الصفدية/4

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


وهذا المقام هو من الأصول العظام التي اضطربت فيها رؤوس أهل النظر والفلسفة والكلام ومن سلك الطرق النبوية السامية علم أن العقل الصريح مطابق للنقل الصحيح وقال بموجب العقل في هذا وفي هذا وأثبت ما أثبتته الرسل من خلق السموات والأرض في ستة أيام وأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه ولم يجعل شيئا سوى الله قديما معه بل كل ما سواه محدث كائن بعد أن لم يكن مع قوله أن ترجيح أحد المتماثلين على الآخر لا يكون إلا بمرجح ولا فرق في ذلك بين مرجح ومرجح ومع قوله أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ومع إثباته حدوث كل ما سوى الله بالبرهان العقلي الصريح الذي لا يحتاج معه إلى تعجيز الله في الأزل عن الفعل وإلى أن يقول أنه إن لم يكن الفعل ممكنا ثم صار ممكنا من غير حدوث شيء ومن غير أن يحتاج إلى أن يجعل الحوادث تحدث بلا سبب أصلا ومع إبطاله أن يكون صانع العالم موجبا بذاته وعلة أزلية مستلزمة لمعلولها ومع قوله أن كل ما لا يسبق الحوادث من الممكنات فإنه لا يكون إلا حادثا بها لامتناع دوام الحوادث بل لامتناع صدور المحدثات وما لا يتقدم عن موجب بالذات وإذا بطل الموجب بالذات لزم حدوث كل ممكن فإن قدم شيء من الممكنات لا يكون إلا إذا كان له موجب تام أزلي وإذا امتنع شرط القدم لشيء من الممكنات امتنع قدم شيء من الممكنات وهذا مبسوط في موضعه ولكن المقصود هنا أن كثيرا من أهل النظر والكلام كالأشعري وغيره أنكروا الأسباب والطبائع والقوى الموجودة في خلق الله وأمره وأنكروا حكم الله المقصودة بذلك

وقالوا في لامات كي المذكورة في القرآن كقوله وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون سورة الذاريات 56 وقوله ولذلك خلقهم سورة هود 119 وقوله لعلهم يتقون سورة البقرة 187 وأمثال ذلك هي لام العاقبة ليست لام التعليل إذ كان يمتنع عندهم أن يفعل الله شيئا لأجل شيء أو يأمر بشيء لأجل شيء فهؤلاء لا يثبتون في الأفلاك العلوية ولا الأجسام السفلية ولا النفوس قوى تكون سببا لحدوث شيء وإذا أنكروا تأثير القدرة التي للحيوان فهم لما سواها أشد إنكارا وهؤلاء إذا أرادوا أن يجيبوا الفلاسفة عما ادعوه من أسباب المعجزات وغيرها من الخوارق قالوا نحن نقول أن المؤثر في الحوادث هو قدرة الله فقط ولا أثر لشيء من ذلك ولهذا قال الأشعري إن أخص وصف الرب هو القدرة على الإختراع والكلام بين هؤلاء وبين منازعيهم في مقامين أحدهما أنهم لا يسلمون حصول الخوارق مقارنة لما تذكره الفلاسفة من الأسباب

الثاني أنهم إذا سلموا ذلك جعلوا ذلك كسائر الأمور التي علم اقترانها في العادة فإن العادة جارية بأن الإنسان يأكل فيشبع ويشرب فيروي ويضرب بالسيف فيقطع فإذا كانوا يقولون إن مجرد القدرة القديمة هي المحدثة للشبع والري والقطع وغير ذلك عند هذه الأمور المقارنة لها لا بها وأنه ليس هنا قوة ولا طبيعة ولا فعل له تأثير في هذه الحوادث بوجه من الوجوه كان قولهم لذلك في المعجزات أقوى وأظهر وأبو حامد الغزالي في كتاب تهافت الفلاسفة جعل هذه المسألة من الأصول التي نازع فيها الفلاسفة ولهذا اشتد نكير ابن رشد عليه في تهافت التهافت وجعل هذا من المواضع التي استطال بها على أبي حامد وانتهز بها الفرصة في الرد عليه والإنتصار للفلاسفة وأما المعتزلة ونحوهم من القدرية فيفرقون بين تأثير الحي القادر وتأثير غيره ويقرون بإثبات التأثير للقادر سواء كان خالقا أو مخلوقا ولا يثبتون لغير ذلك تأثيرا

ويزيدون على ذلك حتى يجعلون ما تولد عن فعل الإنسان من فعله ولا يجعلون لبقية الأسباب التي شاركته تأثيرا فإن أفعال الإنسان وغيره من الحيوان على نوعين أحدهما المباشر والثاني المتولد فالمباشر ما كان في محل القدرة كالقيام والقعود والأكل والشرب وأما المتولد فهو ما خرج عن محل القدرة كخروج السهم من القوس وقطع السكين للعنق والألم الحاصل من الضرب ونحو ذلك فهؤلاء المعتزلة يقولون هذه المتولدات فعل العبد كالأفعال المباشرة وأولئك المبالغون في مناقضتهم في مسائل القدر من الأشعرية وغيرهم يقولون بل هذه الحوادث فعل الله تعالى ليس للعبد منها فعل أصلا وهم وإن كانوا لا يثبتون لقدرة العبد أثرا في حصول المقدور فإنهم يفرقون بين ما كان في محل القدرة فيجعلونه مقدورا للعبد وما كان خارجا عن محل القدرة فلا يجعلونه مقدورا للعبد وأكثر من نازعهم يقول أن هذا كلام لا يعقل فإنه إذا لم يثبت للقدرة أثر لم يكن الفرق بين ما كان في محل القدرة وبين ما كان في غير محل القدرة إلا فرقا في محل الحادث من غير أن يكون للقدرة في ذلك تأثير وتسمية هذا مقدورا دون هذا تحكم محض وتفريق بين المتماثلين

ولهذا قال بعض الناس عجائب الكلام التي لا حقيقة لها ثلاثة طفرة النظام واحوال أبي هاشم وكسب الأشعري وإذا قيل لهؤلاء الكسب الذي أثبتموه لا تعقل حقيقته فإذا قالوا الكسب ما وجد في محل القدرة المحدثة مقارنا لها من غير أن يكون للقدرة تأثير فيه قيل لهم فلا فرق بين هذا الكسب وبين سائر ما يحدث في غير محلها وغير مقارن لها إذ اشتراك الشيئين في زمانهما ومحلهما لا يوجب كون أحدهما له قدرة على الآخر كاشتراك العرضين الحادثين في محل واحد في زمان واحد بل قد يقال ليس جعل الكسب قدرة والقدرة كسبا بأولى من العكس إذا لم يكن إلا مجرد المقارنة في الزمان والمحل ولهذا قال أهل السنة وأهل الإثبات من سائر الطوائف إن العبد فاعل لفعله حقيقة بخلاف جمهور الأشعرية ومن وافقهم فإنهم يقولون إنه فاعل مجازا وليس حقيقة ويقولون أن فعل العبد فعل لله لا للعبد لأنهم مع سائر أهل السنة المثبتين للقدر يقولون أن الله تعالى خالق أفعال العباد وهم يقولون أن فعل الله هو مفعوله والخلق هو المخلوق

وقد وافقهم على ذلك طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وهو أول قولي القاضي أبي يعلى ثم رجع عن ذلك ووافق الجمهور من أصحاب مالك والشافعي وأحمد في أن الخلق غير المخلوق وهو قول الحنفية وأهل الحديث وجمهور الصوفية وجمهور أهل الكلام فلما كان هؤلاء يقولون إن فعل الله هو مفعوله والخلق هو المخلوق ويقولون أن فعل العبد مخلوق لله لزمهم أن يقولوا أن فعل العبد فعل لله وإذا كان فعله فعلا لله لم يكن فعلا له لأن الفعل الواحد لا يكون فعلا لفاعلين ولهذا قامت الشناعة عليهم من جماهير الناس المثبتين للقدر والنافين له وأرادت القدرية من المعتزلة والشيعة وغيرهم بهذه الزلة من هؤلاء أن يتوسلوا بذلك إلى إبطال قول أهل السنة في القدر وأن الله لم يخلق أفعال العباد لأن جمهور المعتزلة يقولون أيضا إن الخلق هو المخلوق فإذا كان العبد فاعلا لفعله امتنع أن يكون مخلوقا لله إذ المخلوق هو الخلق والمفعول هو الفعل عندهم كما هو كذلك عند الأشعرية

