العقد الفريد/الجزء الثالث/5
والله ما أَعْطَوْه عن هَوادة ولا رَضُوا فيه بالقضاء أُصْبحوا يقولون: حَقُّنا غُلبنا عليه فَجَزينا هذا بهذا وهذا في هذا. يأهلِ مكة أنفسَكم أنفسكم وسُفهاءكم سُفهاءكم فإن معي سوطاً نكالاً وسَيفاً وَبالاً وكل مصبوب على أهله ثم نزل. خطبة للأحنف بن قيس قال بعد حَمْد الله والثَّناء عليه: يا مَعْشر الأزْد ورَبيعة أنتم! إخوانُنا في الدِّين وشُركاؤنا في الصِّهْر وأَشقّاؤنا في النَّسب وجيرانُنا في الدار ويَدُنا على العدوّ. والله لأزْد البَصْرة أَحَبّ إلينا من تميم الكوفة ولأزْد الكوفة أحبًّ إلينا من تميم الشام فإن استشرى شنانكم وأَبَى حَسَد صُدوركم ففي أحلامنا وأَمْوالنا سَعة لنا ولكم. خطبة ليوسف بن عمر قام خطيباً فقال: اْتقوا اللهّ عباد الله فكم مُؤمِّل أملاً لا يَبْلغه وجامع مالاً لا يأكله ومانع عمّا سوف يَتركه ولعلّه من باطل جمعه ومن حق مَنَعه. أصابه حرِاماً وأَوْرثهً عدوِّاً حلالاً بم فاحتمل إصرَه وباء بوِزْره ووردَ على ربِّه أسفاً لَهِفاً خَسِرَ الدُّنيا والآخرة ذلك هو الخُسران المُبين. خطبة لشداد بن أوس الطائي حَمد الله وأثنى عليه وقال: ألَا إنّ الدُّنيا عَرَض حاضر يأكل منها البَرّ والفاجِر. ألَا إن الآخِرَة وَعْد صادق يحكم فيها مَلك قادر. ألَا إنّ الخَيْر كُلَّه بحذافيره في الجنّة ألا إن الشر كُلَّه بحذافيره في النار. فاعْملوا ما عَمِلتم وأنتم في يقين من الله واعلموا أنكم مَعْروضة أعمالكمِ على اللهّ فمَن يَعْمل مِثْقالَ ذَرَّة خيراً يَرَه ومَن يَعْمَل مِثْقال ذرّة شرّاً يَرَه وغفَر الله لنا ولكم. خطبة لخالد بن عبد الله القسريّ صَعِد المِنْبر يوم جُمعة وهو والي مكّة فذكر الحجّاج فأحمد طاعته وأثنى عليه خيراً. فلمّا كان في الجمعة الثانية وَرد عليه كتابُ سُليمان بن عبد الملك يأمره فيه بشَتْم الحجّاج وذِكْر عيوبه وإظهار البَراءة منه. فَصعد المِنْبر فَحَمد الله وأثنى عليه ثمِ قال إن إبليس كان مَلَكاً من الملائكة وكان يُظهر من طاعةِ الله ما كانت الملائكة ترى له به فَضْلاً وكان اللهّ قد عَلِم من غِشّه وخًبثه ما خَفِي على ملائكته فلمّا أَراد الله فضيحته ابتلاه بالسًّجود لآدم فظهر لهم ما كان يخفيه عنهم فَلعنوه وإنّ الحجّاج كان يُظهر من طاعة أمير المًؤمنينِ ما كُنا نرى له به فَضْلاً وكان الله قد أَطْلع أميرَ المُؤمنين من غِشّه وخُبثه على مَا خفِي عنَا فلمّا أراد فَضيحته أَجرى ذلك على يد أَمير المُؤمنين فالعنوه لَعنه الله. خطبة لمصعب بن الزبير قَدِم العِراق فَصَعد المِنْبر ثم قال: بِسم الله الرحمن الرحيم: طَسِم تِلْكَ آياتُ الكِتاب المُبين نَتلو عليكَ مِن نَبَأ مُوسى وفِرْعَوْنَ بالحقِّ لِقَوْم يُؤمِنُون. إنّ فِرْعوِن عَلاَ في الأرضْ وجَعَل أَهْلَها شِيَعاً يستضعف طائفةً منهم يُذبحُ أَبناءَهم ويَسْتحْي نِسَاءَهم إنه كان من المُفْسِدين - وأشار بيده نحو الشام ونُرِيد أَنْ نَمُنَّ على الذين اسْتُضْعِفُوا في الأرض ونَجْعَلَهم أَئَمةً ونَجْعَلَهم الوارثين - وأشار بيده نحو الحجاز - ونُمَكِّن لهم في الأرض ونُرِيَ فِرْعون وهامانَ وجنُودهما منهم ما كانوا يَحْذَرون - وأشار بيده نحو العراق. خطبة للنعمان بن بشير بالكوفة قال: إنّي واللهّ ما وجدتُ مَثَلي ومَثَلَكم إلّا الضّبُعِ والثّعلب أتيا الضّبّ في حُجْره فقالا: أبا حِسْل قال أَجَبتكما قالا: جئْناك نخْتصم قال: في بيته يُؤتىَ الحَكَم قالت الضبعُ: فتحتُ عيْني قال: فِعْل النًساء فَعَلْت قالت: فلقطتُ تَمْرة قال: حُلْواً اجتنيتِ قالت: فاختطَفها ثُعالةَ قال: لنفسه بَغى الخَيْر قالت: فلطمتُه لَطْمة قال: حقَّاً قَضَيْتِ قالت: فَلَطَمني أخرى قال: كان حُرِّاً فانتصر قالت: فاقض الآن بيننا قالت: حَدِّث امرأة حَدِيثين فإن أَبت فاربعْ خطبة شبيب بن شيبة قيل لبعض الخُلفاء إن شَبيب بن شيبة يَستعمل الكلام ويَسْتعدّ له فإنْ أمرتَه أن يَصْعد المِنبر لرجوتَ أن يَفْتضِح. قال: فأمر رسولَاً فأخذ بيده إلى المَسجد فلم يُفارقه حتى صَعد المنبر فحَمَد لله وأَثنىِ عليه وصلّى على النبيّ ﷺ حقّ الصلاة عليه ثم قال: ألا إن لأميرِ المُؤمنين أشباهاَ أَرْبعة: الأسَد الخادِر والبَحْر الزاخر والقَمر الباهر والرَّبيع الناضر. فأمّا الأسد الخادر فأَشبهَ منه صَوْلَتَه ومَضاءه وأمِّا البحر الزاخر فأشبهَ منه جُودَه وعطاءه وأمّا القَمِر الباهر فأشبَه منه نُورَه وضِياءه وأمّا الرَّبيع الناضر فأشبَه منه حُسْنه وبهاءه ثم نزل عن المنبر وأنشأ يقول: ومَوْقف مثل حَدّ السَّيف قمت به أُحْمِي الذِّمَار وتَرْمِيني به الحَدَقُ فما زَلِقْتُ وما ألقيتُ كاذبةً إذا الرجالُ على أَمْثاله زَلِقوا خطبة لعتبة بن أبي سفيان بلغه عن أهل مِصْر شيءٌ فأَغضبه فقام فيهم فقال بعد أنْ حَمِد الله وأثنى عليه: يأهل مصر إيّاكم أن تَكُونوا للسيف حَصِيداً فإنّ الله فيكم ذَبِيحاً بِعُثمان أرجو أن يُولِّيني الله نُسكه. إنّ اللهّ جَمعكم بأمير المُؤمنين بعد الفرقة فأعْطى كُل ذي حَقّ حقَّه وكانَ والله أَذْكَرَكم إذا ذُكِّر بخُطة وأَصْفَحكِم بعد المَقْدرة عن حقّه نعمةً من الله فيكم ومِنّة منه عليكم. وقد بَلغنا عنكم نجْمُ قَوْل أَظْهره تَقدّمُ عَفْو مِنَا فلا تَصِيروا إلى وَحْشة الباطل بعد أُنْس الحق بإحياء الفتن وإماتة السُّنَن فَأَطَأَكم والله وَطْأَةً لا رَمَق معها حتى تُنْكروا منّي ما كنتم تَعْرفون وتَسْتخشنوا ما كُنتم تَسْتلينون وأَنا أُشهد عليكم الذي يعلم خائنةَ الأعْين وما تُخفي الصُدور. خطبة لعتبة بن أبي سفيان يا حامِلي الأم أُنوف رُكّبت بين أعين إنّما قَلَمت أَظْفاري عنكم لِيلينَ مَسيِّ إياكم وسألتُكم صلاحَكم إذ كان فَسادُك! راجعاً عليكم فأمّا إذ أبيتُم إلّا الطّعنَ على الوُلاة والتّنقّص للسَّلف فواللهّ لاقطعن على ظُهوركم بُطون السياط فإن حَسمتْ داءكم وإلّا فالسيفُ من ورائكم. ولستُ أَبخل عليكم بالعقُوبة إذا جُدْتم لنا بالمَعْصية ولا أُؤْيسكم من مُراجعة الحُسنى إن صِرْتم إلى التي هي أبرُّ وأَتْقى. خطبة لعتبة بن أبي سفيان لمّا اشْتكى شَكاتَه التِي مات فيها تَحامل إلى المِنْبَر فقال: يأهل مِصرْ لا غِنَى عن الربّ ولا مَهْرَب من ذنْب! إنِّه قد تَقَدَّمت منّي إليكم عُقوبات كُنْت أَرْجو يومئذ الأجرَ فيها وأنا أخافُ اليوم الوِزْر منها فليتَني لا أكونُ اخترتُ دُنياي على مَعادي فأَصْلحتكم بِفَسادي. وأنا أستغفرالله منكم وأتوب إليه فيكمِ فقد خِفْتُ ما كنتُ أرجو نفعاً عليه ورجوتُ ما كنتُ أخاف اغتيالاً به وقد شقي مَن هلك بين رحمة الله وعقوبته والسلامُ عليكم سلامَ مَن لا تَرَوْنه عائداً إليكم. قال: فلم يَعُد. وخطبة لعتبة العُتبيّ: قال سعد القَصر: احتبستْ عنَا كُتبُ معاوية بن أبي سُفْيان حتى أرجف أهلُ مِصْر بموتِه ثم قَدِم علينا كتابُه بسلامته فَصَعِد عُتبةُ المِنْبر والكتابُ في يده فَحَمِد الله وأَثنى عليه ثم قال: يأهل مصرْ قد طالت مُعاتبتنا إيّاكم بأطْراف الرِّماح وظُبات السُيوف حتى صِرْنا شَجىً في لَهَوَاتكم ما تُسيغه حُلوقُكم وأقْذَاءً في أعينكم ما تَطْرِف عليها جُفونُكم. أفحِين اشتدَت عُرَى الحقّ عليكم عَقْداً واسترخت عُقَد الباطِل عنكم حَلّا أرجفتم بالخَلِيفة وأردْتم تَهْوين الخِلافة وخُضْتم الحقَّ إلى الباطل وأقْدَمُ عَهْدكم به حديث فارْبحوا أَنْفُسَكم إذ خَسِرْتمِ دِينَكم فهذا كتابُ أمير المؤمنين بالخَبر السارّ عنه والعَهْد القَريب منه واعلموا أن سُلطاننا على أَبْدَانكم دون قلوبكم فأَصْلحوا لنا ما ظَهر ونَكِلُكم إلى الله فيما بَطَن واظهروا خَيْراً وإن أضمَرتم شَرّاً فإنكم حاصدُون ما أنتم زارعُون وعلى الله أَتوكّل وبه أستعين. ثم نزل. خطبة لعتبة في الموسم سعد القَصر مولى عُتبة بن أبي سُفيان قالت: دَفع عُتبة بن أبي سُفيان بالمَوْسم سنة إحدى وأربعين والناسُ حديثٌ عهدُهم بالفِتْنة فقال بعد أن حَمد الله وأثنى عليه: إنّا قد وَلينا هذا المَقامِ الذي يضاعف الله فِيه للمُحسنين الأجر وللمُسيئين الوِزْر ونحن على طريق ما قصدْنا له فلاَ تَمُدُّوا الأعناق إلى غيرنا فإنها تَنْقطع مِن دُوننا ورُبّ مُتَمنِّ حَتْفُه في أمْنِيّته. اقبلونا ما قَبِلْنا العافيةَ فيكم وقَبِلْناها منكم