الصفدية/16

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


والمقصود أي ليس لها موجود معلوم يعلم بالبرهان بقاؤه أزلا وأبدا ليبقى ببقائه إلا الله وحده وإذا قالوا تصير عالما معقولا مطابقا للعالم الموجود فهذا العالم ليس ثابتا على حال من الأحوال بل هو يستحيل من حال إلى حال أما علىالقول الحق فإن الأفلاك مخلوقة ومستحيلة وأما على زعمهم بأنها أزلية أبدية فليست كلية إنما هي أشياء معينة فهي من قبيل الحسيات لا من قبيل المعقولات الكلية ولهذا لما قال من قال منهم كابن سينا ونحوه إن الرب لا يعلم الجزئيات إلا على وجه كلي وقال إنه يعلم نفسه ويعلم ما يصدر عنه صار متناقضا فإنه سبحانه معين وما يصدر عنه معين والعقول معينة لا كلية والأفلاك معينة لا كلية

فكيف يقال لا يعلم إلا الكليات ويقال مع ذلك إنه يعلم ما يصدر عنه

ولهذا كان هذا مما احتج به عليه المسلمون المثبتون للصفات واستدركه عليه أتباعه كالطوسي فأما المسلمون فقالوا كلامه صريح بإثبات كثرة المعلوم وهو دائما يفر من الكثرة وأما الطوسي فلما رأى هذا لازما أنكره على ابن سينا وادعى أن علمه بالمعلومات هي نفس المعلومات وزعم أنه حقق هذا وهذا من أفسد ما قيل في العالم وأبعده عن العقل

ولقد كان الناس يعجبون ويسخرون من قول الفلاسفة إن العلم هو العالم والعلم هو القدرة فيجعلون هذه الصفة هي الأخرى ويجعلون الصفة هي الموصوف فإن فساد هذا من أبين الأمور في العقل والعلم بفساده ضروري فجاء هذا المتأخر منهم ففر إلى ما هو شر من ذلك فقال بل العلم نفس المعلومات وهذا ما عرفت أحدا من العالمين سبقه إليه وهم يدعون معرفة العقليات وهذا كلامهم في رب العالمين لا يقوله إلا من هو من أضل الناس

وهم إنما قالوا ما قالوه فرارا من كثرة الصفات وفرارا من حلول الحوادث ولهذا كان كثير من أساطينهم أو أكثرهم وكثير من متأخريهم كأبي البركات يخالفونهم في هذين الأصلين ويقولون بإثبات الصفات وبقيام الحوادث به كما قد حكيت مقالاتهم فإن عامة الفلاسفة الذين كانوا قبل أرسطو كانوا يقولون بحدوث الأفلاك لكن كانوا في المادة هل يقال بحوادث لا أول لها ولكل مادة مادة أو يقال بمادة قديمة أو حديثة وأما صورة الفلك فكانوا يقولون بحدوثها كما أخبرت به الرسل وأول من عرف عنه القول بقدمها أرسطو

هذا ذكره غير واحد من أهل المقالات وبحث أرسطو في كتابه يدل على ذلك وقد بسط الكلام على أرسطو نفسه وأقواله المنقولة عنه في الإلهيات وبين ما فيها من قلة العلم وكثرة الجهل وأنهم من أبعد الناس معرفة برب العالمين والذي لا ريب فيه أنهم لا يؤمنون بالله ولا بملائكته ولا رسله ولا اليوم الآخر ولا يدينون دين الإسلام الذي بعث الله به جميع الرسل وهو عبادة الله وحده لا شريك له فإن هذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد من الأولين والآخرين دينا غيره

قال تعالى عن نوح يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين سورة يونس 1 72

وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه أول رسول بعث إلى أهل الارض وأنه قال وأمرت لأن أكون أول المسلمين سورة الزمر 12

وقال تعالى عن إبراهيم ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون سورة البقرة 130 132

وقال ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين سورة آل عمران 67

وقال إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين سورة النحل 120

وقال قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين سورة الأنعام 161

وقال عن قوم موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين سورة يونس 84

وقال عن سحرة فرعون قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون سورة الشعراء 47 48 إلى قوله إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين سورة الشعراء 51 وقال في الآية الأخرى ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين سورة الأعراف 126

وقال عن يوسف الصديق توفني مسلما وألحقني بالصالحين سورة يوسف 101

وقال عن بلقيس رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين سورة النمل 44

وقال عن أنبياء بني إسرائيل إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون سورة المائدة 44

وقال عن الحواريين وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون إلى قوله ونكون عليها من الشاهدين سورة المائدة 111 112

فهذه الرسل وأممهم من نوح إلى الحواريين كلهم على الإسلام

وكذلك كل من كان قبلنا من أهل السعادة فهو مؤمن قال تعال إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون سورة البقرة 62 وفي الآية الأخرى والصابئون والنصارى سورة المائدة 69 فإن النصارى أفضل من الصابئين فلما قدموا عليهم نصب لفظ الصابئون ولكن الصابئون أقدم في الزمان فقدموا ها هنا لتقدم زمنهم ورفع اللفظ ليكون ذلك عطفا على المحل فإن المعطوف على المحل مرتبته التأخير ليشعر أنهم مؤخرون في المرتبة وإن قدموا في الزمن واللفظ

وهو سبحانه ذكر في سورة الحج ملل العالم فقال إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد سورة الحج 17 فأخبر أنه يفصل بين أهل الملل أجمعين ولم يذكرهم هنا ليتبين المحمود منهم في الآخرة وفي سورة البقرة والمائدة ذكر أربعة أصناف المسلمين والذين هادوا والنصارى والصابئين ثم قال من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون سورة البقرة 62 فدل على أن هذه الأربعة منهم من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا وأولئك هم السعداء في الآخرة بخلاف من لم يكن من هؤلاء مؤمنا بالله واليوم الآخر وعمل صالحا وبخلاف من كان من المجوس والمشركين فهؤلاء كلهم لم يذكر منهم سعيد في الآخرة

