَّاء كاتبُ خالد بن عبد الله القسْريّ. ومنهم: الربيع والفَضل بن الربيِع ويعقوب بن داود ويحيى بن خالد وجَعفر بن يحيى وأبو محمد عبد الله بن المُقَفّع والفَضْل ابن سَهل والحَسن بن سَهل وجَعفر بن محمد بن الأشعث وأحمد بن يوسف وأبو عبد السلام الجُنْد يسابوريّ وأبو جعفر محمد بن عبد الملك الزيَّات والحسن بن وَهْب وإبراهيم بن العبّاس الصُولي ونَجاح بن سَلمة وأحمد بن محمد بن المًدبّر. فهؤلاء نَبُلوا بالكتابة واستحقوا اسمها.
من أدخل نفسه في الكتابة ولم يستحقها
صالح بن شيرزاد وجعفر بن سابور كاتب الأفشِين والفَضْل بن مَرْوان وداود بن الجَرَّاح وأبو صالح عبد اللهّ بن محمد بن يَزْداد وأحمد ابن الخصيب. فهؤلاء لَطّخوا أنفسهم بالكتابة وما ؟؟ وقال بعضَ الشعراء في صالح بن شِيرزاد: حِمَار في الكِتابة يَدَّعيها كدَعْوى آل حَرْب في زِيادِ فَدَع عنك الكِتابة لست منها ولو غَرَّقتَ ثوبك في المِداد ومنهم: أبو أيّوب ابن أخت أبي الزير وهو القائل يَرْثي أمَّ سُليمان بن وَهْب الكاتب: لأمّ سُليمانٍ علينا مُصِيبةٌ مُغَلْغلة مثلُ الحُسام البَواتِر وكُنتِ سرِاجَ البيتِ يا أمَّ سالم فأضحى سراجُ البيت وَسْط المَقابر فقال سُليمان بن وهب: ما نَزلً بأحدٍ من خَلْق الله ما نَزل به ماتت أمي فرُثيت بمثل هذا الشعر ونُقل اسمي من سُليمان إلى سالم.
صفة الكتاب
قال إبراهيم بن محمد الشَيباني: من صِفة الكاتب اعتدالُ القامة وصِغَر الهامة وخِفَّة اللَهازم وكَثَافة اللِّحية وصِدْق الحِسّ ولُطْف المَذْهب وحًلاوة الشمائل وحُسْن الإشارة ومَلَاحة الزِّي حتى قال بعضُ المَهالبة لولده: تَزَيَّوا بزِيّ الكُتِّاب فإن فيهم أدبَ الملوك وتواضعَ السُّوقة. وقال إبراهيم بن محمد الكاتب: من كمال آل الكِتابة أن يكون الكتاب: نَقِيّ المَلْبس نَظيف المَجْلس ظاهر المُروءة عَطِر الرّائحة دَقيق الذِّهب صادق الحِسّ حَسَن البيان رَقيق حواشي اللسان حُلْو الإشارة مَليح الاستعارة لطيفَ المسالك مُسْتَقِرّ التّركيب ولا يكون مع ذلك فَضفَاض الجثّة مُتفاوت الأجزاء طويل اللِّحية عظيم الهامة فإنهم زَعموا أنّ هذه الصورة لا يليق بصاحبها الذَّكاءُ والفِطْنة. وأنشد سعيد بن حُميد في إبراهيم بن العباس: رأيتُ لهازمَ الكُتّاب خَفَّت ولهزْمتاك شأنُهما الفَدَامة وكُتّاب الملوك لهم بَيانٌ كمِثْل الدُّر قد رَصَفوا نِظَامَ وأنت إذا نطقتَ كأنّ عَيْراً يَلُوك بما يَفُوه به لِجامه وقال آخر: عليكَ بكَاتب لَبِقٍ رَشِيقٍ زَكِيِّ في شَمائله حرارَه تُناجِيه بطَرْفًك مِن بَعيد فيفهمُ رَجْع لَحْظك بالإشارة ونظر أحمد بن الخَصِيب إلى رجل من الكتاب: فَدْم المنظر مُضْطرر الخَلْق طويل العُثْنون فقال: لأن يكون هذا فِنْطاسٌ مُرَكب أشبهَ من أن يكون كاتباً. فإذا اجتمعت للكاتب هذه الخلال وانتظمت فيه هذه الخِصال فهو الكافِ البليغ والأديب النِّحْرِير وإن قَصَّرت به آلة من هذه الآلات وقَعدت به أداةٌ كل هذه الأدوات فهو مَنقوص