وإياكم ولَوْ فإن لو قد أتعبت مَن قَبلكم ولم تُرح مَن بعدكم فأسأل الله أن يُعين كلاً على كل. فناداه أعرابيّ من ناحية المسجد: أيها الخليفة قال: لستُ به ولم تُبْعِد فقال: يا أخاه فقال: سمعتُ فقُل فقال: والله لأن تُحسنوا وقد أسأنا خيرٌ لكم من أن تُسيئوا وقد أحسنا فإن كان الإحسان لكم فما أحقَّكم بإستتمامه وإن كان لنا فما أحقَّكم بمًكافأتنا رجل من بنىِ عامر بن صَعْصة يتلقَّاكم بالعُمومة ويَخْتص إليكم بالخُؤولة وقد كَثًر عياله ووَطئه زمانُه وبه فَقْر وفيه أجر وعنده شكر. فقال عتبة: أستغفر الله منكم وأسأله العون عليكم ولد أمرت لك بغِناك فليتَ إسراعَنا إليك يقوم بإبطائنا عنك. وخطبة لعتبة بن أبي سفيان سعد القَصر قال: وَجّه عُتبة بن أبي سُفيان ابن أخي أبي الأعور السُلميّ إلى مصر فمنعوه الخراج فَقدم عليه عُتبة فقام خطيباً فقال: يأهل مصْر قد كنتم تَعْتذرون لبعض المنع منكم ببَعْض الجَوْر عليكم فقد وَليكم مَن يقول ويَفعل ويَفْعل ويقول فإن رَدَدْتم رَدّكم بيده وإن استصعبتم رَدّكم بسَيفه ثم رجا في الأخِر ما أمل في الأوَّل. إن البَيْعة مُشَايعة فلنا عليكم السَّمْع والطاعةُ ولكم علينا العَدْل فأينا غَدر فلا ذِمّة له عند صاحبه والله ما انطلقتْ بها ألسنُتنا حتى عقدت عليها قلوبنُا ولا طَلبناها منكم حتى بذَلناها لكمِ ناجزاً بناجز ومن حَذر كمن بَشّر. قال: فَنادوه: سَمْعاً وطاعة فناداهم. عَدْلاً عَدْلاً. خطبة لعتبة قَدِم كتابُ معاوية إلى عُتبة بمصر: إنّ قِبَلك قوماً يَطْعنون على الوُلاة ويَعِيبون السَّلف. فَخَطبهم فقال: يأهل مصر خَفّ علِى ألسنتكم مَدْحُ الحقّ ولا تَفْعلونه وذَمّ الباطل وأنتم تَأْتونه كالحِمار يَحْمل أسفاراً وأثْقلَه حَمْلُها ولم يَنْفعه عِلْمُها وايم الله لا أداويكم بالسيّف ما صَلَحتم على السَّوط ولا أبلغ بالسوط ما كَفَتْني الدِّرة ولا أبطى عن الأولى ما لم تُسْرعوا إلى الأخرى فالزموا ما أمركم الله به تَسْتَوجِبوا ما فَرض الله لكم علينا وإيّاكم وقال ويقول قبل أن يُقال فَعل ويَفْعل وكونوا خَيْر قَوْس سَهْماً فهذا اليوم الذي ليس قَبله عِقاب ولا بعده عِتاب. خطب الخوارج خطبة قطري بن الفجاءة في ذم الدنيا صَعِد قطريّ بن الفُجَاءة مِنْبر الأزارقة وهم أحد بني مازن بن عمرو بنِ تميم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإني أحَذِّركم الدُّنيا فإنها حُلوة خضِرة حُفت بالشَّهوات وراقت بالقليل وتحبّبت بالعاجلة وغُمِرت بالآمال وتَحَلت بالأماني وأزّيّنت بالغُرور لا تَدُوم خضرتها ولا تُؤْمَن فَجْعَتها غَدَّارة ضَرَّارة وحائلة زائلة ونافدة بائدة لا تَعْدو إذا هي تَنَاهت إلى أمنية أهل الرغْبة فيها والرِّضا عنها أن تكون كما قال الله عز وجلَّ: " كماءٍ أنْزَلناه من السَّماء فاخْتَلط به نبات الأرْض فأصْبَحَ هَشِيماً تَذْروه الرِّياح وكانَ الله عَلَى كلِّ شيءٍ مُقْتَدرأ " مع أنَّ أمرأً لم يكن منها في حَبْرة إلا أعْقبته بعدها عَبْرة ولم يَلْق من سَرِّائها بَطْناً إلا مَنَحته من ضَرَائها ظَهْراً ولم تَطُلّه منها دِيمة رَخاء إلا هَطلت عليه مُزْنة بَلاء وحَرِيّ إذا أصبحتْ له مُنتصرة أنْ تُمْسي له خاذلة مُتَنَكِّرة وإنْ جانبٌ منها اعذوذب واحلولى أمرّ عليه منها جانب فأوْبى وإن لَبِس امرؤ من غَضَارتها ورفاهِيتها نِعماً أرْهَقَتْه من نوائبها غمّاً ولم يُمْس امرؤ منها في جَناح أمْن إلا أصْبح منها على قوادم خَوْف. غرارة عُرُور ما فيها فانية فانٍ ما عليها لا خيْرَ في شيء من زادها إلاّ التّقوى مَن أقل منها اسَتكثر مما يؤمّنه ومن استكثر منها استكثر مما يُوبقه. كم واثق بها قد فَجَعَته وذي طُمائينة إليها قد صَرَعَته وكم من ذي اختيال فيها قد خَدَعَته وكم من ذي أبهه فيها قد صيَرَّته حَقيراً وذي نخْوَة فيها قد ردَّته ذليلاً وذي تاجٍ قد كَبَّتْه لليدين والفم. سُلطانها دُوَل وعيشها رَنْق وعذْبُها أجَاج وحُلْوًها مُرّ وغِذاؤها سِمَام وأسبابها رِمَام وقِطَافها سَلَع. حَيُّها بعَرَض مَوْت وصَحيحها بعَرَض سُقْم ومَنيعها بعَرَض اهتضام. مَلِيكها مَسْلوب وعزيزها