وكذلك الإسلام العام قال تعالى وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون سورة البقرة 111 112

وقال ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا سورة النساء 125

وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد وإن أولى الناس بابن مريم لأنا إنه ليس بيني وبينه نبي ولهذا ترجم البخاري على ذلك باب من جاء في أن دين الأنبياء واحد

وقال تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه سورة الشورى 13 فقد أمر الرسل أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه

وقال في الآية الأخرى يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون سورة المؤمنون 51 53 فذم الذين تفرقوا على الأنبياء فآمن هؤلاء ببعض وهؤلاء ببعض وهم الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا

وقال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون سورة الروم 30 31

وقال تعالى إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء سورة الأنعام 159 وقال تعالى إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا سورة النساء 150 151

وقال تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم سورة البقرة 213 قال ابن عباس وكان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام وقوله كان الناس أمة واحدة أي علىالحق وهو دين الإسلام فاختلفوا كما ذكر ذلك في سورة يونس هذا قول الجمهور وهو الصواب

وقد قيل كانوا أمة واحدة على الباطل وهو من الباطل فدين الله تعالى الذي ارتضاه لنفسه دين واحد في الأولين والآخرين وهو عبادة الله وحده لا شريك له وهذا هو دين الإسلام وتنوع الشرائع كتنوع الشريعة الواحدة للشيء الواحد فإن محمدا خاتم النبيين وأفضل المرسلين لا نبي بعده وقد بعث بدين الإسلام ما زال الإسلام دينه وقد أمر أولا باستقبال صخرة بيت المقدس ثم أمر ثانيا باستقبال الكعبة والدين واحد وإن تنوعت الشريعة فكذلك قوله تعالى فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا سورة المائدة 48

فما جعله الله لكل كتاب من الشرعة والمنهاج والمنسك لا يمنع أن يكون الدين واحد فالذين كانوا يتمسكون بالتوارة والإنجيل قبل النسخ والتبديل كانوا على دين الإسلام وإن كان لهم شريعة تختص بهم وكذلك المتمسكون بالإنجيل قبل النسخ والتبديل على دين الإسلام وإن كان المسيح قد نسخ بعض ما في التوراة وأحل لهم بعض الذي حرم عليهم وكذلك محمد بعث بدين الإسلام وإن نسخ الله ما نسخه كالقبلة ومن لم يتبع محمدا لم يكن مسلما بل كافرا ولا ينفعه بعد أن بلغه دعوة محمد التمسك بما يخالف ما أمر به فإن ذلك لا يقبل منه

ولهذا لما أنزل الله تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه سورة آل عمران 85 قالت اليهود والنصارى نحن مسلمون فقال تعالى ولله علىالناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا سورة آل عمران 97 فقالوا لا نحج فقال تعالى ومن كفر فإن الله غني عن العالمين سورة آل عمران 97 وقد روى الترمذي وغيره عن النبي أنه قال من ملك زاد أو راحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا

وقال تعالى شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد سورة آل عمران 18 20 فأخبر سبحانه أن الدين عنده هو الإسلام أولا وآخرا وهو دين واحد ثم بين أن أهل الكتاب إنما اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم من بعضهم على بعض لا لأجل طلب الحق

وهذا كقوله تعالى وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة سورة البينة 4 5

وقال في الآية الأخرى ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين سورة الجاثية 16 19

والاختلاف المطلق الذي ذمه الله تعالى في القرآن أن تبتدع كل طائفة قولا يلتبس فيه الحق والباطل فتخالف كل طائفة الطائفة الأخرى وتعاديهم وكلهم مخالفون لما بعث الله به الرسل من دين الإسلام كاختلاف اليهود والنصارى في المسيح وغيره واختلاف أهل الأهواء من هذه الأمة

فإن الإسلام وسط في الملل بين الأطراف المتجاذبة والسنة في الإسلام كالإسلام في الملل فالمسلمون في صفات الله تعالى وسط بين اليهود الذين شبهوا الخالق بالمخلوق فوصفوا الخالق بالصفات التي تختص بالمخلوق وهي صفات النقص فقالوا إن الله فقير وإن الله بخيل وإن الله تعب لما خلق العالم فاستراح وبين النصارى الذين شبهوا المخلوق بالخالق فوصفوه بالصفات المختصة بالخالق فقالوا هو الله

والمسلمون وصفوا الخالق بصفات الكمال ونزهوه عن صفات النقص ونزهوه أن يكون شيء كفوا له في شيء من صفات الكمال فهو منزه عن صفات النقص مطلقا ومنزه في صفات الكمال أن يماثله فيها شيء من المخلوقات

وكذلك هم في الأنبياء وسط فإن اليهود كما قال فيهم أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون سورة البقرة 87 وكذلك كانوا يقتلون الانبياء ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس

والنصارى غلوا فأشركوا بهم ومن هو دونهم قال الله فيهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون سورة التوبة 31

والمسلمون آمنوا بهم كلهم ولم يفرقوا بين أحد منهم فإن الإيمان بجميع النبيين فرض واجب ومن كفر بواحد منهم فقد كفر بهم كلهم ومن سب نبيا من الأنبياء فهو كافر يجب قتله باتفاق العلماء وفي استتابته نزاع قال تعالى قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون سورة البقرة 136

وقال تعالى ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين سورة البقرة 177

وقال تعالى آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت سورة البقرة 285 286 والآية الأخرى وفي الصحيحين عن النبي أنه قال من قرأ الآيتين في آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه وقد ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقرأ في ركعتي الفجر بسورتي الإخلاص قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد وتارة يقرأ في الأولى بآية الإيمان التي في البقرة قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا الآية وفي الثانية بآية الإسلام في آل عمران قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم إلى قوله تعالى فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون سورة آل عمران 64