فلما اتفق هذان الفريقان على أن الخلق هو المخلوق والفعل هو المفعول تباينوا في مسألة أفعال العباد تباينا صاروا فيه على طرفي نقيض هؤلاء يقولون ثبت أن العبد فاعل لفعله فلا يكون فعله فعلا لله فلا يكون خلقا لله فلا يكون مخلوقا لله وهؤلاء يقولون ثبت أن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها فلا يكون في الوجود ما هو فعل ولا مفعول لغير الله إذ الفعل هو المفعول فلا تكون حركات العباد فعلا لهم بل لله تعالى وأما جمهور الخلق من أهل السنة وغيرهم فيقولون أن الخلق غير المخلوق وفعل الله القائم به ليس هو مفعوله المنفصل عنه ويقولون أفعال العباد مخلوقة لله مفعولة له لا أنها نفس خلقه ونفس فعله وهي نفس فعل العبد فهي فعل العبد حقيقة لا مجازا وأما كون العبد له مفعول متولد عنه غير فعله فهذه مسألة التولد وعلى ذلك يبنى الكلام في أصوات العباد وكلامهم فإن الأصوات متولدة عن حركات العبد الاختيارية فمن قال أن المتولد ليس من فعل العبد ولا كسبه يقول أن أصوات العباد ليست مقدروة لهم ولا مفعولة ولا كسبا كما يقول ذلك الأشعرية ومن وافقهم من أصحاب أحمد وغيرهم كالقاضي أبي يعلى وأبي الحسن بن الزاغوني وغيرهم

ثم تولد من هذا بحث آخر فيمن قال أن الأصوات المسموعة من القارىء أو بعض الأصوات المسموعة من القارىء هي صوت الله فإنه بنى ذلك على هذا الأصل فقال الأصوات ليست من مقدرو العباد ولا من أفعالهم وكسبهم بل هي مضافة إلى الله فتضاف إليه بحسب ما يوجب الإضافة فإن كانت بكلامهم أضيفت إليه إضافة خلق وإن كانت لكلام الله أضيفت إليه إضافة وصف وكانت ظاهرة في المحدث لا حالة فيه ولكن ظهورها قارن حركة العبد وهذا الكلام وإن كان قد قاله طائفة من هؤلاء فهو معلوم الفساد بالضرورة والحس واتفاق جماهير العقلاء وهو قول فاسد مبني على أصل فاسد وإنما هو من باب الإلزام لمن وافقهم من الأشعرية على أن الأصوات المسموعة ليست مقدورة للعباد وكثير من الأشعرية متناقضون في هذا الباب ففي بحثهم مع المعتزلة يجعلون أصوات العباد غير مقدورة لهم ولا مفعولة لهم وفي بحثهم في مسألة القرآن يجعلونها مقدروة للعباد مفعولة لهم والكلام على هذا مبسوط في موضع آخر والمقصود هنا أن جمهور المسلمين يقولون بالحق الذي دل عليه المنقول والمعقول فيقولون أن أفعال العباد مخلوقة لله مفعولة له وهي فعل للعباد حقيقة لا مجازا وهم يثبتون ما لله في خلقه وأمره من الأسباب والحكم وما جعله الله في الأجسام من القوى والطبائع في الحيوان وفي الجماد لكنهم مع إثباتهم للأسباب والحكم لا يقولون بقول الطبائعية من الفلاسفة وغيرهم بل يقولون أن الله خالق كل شي وربه ومليكه وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا حول ولا قوة إلا به ويعلمون أن الاسباب هي مخلوقة لله بمشيئته وقدرته ولا تزال مفتقرة إلى الله لا يقولون أنها معلولة له أو متولدة عنه كما يقوله الفلاسفة ولا أنها مستغنية عنه بعد الأحداث كما يقوله من يقوله من أهل الكلام بل كل ما سوى الله تعالى دائم الفقر والإحتياج إليه لا يحدث ولا يبقى إلا بمشيئته القديمة فما كان بالأسباب فالله خالقه وخالق سببه جميعا ويقولون مع هذا أن الأسباب التي خلقها ليس فيها ما يستقل بالتأثير في شيء من الأشياء بل لا بد له من أسباب أخر تعاونه وتشاركه وهو مع ذلك له معارضات وموانع تعارضه وتدافعه كما في الشعاع الحادث عن الشمس والاحتراق الحادث عن النار ونحو ذلك فإنه لا بد مع الشمس من محل قابل لانعكاس الشعاع عليه وهو مع ذلك يمتنع بحصول الحائل كالسحاب والسقف وغير ذلك من الموانع وبكل حائل

فقول متكلمة الملل من المعتزلة والشيعة والكرامية والأشعرية ونحوهم أقرب إلى القبول من أقوال الفلاسفة والطبائعية والمنجمين ونحوهم فإن هؤلاء يشهدون بعض الأسباب كما يشهدون الطبائع والقوى التي خلقها الله في الأجسام وكما يشهدون ما للشمس والقمر وغيرهما في هذا العالم من الآثار لكنهم مع ذلك يضيفون الحوادث إلى سبب من أسبابه كإضافة الحوادث من الأجسام وغيرها إلى الطبيعة والطبيعة عرض قائم بجسم فمن جعل المحدث للإنسان في بطن أمه وما فيه من الأعضاء المختلفة وقواها ومنافعها هو الطبيعة كان قوله أظهر فسادا من تلك الأقوال التي فيها إضافة الحوادث إلى مجرد مشيئة القديم من غير إثبات سبب ولا حكمة أو إضافة الحوادث إلى قدرة القادر المختار سواء كان قديما أو حادثا فإن كلا من القولين خير من إضافة ذلك إلى طبيعة هي عرض بجسم من الاجسام ليس له إرادة ولا مشيئة مع أن الجنين المخلوق في الرحم أكمل من الرحم وقواها ثم فلاسفة هؤلاء إذا قالوا أن هذه الحوادث تحدث بسبب حركات الأفلاك وأن ذلك يعدها لقبول الفيض عليها من العقل الفعال كانوا محتاجين في جميع ما يقولونه إلى إقامة الدليل على أنه سبب وما يذكرونه من إثبات العقل الفعال كانوا محتاجين في جميع ما يقولونه الى اقامة الدليل على أنه سبب وما يذكرونه من اثبات العقل الفعال كلام باطل كما قد بسط في غير هذا الموضع وإنما يقوم الدليل على أن الحوادث تصدر عن حركات حي مختار وتلك هي الملائكة التي أخبرت بها الأنبياء وليست الملائكة هي العقول التي يثبتها هؤلاء فإن العقل الأول عند هؤلاء هو المبدع لكل ما سوى الله والعقل الفعال عندهم هو المبدع لكل ما تحت فلك القمر

وأهل الملل يعلمون بالاضطرار من دين الرسل أنه ليس عندهم أحد غير الله يخلق جميع المبدعات ولا أنهم أثبتوا ملكا من الملائكة أبدع كل ما تحت السماء بل الملائكة عندهم عباد لله ليس فيهم من هو مستقل بإحداث جميع الحوادث فضلا عن أن يكون مبدعا لكل ما سوى الله وسواه كما يقوله هؤلاء الفلاسفة في العقل الأول قال الله تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون سورة الأنبياء 26 28 وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شريك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير سورة سبأ 22 23 وقال تعالى لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا سورة النساء 172 173

وأيضا فبتقدير ثبوت العقل الفعال وما قبله من العقول فهذه عندهم هي لازمة لذات الله متولدة عنه معلولة له وحينئذ فالحوادث الحادثة لا تجوز أن تصدر عنها لأن ذلك يتضمن حدوث الحوادث بلا سبب حادث وإذا قالوا أن حركات الأفلاك توجب تحريك العناصر حتى تمتزج امتزاجات معدة لقبول الفيض كان هذا باطلا من وجوه منها أن يقال فالحوادث كلها من حركات الأفلاك وما يحدث عنها لا بد لها من محدث ومحدث الحوادث لا يجوز أن يكون علة تامة أزلية لأن العلة التامة الأزلية مستلزمة لمعلولها فيجب أن يكون معلولها مقارنا لها في الأزل فيمتنع أن يكون شيء من الحوادث صادرا عن الواجب الوجود بواسطة أو بغير واسطة وحينئذ فلا يكون للحوادث محدث