مَغْلوب وصحيحها وسَليمها مَنْكوب وحائزها وجامعُها مَحْروب مع أنَ مِن وَرَاء ذلك سَكراتِ الموت وزَفَرَاته وهَوْل المُطّلع والوُقوف بين يَدَي الحَكَم العَدْل ليَجْزِيَ الذين أساءوا بما عملوا ويجْزيَ الذين أحسنوا بالحُسنى. ألستُم في مساكن منْ كان منكم أطولَ أعماراً وأوْضَح آثاراً وأعدَ عديداً وأكْثَفَ جُنُوداً وأعمَد عَتَاداً وأصول عِمَاداً! تُعَبِّدُوا للدُّنيا أيِّ تَعَبُّد وأثروها أفيَ إيثار وظَعنوا عنها بالكُرْه والصَغار! فهل بَلَغكم أنَّ الدُّنيا سَمَحَتْ لهم نَفْساً بِفِدْية وأغنَتْ عنهم فيما قد أملتهم به بخَطْب! بل أثقلتهم بالفَوَادح وضعْضَعتهم بالنوائب وعَفرتهم للمناخر وأعانَت عليهم رَيْبَ المَنون وأرهَقَتهم بالمصائب. وقد رأيتم تنكُّرها لمن دانَ لها وأثرها وأَخْلَد إليها حتى ظَعَنوا عنها لِفِراق الأبد إلى آخِر الأمَد. هل زؤَدَتهم إلا الشقاء وأَحَفَتهم إلا الضَّنْك أو نوَّرَت لهم إلا بالظلمة وأعْقَبتهم إلا النَّدامة! أفهذه تؤْثِرون أو على هذه تَحْرصون أو إليها تَطْمَئِنّون! يقوله الله تبارك وتعالى: " مَنْ كان يُرِيد الحياة الدُّنيا وزينَتها نُوَفِّ إليهم أعمالَهم فيها وهُم فيها لا يُبْخَسُون. أولئك الذين ليس لهم في الآخرًة إلا النّارُ وحَبِطَ ما صَنَعوا فيها وباطلٌ ما كانوا يَعْمَلون " فبئست الدَّار لمن لم يتَهمْها ولم يكن فيها على وَجَل منها. اعلموا وأنتم تعلمون أنكم تاركوها لا بُدَّ فإنما هي كما نَعَتَ الله عزِّ وجلَّ: " لعب ولَهْوٌ وزينةٌ وتَفَاخُرٌ بينكم وتَكاثُرٌ في الأمْوَال والأولَاد " فاتَّعِظُوا فيها بالذين قال الله تعالى فيهم: أتْبنون بكل رِيعٍ آيةً تَعبثُون. وتَتَّخِذون مَصانع لَعلَّكم تَخْلُدُون وبالذين قالوا: مَنْ أشَدُّ مِناقوة. واتعظوا بمن رأيتم من إخوانكم كيف حُمِلُوا إلى قُبورهم فلا يُدْعون رُكْباناً وانْزلوا الأجداث فلا يُدْعون ضِيفاناً وجُعِل لهم من الضريح أكنان ومن التراب أكفان ومن الرًّفات جِيران فهم جيرة لا يُجيبون داعِياً ولا يمنعون ضَيماً. إن أخصَبوا لم يَفْرحوا وإن قَحِطوا لم يَقْنَطوا جَمْعٌ وهُمْ آحاد جيرَة وهم أبعاد مُتَناءون يُزارون ولا يزورون حُلماء قد ذَهَبت أضغانهم وجهلاء قد ماتت أحقادُهم لا يُخْشى فَجْعهم ولا يُرْجي دَفْعهم وهم! كمن لم يكن. قال الله تعالى: " فَتِلْك مَسَاكنُهم لم تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهم إلّاَ قَليلاً وكُنا نَحْنُ الوارثين " استبدلوا بظَهْر الأرْض بَطْناً وبالسَّعة ضيقاً وبالآل غُرْبة وبالنُّور ظُلْمة فجاءوها حُفاةً عُراةً فرَادى غير أنْ ظعنوا بأعمالهم إلى الحياة الدائمة إلى خُلُود الأبد. يقول الله تبارك وتعالى: كما بَدَأْنَا أوِّلَ خَلْق نعِيدُه وَعْداً عَلَيْنا إنّا كًنّا فاعِلين. فاحذروا ما حَذّرَكم الله وانتفعوا بمواعظه واعتصموا بِحَبْلِهِ عَصَمنا الله وإياكم بطاعته ورَزَقنا وإياكم أداء حقه ثم نزل. خطبة لأبي حمزة بمكة خطبهم أبو حمزة الشَّارِي بمكة. فَصعِدَ المِنْبَر مًتَوكِّئاً على قوس عربية فَخَطب خُطْبة طويلة ثم قال: يأهل مكة تُعيِّرُونني بأصحابي تَزْعمون أنهم شَبَاب وهل كان أصحاب رسول الله ﷺ إلاّ شبَاباً! نعم الشباب مُكْتَهلين عَمِيَة عن الشرّ أعيُنهم بَطِيئة عن الباطل أرجُلُهم. قد نظر الله إليهم في آناء الليل مُنْثنِيَة أصلابهم بمثَاني القرآن إذا مرّ أحدُهم بآية فيها ذِكر الجنّة بكي شوقاً إليها وإذا مرّ بآية فيها ذكر النار شَهَق شهقة كأن زَفير جهنَّم في أُذُنيه. قد وَصَلُوا كَلالَ ليلهم بكلال نهارهم أنْضَاء عِبادة قد أكلَت الأرضُ جباهَهم وأيديَهم ورُكَبهم. مُصْفَرّة ألوَانُهم ناحلة أجسامهم من كثرة الصِّيام وطُول القِيَام مُسْتَقِلّون لذلك فٍي جَنْبِ الله مُوفون بعهد الله مستنجزون لوعد اللهّ. إذا رأوا سِهام العدوّ قد فوِّقَت ورِمَاحه قد أُشْرِعَت وسُيُوفه قد انتضيَت وبَرَقَت الكتيبة ورَعدت بصواعق الموت استهانوا بوَعيد الكَتِيبة لوعد الله فَمضي الشاب منهم قُدماً حتى تَخْتَلِف رجلاًه على عُنق فرسه قد رُمِّلت محاسنُ وجهه