وكذلك المسلمون وسط في النسخ فإن اليهود قالوا ليس لرب العالمين أن يامر ثانيا بخلاف ما أمر به أولا والنصارى جوزوا لرؤوسهم أن يغيروا شريعة المسيح فيحللوا ما شاءوا ويحرموا ما شاؤا والمسلمون قالوا رب العالمين يأمر بما يشاء له الخلق والأمر وليس لأحد من الخلق أن يغير دينه ولا يبدل شرعه ولكن هو يحدث من أمره ما يشاء فينسخ ما يشاء ويثبت ما يشاء وكذلك في الشرائع كالحلال والحرام فإن اليهود حرمت عليهم طيبات أحلت لهم عقوبة لهم وعليهم تشديد في النجاسات يجتنبون أشياء كثيرة طاهرة مع اجتناب النجاسة والنصارى لا يحرمون ما حرمه الله ورسوله بل يستحلون الخبائث ويباشرون النجاسات وكلما كان الراهب أكثر ملابسة للنجاسات والخبائث كان أفضل عندهم والمسلمون أباح الله لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث وهم وسط في سائر الأمور وليس هذا موضع بسط ذلك

وكذلك أهل السنة في الإسلام فهم في الصحابة وسط بين الرافضة التي يغلون في على فيجعلونه معصوما أو نبيا أو إلها وبين الخوارج الذين يكفرونه

وهم وسط في الوعيد بين الوعيدية من الخوارج والمعتزلة وبين المرجئة الذين لا يجزمون بتعذيب أحد من فساق الأمة

وهم في القدر وسط بين النفاة للقدر من المعتزلة وغيرهم وبين الجهمية المثبتة الذين ينكرون حكمة الله في خلقه وأمره

وهم في الصفات وسط بين المعطلة الذين ينفون صفات الله أو بعضها ويشبهونه بالجماد والمعدوم وبين الممثلة الذين يمثلون صفاته بصفات خلقه فيصفون الله بصفات خلقه فيصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تعطيل ولا تمثيل ومن غير تكييف ولا تحريف

فمن حيث بعث محمد لم يكن الإسلام إلا ما أمر به لأن الإسلام أن يستسلم العبد لله رب العالمين لا لغيره فمن استسلم له ولغيره فجعل له ندا فهو مشرك قال الله تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله سورة البقرة 165

ومن استكبر عن عبادة الله فلم يستسلم له فهو معطل لعبادته وهو شر من المشركين كفرعون وغيره قال الله تعالى إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين سورة غافر 60

والإسلام إنما يكون بأن تعبد الله وحده لا شريك له وإنما يعبد بما أمر به فكل ما أمر به فهو حين أمر به من دين الإسلام وحين نهى عنه لم يبق من دين الإسلام كما كانت الصخرة أولا من دين الإسلام ثم لما نهى عنها لم تبق من دين الإسلام فلهذا صار المتمسك بالسبت وغيره من الشرائع المنسوخة ليس من دين الإسلام فكيف بالمبدل

والله تعالى قط لم يرض له دينا غير الإسلام ولا أحد من رسله لا سيما خاتم الأنبياء فإنه لم يرض من أحد إلا بدين الإسلام لا من المشركين ولا من الذين أوتوا الكتاب وقوله تعالى قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون إلى آخرها سورة الكافرون وهي كلمة تقتضي براءته من دينهم وأن ديني لي وأنتم بريئون منه ودينكم لكم وأنا بريء منه

كما قال تعالى في الآية الأخرى وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون سورة يونس 41 فقوله لي عملي ولكم عملكم هو نظير قوله لكم دينكم ولي دين وقرنه بمقتضاه وموجبه فقال أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون

ولهذا قال النبي في هذه السورة هي براءة من الشرك ولهذا كان يقرأها كثيرا مع قل هو الله أحد في ركعتي الفجر وركعتي الطواف وغيرهما لأن فيهما التوحيد هذه فيها توحيد العمل والإرادة وتلك فيها توحيد القول والعلم وإذا قال في 2 تلك قل هو الله أحد فأمره أن

يقول ما هو خبر عن الله بأنه الأحد الصمد وقال في هذه قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون فأمره أن يقول أنه لا يعبد ما يعبدون من دون الله إذ لا يعبد إلا الله وحده

ومثل هذا المعنى قوله تعالى فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم سورة الشورى 15 أي لا خصومة والحجة هي ما يحتج به الخصم وإن كان باطلا فليس من شرط لفظ الحجة أن تكون حقا بل إذا كانت حقا سميت بينة وبرهانا ودليلا ولهذا قال تعالى لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل سورة النساء 165 لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم سورة البقرة 150 وهم المشركون يحتجون عليكم بحجة باطلة فيقولون قد رجع إلى قبلتنا فيوشك أن يرجع إلى ديننا وبهذا فسر الآية علماء الصحابة والتابعين لهم بإحسان ومن قال من المتأخرين إن إلا بمعنى الواو وقالوا إن المراد لئلا يكون للناس عليكم حجة والذين ظلموا منهم قولهم من الباطل الذي يظهر فساده من وجوه كثيرة

وقال تعالى والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد سورة الشورى 16 وقال في الحق وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء سورة الأنعام 83

وقد قال في الحديث المتفق على صحته إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعا من النار

وقد قال طائفة من المفسرين أن هذه السورة منسوخة أي فيما ظنوها دلت عليه من ترك القتال فإنهم ظنوا أن قوله لكم دينكم ولي دين يتضمن ترك القتال ومعلوم أن الله لم يأمر نبيه بمكة بالقتال بل إنما أمره بالقتال بالمدينة وأول آية نزلت في القتال قوله أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير سورة الحج 39 فأذن الله لهم أولا فيه ثم كتب عليهم ثانيا فقال كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم سورة البقرة 216

وكتب عليهم قتال من لم يسالمهم فأما من سالمهم فلم يؤمروا بقتاله كما قال تعالى وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله سورة الأنفال 61 وقال إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا سورة النساء 90