وأيضا فنفس حركة الفلك الأعلى حركة واحدة متشابهة بسيطة لا توجب بنفسها آثارا مختلفة إلا لاختلاف القوابل كما أن الشمس تبيض جسما وتسود جسما وتلين جسما وتيبس جسما بحس القوابل المختلفة فإذا كان حركته بسيطة والعقل بسيطا لم يصدر عنهما أمور مختلفة وكذلك الأفلاك التي تحته لها حركات معدودة محصورة وكل منها حركته بسيطة وليس في شيء من هذه الحركات والمتحركات ما يوجب هذه الأعيان والحوادث المختلفة اختلافا لا يحصى عدده في الصفات والأقدار والحركات هذا مع قولهم أن الواحد البسيط لا يصدر عنه إلا واحد فيعلم بالضرورة أن هذه الحوادث الكثيرة المختلفة ليست صادرة عن عدد محصور في البسائط وأيضا فيقال تلك الحركات والمتحركات والعقول المعلومة أمور مختلفة متعددة فإن صدرت عن واحد بطل قولهم لا يصدر عن الواحد إلا واحد وإن صدرت عن موصوف بالصفات والأفعال القائمة بطل قولهم بالموجب بالذات وعلى التقديرين يبطل مذهبهم وأيضا فإن الواحد البسيط الذي يذكرونه إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان فإنه وجود مطلق والمطلق إنما يوجد في الذهن لا في الخارج وأما المطلق بشرط الإطلاق فظاهر وأما المطلق لا بشرط الذي يسمونه الكلي الطبيعي فهذا أيضا لا يوجد في الخارج كليا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وإنما يوجد معينا مشخصا جزئيا لكن ما في الذهن كلي بمعنى أنه مطابق لتلك الجزئيات كمطابقة اللفظ العام لأفراده وأيضا فذلك الواحد إن كان الصادر عنه واحدا لم يصدر عن الآخر إلا واحدا وكذلك هلم جرا فيلزم أن لا يكون في العالم ثرة كثرت وإن صدر عنه أكثر من واحد بطل أصلهم وإذا قالوا فيه جهات كالوجوب والإمكان وعقله لمبدعه وعقله لنفسه ونحو ذلك فيصدر عنه باعتبار وجوبه عقل وباعتبار إمكانه جسم ونحو ذلك من الهذيان الذي يقولونه في هذا الموضع قيل لهم تلك الأمور إما أن تكون وجودية وإما أن تكون عدمية فإن كانت وجودية وقد اتصف بها الصادر الأول فقد صدر عن المبدع الأول أكثر من واحد وإن كانت عدمية كان الواحد صدر عنه باعتبار اتصافه بأمور عدمية أكثر من واحد وحينئذ فالواجب الوجود يتصف بالأمور العدمية بالاتفاق فيجب أن يجوز أن يصدر عنه أكثر من واحد هو أحق بذلك من الصادر الأول الذي هو العقل الأول عندهم

وبالجملة فالأدلة الدالة على بطلان قولهم كثيرا جدا والكلام على هذا وغيره قد بسط في غير هذا الموضع والمقصود هنا أن أقوال هؤلاء ليست مطابقة لما أخبرت به الرسل كما ليست مطابقة لما دل عليه العقل الصريح فلا هي موافقة للمنقول الصحيح ولا للمعقول الصريح ولكنهم يسفسطون في العقليات ويقرمطون في السمعيات كما ظهر ذلك في الباطنية من القرامطة والإسماعيلية وأمثالهم وكما ظهر ذلك في متصوفة الفلاسفة الذين يزعمون أن أخبار الأنبياء مطابقة لأقول هؤلاء الفلاسفة وكما ظهر ذلك فيمن يريد أن يجمع بين الشريعة والفلسفة كابن سينا وابن رشد الحفيد وأمثالهما وكما سلك نحوا من ذلك أهل الوحدة والحلول كابن عربي وابن سبعين وابن قسي صاحب خلع النعلين وأمثال هؤلاء فإن هؤلاء أعظم مخالفة لصريح المعقول مع صحيح المنقول من المعتزلة ونحوهم والمعتزلة ونحوهم أقرب منهم ومتكلمة أهل الإثبات للصفات والقدر مثل الكرامية والكلابية والأشعرية والسالمية وغيرهم أقرب إلى موافقة المعقول الصريح والمنقول الصحيح وإن كان لكل منهم من الخطأ ما لا يوافقه الآخر عليه فأما السلف والأئمة وأكابر أهل الحديث والسنة والجماعة فهم أولى الطوائف بموافقة المعقول الصحيح والمنقول والصحيح والكلام في مثل هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع وإنما ذكرنا ذلك هنا لأن المعجزات من جملة الحوادث ففي حدوثها للطوائف من الكلام ما نبهنا عليه

والمقصود هنا بيان بطلان قول من يقول أن أسبابها قوى نفسانية وقد ذكرنا أن الأشعرية ومن وافقهم من المعتزلة ونحوهم يبطلون ذلك بناء على أصولهم وهؤلاء يبطلون ذلك بناء على أن المؤثر في جميع الحوادث هو قدرة الله وأما المعتزلة فلا يبلطون تأثير الحي القادر ولكن كثير منهم يقول بإبطال تأثير النفوس وإذا قال الفيلسوف قول هؤلاء باطل لثبوت القوى والطبائع قيل له القول الذي بنيت عليه هذا القول هو أبطل من أقوال هؤلاء فإنك بنيت ذلك على أن فاعل العالم موجب بالذات وأنه علة تامة مستلزمة لمعلولها وقد تبين بصريح العقل بطلان هذا القول وتبين انه مستلزم أن لا يكون للحوادث محدث وإذا كان كذلك لم يكن لك أن تبطل قولهم مع تصحيح قولك بل إما أن يبطل القولان أو يصح أحدهما

وحينئذ فيكون قولهم أولى بالصحة وقولك أولى بالبطلان فثبت بطلان قولك على التقديرين وبيان ذلك أن يقال صحة قولك تحتاج أولا إلى أن قوى النفوس يصدر عنها مثل هذه الآثار وهذا القدر منازعك فيه أكثر ممن يوافقك على تأثير الطبائع فجمهور الفلاسفةوالطبائعيين لا يقرون بها كما يقرون بأن النار تسخن والخبز يشبع والماء يروي ثم بعد هذا إذا ثبت لقوي النفس تأثير لم يمكن أن يثبت تأثيرها في هذه الحوادث العظيمة ثم تحتاج مع ذلك أن تنفي أن يكون هناك أسباب أخر غير هذه ثم بعد ذلك كله يبقى الكلام في الأسباب والمسببات فأنت تحتاج إلى عقاب عظيمة لا تقدر على تقريرها حتى تصل إلى مسألة الأسباب وحينئذ فتجتمع أنت ومنازعوك من أهل الكلام المعتزلة والأشعرية ونحوهم

وأما جمهور المسلمين فهم لا ينكرون الأسباب والمسببات لا في الجماد ولا في الحيوان كما تقدم لكن يعترفون بكل ما دل على صحته الدليل سواء كان الدليل نقليا أو عقليا وهم وإن بينا أن طريقة أهل الكلام أقرب إلى الحق نقلا وعقلا من طريق الفلاسفة فإنهم يعترفون بما في طريقتهم من النقص والعيب وجحد بعض الحق والتزام بعض الباطل

ولهذا كان السلف والأئمة يذمون أهل الكلام الذين يتكلمون بمثل هذا الكلام المشتمل على نوع من الباطل ويمنعون أن ترد بدعة ببدعة ويقابل الباطل بالباطل ويرد الفاسد بالفاسد ولكن مع كون هذا يذم ويعاب فلا ينكر كونه خيرا من كلام أولئك كما أنا وإن كنا نذم ما يوجد في بعض المسلمين من ظلم وجهل فنحن نعلم أن ما في الكفار من ذلك أعظم وإن كنا لا ننكر ما يوجد في بعض أهل السنة والجماعة من جهل وظلم فنحن نعلم أن الجهل والظلم في الرافضة أكثر

فصل[عدل]