بالدِّماء وعُفِّر جَبِينُه بالثرى وأسَرع إليه سِبَاعُ الأرْض وانْحَطت عليه طَيْرُ السّماء فكم من مُقْلة في مِنْقار طائر طالما بَكى صاحبُها من خَشْيَة الله وكم من كَفٍّ بانت عن مِعْصَمها طالما اعتمد عليها صاحبُها في سُجوده وكم من خَدّ عَتيق وَجبين رَقيق قد فُلِق بعَمَد الحديد. رحمة الله على تلك الأبدان وأدْخل أرْواحها في الجنان. ثم قال: الناس منّا ونحن منهم إلاّ عابدَ وَثَن أو كفرة أهْل الكتاب أو إماماً جائراً أو شادًّا على عَضُده. خطبة لأبي حمزة بالمدينة قال مالك بن أنس رحمه الله: خَطبنا أبو حمزة خطبة شكّك فيها المُستبصر وردَت المًرتاب قال: أُوصيكم بتَقْوى الله وطاعته والعَمل بكتابه وسُنّة نبيّه ﷺ وصِلة الرَّحم وتَعْظيم ما صَغّرت الجبابرة من حق الله وتَصْغير ما عَظَّمت من الباطل وإماتة ما أحيوا من الجَوْر وإحياء ما أماتوا من الحُقوق وأَنْ يُطاع اللهّ ويُعمى العبادُ في طاعته فالطاعةُ لله ولأهل طاعة اللهّ ولا طاعةَ لمخلوق في مَعْصية الخالق. نَدْعوكم إلى كتاب الله وسُنة نبيّه والقَسْم بالسويّة والعَدْل في الرَّعية ووَضْع الأخماس في مواضعها التي أمر الله بها. وإنا والله ما خرجنا أَشَراً ولا بَطراً ولا لَهْواً ولا لَعِباً ولا لدُولة مُلْك نريد أن نَخُوض فيه ولا لثأرٍ قد نِيل منَّا ولكن لما رأينا الأرض قد أظلمت ومعالم الجَوْر قد ظهرت وكثر الادعاء في الدِّين وعُمل بالهوى وعُطِّلت الأحكام وقتل القائم بالقِسط وعُنَف القائل بالحق وسمعنا مُنادياً ينادي إلى الحق وإلى طِريق مُستقيم فأَجَبْنا داعيَ الله فأَقْبلنا من قبائل شَتَّى قليلين مُسْتضعفين في الأرْض فآوانا الله وأيَّدَنا بنَصْره فأصبحنا بنعمته إخواناً وعلى الدِّين أعواناً. يأهْل المدينة أوَّلُكم خير أوَّل وأخركم شرّ آخر إنكم أطعتم قًرَّاءكم وفُقهاءكم فاختانوكم عن كِتاب غير ذي عِوَج بتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين فأصبحتم عن الحق ناكبين أمواتاً غيرَ أحياء وما تَشْعرون. يأهل المدينة يا أَبناء المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ما أصح أَصْلَكم وأسْقم فَرْعَكم! كان آباؤكم أهلَ اليَقين وأهل المَعرفة بالدين والبصائر النافذة والقُلوب الواعية وأنتم أهلً الضلالة والجهالة استعبدتكم الدُّنيا فأذَلّتكمِ والأَماني فأَضَفَتكم فتح الله لكم بابَ الدين فأفْسَدتموه وأغلَق عنكم باب الدُّنيا ففَتَحتموه سِرَاع إلى الفِتْنةِ بِطَاء عن السُّنّة عُمْيٌ عن البرهان صُم عن العِرْفان عَبيد الطَّمع حُلفاء الجَزَع. نِعْم ما ورثكم آباؤكم لو حَفِظتموه وبئس ما تُوَرِّثون أبناءَكم إنْ تَمَسَّكوا به. نصرَ الله آباءكم على الحق وخَذَلكم على الباطِل. كان عدد آبائكم قليلاً طَيباً وعددكم كثيرٌ خبيث. اتبعتمُ الهوَى فأرْدَاكم والَّلهْو فأسْهاكم ومواعظُ القرآن تزجركم فلا تزْدجرون وتُعبِّركم فلا تَعتَبرون. سألناكم عن وُلاتكم هؤلاء فقلتم: والله ما فيهم الذي يَعْدل أخذوا المال من غير حلقه فوضعوه في غير حَقه وجازوا في الحكم فحَكموا بغير ما أنْزَلَ اللهّ واستأثروا بفَيئنا فجَعَلوه دولةً بين الأغنياء منهم وجعلوا مَقَاسِمَنا وحقوقنا في مُهُور النساء وفروج الإماء. وقلنا لكم تعالوا إلى هؤلاء الذين ظلمونا وظَلموكم وجاروا في الحُكم فَحَكموا بغير ما أنزل اللهّ فقلتم لا نقْوَى على ذلك وَوَدِدْنا أنّا أصَبنا مَن يكفينا فقُلنا: نحنُ نَكفيكم ثم الله راع علينا وعليكم إِن ظَفِرْنا لنُعطين كلَّ ذي حقَّه. فَجئْنا فاتقينا الرِّمَاح بصُدورنا والسًّيوف بوُجوهنا فعرَضتم لنا دونهم فقاتلتمونا فأبعدكم الله! فوالله لو قلتم لا نَعرف الذي تقول ولا نَعلْمه لكان أعذرَ مع أنه لا عُذْرَ للجاهل ولكنْ أبى الله إلّا أن يَنطق بالحق علىِ ألْسِنتكم وَيأخُذَكم به في الآخرِة. ثم قال: النّاس منّا ونحن منهم إلا ثلاثة: حاكماً جاء بغير ما أنْزَل الله أو مُتّبعاً له أو راضياً بعمله. أسقطنا من هذه الخطبة ما كان من طَعْنه على الخلفاء فإنه طعن فيها على عثمان وعليّ بن أبي طالب رضوان الله عليهما وعمر بن عبد العزيز. ولم