ولهذا كان بين النبي وبين كثير من المشركين عهود مطلقة ومؤقتة فالمؤقتة كانت لازمة والمطلقة لم تكن لازمة بل لكل منهما فسخها فلما فتح الله مكة وغزا النبي تبوك سنة تسع من الهجرة وهي آخر غزواته أمر فيها بغزو أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون بقوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون سورة التوبة 29

ولما رجع من غزوة تبوك أنزل الله سورة براءة وذكر أحوال المنافقين بقوله ومنهم ومنهم ولهذا تسمى الكاشفة والمبعثرة والفاضحة وأمر بنبذ العهود المطلقة وتحريم الحرم علىالكفار فأرسل النبي أبا بكر أميرا علىالموسم وأمره أن ينهى عن طواف العراة بالبيت وأن ينهى المشركين عن الحج ولهذا كان ينادي في الموسم ولا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان وأتبعه بعلي بن أبي طالب لأجل نبذ العهود إلى المشركين الذين كانت لهم عهود مطلقة وكان أبو بكر هو الأمير على الموسم وعلي معه يصلي خلفه ويأتمر بأمره لكن أرسله النبي لأنه كان من عادة العرب أن العهود لا يعقدها ولا يحلها إلا المطاع أو رجل من أهل بيته فخاف إن لم يبعث واحدا من أهل بيته أن لا يقبلوا نبذ العهود ولم يرجع أبو بكر إلى المدينة ولا عزله عن شيء كان ولاه وما روى من ذلك فهو من الكذب المعلوم أنه كذب

وكان تأميره على علي بعد قوله لعلي في غزوة تبوك أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى كما قد بسط في موضعه فقال الله تعالى في براءة براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين سورة التوبة 1 إلى قوله إلا الذين عاهدتم من المشركين سورة التوبة 4 إلى قوله فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين سورة التوبة 4

وقد ظن طائفة من الفقهاء أنه لا يجوز أن يعاهد الكفار إلا إلى أجل مسمى ثم اضطربوا فقال بعضهم يجوز نقضه ولا يكون لازما وقال بعضهم بل يكون لازما لا ينقضي واضطربوا في نبذ النبي العهد والصحيح أنه يجوز العهد مطلقا ومؤجلا فإن كان مؤجلا كان لازما لا يجوز نقضه لقوله فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم سورة التوبة 4 وإن كان مطلقا لم يكن لازما فإن العقود اللازمة لا تكون مؤبدة كالشركة والوكالة وغير ذلك وقد بسط هذا في غير هذا الموضع وسمي من قال كل قول

والمقصود أن الله لما أنزل براءة وقال فيها فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين سورة التوبة 5 وهي الأربعة التي قال الله فيها فسيحوا في الأرض أربعة أشهر سورة التوبة 2 ليست الحرم التي هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب وقد قال بعضهم هي هذه وغلط في ذلك قال فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم التوبة 5 وهذه تسمى آية السيف فأمر الله فيها بقتال المشركين وأهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون

ولهذا قال في آية الفتح ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون سورة الفتح 16 وهم الروم وفارس كانوا أشد بأسا من العرب ولا بد من مقاتلتهم أو إسلامهم وإذا قوتلوا فإنهم يقاتلون حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون بخلاف ما كان قبل آية الجزية فإنهم كانوا تارة يقاتلون وتارة يعاهدون بلا جزية كما عاهد النبي اليهود والمشركين بلا جزية وكانوا قد دعوا عام الحديبية إلى قتال من يقاتل أو يعاهد وبعد ذلك يدعون إلى قتال من يقاتلون أو يسلمون ولم يقل أو يسلموا فإنه كان يكون المعنى حتى يسلموا وقتالهم لا يجب إلى هذه الغاية بل إذا أعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فقد قوتلوا القتال المأمور به

ثم العلماء مختلفون بعد نزول آية الجزية هل تؤخذ من أهل الكتاب ومن له شبهة كتاب دون غيره أو تؤخذ من كل كافر جازت معاهدته والنبي إنما لم يأخذها من العرب لأن قتالهم كان قبل نزول آية الجزية أو يستثنى مشركو العرب فيها ثلاثة أقوال للعلماء مشهورة والجمهور يجوزون أخذها من مشركي الهند والترك وغيرهم من أصناف العجم كما يجوز الجميع معاهدة هؤلاء عند الحاجة أو المصلحة وهل يجوز أن يعاهدوا عهدا مطلقا أو لا يكون إلا مؤقتا على قولين

فلهذا يوجد كثير من المفسرين يقول في آيات يظن معناها النهي عن القتال إنها منسوخة بآية السيف فالذين قالوا قل يا أيها الكافرون منسوخة هذا مأخذهم والصواب أن هذه الآية لم تتعرض للقتال لا بأمر ولا بنهي بل مضمونها البراءة من دين الكفار وهذا أمر محكم لا ينسخ أبدا وأما أن يقال فيها أو في غيرها رضي الرسول بدين كافر فهذا لم يقله أحد من علماء المسلمين أصلا ولا أحد من سلف الأمة ولا من الأولين ولا من الآخرين ولا يقول ذلك إلا من هو مفتقر على الله ورسوله لم يرض الله بغير دين الإسلام وهو الذي بعث الله به محمدا لم يرض الله ولا رسوله من أحد من الخلق بغير هذا الدين قط وإن كان لم يأمر بجهادهم في أول الأمر لعجز المسلمين وقلتهم

ولهذا لما استأذن الأنصار النبي ليلة العقبة لما بايعوه في الجهاد قال إني لم أومر بذلك بعد ثم لما كتب القتال كرهه بعضهم فقال تعالى ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا سورة النساء 77 وهذه الآية لبسطها موضع آخر