ما ينبغي للكاتب أن يأخذ به نفسه
قال إبراهيم الشِّيباني: أولَ ذلك حُسْن الخط الذي هو لِسان اليد وبَهجة الضَّمير وسِفير العقل ووَحْي الفِكْرة وسِلاح المَعْرفة وأنس الإخوان عند الفرقة ومحادثتهم على بُعد المسافة ومُسْتودَع السرّ وديوان الأمور. ولستُ أجد لحُسن الحظ حدًا أقف عليه أكثرَ من قول عليّ بن رَبَن النصراني الكاتب فإني سألته واستوصفتُه الخَطّ فقال: أعلّمك الخطِّ في كلمة واحدة فقلت له: تَفَضَل بذلك فقال: لا تكتبْ حَرْفاً حتى تَسْتَفرغَ مجهودَك في كتابة الحَرْف وتَجْعَل في نفسك إنك تَكْتب غيرَه حتى تَعْجِزَ عنه ثم تنتقل إلى ما بعده. وإياك والنَقْط والشَّكْل في كتابك إلا أن تمر بالحَرْف المُعضِل الذي تعلم أنّ المكتوبَ إليه يَعْجِز عن استخراجه فإني سمعتُ سعيدَ بن حُميد بن عبد الحميد الكاتب يقول: لأن يُشْكِل الحرفُ عن القارىء أحبُّ إليَ من أن يُعابَ الكتاب بالشَكل. وكان المأمونُ يقول: إيَّاكم والشُّونِيز في كُتبكم - يعني النَّقْط والإعجام. ومن ذلك أن يُصْلِحَ الكاتبُ آلتَه التي لا بُدَّ منها وأداتَه التي لا تَتم صناعتُه إلا بها مثلِ دَواته فلْيُنْعِمْ ربَّها وإصلاحَها ولْيتخيَّر من أنابيب القَصب أقلَّه عُقداً وأكثرَه لَحْماً وأصلَبه قِشْراً وأعدلَه استواء ويجعلَ لقِرْطاسه سِكِّينَاً حاداً لتكون عَوْناً له على بَرْي أقلامه ويَبريها من ناحية قال العتّابيّ: سألني الأصمعي يوماً في دار الرّشيد: أيُّ الأنابيب للكتابة أصلَح وعليها أصْبر فقلتُ له: ما نشِفَ بالهَجير ماؤه وسَتره عن تلويحه غشاؤه من التِّبْريّة القُشور الدّرّية الظًّهور الفِضَية الكُسور. قال: فأيّ نوع من البَرْي أصْوبُ وأكْتب فقلت: البَرْية المُستوية القَطَّة التي عن يمين سِنّها قُرْنة تأمن معها المَجَّة عند المَدة والمَطّة للهواء في شَقّها فَتُيق والرِّيح في جَوْفها خَريق والمدادُ في خُرطُومها رقيق. قال العتّابي: فبقي الأصمعي شاخصاً إليّ ضاحكاً لا يُحير مسألةً ولا جواباً. ولا يكون الكاتب كاتباً حتى لا يَسْتطيع أحدٌ تأخيرَ أوّل كتابه وتقديمَ آخره. وأفضل الكُتّاب ما كان في أوَّل كِتابته دليلٌ على حاجته كما أنّ أفضلَ الأبيات ما دلَّ أولً البيت على قافيته. فلا تُطيلنّ صَدْرَ كِتابك إطالةً تُخرجه عن حدّه ولا تُقَصِّر به دون حدِّه فإنَّهم