يترك من جميع الخلفاء إلا أبا بكر وعمر وكفَّر مَنْ بعدهما فلعنةُ الله عليه. إلا أنه ذكر من الخُلفاء رجلاً أصغى إلى المَلاهي والمعازف وأضاع أمر الرعيَّة فقال: كان فلان بن فلان من عدد الخُلفاء عندكم وهو مُضَيِّع للدين والدنيا. اشترى له بُرْدَين بألف دينار اتزَزَ بأحدهما والتحف بالآخر وأقعَدَ حَبابة عن يمينه وسَلاّمة عن يساره! فقال: يا حَبَابة غَنّيني ويا سلامة اسقيني فإذا امتلأ سُكراً أو ازدهى طَرباً شَقّ ثوْبيه وقال: ألا أطير فطُيّر إلى النار وبئس المَصير. فهذه صفة خلفاء الله تعالى! وخطبة لأبي حمزة أما بعد فإنك في ناشيء فِتنة وقائم ضلالة قد طال جُثومها واشتدت عليك هُمومها وتلوَّت مصايد عدوّ الله منها وما نَصَبَ من الشِّرَك لأهل الغَفْلة عمّا في عواقبها. يَهُدّ عمودَها ولن يَنزع أوتادها إلا الذي بيده مُلْك الأشياء وهو الرّحمن الرحيم. ألا وإن للهّ بقايا من عباده لم يتَحَيّروا في ظلَمها ولم يُشايعُوا أهلها على شبهها مصابيحُ النّور في أفواهِهم تزهو وألسنتُهم بحُجَج الكتاب تَنْطق رَكِبوا مَنهج السّبيل وقاموا على العلَم الأعظم. هم خصما الشيطان الرّجيم بهم يًصْلح اللهّ البلاد ويَدْفع عن العباد. طُوبى لهم وللمستصبحين بنورهم وأسأل الله أن يجعلنا منهم. من أرتج عليه في خطبته أَول خُطبة خطبها عثمان بن عفان أُرتج عليه فقال: أيها الناس إنّ أوّلَ كُلِّ مَرْكب صعب وإنْ أعشْ تأتكم الخًطب على وَجهها وسَيَجْعَلُ الله بعد عُسْرً يسراً إن شاء اللهّ. ولما قَدِم يزيد بن أبي سفيان الشام والياً عليها لأبي بكر خَطب الناس فأُرتج عليه فعاد إلى حمد للهّ ثمِ أُرتج عليه فعاد إلى الحمد ثم ارتج عليه فقال: يأهل الشام عسى الله أن يجعل بعد عسر يُسْراً وبعد عِيٍّ بياناً وأنتم إلى إمام فاعل أحْوَجُ منكم إلى إمام قائل ثم نزل. فبلغ ذلك عمرَو بن العاص فاستحسنه. صعد ثابت قُطْنة مِنْبَر سجِسْتان فقال: الحمد لله ثم أُرتج عليه فنزل وهو يقول: فإن لا أكنْ فيهم خَطِيباً فإنني بسَيفي إذَا جدّ الوَغى لَخَطيبُ فقيل له: لو قُلتَها فوق المِنْبر لكنتَ أخطبَ الناس. وخطب معاوية بن أبيِ سفيان لما وَليَ فَحَصِر فقال: أيها الناس إنّي كنتُ أعْددتُ مقالاً أقوم به فيكم فحُجبت عنه فإن الله يحول بين المرء وقَلْبه كما قال في كتابه وأنتم إلى إمام عَدْل أحوجُ منكم إلى إمام خَطيب وإني أمركم بما أمر الله به ورسولُه أنهاكم عما نهاكم الله ورسوله وأستغفر الله لي ولكم. وصعدَ خالد بن عبد الله القَسَري المِنْبَر: فأُرتج عليه فمكثَ مليّاً لا يتكلًم ثم تهَيّأ له الكلام فتكلم فقال: أما بعد فإن هذا الكلام يجيء أحياناً ويَعْزُب أحياناً فيسيح عند مجيئه سَيْبُه ويعز عند عزُوبه طَلبه ولربما كوبر فأبي وعُولج فَنَأى فالتأنَي لمجيئه خير من التعاطي لأبيه وترْكهُ عند تنكره أفضلُ من طَلبه عند تعذره وقد يرْتَج على البليغ لسانُه ويَخْتَلج من الجَريء جَنانُه وسأعود فأقول إنْ شاء الله. صَعِدَ أبو العَنْبَس مِنْبَراً من مَنابراً الطائف فَحَمِد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فاُرتج عليه فقال: أتدرون ما أريد أن أقول لكم قالوا: لا قال: فما يَنْفعكم ما أريد أن أقول لكم ثم نزل. فلما كان في الجُمعة الثانية صَعِد المنبر وقال: أما بعد فأُرتج عليه فقال: أتدرون ما أُريد أن أقول لكم قالوا: نعم قال: فما حاجتُكم إلى أن أقول لكم ما عَلِمتم ثم نزل. فلما كانت الجُمعة الثالثة قال: أما بعد فأُرتج عليه قال: أتدرون ما أُريد أن أقول لكم قالوا: بعضُنا يدري وبعضنا لا يدري قال: فَليُخبر الذي يدري منكم الذي لا يدري ثم نزل. وأتى رجلٌ من بني هاشم اليمامةَ فلما صَعِد المِنْبر أُرتج عليه فقال: حيّا الله هذه الوُجوهَ وجَعلني فِدَاها قد أمرتُ طائفي بالليل أن لا يرى أحداً إلا أتاني به وإن كنتُ أنا هو ثم نزل. وكان خالدُ بن عبد اللهّ إذا تكلّم يَظُنّ الناس أنه يَصْنع الكلام لعُذوبة لفظه وبلاغة مَنْطقه فبينا هو يخطُب يوماً إذ وَقعت جرادة على ثوبه فقال: سُبحان مَن الجرادُ مِن خلقه أدمج قوائمها وطَرْفها وجَنَاحيها وسَلطها على مَن هو أعظم منها. خَطبَ عبد الله بن عامر بالبَصرة في يوم أضحى فأُرتج عليه فمكث ساعة ثم قال: واللهّ لا أجمع عليكم عِيًّا ولُؤْما من أخذ شاةً من السوق فهي له وثمنها عليِّ. قيل لعبد الملك بن مَروان: عَجّل عليك المَشيب يا أميرَ المؤمنين. فقال: كيف لا يُعَجل وأنا أعْرِض عقلي على الناس في كل جُمعة مرةً أو مرتين.