والمقصود هنا ذكر ما يتعلق بالفلاسفة والفلسفة لفظ يوناني ومعناها محبة الحكمة والفيلسوف في لغتهم محب الحكمة ولهذا يقولون سوفستيا أي حكمة مموهة ثم كثرت في الألسنة فقيل سفسطة أي حكمة مموهة وأما ما يقوله طائفة ممن يحكي مقالات الناس إن في العام رجلا كان اسمه سوفسطا وأنه كان هو شيعته ينكرون الحقائق كلها وجعلوا هذه أربع فرق فرقة تجزم بنفي الحقائق وطائفة تجزم بنفي العلم بها وتقول ليس عند أحد منهم علم بشيء وطائفة واقفة يقولون لا ندري تسمى المتجاهلة وتسمى اللاأدرية وطائفة تجعل الحقائق تتبع العقائد فكل من اعتقد شيئا فهو في نفس الأمر على ما اعتقد فهذا النقل على ظاهره باطل ليس في العالم طائفة معروفة تقول بشيء من هذه الأقوال في كل شيء ولا رجل اسمه سوفسطا

ولكن كل من هذه الأقوال قد يعرض لكثير من الناس في بعض الأمور فيكون قد سفسط في ذلك الأمر كالكفار الذين جحدوا ما علموا أنه الحق قال تعالى وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين سورة النمل 14 وقال الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون سورة البقرة 146 وقال تعالى فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون سورة الأنعام 33

فإن في العالم من يكذب فيخبر بخلاف ما يعلم في كثير من الأمور ليس في العالم من يكذب في كل ما يقول وكذلك في العالم من كذب بكثير من الحق الذي يعلمه لكن لا يكذب بكل ما يقال له من الحسيات وغيرها فمن نفى الحقائق مع علمه بها ونفى العلم مع ثبوته فهو من الكاذبين ومن تجاهل وقال لا أدري فهو من الكاتمين ما معه من الحق مثل كاتم الشهادة ومن جعل الحقائق تتبع العقائد كما يظن طائفة من النظار أن ليس في الحوادث التي ليس فيها نص قاطع عندهم حكم معين يطلب بالإجتهاد بل الحكم فيها يتبع الإعتقاد ولهذا قيل في هذا المذهب أوله سفسطة ولكن هو سفسطة حدثت على طائفة من النظار الأذكياء فإن هذا قول أبي الهذيل وأبي علي وأبي هاشم والأشعري في أظهر قوليه وقول القاضي أبي بكر وأبي حامد الغزالي وغيرهم

وهو وإن كان قولا ضعيفا مخالفا للكتاب والسنة وإجماع السلف باطل شرعا وعقلا فالقائلون به قوم فضلاء قصدهم الحق لم يكن غرضهم أن يقولوا ما يعلمون أنه باطل وقد بسط الكلام على هذه المسألة في مواضع

والمقصود أن الفلاسفة هم حكماء اليونان وكل أمة من أهل الكتب المنزله وغيرهم فلهم حكماء بحسب دينهم كما للهند المشركين حكماء وكان للفرس المجوس حكماء وحكماء المسلمين هم أهل العلم بما بعث الله به رسوله وأهل العمل به قال مالك الحكمة معرفة الدين والعمل وقال ابن قتيبة وغيره الحكمة في اللغة هي العلم والعمل فمن علم ما أخبرت به الرسل فآمن به وصدق بعلم ومعرفة وعلم ما أمر به فسمع وأطاع فقد أوتي الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا

فلما كان هذا أصل لفظ الفلسفة صار هذا مطلقا على كل من سلك سبيل أولئك اليونان واتبعهم في حكمتهم والذين اتبعوهم من المتأخرين فصرحوا فيها بأشياء وقربوها إلى الملل وإلا فإذا ذكرت على وجهها ظهر فيها من الباطل ما ينفر عنها كل عاقل عرف دين الرسل فإن الرسل فد جاءوا من العلم والبيان في الأمور الإلهية ما يكون في حكمة اليونان معه من جنس نسبة طب العجائز إلى طب أبقراط أو من جنس نسبة ملحة الإعراب إلى كتاب سيبويه

وإذا كان كذلك فلاسفة اليونان وفلاسفة العرب والفرس والهند وسائر الأمم الذين لا كتاب لهم ليسوا في الأمور الإلهية بمنزلة علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى بل هؤلاء أعلم منهم بالأمور الإلهية ثم هؤلاء كلهم إذا جاءهم رسول وكذبوه فهم كفار وإن كانوا على شريعة رسول يعملون بها بلا تبديل فهم مؤمنون مسلمون من أهل الجنة وإن لم يكونوا على شريعة ولا جاءهم رسول فهم من أهل الجاهلية كأمثالهم من أهل الفترات وقد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع

والفلاسفة الذين بلغتهم دعوة محمد بعضهم من المتظاهرين بالإسلام وبعضهم من اليهود وبعضهم من النصارى وكل من خالف ما جاءت به الرسل فهو ضال من أي الطوائف كان فإن الله بعثهم بالحق والمعقول الصريح دائما يوافق ما جاءت به الرسل لم يخالف العقل الصريح شيئا مما جاءت به الرسل وقد بسط هذا في الكتاب المصنف في درء تعارض العقل والنقل

والفلاسفة المتظاهرون بالإسلام يقولون إنهم متبعون للرسول لكن إذا كشف حقيقة ما يقولونه في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر تبين لمن يعرف ما جاء به الرسول وما يقولونه في نفس الأمر أن قولهم ليس هو قول المؤمنين بالله ورسوله والمسلمين بل فيه من أقوال الكفار والمنافقين شيء كثير

وفرق أهل الكلام مع بدعهم وضلالهم أقرب إلى الرسول وإلى دين الإسلام خارجيهم وشيعيهم ومعتزليهم وكراميهم لكن غالب هؤلاء ناظروهم مناظرة فاسدة سمعا وعقلا فلا هم عرفوا دين الإسلام في كثير من المسائل التي نازعوهم فيها بل صاروا يضيفون إلى دين الإسلام ما ليس منه ولا قالوا في الاستدلال والجواب عن معارضيهم ما هو حق بل ردوا باطلا بباطل وقابلوا بدعة ببدعة