إذا تبين هذا فيقال الكلام على هؤلاء من وجوه

أحدها أن يقال قولكم هذا قول بلا علم وهو قول لا دليل على صحته وهذا يقال قبل الجزم ببطلان قولهم فإنهم أولا يطالبون بالدليل الدال على صحة قولهم وليس لهم على ذلك دليل أصلا بل عامة ما يعتمدون عليه التجويز الذهني والذي قرره ابن سينا وأمثاله ليس فيه ما يدل على أن هذا هو الواقع بل غاية مطلوبهم تجويز ذلك وإمكانه مع أن ذلك باطل وأيضا فإثبات قوى النفوس لا يوجب مثل هذه الآثار ولا ريب أن المعجزات المعلومة عند المسلمين واليهود والنصارى مما اتفق الناس على أن قوى النفوس لا تقتضيها والفلاسفة يسلمون ذلك لكن إنما يقرون من المعجزات بما يظنون أنه يمكن إحالته على قوى النفوس كإنزال المطر وزلزلة الأرض ونحو ذلك مما يكون فيه استحالة الجسم من حال إلى حال قابل له فإذا حصل قوة فاعلة مع القوة القابلة حصل ذلك وإذا كان الهواء يستحيل ماء بأسباب تقتضي ذلك وحركة الأرض وزلزلتها ممكنة بأسباب وأمراض الجسم مما يحصل بأسباب أمكن حصول ذلك بالقوى النفسانية والساحر يؤثر في أحوال الأجسام ولا يؤثر في قلب الأعيان فيؤثر في أسباب المرض والموت ونحو ذلك وأما جعل الخشب حية فهذا عندهم غير ممكن لا بقوى نفسانية ولا غيرها وأما من أنكر أن يكون لقوى النفوس تأثير بالكلية كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكلام من الأشعرية والمعتزلة ومن الأطباء والفلاسفة وغيرهم فهؤلاء يسندون المنع إلى هذا الأصل

ولكن نحن لا نحتاج إلى ان ننبه على هذا الأصل بل لا يمتنع أن يكون لقوى النفوس نوع تأثير كما لقوى سائر الأعيان وإن كانت الأعيان وقواها متفاوتة فلا ريب أن قوة جبريل الذي قال الله فيه علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى سورة النجم 6 وقال فيه إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين سورة التكوير 19 21 وقد روى أنه قلع قرى قوم لوط الستة ورفعها ثم قلبها عليها فلا ريب أن هذه القوة التي للملك مما امتاز بها على أصحاب القوى المعروفة لما نشاهده من الحيوان وقد بينا أن هؤلاء يقولون ما ذكره ابن سينا وأمثاله كما ختم إشاراته بأن قال الأمور الغريبة تنبعث في عالم الطبيعة من مبادىء ثلاثة أحدها الهيئة النفسية وثانيها خواص الأجسام العنصرية مثل جذب المغناطيس للحديد بقوة تخصه وثالثها قوة سماوية بينها وبين أمزجة أجسام أرضية مخصوصة بهيئات وضعية أو بينها وبين قوى نفوس أرضية مخصوصة بأحوال فلكية فعلية أو انفعالية تستتبع حدوث آثار غريبة قال والسحر من قبيل القسم الأول بل المعجزات والكرامات والنيرنجيات من قبيل القسم الثاني والطلمسات من قبيل القسم الثالث فزعم أن أسباب خوارق العادات في هذاالعالم هي هذه الأسباب الثلاثة أما القوى النفسانية وأما القوى الجسمانية العنصرية وأما القوى الفلكية مع القوى الجسمانية أو النفسانية

وهذا النفي لم يذكر عليه دليلا ولا دليل له عليه والنافي عليه الدليل كما أن المثبت عليه الدليل وهو يقول ليس الخرق في تكذيبك ما لم تستبن حكمته دون الخرق في تصديقك ما لم يقم بين يديك بينته وهذا كنفيهم للجن والملائكة وهؤلاء يلزمهم إقامة دليل علىالنفي ولا دليل لهم ولكن كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله وهذا مما ينبغي أن يعرف فإن عمدة هؤلاء في حصرهم الفاسد هو النفي والتكذيب بلا علم أصلا وأيضا فإنا قد علمنا نحن وغيرنا بالمشاهدة والأخبار المتواترة والدلائل اليقينية بطلان هذا الحصر وأنه يحدث في هذا العالم أمور كثيرة عن أحياء ناطقين من غير نفوس بني آدم وغير الأجسام العنصرية وغير الفلك وقواه

وقد ذكر ابن سينا لما تكلم عن إثبات الخوارق على أصول إخوانه الفلاسفة الذين يزعمون أن المبدع للعالم موجب بذات لا قدرة لها ولا مشيئة وأنه يمتنع انشقاق الأفلاك وتغير هذا العالم وهؤلاء يكذبون أو يكذب كثير منهم بكثير من الغرائب التي يقر بها ابن سينا وأمثاله فإن الالهيين من الفلاسفة يقرون بأمور كثيرة ينكرها الطبيعيون منهم فلما ذكر إمكان ما صدق به من الغرائب وذكر دليل إمكانه على أصول إخوانه قال اعلم أن هذه الأشياء ليس القول بها والشهادة لها إنما هي ظنون إمكانية صير إليها من أمور عقلية فقط وإن كان ذلك أمرا معتمدا لو كان ولكنها تجارب لما بينت طلبت أسبابها ومن العادات المتفقة لمحبي الاستبصار أن تعرض لهم هذه الأحوال في أنفسهم أو يشاهدوها مرارا متوالية في غيرهم حتى يكون ذلك تجربة في إثبات أمر عجيب ليكون حجة وداعيا إلى طلب سببه فإذا اتضح حسمت الفائدة به واطمأنت النفس إلى وجود تلك الأسباب وخضع الوهم فلم يعارض العقل فيما قدر فعله أو رؤياه منها وذلك من أجم الفوائد وأعظم المهمات ثم إني لو اقتصصت جزئيات هذا الباب فيما شاهدناه وفيما حكاه من حدثناه لطال الكلام ومن لم يصدق الجملة هان عليه أيضا أن لا يصدق التفصيل فهذا كلامه

وقد تبين أنه إنما ذكر من أسباب الغرائب الأخبار بالمغيبات لم يذكره لمجرد كونه ظنا ممكنا علم إمكانه بأدلة عقلية بل لما علمت هذه الغرائب بالمشاهدة والخبر الصادق فطلبت حينئذ أسبابها وهذا بعينه يقال له فيما علم غيره ثبوته بالمشاهدة والأخبار الصادقة فمن شاهد وجود الجن ورآهم أحياء ناطقين منفصلين عن الإنسان أو ثبت ذلك عنده بالأخبار الصادقة أو علم من الأدلة اليقينية ما يدل على ذلك كما قد علم ذلك من شاء الله كان قد علم يقينا أن الجن ليست قوى نفسانية وعلم أن من الغرائب ما يكون عن أفعال الجن وأخبارهم وهذا أمر معلوم لجميع الأمم من العرب والترك والهند وغيرهم والأمور المتواترة عند الأمم عن الكهان تفوق الإحصاء والذي علمناه في زماننا ممن تحمله الجن وتطير به في الهواء وتسرق له أنواع الأطعمة من الحلاوة وغيرها وتأتيه بها وتخبره عن بعض الأمور الغائبة عنه بأمور كثيرة يطول وصفها في هذا الباب

وأماأمر الملائكة فهو أجل وأعظم وأخبارهم متواترة عند أهل الكتب وأما آثارهم في العالم فيعلم بالمعاينة والمشاهدة فدعوى المدعي بعد هذا أن المعجزات والكرامات والسحر هي قوى نفسانية من أبطل الباطل فإن السحر كثير منه يكون بالشياطين كما قال الله تعالى واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل علىالملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر إلى آخر الآية سورة البقرة 102

وكتب السحر مملوءة من الأقسام والعزائم على الجن بساداتهم الذين يعظمونهم ولذلك كانت الإنس تستعيذ بالجن كما قال الله تعالى وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا سورة الجن 5 كانوا إذا نزل الرجل منهم بواد يقول أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه فأنزل الله هذه الآية وكان النبي يعوذ الحسن والحسين فيقول أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة ففرق بين الشيطان وبين الهوام وبين أعين الإنس كما يدل ذلك على وجود الضرر في هذه الجهات الثلاث الإنس والجن والهوام وقد قال تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا سورة الأنعام 112 وقال تعالى قل أعوذ برب الناس إلى آخرها فأمره بالتعوذ من شر الوسواس من الجنة والناس الذي يوسوس في صدور الناس