خطب النكاح
خَطب عثمانُ بنِ عَنْبَسة بني أبي سُفيان إلى عُتبة بن أبي سفيان ابنته. فأقعده على فَخذه وكان حَدَثاً فقال: أقرَبُ قريب خَطب أحب حبيب لا أستطيع له ردًا ولا أجِد من إسعافه بداً قد زَوجتكها وأنت أعزُّ علي منها وهي ألصَق بقلبي منك فأكْرِمها يَعْذُب على لساني ذِكْرُك ولا تُهنْها فيَصْغُرَ عندي قَدْرُك وقد قَرَّبتُك مع قُرْبك فلا تبعد قلبي مِن قلبك. خطبة نكاح العُتبي قال: زوج شبيب بن شَيبة ابنه بنتَ سًوّار القاضي فقلنا: اليومَ يَعُب عُبابه. فلما اجتمعوا تكلّم فقال: الحمد لله وصلى الله على رسول الله. أما بعد فإن المَعرفة منا ومنكم وخطبة نكاح العُتبي قال: كان الحَسَن البَصري يقول في خُطبة النِّكاح بعد الحمد لله والثناء عليه: أما بعد فإِنّ الله جَمع بهذا النّكاح الأرحام المُنقطعة والأنساب المتفرّقة وجَعَل ذلك في سُنّة من دينه ومنهاج من أمرِه. وقد خَطب إليكم فلان وعليه من الله نِعْمة وهو يَبْذل من الصداق كذا فاستخيروا الله ورُدّوا خيراً يرحمكم الله. خطبة نكاح العُتبي قال: حَضَرْت ابن الفقَيَر خَطب على نفسه امرأةً من باهلة فقال: وما حسنٌ أن يمْدَحَ المرْءُ نفسَه ولكنَ أخلاقاً تُذَمُ وتُمْدَحُ وإن فلانة ذُكِرت لي. وخطبة نكاح العُتبي قال: يُستَحَب للخاطب إطالة الكلام وللْمخطوب إليه تَقْصيره. فَخَطب محمدُ بن الوليد إلى عمر بن العزيز أختَه فتكلّم محمد بكلام طويل. فأجابه عمر: الحمد لله ذي الكِبْرياء وصلى الله على محمد خاتم الأنبياء. أما بعد فإنّ الرّغْبة منك دَعَتْك إلينا والرّغبةَ فيك أجابتك منّا وقد أحسنَ بك ظنّا مَن أودعك كريمتَه واختارك ولم يخْتر عليك وقد زَوَّجتكها على كتاب الله إمساكاً بمعروف أو تَسْريحاً بإحسان. خطبة نكاح خطب بلالٌ إلى قوم من خَثْعم لنفسه ولأخيه فَحَمِد الله وأثنى عليه ثم قال: أنا بلال وهذا أخي: كنا ضالّين فهدانا الله عَبْدَين فأعتقنا الله فقيرين فأغنانا الله فإن تُزوَجونا فالحمد لله وإن تَرُدُونا فالمُستعان الله. وقال عبدُ الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز: قد زَوَجَك أمير المؤمنين ابنتَه فاطمة. قال: جزاك الله يا أمير المؤمنين خَيراً فقد أجْزلت العطية وكفَيت المسألة. نكاح العبد الأصمعي قال: زوج خالدُ بن صفوان عبدَه من أمته فقال له العبد: لو دَعوتَ الناس وخَطبت! قال: ادعهم أنت. فدعاهم العبد فلما اجتمعوا تكلَّم خالد بن صَفوان فقال: إنَّ الله أعظم وأجلُّ من أن يُذْكر في نِكاح هذين الكلبين وأنا أشهدكم أني زَوَّجت هذه الزانية من هذا ابن الزانية. خطب الأعراب الأصمعي قال: خطَبَ أعرابيّ فقال: أما بعد فإنَّ الدُنيا دَار مَمَرَّ والآخرة دار مَقَرّ فخُذوا من مَمَرِّكم لمَقَركم ولا تَهْتِكوا أستارَكم عند من لا تخفى عليه أسرارُكم واخرِجوا من الدنيا قُلوبَكم قبل أن تَخْرُج منها أبدانُكم ففيها حَيِيتم ولغيرها خُلقتم اليومَ عمل بلا حِساب وغداً حسابٌ بلا عَمل. إنَّ الرجل إذا هَلك قال الناس: ما تَرك وقالت المَلَائكة: ما قدَم فقدِّموا بعضاً يكون لكم قَرْضاً ولا تَتْركوا كُلَاً فيكون عليكم كَلّاً. أقول قولي هذا والمَحمود الله والمُصلى عليه محمد والمَدْعو له الخليفة ثم إمامُكم جعفر قُوموا إلى صلاتكم. خطبة لأعرابي الحمد لله الحميد المُستحمد وصَلّى الله علي النبيّ محمد أما بعد فإن التعمّق في ارتجال الخًطب لَمُمكن والكلامَ لا يَنثني حتى يُنْثنى عنه والله تبارك وتعالى لا يُدرك واصفٌ كُنْه صِفته ولا يبلغ خَطِيب مُنْتهى مِدْحته له الحمدُ كما مَدح نفسه فانهضوا إلى صلاتكم ثم نزل فصلى. خطبة أعرابي لقومه يَنْهَى عن أمر ويَرْتكبه ويَأمر بشيء ويَجْتنبه وقد قال الأول: وَدع ما لُمت صاحبَه عليه فَذَم أن