لكن باطل الفلاسفة أكثر وهم أعظم مخالفة للحق المعلوم بالأدلة الشرعية والعقلية في الأمور الإلهية والدينية من أولئك المبتدعين من أهل الكلام ولكن ضعف معرفة هؤلاء المتكلمين بالحق وأدلته سلطت أولئك كالجند الفساق إذا قاتلوا عسكر الكفار قتالا لم يكونوا فيه بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء وكان ذلك مما يسلط الكفار عليهم وإن غلبوهم بالفجور والظلم أديلوا عليهم فإن البغي مصرعه وخيم والعدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال وإنما أرسل الله الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس بالقسط

قال الله تعالى لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس سورة الحديد 25 وقال تعالى الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان سورة الشورى 17 وقال تعالى والسماء رفعها ووضع الميزان سورة الرحمن 7

وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى سورة المائدة 8 فأمر الله المؤمنين بالعدل على الكفار وإن كانوا يبغضونهم بغضة أمر الله بها ورسوله قال تعالى وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط سورة المائدة 42 وقال ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين سورة البقرة 190

وقد تكلم أهل البدع معهم في مسألة حدوث العالم والمعاد والصفات والنبوات بما أضافوا إلى دين المسلمين من الأقوال التي ليست في كتاب الله ولا في حديث عن رسول الله ولا قالها أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا أحد من أئمة المسلمين وإنما هي مأخوذة عن أهل الكلام المبتدع المحدث المذموم عند السلف والأئمة الذي أصله مأخوذ عن الجهمية والمعتزلة فصارت الأصول التي يذكرها أهل البدع وأتباعهم التي هي يضاف بعهضا إلى الله ورسوله ودين الإسلام ويناظر عليها عند من لم يعرف إلا اقوال أهل البدع والمتكلمين والفلاسفة الملحدين بل ومنها ما يظن بل يحكى أنها إجماع المسلمين وأن من خالفها فقد خرج عن دين الإسلام وتكون تلك الأصول من البدع المحدثة في الإسلام المخالفة لقول الله ورسوله والصحابة والتابعين بإحسان

وقد بسطنا في غير هذا الموضع الكلام في خلق الله للسموات والأرض في ستة أيام وما جاء به القرآن والحديث الصحيح وما قاله الصحابة والتابعون وما أخبر به أيضا في المعاد من انشقاق السماء وانفطارها وتسيير الجبال وسجر البحار وتكوير الشمس والقمر وغير ذلك مما فيه استحالة أجزاء هذا العام من حال إلى حال ليس في شيء من ذلك أن العالم كله بعدم ولا يبقى شيء موجود إلا الله كما يقوله من يقوله من أهل الكلام الذين تلقوا ذلك عن الجهمية

فإن الجهم أصل قوله أن الله لا يقدر على فعل ما لا يتناهى بل جعل لفعله مبدأ ومنتهى وجعله معطلا في الأزل والأبد ولهذا قال إن الجنة والنار يفنيان ويفنى كل شيء وهذا من بدعه التي أنكرها عليه السلف والأئمة وادعى هو وغيره من المعتزلة وغيرهم أن العالم يعدم كله ثم يعاد كله بعد عدمه كله وهذا مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف كما قد بسط في موضعه

وكذلك خلق السموات والأرض قد أخبر أنه كان قبل ذلك عرشه على الماء وقد بسطنا القول في هذه المواضع وبينا ما جاء به السمع وهو مطابق للعقل من أن الله خالق كل شيء وكل ما سواه محدث مسبوق بالعدم وذلك غير تعطله سبحانه عن القول والعمل بمشيئته فإن هذا ليس هو قول السلف وأئمة السنة بل الثابت عنهم خلاف ذلك كما قد بسط في موضعه

ولهذا تكلم الجهمية والقدرية ومن تبعهم في مسألة قدرة الرب بكلام ناقص جدا ومن نظر في بحوث الرازي وأمثاله معهم في مسألة القادر رأى عجائب ورأى أن الواحد من هؤلاء كأنه يبطن خلاف ما يظهر يظهر الانتصار لقوله وكلامه يدل على نقيضه فإن كان مع ظهور رجحان أحد القولين لا يشعر برجحانه فهذا جهل عظيم

فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

وأولئك أثبتوا موجبا بالذات مستلزما لمعلوله مجردا عن الصفات وهذا فاسد من وجوه كثيرة قد بينا بعضها وهؤلاء أثبتوا قادرا يرجح أحد المتماثلين بلا مرجح أصلا وقالوا القادر من يفعل مع جواز أن لا يفعل وهذا إنما هو قول القدرية الذين يقولون إن العبد يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح وهو قول الجهمية والقدرية في فعل الرب فأما أهل السنة فعندهم القادر لا يرجح أحد مقدوريه إلا بمرجح وهذا من حججهم على القدرية

يقول أهل السنة إن الله خص المطيعين بما به رجحوا الطاعة على المعصية دون العصاة ولولا تفضله عليهم بما به رجحوا لم يطيعوه كما قد بسط هذا في موضعه والقادر إذا كان له إرادة تامة لزم وجود مقدوره فهو يوجب بقدرته ومشيئته ما يريده وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وكل ما شاءه الرب فواجب كونه وما لم يشأ فيمتنع كونه لكن وجوب لوجود مشيئته وامتناع لعدم مشيئته وإذا فسر القادر المختار بمثل هذا بطلت شبه الفلاسفة النافية للقادر المختار وكذلك الجهم بن صفوان ومن اتبعه يزعمون أن القادر المختار يرجح أحد المتماثلين على الآخر بلا سبب ولا حكمة فأنكروا ما في الأجسام من الطبائع وما في خلق الله وأمره من الحكمة وما في المخلوقات والشرائع من الأسباب