وقد أخبر الله في كتابه عن خطابه للجن وأمره لهم ونهيه لهم كقوله يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسول منكم سورة الأنعام 130 وقوله تعالى يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان سورة الرحمن 33 وقوله وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن سورة الأحقاف 29 إلى آخر السورة إلى قوله ويجركم من عذاب أليم سورة الاحقاف 31 وقوله قل أوحى إلى أنه استمع نفر من الجن سورة الجن 1 إلى آخر السورة ونحن لو ذكرنا ما رأينا وسمعناه من أحوال الجن لطال الخطاب من أحوالهم مع المؤمنين الصالحين ومن أحوالهم مع أهل الكذب والفجور كما قال الله تعالى هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تتنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون سورة الشعراء 221 222 فهؤلاء قوم حصروا الوجود وأسبابه فيما علموه ولا علم عندهم بانتفاء ما لم يعلموه وغاية أحدهم أن ينفي الشيء لانتفاء دليل معين وهذا غاية الجهل وهم جهال من وجهين أحدهما عدم العلم بكثير من أنواع الموجودات وأحوالها والثاني عدم العلم بأسباب الحوادث فإنهم لما يثبتوا قدرة الرب على تغيير العالم ونفوا مشيئته التي بها تحدث الحوادث صاروا منكرين لخرق العادات فاحتاجوا في إثبات الغرائب إلى إجرائها على ذلك القانون الباطل ولهذا بينا فساد الأصل الذي بنوا عليه مذهبهم وهو كون العالم متولدا عن علة موجبة بالذات مستلزمة لمعلولها فإن هذا الأصل إذا بطل بطل دعواهم أن الحوادث لا تكون إلا بهذه الأسباب وأمكن أن يكون الله هو الذي يحدثها سبحانه وتعالى بمشيئته وقدرته وإن كان ما يشاؤه ويخلقه بأسباب يخلقها وبحكمة يريدها هو سبحانه وتعالى ومما يبين جهلهم في حصرهم وأن ما ذكروه من أن أسباب المعجزات والكرامات والسحر قوى نفسانية أنهم مخطئون في فاعل السحر فخطاؤهم في فاعل المعجزات والكرامات أولى وأعظم

وذلك أن السحر ليس هو مجرد قوى النفس كما ذكره باتفاق أهل المعرفة بالسحر بل السحرة مستعينون بأرواح مقارنة لهم وكتب السحر الموروثة الكشدانيين والهند واليونانيين والقبط وغيرهم من الأمم مملوءة بذكر ذلك مثل كتب طمطم الهندي وتنكلوشا البابلي وكتب ثابت بن قرة وأبي معشر البلخي وغيرهم ممن صنف في هذا الباب وأبو عبدالله محمد بن الخطيب قد ذكر في كتابه الذي سماه السر المكتوم في السحر والطلمسات ومخاطبة النجوم في ذلك أمورا كثيرة

وهؤلاء يعبدون الكواكب بأنواع العبادات والقرابين وتتنزل عليهم الشياطين التي يسمونها هم روحانيات الكواكب وهي أشخاص منفصلة عنهم وإن لم يروها سمعوا كلامها فتخبرهم وتخاطبهم بأمور كثيرة وتقضي لهم أنواعا من الحوائج وهذا موجود اليوم كثيرا في بلاد الترك والخطأ والعجم والهند بل وفي بلاد مصر واليمن والعراق والشام وغير ذلك وأعرف من هؤلاء عددا وهم كما قال تعالى ولا يفلح الساحر حيث أتى سورة طه 69 وقال تعالى ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون سورة البقرة 102 وقال تعالى واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان الآية سورة البقرة 102 وقد تقدم ذكرها فإذا كان هؤلاء مع أهل الملل متفقين على ما شاهدوه وسمعوه من وجود هذه الأحياء الناطقين المنفصلين عن نوع الإنسان وعن العناصر الأربعة والأفلاك وأنهم كثيرا ما تصدر منهم الغرائب فكيف يقال إن أسباب الغرائب هي الثلاثة فقط فتبين أن الذي يجعل السحر إنما يكون عن مجرد قوى نفسانية من أعظم الناس جهلا وضلالا وقائل ذلك في المعجزات أجهل منه وأضل بكثير وأيضا فإن هؤلاء سواء قالوا بقدم العالم أو حدوثه وسواء قالوا مع الحدوث بدوام فعل الرب أو تجدده بعد أن لم يكن وسواء قالوا مع قدم العالم بأن له علة مبدعة أو لم يقولوا بذلك ليس معهم ما ينفي وجود ما لم يعلموا وجوده من الأفلاك والأرواح العلوية والسفلية وهم يصرحون بأنهم ليس معهم ما يدل على أن الأفلاك تسعة بل هم يثبتون ما اعتقدوا قيام الدليل على ثبوته وأما نفي الزيادة فلا دليل لهم على نفيه وإذا كان هذا في الأفلاك التي هي محسوسة ودلهم على عددها كسوف الكواكب بعضها بعضا واختلاف حركات الكواكب السبعة وغير ذلك أولى أن لا يكون لهم دليل على نفيه وحينئذ فلا دليل لهم على نفي ملائكة كثيرة أضعاف أضعاف العقول العشرة ولا على نفي ملائكة تدبر أمر السماء والأرض والسحاب والمطر وغير ذلك فلو أخبر بوجود ذلك من لم يعلم صدقه ولا كذبه لم يجز تكذيبه إلا بدليل فكيف إذا أخبر بذلك الأنبياء الصادقون المصدوقون وحينئذ فأفعالها من أعظم الأسباب في وجود الغرائب فكيف يقال لا سبب لها إلا هذه الأسباب الثلاثة وأيضا فالدلائل الدالة على وجود الملائكة غير إخبار الأنبياء كثيرة منها أن يقال الحركات الموجودة في العالم ثلاثة قسرية وطبيعية وإرادية ووجه الحصر أن مبدأ الحركة إما أن يكون من المتحرك أو من سبب خارج فإن لم تمكن حركته إلا بسبب خارج عنه كصعود الحجر إلى فوق فهذه الحركة القسرية وإن كانت بسبب منه فإما أن يكون المتحرك له شعور وإما أن لا يكون فإن كان له شعور فهي الحركة الإرادية وإلا فهي الطبيعية والحركة الطبيعية في العنصار إما أن تكون لخروج الجسم عن مركزه الطبيعي وإلا فالتراب إذا كان في مركزه لم يكن في طبعه الحركة فالمتولدات من العناصر لا تتحرك إلا بقاسر يقسر العناصر على حركة بعضها إلى بعض وإذا كانت الحركات الطبيعية والقسرية مفتقرة إلى محرك من خارج علم أن أصل الحركات كلها الإرادة فيلزم من هذا أن يكون مبدأ جميع الحركات من العالم العلوي والسفلي هو الإرادة وحينئذ فإن كان الرب هو المحرك للجميع بلا واسطة ثبت أنه فاعل مختار فبطل أصل قولهم وجاز حدوث المعجزات عن مشيئته بلا سبب وإن كان حركها بتوسط إرادات أخرى فأولئك هم الملائكة وقد علم بالدلائل الكثيرة أن الله خالق الأشياء بالأسباب فعلم أن الملائكة هم الوسائط فيما يخلقه الله تعالى كما قال تعالى فالمدبرات أمرا سورة النازعات 5 فالمقسمات أمرا سورة الذاريات 4 وإذا كانوا موجودين أمكن حدوث الحوادث عنهم وبطل قول من يزعم أنه ليس لها إلا الأسباب الثلاثة المتقدمة

وأيضا فهؤلاء يقولون أن المقتضي لخوارق العادات إما أن يكون قوى نفسانية أو جسمانية وإن كانت جسمانية فإما أن تكون جسمانية عنصرية أو جسمانية فلكية فالخوارق الحاصل من التأثيرات النفسانية هي عندهم من المعجزات والكرامات والسحريات والحاصلة من القوى العنصرية كجذب المغناطيس وهي النيرنجيات والحاصلة من القوى الفلكية هي الطلسمات والقوى الفلكية لا تؤثر في الخارق إلا عند انضمام القوى العنصرية القابلة أو القوى النفسانية الأرضية الفاعلة وهذا هوالطلسمات