يَلُومك مَن تَلُومُ ألهمنا الله وإياكم تَقواه والعملَ برضاه. وفي الأم زيادة من غير أَصلها فأوردتُها كهيئتها وهي خُطبة لعلي كرم الله وجهه أوردت في هذه المُجنّبة تِلْو خُطبة المأمون يوم عيد الفطر: جاء رجل إلى عليّ كرم الله وجهه فقال: يا أمير المؤمنين صِفْ لنا رَبنا لنزداد له مَحبَّة وبه مَعْرفة. فغضب علي كرم الله وجهه ثم نادَى: الصلاةً جامعة. فاجتمع الناسُ إليه حتى غصَ المَسجد بأهله ثم صَعِد المنبر وهو مُغْضَب مُتغير اللون فَحَمد اللهّ وأثنى عليه بما هو أهله ثمّ صلّى على النبي ﷺ ثم قال: الحمدُ لله الذي لا يَعُزه المنع ولا يُكديه الإعطاء بل كلّ مُعْطٍ يَنْقص سِواه هو المنَّان بفرائد النِّعم وعَوائد المَزيد وبجُوده ضَمِنت عيالَةُ الخلق ونُهج سَبيلُ الطلب للراغبين إليه. وليس بما يُسأل أجودَ منه بما لا يُسأل وما اختلف عليه دَهْر فتختلفَ فيه حال ولو وَهَب ما انشقَّت عنه معادنُ الجبال وضَحِكت عنه أصدافُ البحار من فِلَذ اللَّجين وسبائك العِقْيان وشَذْر الدرّ وحَصيد المَرْجان لبعض عباده ما أَثر ذلك في مُلكه ولا في جُوده ولا أَنفد ذلك سَعَةَ ما عنده. فعندَه من الأفضال ما لا يُنْفِده مَطْلَب وسؤال ولا يَخْطِر لكم على بال لأنه الجوادُ الذي لا تَنْقصه المواهب ولا يُبرمه إلحاحُ الملحَين بالحوائج إنّما أمرُه إذا أراد شيئاً أن يقول له كُن فيكُون. فما ظَنًّكم بمَن هو هكذا ولا هكذا غيرُه سبحانَه وبحمده! أيها السائل اعقل ما سألَتني عنه ولا تسأَل أحداً بعدي فإني أكْفيك مؤونة الطٌلب وشِدّة التّعمق في المَذْهب. وكيف يُوصف الذي سألَتني عنه وهو الذي عَجزت عنه الملائكة علىِ قُربهم من كرسيّ كرامته وطُول وَلَهم إليه وتَعْظيمهم جلالَ عِزته وقُربهم من غيْب ملكوته أن يَعْلَموا من عِلْمه إلا ما علّمهم وهم من ملكوت العرش بحيثُ هم ومن مَعرفته على ما فَطرهم عليه فقالوا: سُبحانك لا عِلْم لنا إلا ما عَلمتنا إنك أنت العليم الحكيم. فمدح الله اعترافهم بالعَجْز عما لم يُحيطوا به عِلْماً وسَمّى تَرْكَهم التعمّق فيما لم يُكلفهم البحثَ عنه رُسوخاً. فاقتِصرْ على هذا ولا تَقْدِرُ عظمةَ الله على قَدْر عقلك فتكونَ من الهالكين. واعلم أَنّ الله الذي لم يَحْدُث فيُمِكنَ فيه التغيّرُ والانتقال ولم يَتغيَّر في ذاته بمرور الأحوال ولم يَختلف عليه تعاقبُ الأيّام والليالي هو الذي خلق الخلقَ على غير مِثال أمتثله ولا مِقدار احتذى عليه مِن خالقِ كان قبلَه بلى أرَانا من مَلكوت قُدرته وعجائب ربُوبيّته مما نَطقت به آثار حِكْمتهَ واضطرارِ الحاجة من الخَلق إلى أن يُفَهِّمهم مَبلغ قوَّته ما دَلِّنا بقيام الحُجة له بذلك علينا على مَعْرفته. ولم تُحِط به الصِّفات بإدراكها إيّاه بالحدُود مُتناهياً وما زال إذ هو الله الذي لسِر كمثله شيء عن صِفَة المَخلوقين مُتعالياً انحسرت العُيون عَن أن تَنالَه فيكونَ بالعِيان مَوْصوفاً وبالذات التي لا يَعْلمها إلّا هو عند خَلْقه مَعْروفاً. وفات لعلوّه عن الأشياء مواقِعَ وَهْم المُتوهِّمين وليسِ له مِثْل فيكونَ بالخلق مُشَبَّهاً وما زال عند أهل المَعرفة به عن الأشباه والأنداد منزَّهاً. وكيف يكون مَن لا يُقْدَر قَدْره مُقدَّراً في روايات الأوهام وقد ضَلّت في إدراك كيفيته حواسُّ الأنام لأنه أجلُّ من أن تَحُدَّه ألبابُ البَشر بنَظير. فسبحانه وتعالى عن جَهلِ المخلوقين وسُبحانه وتعالى عن إفك الجاهلين. ألَا وإن لله ملائِكةً ﷺ لو أَنّ مَلَكاً هَبط منهم إلى الأرض لما وَسِعَتْه لِعظم خَلْقه وكَزْة أجنْحته ومن ملائكته مَن سَدّ الآفاق بجنَاح من أَجْنحته دون سائر بَدَنه ومنِ ملائكته مَن السمواتُ إلى حُجْزَته وسائرُ بدنه في جِرْم الهواء الأسفل والأرضون إلى رُكبته ومِن ملائكته مَن لو اجتمعت الإنسُ والجنّ على أن يَصِفوه ما وَصفوه لبُعدِ ما بين مَفاصِلِه ولحُسن تركيب صورته وكيف يُوصف مَنْ سَبْعُمائة عام مِقدار ما بين مَنْكِبيه إلى شَحْمة أُذنيه ومِن ملائكته مَن لو أُلقيت السُفن لا دموع عينيه لَجَرَت دَهْرَ الدَاهرين. فأين أين بأحدكم! وأين أين أن يدرِك ما لا يُدْرَك!