والأشعري ومن وافقه اتبعوا جهما على قوله في القدر وإن كانوا يثبتون قدرة وكسبا لكن ما أثبتوه لا حقيقة له في المعنى بل قولهم هو قول جهم وإن نازعوه في إثبات القدرة والكسب ولهذا كان قولهم في نفي ما في الشريعة من الحكم والأسباب خلاف إجماع السلف والفقهاء فإن من أصولهم أن الله لا يخلق لحكمة ولا يأمر لحكمة بل ليس عندهم في القرآن لام تعليل في خلقه وأمره وإذا تكلموا معهم في الأمور الطبيعية أحالوا جميع ذلك على مجرد ترجيح القادر بلا سبب وأن ما وجد من الاقتران فهو عادة محضة لا لارتباط بين هذا وهذا ثم قد يضيفون هذا القول إلى السنة

وهذا القول لم يقله قط أحد من سلف الأئمة ولا أئمة المسلمين لا الأربعة ولا غيرهم بل المنصوص عنهم وعن غيرهم خلاف هذا القول وإن كان قد قاله طوائف من أصحابهم المتأخرين متابعة لمن قال ذلك من أهل الكلام المتبعين لجهم

ولهذا لما تكلموا في العقل لم يجعلوه غريزة إذ كان عندهم ليس في الوجود غريزة ولا طبيعة ولا قوة يكون لها أثر أو تكون سببا في غيرها لا قدرة ابن آدم ولا غيرها فاحتاجوا إلى أن جعلوه نوعا من العلوم الضرورية وأتموا الأمر فيه

والمنصوص عن أئمة الدين أن العقل غريزة كما ذكر ذلك أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي وغيرهما

وليس هذا موضع بسط هذه المسائل وإنما المقصود التنبيه على أن الإنسان ينبغي له أن يعرف دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله وما كان عليه الصحابة والتابعون وسلف الأمة وأن ذلك الأمر لا يمكن أن يخالفه معقول صحيح قط بل كل ما خالفه فهو باطل وأن المتكلمين الذين تلقوا أصل كلامهم عن الجهمية والقدرية ونحوهم في كلامهم باطل كثير أدخلوه في دين الإسلام وليس من دين الإسلام ولم يكن أحد منهم ممن يجزم بسعادته في الأولين والآخرين إلا من المؤمنين المسلمين كما دل القرآن على ذلك في غير موضع

فصل[عدل]

وليس في كتب المشائين دعوة إلى عبادة الله ومحبته أصلا بل غايتهم أنهم يقولون الفلسفة التشبه بالإله على قدر الطاقة ولفظ إله في كلامهم يعني هذا المعنى

كما قال أبو البركات في المعتبر الفصل الثاني في العلم الإلهي والإلهيات

يظهر من المتداول في كلام القدماء أن المراد بلفظ إله هي معنى إضافي بالقياس إلى من هو إله له وهو الذي يقتديه نفس الشيء الذي هو له إله في فعلها وتحرك الجسد الذي هي فيه على شاكلة إرادته بحسب مشيئته وتحريكه فكان المتعلم يسمى معلمه الذي يقتدي به إلها وربا ويظهر منه أيضا أن الإله هو الفاعل الذي لا يرى وله على البشر سلطان وقدرة وليس لهم عليه

قال فالنفوس على مذاهبهم فعالة لا ترى ولها سلطان على البشر لكن لهم عليها أيضا سلطان فإن النفوس البشرية يؤذي بعضها بعضها ويتسلط بعضها على بعض وكانوا يشيرون بذلك إلى الملائكة الروحانية وقد سبق لذلك ذكر في كتاب النفس ونستوفي ها هنا النظر فيه فعلم الإلهيات هو الذي تعرف فيه صفات الإله مطلقا ثم صفات إله الآلهة ورب الأرباب هذا لفظه

قلت قوله هو الذي يقتديه نفس الشيء الذي هو إله في فعلها أي يقتديه نفس المتأله في فعلها

وقوله وتحرك الجسد الذي هي فيه على شاكلة إرادته بحسب مشيئته وتحريكه فكان المتعلم يسمى معلمه الذي يقتدي به إلها وربا يبين أنه يفعل للتشبه به فتجد له النفس جسدها على ما يشاكل إرادة المألوه ويشابهها بحسب مشيئة المألوه وتحريكه فقد بين أن المتأله يفعل كما يفعل مألوهه ويأمره مألوهه فيريد ويحرك جسده بحسب مشيئة المألوه وتحريكه ثم مثل ذلك بالمتعلم مع المعلم الذي يقتدي به ويأتمر بأمره للتشبه به وأنه عندهم إلهه وربه وذلك بمنزلة التلميذ مع أستاذه وغايته أن يكن بمنزلة الأمة مع نبيها تقتدي به وتطيع أمره

وهذا الذي حكاه عنهم مطابق لما حكاه سائر الناس عنهم أن الفلسفة عندهم هي التشبه بالإله على قدر الطاقة وذكر لله معنى آخر وهو الفاعل الذي لا يرى وله سلطان وجعل الملائكة هي الآلهة بهذا التفسير وبين أن العلم الإلهي يتكلمون فيه على جنس الآلهة ثم على صفات الإله الأكبر الذي هو إله الآلهة فالإلهية عند القوم أمر مشترك بين الله وبين الملائكة وبين المعلمين ومن نقتدي به لكن إلهية الله أفضل وأكمل كما أن الوجود مشترك بين الموجودات لكن الوجود الواجب أكمل

وهذا الشرك شر من شرك مشركي العرب فإن أولئك وإن أشركوا بالوسائط وقالوا هم شفعاؤنا عند الله وقالوا إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى فلم يكن التأله عندهم بمعنى التشبه والإقتداء بل بمعنى العبادة والذل والمحبة وهؤلاء مع عظيم شركهم بالله بمخلوقاته جعلوا التأله لنا هو التشبه بالإله لا أنه يحب ويعبد ويدعى ويسأل ولهذا لم تكن الآلهة مختصة بالله عندهم لأن التشبه مبناه على أن الأدنى يتشبه بالذي فوقه والذي فوقه يتشبه بمن فوقه حتى ينتهي إلى الغاية ولهذا سموه إله الآلهة