قد كَرِهوا في الجُمْلة أن تَزيدَ صًدور كُتب المُلوك على سَطْرين أو ثلاثة أو ما قارب ذلك. وقيل للشَّعْبيّ: أيّ شيء تَعرف به عقلَ الرجُل قال: إذا كَتب فأجاد. وقال الحسنُ بن وَهْب: الكاتبُ نفسٌ واحدة تجزّأت في أبدان مُتفرِّقة. فأما الكاتب المُستحقّ اسم الكِتابة والبليغُ المَحْكوم له بالبلاغة مَن إذا حاول صِيغَة كتاب سالت عن قلمه عُيونُ الكلام من ينابيعها وظَهرت من معادنها وبدرت من مواطنهَاَ من غير بلغني أنّ صَديقاً لكُلثوم العتّابي أتاه يوماً فقال له: اصنع ليِ رسالةً فاستعدّ مدّة ثم علّق القلم فقال له صاحبه: ما أرى بلاغَتك إلا شاردةً عنك. فقال له العتِّابيّ: إني لما تناولتُ القلم تداعتْ عليّ المعاني من كل جهة فأحببتُ أن أترك كل معنَى حتى يرجع إلى موضعه ثم أَجتني لك أحسنَها. قال أحمدُ بن محمد: كنتُ عند يزيد بن عبد الله أخي ذُبْيان وهو يُمْلي على كاتب له فأعجَل الكاتبَ ودَارَك في الإملاء عليه فتَلجلج لسانُ قَلَم الكاتب عن تَقْييد إملائه فقال له: اكتُب يا حمار. فقال له الكاتبُ: أَصْلَحَ اللهّ الأمير إنه لما هَطلت شآبيبُ الكلام وتَدافعت سُيولُه على حَرْف القَلَم كَلَّ القَلمُ عن إدراك ما وَجب عليه تقييدُه. فكان حُضور جواب الكاتب أبلغَ من بلاغة يزيد. وقال له يوماً وقد مَطَّ حرْفاً في غير مَوْضعه: ما هذا قال: طُغْيان في القَلَم. فإنْ كان لا بُدّ لك من طَلَب أدوات الكِتابَة فتَصفّح من رسائل المُتقدّمين ما يُعتمد عليه ومن رسائل المُتأخّرين ما يُرْجَع إليه ومن نوادر الكلام ما تَستعين به ومن الأشعار والأخبار والسِّير والأسمار ما يَتَّسع به مَنْطِقُك ويطولُ به قَلَمك وانظر في كتب المقامات والخُطب ومُجاوبة العَرَب ومعاني العجم وحُدود المَنْطق وأمْثال الفُرس ورسائلهم وعُهودهم وسَيرهم ووقائعهم ومَكايدهم في حُروبهم والوَثائق والصُّور وكُتب السجلاّت والأمانات وقَرْض الشِّعر الجَيِّد وعِلْم العروض بعد أن تكون مُتوسِّطاً في علم النَّحو والغَريب لتكون ماهراً تنتزعُ آيَ القًرآن في مواضعها والأمثالَ في أماكنها فإنّ تَضْمين المَثل السائر والبَيْت الغابر البارع مما يزين كتابك ما لم تُخاطب خليفةً أو مَلِكاً جليلَ القَدْر فإنّ اجتلاب الشِّعر في كتب الخلفاء عيبٌ إلا أن يكون الكاتب هو القارض للشِّعر والصانع له فإنّ ذلك يَزيد في أبّهته. خبر حائك الكلام أبو جعفر البغداديّ قال: حَدثنا عثمانُ بن سَعيد قال: لما رَجع المُعتصم من الثّغْر وصار بناحية الرَّقّة قال لعمرو بن مَسْعدة: ما زلْتَ تسألني في الرُّخجيّ حتى وَلَّيتُه الأهواز فَقَعَد في سرُة الدُّنيا يأكلها خَضما وقَضْما