ومن أعظمهم إثباتا لخوارق العادات ابن سينا وقد ذكر أسباب الخوارق في أربعة أمور في سبب التمكن من ترك الغذاء مدة وهو أن النفس تشتغل بما يعرض لها من معرفة أو محبة وخوف ونحو ذلك حتى لا تجوع بسب أن القوى الهاضمة مشتغلة عن تحليل الغذاء وفي سبب التمكن من الأفعال الشاقة مثل أن يطيق العارف فعلا أو حركة تخرج عن وسع مثله وهذا كما أن النفس إذا حصل لها غضب وفرح أو انتشاء ما بسكر معتدل وأمثاله حصل لها قوة لم تكن قبل ذلك وكذلك إذا حصل لها من أحوال العارفين ما يقويها وفي سبب التمكن من الإخبار عن الغيوب ومضمونه أنه قد يعلم الغيب في اليقظة كما يعلمه في النوم وادعوا أن سبب ذلك أن العلم بالحوادث منتقش في العقل الفعال أو النفس الفلكية فإذا اتصلت النفس الناطقة بذلك علمت ذلك ثم تارة يصوره الخيال في المثال وتارة لا يصوره والسبب الموجب لاتصال النفس ضعف تعلقها بالبدن والضعف تارة يكون لجنون أو مرض كما يصيب أهل المرة السوداء وتارة يكون لفرط الجوع أو التعب أو غير ذلك من الأحوال وتارة يكون لرياضة النفس وهذه الأقسام الثلاثة الصبر عن الأكل مدة وقوة البدن والإنذار بالمنامات وما يجري مجراها أمر يحصل للمسلم والكافر والبر والفاجر فيكون سبب الخوارق وتصرفها في العناصر فإن النفس كما أثرت في بدن نفسها بالتحريك والتحويل من حال إلى حال جاز أن تؤثر في عنصر العالم ويكون كالبدن لها فتؤثر بالزلزلة وإنزال المطر ونحو ذلك قال فالذي يقع له هذا في جبلة النفس ويكون رشيدا مزكيا لنفسه فهو ذو معجزة من الأنبياء وكرامة من الأولياء والذي يقع له هذا ويكون شريرا ويستعمله في الشر فهو الساحر الخبيث

قال والإصابة بالعين تكاد أن تكون من هذا القبيل

قال وإنما يستبعد هذا من يفرض أن يكون المؤثر في الأجسام ملاقيا أو مرسل جزءا ومنفذ كيفية بواسطة ومن تأمل ما وصفناه استسقط هذا الشرط عن درجة الاعتبار فهذا ملخص كلامهم في هذا الباب ومعلوم أن جميع ما ذكروه هو أمر معتاد كثير ليس من خوارق العادات ولا من جنس المعجزات ولهذا قال ابن سينا بعد ذكر ذلك وذكر ما تقدم حكايته من أنه من لم يصدق بالجملة هان عليه التفصيل ثم قال ولعلك قد بلغك عن بعض العارفين أخبار تكاد تأتي بتقلب العادة فتبادر إلى التكذيب وذلك مثل ما يقال أن نبيا ربما استسقى للناس فسقوا أو استشفى فشفوا أو دعا عليهم فخسف بهم وزلزلوا أو هلكوا بوجه آخر ودعا لهم فصرف عنهم الوباء والموتان أو السيل أو الطوفان أو خشع لبعضهم سبع أو لم ينفر عنه طير أو مثل ذلك مما لا يأخذ في طريق الممتنع الصريح فتوقف ولا تعجل فإن لأمثال هذه أسبابا من أسرار الطبيعة وربما تأتي لي أن أقص بعضها عليك ثم ذكر أن ذلك قد يكون سببه من قوة النفس فإنها إذا كانت تتصرف في بدنها جاز أن تتصرف في غيره ومعلوم أن ما ذكروه لا يفيد الجزم بما قالوه وإنما غايته إمكان ذلك وجوازه بأن يقال إذا جاز أن يرى الإنسان مناما يدل على أمور غائبة أمكن أن يكون العلم بجميع الأمور الغائبة من هذا الباب وإذا جاز أن تؤثر النفس في بدنها وفي شيء صغير جاز أن تؤثر في مجموع الهواء والماء والتراب والنار وإذا جاز أن تقوى النفس على بعض الأفعال جاز أن تقوى على الطيران في الهواء والمشي على الماء وقلب قرى قوم لوط وفلق البحر وإنزال المن والسلوى وتفجير اثنى عشر عينا من الحجر وقلب العصا حية وإخراج القمل والضفادع وإنزال المائدة عليها خبز وسمك وزيتون وأمثال ذلك ومن المعلوم أن هذا لا يدل على نوع هذا الممكن بلا ريب فلم قلتم أن هذا هو الواقع وكلامهم في هذا مثل كلامهم في إضافة سائر أنواع الصرع إلى الخلط السوادي والبلغمي فإن هذا إنما يصح أن لو لم تكن الجن موجودين والأطباء ليس عندهم دليل على نفي الجن ولا في صناعتهم ما يمنع وجود الجن وقدماء الأطباء كأبقراط وغيره معترفون بذلك ولكن يقولون ليس في صناعتهم ما يدل على ثبوت الجن وعدم العلم ليس علما بالعدم وعدم الدليل ليس علما بعدم المدلول عليه فإن عدم ما يدل على الشيء المعين لا يقتضي انتفاؤه فكيف إذا علم بالدلائل الكثيرة أن الجن قد تصرع الإنس كما قال عبدالله بن أحمد بن حنبل قلت لأبي أن الأطباء يقولون أن الجني لا يدخل بدن الإنسي فقال يا بني يكذبون هو ذا يتكلم على لسانه

وهذا أمر قد باشرناه نحن وغيرنا غير مرة ولنا في ذلك من العلوم الحسيات رؤية وسماعا ما لا يمكن معه الشك لكن المقصود هنا أن نبين أنهم ينفون الشيء بلا علم والنافي عليه الدليل كما على المثبت الدليل فهم ليس معهم في كون هذه الآيات حادثة عن القوى النفسانية إلا مجرد التجويز والإمكان إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون سورة الانعام 116 وأيضا فلا دلالة لهم على إمكان كون النفوس تؤثر في مثل هذا أصلا إلا مجرد قياس بعيد لا يقتضي ذلك فهذا أول الوجوه أن يقال أنتم لا دليل لكم بكون هذه الآثار من قوى النفوس

الوجه الثاني أن يقال من هذه الآثار أمور كثيرة تعترفون أنتم بأنه يمتنع كونها من آثار النفوس كما تقدم التنبيه عليه فبطل قولكم أن الآثار المعلومة عند المسلمين واليهود والنصارى من آثار النفوس فإن مجموع ما ذكروه ليس فيه ما يكاد يخرج عن قياس الأمور المعتادة إلا حوادث الأكوان كنزول المطر وشفاء المريض وزلزلة الأرض والخسف وصرف السيل والوباء ورجوع السبع والطير وهذه الأمور يحصل جنسها بأسباب معتادة فإن المطر ينزل بأسباب متعددة وكذلك شفاء المريض وحدوث الخسف والهلاك يحصل بأسباب معتادة كما يحصل نوعه بأسباب معتادة وهذا بخلاف انفلاق البحر اثنى عشر فرقا كل فرق كالطود العظيم وانقلاب العصا حية ونزول المن والسلوى وانفجار اثنتي عشرة عينا من الحجارة ومثل نبع الماء من بين الأصابع وتكثير الطعام والشراب حتى يكفي أضعاف من كان يكفيه وانقلاع الشجرة ثم عودها إلى مكانها ثابتة فهذه الأمور وأمثالها لا يصدر جنسها عن سبب معتاد فهذه خارقة للعادة بخلاف ما يكون خارقا للعادة في قدره لا في جنسه وهذا الجنس هم يمنعون حصوله في العالم لا بقوي نفس ولا غيرها والعلم بحصول مثل ذلك إما بالمعاينة وإما بالأخبار الصادقة يبين فساد أصلهم وهذا مما ينبغي للعاقل أن يتدبره فإن القدر الذي بينوا سببه من الغرائب ليس من جنس خوارق العادات بل هو من جنس الأمور المعتادة وعلى هذا فيكونون منكرين لجنس الخوارق وهذا هو أصلهم الفاسد الذي يعلم فساده بدلائل كثيرة ولكن ابن سينا سلك طريقة أراد أن يجمع فيها بين أصولهم الفاسدة وبين التصديق بنوع من الغرائب وأن يجعل الكرامات والمعجزات من هذا النمط فإن السحر هو من الأمور المعتادة كالأسباب التي يحصل بها المرض والموت ونحو ذلك ومنه أمور تخالف العادة والطبيعة ولكن هو مما اعتيد أنه يحصل بالشياطين لكن مقرونا بما يدل على كذبه وفجوره فلا يشبه كرامات الصالحين فضلا عن المعجزات والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع

والمقصود هنا بيان فساد قول من جعل المعجزات قوى نفسانية

الوجه الثالث أن يقال الخوارق ثلاثة أنواع منها ما هو من جنس الغناء عن الحاجات البشرية ومنها ما هو من جنس العلم الخارج عن قوى البشر ومنها ما هو من جنس المقدورات الخارجة عن قدرة البشر ولهذا قال نوح عليه السلام وهو أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك سورة هود 31 وقال الله تعالى لخاتم الرسل قال لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك سورة الأنعام 50 فالغناء من جنس الاستغناء عن الأكل والشرب مدة والعلم من جنس الإخبار عن الغيوب والقدرة من جنس الأفعال الشاقة ببدنه والتصرف في العناصر بالاستحالة والزلزلة ونحو ذلك فهم إنما ذكروا سبب مثل هذا أما سبب انقلاب العصا حية وخروج الناقة من الأرض وأمثال ذلك فهم معترفون بأنه غير ممكن ولا يمكنهم إحالة سببه على قوى النفس

الوجه الرابع أن يقال النوع الذي يقولون عنه أنه لقوى النفس يؤثر تأثيرا لا يدعون أن تأثيره يبلغ إلى أن ينزل ماء الطوفان الذي غرق أهل الأرض ولا أن يرسل الريح العقيم سبع ليال وثمانية أيام حسوما التي أهلكت عادا ولا أن تقتلع قرى قوم لوط وتقلبها حتى هلك كل من فيها واتبعوا بحجارة تتبع الشارد منهم ولا ترسل طيرا أبابيل بحجارة من سجيل تنزل على أصحاب الفيل واحدا واحدا مع كل طير ثلاثة أحجار صغار حجر في منقاره وحجران في رجليه حتى هلك أصحاب الفيل وصار كيدهم في تضليل حتى أرسل عليهم حجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول ولا في قوى النفس أنها صبيحة كل يوم ينزل المن والسلوى الذي يكفي عسكر موسى وتظللهم بالغمام حيثما ساروا وتطيل الثبات معهم كلما طالوا وتفجر الماء كل يوم من الحجر اثنتي عشرة عينا لكل سبط عين ولا يفرق البحر اثنى عشر فرقا كل فرق كالطود العظيم حتى إذا خرج منه عسكر موسى ودخله عسكر فرعون انطبق عليهم فأغرقهم كلهم وكذلك أيضا من الخوارق الخارجة عن قوى النفوس إحياء الموتى من الآدميين والبهائم وقد ذكر الله ذلك في غير موضع من كتابه فذكره في خمسة مواضع في سورة البقرة وقال تعالى وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حختى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون سورة البقرة 55 56 وقال تعالى فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيى الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون سورة البقرة 73 وقال تعالى ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم سورة البقرة 3 - وقال تعالى أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيى هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف نشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير سورة البقرة 259 وقد ذكر الله سبحانه إحياءالمسيح للموتى بإذن الله وذكر سبحانه قصة أصحاب الكهف ومكثهم ثلاثمائة سنة شمسية وهي ثلاثمائة وتسع سنين قمرية نياما لا يأكلون ولا يشربون وقال تعالى وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها سورة الكهف 21 وهذه الأمور التي قصها الله من أحياء الآدميين من بعد موتهم مرة بعد مرة ومن إحياء الحمار ومن إبقاء الطعام والشراب مائة عام لم يتغير ومن إبقاء النيام ثلاثمائة وتسع سنين ومن تمزيق الطيور الأربعة وجعلهن أربعة أجزاء على الجبال ثم أتيانهن سعيا لما دعاهن إبراهيم الخليل عليه السلام فيها أنواع من الاعتبار منها تثبيت المعجزات للأنبياء وأنها خارجة عن قوى النفس فإن الفلاسفة وسائر العقلاء متفقون على أن قوى النفوس لا تفعل مثل هذا بل ولا شيء من القوى المعروفة في العالم العلوي والسفلي الثاني أن في ذلك إثبات أن الله فاعل مختار يفعل بمشيئته وقدرته يحدث ما يشاء بحسب مشيئته وحكمته ليس موجبا بالذات فإن الموجب بالذات مستلزم لآثاره فيمتنع أن تتغير أفعاله عن القانون الطبيعي والأشكال الفلكية والاتصالات الكوكبية وإن كانت تحدث بها أنواع من الغرائب في هذا العالم فلا بد من استعداد القوابل ولا بد أن تكون تلك الاتصالات جارية علىالقانون المعتاد عندهم وكلاهما منتف في هذه الخوارق فالمادة السفلية لا تقبل مثل هذا في العادة والاتصالات الفلكية لا يحدث عنها مثل هذا ولهذا كان ما يحدث من الغرائب بسبب تمزيج القوى الفعالة السماوية أو القوى المنفعلة الأرضية ليس هو من هذا الباب بل هو مما اعتيد نظيره مثل دفع بعض الحيوان عن مكان أو جذبهم إليه أو أمراض بعض الأبدان أو موتها أو غير ذلك من الأمور الثالث أن هذا من أعظم الدلالة على إمكان معاد الأبدان وإعادة الأرواح إليها فإنه لا أدل على إمكان الشيء من وقوعه أو وقوع نظيره فلما كان هذا واقعا علم أنه ممكن وكذلك إنزال عيسى عليه السلام المائدة من السماء كل يوم عليها زيتون وسمك وغير ذلك هو من الأمور الخارجة عن قوى النفس فإن تأثير النفس في هيولي العالم إنما هو بحسب ما يقبل الهيولي وتعليق هذا في الهواء ليس هو مما يقبله الهواء وأيضا فتأثير النفس في البسيط يكون بسيطا لا يكون فيه من التركيب مثل هذا كما أن النفس ليس في قواها توليد حيوان من بطن أمه من غير جماع إلى أمثال ذلك من خوارق العادات التي يعترفون هم أن قوى النفس وإن كانت لها تأثير في الجنس العالي من ذلك فلا يبلغ تأثيرها إلى هذا الحد وهذا كما أن قوى البدن معروفة من المشي والهرولة ونحو ذلك وليس في قوى بدن أحد أن يحمل جبلا ولا ست مدائن على كاهله ولا في قوى بدنه أن يطير في الهواء وأمثال ذلك فتبين أنهم معترفون أن هذه الأمور لا يمكن إضافتها إلى قوى النفس

الوجه الخامس أن يقال نحن لا ننكر أن النفس يحصل لها نوع من الكشف أما يقظة وإما مناما بسبب قلة علاقتها مع البدن إما برياضة أو بغيرها وهذا هوالكشف النفساني لكن قد ثبت أيضا بالدلائل العقلية مع الشرعية وجود الجن وأنها تخبر الناس بأخبار غائبة عنهم كما للكهان المصروعين وغيرهم والناس يسمعون من المصروع من أنواع الكلام والأخبار عن الغائبات واللغة الغريبة التي يعلمون باضطرار أنها ليست في قوة ذلك الإنسان وكذلك أهل العبادات الشيطانية من البراهمة والبخشية ونحوهم من عباد المشركين ومن أشبههم من المنتسبين إلى أهل القبلة كأنواع من اليونسية والأحمدية والخالدية والدسوقية وأمثال هؤلاء من أهل العبادات المشركية المخالفة للكتاب والسنة فيسمع منهم حال السماع من أنواع الكلام واللغة الغريبة التي لا يمكن ذلك الشخص أن يتكلم بها ما يعلم أن المتكلم على لسان غيره أو الملقن له ذلك الكلام غيره لا أن مجرد نفسه فعلت ذلك بدون سبب منفصل من الأرواح وإذا كان هذا مما شوهد في النفوس الخبيثة وأن كثيرا من إخباراتها تكون عن إخبار أرواح شيطانية لها فلأن يكون إخبار الأنبياء عن إخبار أرواح الملائكة بطريق الأولى وهم يقولون الشياطين عندنا قوى النفس الخبيثة والملائكة قوى النفس الصالحة

قلنا قد تقدم أن جمهور المسلمين لا ينكرون وجود هذه القوى كما تقدم ولكن المقصود هنا أنه يعلم وجود أمور منفصلة مغايرة لهذه القوى كالجن المخبرين لكثير من الكهان بكثير من الأخبار وهذا أمر يعلمه بالضرورة كل من باشره أو من أخبره من يحصل له العلم بخبره ونحن قد علمنا ذلك بالاضطرار غير مرة فهذا نوع من المكاشفات والإخبار بالغيب غير النفساني وأما القسم الثالث وهو ما تخبر به الملائكة فهذا أشرف الأقسام كما دلت عليه الدلائل الكثيرة السمعية والعقلية، وإذا ثبت أن الإخبار بالمغيبات يكون عن أسباب نفسانية ويكون عن أسباب خبيثة شيطانية وغير شيطانية ويكون عن أسباب ملكية كان ما ذكروه نوعا من الأنواع الثلاثة وهو أضعفها فكان غاية إيمانهم بالنبوة جعلهم النبي بمنزلة رجل من أضعف صالحي الناس

الوجه السادس أن يقال قد علمنا بالضرورة والتواتر أن الجن تحمل الإنسان من مكان إلى مكان تعجز قدرته عن الوصول إليه وهذا قد علمناه نحن في غير صورة وغيرنا يعلم من جزئيات ذلك ما لم نعلمه ومن شك في أصل ذلك فليرجع إلى من عنده علم ذلك وإلا فليس للإنسان أن يكذب بما لا يعلم ونحن نعرف من ذلك أمورا كثيرة جدا ونعرف عددا كثيرا حملوا في الهواء من مدائنهم إلى عرفات وإلى مكة في غير وقت عرفات وبعضهم كان كافرا لم يسلم وبعضهم منافق لا يقر بوجوب الصلاة وبعضهم جاهل يعتقد أن وقوفه بعرفات بلا إحرام مع رجوعه إلى بلده بلا طواف وسعي ولا إحرام عبادة وكرامة من كرامات الصالحين ومثل عدد كبير حملوا إلى غير مكة ولو ذكرت ما أعرفه من هذا لطال الخطاب وأعرف شخصا من أصحابنا حملته الجن في الهواء من أسفل دار إلى أعلاها ووصوه بأمور الدين وتاب وحصل له خير وآخر كان معه شيطان يحمله قدام الناس بمدينة الشوبك فيصعد في الهواء إلى رؤوس الجبال وآخر كان يحمله شيطانه من جبل الصالحية إلى قرية يلدى نحو فرسخ وطائفة حملتهم الشياطين من مدينة تدمر إلى بيت المقدس وأمرتهم أن يصلوا إلى الشمال وصلوا إليه أياما وأخبروهم أن هذه الشريعة تغير وتنسخ حتى طلبهم المسلمون إلى جامع تدمر وكانوا في مغارة واستتابوهم فلم يتوبوا بل مكثوا يصلون إلى الشمال ثلاثة أيام ثم تابوا بعد ذلك وتبين لهم أن ذلك كان من الشيطان وآخر أتى قوما يرقصون في سماع فبقي يرقص في الهواء على رؤوسهم فرآه شخص فصرخ به فسقط وكان هذا بحضرة الشيخ شبيب الشطي فقال الشيخ هذا سلبني حالي فسأله فقال لم يكن له حال وإنما شيطان حمله من الرحبة إلى هنا فصرخت فيه فألقاه وهرب وجرى نظير هذه القصة لغير واحد ومن المشهور المتواتر عند الترك ما تفعله سحرتهم وكهانهم من البخشية والطوينية وشيخهم الذي يقال له البوا ومن شرطه عندهم أن يكون مخنثا مأبونا ينكح ينصب له خركاة في ظلمة فيذبحون ذبيحة للشيطان ويغنون له فتأتي الشياطين وتخاطبهم ببعض الأمور الغائبة كأحوال غائبيهم وسرقاتهم وغير ذلك ويحمل البوا فيوقف به في الهواء وهم يرونه ولا يكون بينهم إذ ذاك مسلم ولا كتاب فيه قرآن هذا مشهور عندهم إلى هذا الوقت أخبرنا به غير واحد

وآخرون كانت الشياطين تأتيهم بأطعمة يسرقونها من حوانيت الناس وجرى هذا لغير واحد في زماننا وغير زماننا وأتى قوم بحلاوة من الهواء وعرفت تلك الحلاوة المسروقة وفقدها صاحبها ووصفت الآنية التي كانت فيها فرد ثمنها إليه وهذه الأمور وأمثالها معلوم لنا بالضرورة والتواتر فإذا كانت الجن تحمل الإنسان من مكان إلى مكان بعيد في الهواء وتحمل الأموال إليه من مكان بعيد وتخبره بأمور غائبة عن الحاضرين علم أن هذه الخوارق ليست من قوى النفوس بل بفعل الجن وإذا كانت الجن تفعل مثل هذا فالملائكة أعلى منهم وأقدر وأكمل وأفضل

وهذه الأمور كما يصدق بها أهل الملل من المسلمين والنصارى واليهود فجمهور الفلاسفة يصدقون بها وكتب الروحانيات التي لهم مشحونة بذكر أمثال هذه الأمور وأنواع العزائم والرقي التي يذكرونها مشحونة بالأقسام على الجن والأقسام بهم والدعاء لهم والطلب منهم والذين يخاطبون الكواكب منهم وتتنزل على أحدهم روحانية الكواكب هي شيطان ينزل عليه ويخبره بأمور ويتصرف له بأمور وهذه معلومة بالتواتر عندهم فمن قال إن هذه الخوارق من آثار مجرد النفوس وأنكر وجود الجن والشياطين وأن يكون لهم تأثير في الإخبارات والخوارق كان مبطلا باتفاق أهل الملل واتفاق جمهور الفلاسفة وكان كذبه معلوما بالاضطرار عند من عرف هذه الأمور بالمشاهدة أو الأخبار المعلومة بالصدق

الوجه السابع أنه من هذا الباب ما تواتر في هذه الباب من أخبار كهان العرب وما كانت تخبرهم به من الأمور الغائبة لإخبار الجن لهم بذلك

الوجه الثامن أن المدعي لكون الخوارق التي أتت بها الأنبياء من الأخبار بالغيب من الأمور الخارجة عن قدرة البشر هي من قوى النفس إما أن يكون مصدقا للرسل فيما علم أنهم أخبروا به وإما أن يكون مكذبا لهم فإن كان مكذبا لهم كان الكلام معه أولا في تثبيت النبوات والإقرار بها وهؤلاء الفلاسفة والصابئة وأتباعهم من باطنية أهل الملل ونحوهم يعظمون أمر الأنبياء ويقرون بكمال علمهم ودينهم وصدقهم ويدعون أن ما جاءت به الأنبياء لا يناقض أصول الفلسفة وهذه طريقة القائلين بأن معجزات الأنبياء قوى نفسانية وإذا كان كذلك فكلام الأنبياء حق باتفاقهم مع سائر أهل الملل وإذا كان كذلك فيقال من المعلوم بالاضطرار أن الرسل أخبرت بالملائكة والجن وأنها أحياء ناطقة قائمة بأنفسها ليست إعراضا قائمة بغيرها وأخبروا بأنهم يأتون بأخبار الأمور الغائبة وأنهم يفعلون أفعالا خارجة عن قدرة البشر كما أخبر الله تعالى عن الملائكة أنهم أتوا إبراهيم الخليل عليه السلام ثم ذهبوا منه إلى لوط

قال تعالى هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقر به إليهم قال ألا تأكلون فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين سورة الذاريات 24 34

وقال تعالى ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ولما جاءت رسلنا لوطا سيىء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا أمر آتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب سورة هود 69 81 وهذه القصة مذكورة في التوراة وغيرها من كتب أهل الكتاب كما هي مذكورة في القرآن مع العلم بأن كلا من النبيين موسى ومحمد لم يأخذها عن الآخر وهذا مما يوجب العلم بصحتها قبل ثبوت نبوتهما فإن الاتفاق على مثل هذه الحكاية من غير تواطؤ يمتنع في العادة فإذا اتفق إخبار المخبرين بمثل هذه القصة الطويلة التي يمتنع في العادة اتفاق الاثنين فيها على الكذب من غير تواطؤ علم أنها حق فكان إخبار كل منهما بها دليلا على نبوته

وقال ونبئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وأتيناك بالحق وإنا لصادقون فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون سورة الحجر 51 65 فهذه القصة فيها إثبات الملائكة وأنهم أحياء ناطقون منفصلون عن الآدميين يخاطبونهم ويرونهم في صور الآدميين الأنبياء وغير الأنبياء كما رأتهم سارة امرأة الخليل عليه السلام وكما كان الصحابة يرون جبريل إذا جاء لما جاء في صورة أعرابي وتارة في صورة دحية الكلبي ومن هذا الباب قوله في قصة مريم فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنى رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا سورة مريم 17 19


الصفدية لابن تيمية
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16