ولم يُوجِّه إلينا بدِرهم واحد. اخرُج إليه من ساعتك. فقلتُ في نفسي: أبعدَ الوزارة أصيرُ مُحستَحَثا على عامل خراج! ولكنْ لم أجدْ بدًّا من طاعة أمير المؤمنين فقلت: أَخرج إليه يا أمير المؤمنين. فقال: حلف لي أنك لا تقيم ببغداد إلا يوماً واحداً. فحلفتُ له ثم انحدرت إلى بغداد فأمرتُ ففُرِش لي زَوْرق بالطبريّ وغُشيِّ بالسِّلْخ وطُرح عليه الكُرّ. ثم خرجتُ فلما صرْتُ بين دَيْر هِزْقل ودَيْر العاقول إذا رجل يصيح: يا ملّاح رجلٌ منقطع. فقلتُ للملاّح: قَرَّب إلى الشّطّ. فقال: يا سيدي هذا شَحّاذ فإنْ قَعد معك آذاك. فلم ألتفتْ إلى قوله وأمرتُ الغِلمان فأدْخلوه فَقَعد في كَوْثل الزَّوْرق. فلما حَضر وقتُ الغِداء عزمتُ أن أدعُوه إلى طَعامي فدعوتُه فجعل يأكل أكلَ جائع بنَهَامة إلاّ أنه نظيف الأكل. فلما رُفع الطعامُ أردتُ أن يَستعمل معي ما يَتسعمل العوامُّ مع الخواص: أن يقومَ فيغسل يدَه في ناحية فلم يَفعل فغَمزه الغِلْمان فلم يَقُم فتشاغلتُ عنه ثم قلت يا هذا ما صناعتُك قال: حائك: فقلتُ في نفسي: هذه شر من الأولى. فقال لي: جُعِلت فِداك قد سألتَني عن صِناعتي فأخبرتُك فما صناعتُك أنت قال: فقلت في نفسي: هذه أعظمُ من الأولى وكرهتُ أن أذكر له الوزارة فقلتُ: اقتصر له على الكتابة فقلت: كاتب. قال: جُعلت فداك الكُتّاب على خمسة أصناف: فكاتبُ رسائل يحتاج إلى أن يعرف الفَصل من الوصل والصُّدور والتَّهاني والتَّعازي والتَرغيب والتَّرهيب والمقصور والمَمْدود وجُملًا من العربيّة وكاتب خرَاج يحتاج إلى أن يَعْرف الزَّرْع والمِساحة والأشْوال والطسُوق والتّقسيط والحساب وكاتب جُند يحتاج إلى أن يَعرف مع الحساب الأطماعَ وشِيات الدواب وحُلَى الناس وكاتب قاضٍ يحتاج إلى أن يكون عالماً بالشّروط والأحكام والفُروع والناسخ والمَنسوخ والحلال والحرام والمواريث وكاتب شُرطة يحتاج إلى أن يكون عالماً بالجُروح والقِصاص والعقول والدَيات. فأيهم أنت أعزّك اللهّ قال: قلت: كاتب رسائل. قال: فأخبرني إذا كان لك صديق تكتب إليه في المحبوب والمكروه وجميع الأسباب فتزوجتْ أمهُ فكيف تكتب له أتهنِّيه أم تُعزِّيه قلت: والله ما أقفُ على ما تقول. قال: فلستَ بكاتب رسائل فأيهمِ أنت قلت: كاتب خراج. قال: فما تقول أصلحك اللهّ وقد ولاك السلطان عملاَ فَبَثَثْتَ عُمّالك فيه فجاءك قوم يتظلّمون من بعض عُمّالك فأردتَ أن تَنْظر في أمورهم وتًنصفهم إذا كنت تُحبّ العدل والبِرّ وتُؤثر حُسن الأحدوثة وطيب الذِّكر وكان لأحدهم قَرَاح كيف كنت تمسحه قال: كنت أضرب العُطوف في العَمُود وأنظر كم مقدار ذلك. قال: إذن تظلَم الرجل. قلتُ: فامسح العَمود على حِدَة. قال: إذا تظلَم السلطان. قلت: والله ما أدري. قال: فلستَ بكاتب خراج فأيهم أنت قلت: كاتب جُنْد. قال: فما تقول في رجلين اسم كل واحد منهما أحمد أحدهما مَقْطوع الشفة العليا والآخرً مقطوع الشَّفة السُّفلى كيف كنت تكتب حِلّيتهما قال: كنت أكتب أحمدُ الأعلم وأحمد الأعلم. قال: كيف يكون هذا ورِزْقُ هذا مائتا درهم ورزق هذا ألفُ درهم فيقبض هذا على دَعْوة هذا فتظلِم صاحب الألف! قلت: واللهّ ما أدري. قال: فلستَ بكاتب جُند فأيهم أنت قلتُ: كاتب قاض. فمال: فما تقول أصلحك الله في رجل تُوفي وخَلَّف زوجة وسُرِّيّة وكان للزوجة بنت وللسُرّيَّة ابن فلما كان في تلك الليلة أخذت الحُرّة ابن السُرّية فادَّعَته وجعلتْ ابنتها مكانه فتنازعا فيه فقالت هذه: هذا ابني وقالت هذه: هذا ابني كيف تحكم بينهما وأنت خليفةُ القاضي قلت: والله لمست أدري. قال: فلستَ بكاتب قاض فأيّهم أنت قلت: كاتب شرطة. قال: فما تقول: أصلحك الله في رجل وَثب على رجل فشجَّه شَجة مُوضحة فوثب عليه المَشجوج فشجه شجّة مَأْمُومة قلتُ: ما أعلم. ثم قلت: أصلحك الله قد سألتَ ففسِّر لي ما ذكرتَ. قال: أما الذي تزوّجت أمّه فتكتبُ إليه: أما بعد فإن أحكامَ الله تَجْري بغير مَحابّ المَخْلوقين والله يختار للعباد فخار الله لك في قَبْضها إليه فإن القبرَ أكرمُ لها والسلام وأما القَراح فتضرب واحداً في مساحة العُطوف فمن ثَمَّ بابُه وأما أحمد وأحمد فتكتب حِلْية المَقْطوع الشّفة العُليا: أحمد الأعلم والمَقْطوع الشفة السفلى أحمد الأشرم وأما المرأتان فيُوزن لبن هذه ولبن هذه فأيّهما كان أخف فهي صاحبة البنت وأما الشّجّة فإن في المُوضحة خمساً مني الإبل وفي المأمومة ثلاثاً وِثلاثين وثُلثاً فيَرُدّ صاحبُ المأمومة ثمانيةً وعشرين وثُلثاً. قلت: أصلحك اللهّ فلا نزع بك إلى هنا قال ابنُ عمّ لي كان عاملاً على ناحية فخرجتُ إليه فألفيتُه مَعْزولاً فقُطع بي فأنا خارج أضطرب في المعاش. قلتُ: ألستَ ذكرتَ أنك حائك قال: أنا أحُوك الكلام ولستُ بحائك الثياب. قال: فدعوتُ المُزَيِّن فأخذ من شَعَره وأدْخِل الحمّام فطَرحْتُ عليه شيئاً من ثيابي. فلما صرتُ إلى الأهواز كلمت الرخّجيّ فأعطاه خمسةَ آلاف درهم ورَجع معي فلما صرتُ إلى أمير المؤمنين قال: ما كان من خَبرك في طريقك فأخبرتُه خبري حتى حدَّثتُه حديث الرجل. فقال لي: هذا لا يُستغنى عنه فلأيّ شيء يصلُح قلت: هذا أعلم الناس بالمساحة والهندسة. قال: فولاه أميرُ المؤمنين البناء والمَرمَّة. فكنتُ والله ألقاه في المَوكب النبيل فينحطّ عن دابته فأحلِف عليه فيقول: سُبحان الله! إنما هذه نِعْمتك وبك أفدتُها.