ولهذا يقولون إن كل فلك يتحرك للتشبه بعقله ففلك القمر يتحرك للتشبه بالعقل العاشر والفلك التاسع يتحرك للتشبه بالعقل الثامن

وبهذا الطريق أثبت أرسطو وأتباعه وجوده وقالوا إن الفلك يتحرك للتشبه به وشبهوه بتحريك المعشوق لعاشقه لكن العاشق يحب ذات المعشوق والفلك عندهم إنما يحب التشبه بالله وهو كتحريك الإمام للمصلين والمتبوع للتابعين فلم يثبتوا بهذا أن الله رب العالمين خلقه وأنشأه ولا أنه إله العالم الذي يحبه العبد ويرجوه ويخشاه

لكن اسم الإله لما كان موجودا في القرآن وذكره المعربون لكتب أولئك وبينوا معناه في لغة أولئك صار بسبب الاشتراك في اللغتين في إطلاقه تلبيس على من لم يعرف مراد القرآن العزيز باسم الإله ومراد القوم باسم الإله وبين المرادين بون عظيم

ثم لما كان مقصود القوم التشبه به فهم في الحقيقة لا يعبدونه ولا يستعينونه فهم خارجون عن دين المرسلين القائلين إياك نعبد وإياك نستعين فإن التشبه بغيره مقصوده أن يكون مثله بحسب قدرته فلو قدر أن يكون مثله من كل وجه لفعل ذلك لكن يفعل ما يقدر عليه وليس مراده محبة نفس ذلك المتشبه به ولا الذل له بل مماثلته كما يقوم التلميذ مقام أستاذه والابن مقام أبيه

وهذا لا يستلزم حب المتشبه ولابغضه بل كثيرا ما يكون مع البغض الحسد والمنافسة كما قد يكون مع عدم ذلك والغالب انه مع وجود الإثنين لا بد من المنافسة والمنادة وهذا هو الند والكمال عند القوم أن يجعل أحدهم نفسه لله ند

ثم من العجب أن القوم يدعون التوحيد ويبالغون في نفي التشبيه حتى نفوا الصفات وشنعوا على أهل الكتاب لما جاء من الصفات في التوراة وغيرها وأنكروا قوله في التوراة إنا سنخلق بشرا على صورتنا يشبهنا وهو يدعون أن أحدهم يجعل نفسه شبيها لله فإن كان هذا اللفظ يحتمل معنى صحيحا عندهم لإمكان المشابهة من وجه دون وجه فالله أقدر على أن يفعل ذلك من الواحد منهم وإن كان هذا ممتنعا مطلقا فما بالهم زعموا أنهم يتشبهون بالله تعالى مع أن التشبيه الذي أثبتوه شرك صريح في الإلهية التي هي مختصة بالله

ودعوى القدرة على جعل الند لله بقدرة الواحد منا واختياره ومن أثبت الإلهية لغير الله من الملائكة والأنبياء كان مشركا أعظم فكيف من أثبتها لآحاد الناس وأمر الخلق أن يصيروا آلهة متشبهين بالله

وقد قال تعالى ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ انتم مسلمون سورة آل عمران 79 80

ولهذا ضل من سلك سبيل هؤلاء فصار مقوصدهم هو التشبه بالله واحتجوا بما يروون تخلقوا بأخلاق الله

وصنف أبو حامد شرح أسماء الله الحسنى وضمنه التشبه بالله في كل اسم من أسمائه وسماه التخلق حتى في اسمه الجبار والمتكبر والإله ونحو ذلك من الأسماء التي ثبت بالنص والإجماع أنها مختصة بالله وأنه ليس للعباد فيها نصيب كقول النبي في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره يقول الله تعالى العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحدا منهما عذبته

وسلك هذا المسلك ابن عربي وابن سبعين وغيرهما من ملاحدة الصوفية وصار ذلك مع ما ضموا إليه من البدع والإلحاد موقعا لهم في الحلول والاتحاد

وقد أنكر المازري وغيره على أبي حامد ما ذكره في التخلق وبالغوا في النفي حتى قالوا ليس لله اسم يتخلق به العبد

ولهذا عدل أبو الحكم بن برجان عن هذا اللفظ إلى لفظ التعبد ولبسط الكلام على ذلك موضع آخر فإن من أسمائه وصفاته ما يحمد العبد على الاتصاف به كالعلم والرحمة والحكمة وغير ذلك ومنها ما يذم العبد على الاتصاف به كالإلهية والتجبر والتكبر

وللعبد من الصفات التي يحمد عليها ويؤمر بها ما يمنع اتصاف الرب به كالعبودية والافتقار والحاجة والذل والسؤال ونحو ذلك وهو في كل ذلك كماله في عبادته لله وحده وغاية كماله أن يكون الله هو معبوده فلا يكون شيء أحب إليه من الله ولا شيء أعظم عنده من الله ويكون هو إلهه الذي يعبده وربه الذي يسأله فيتحقق بقوله إياك نعبد وإياك نستعين

ومتصوفة الفلاسفة تسلك مسلك ابن سينا في مقامات العارفين الذي ذكره في آخر الإشارات وقد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع وبين أن ذلك مع مدح الرازي له غايته فناء ناقص مع نقص توحيد الربوبية والإثبات

وأما الفناء الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب فهو أن يفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه ومحبته عن محبة ما سواه وبخشيته عن خشية ما سواه وبرجائه عن رجاء ما سواه وبطاعته عن طاعة ما سواه فيتحقق بحقيقة قول لا إله إلا الله

وقد ثبت في الصحيح عن عثمان عن النبي أنه قال من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة

وفي السنن عن معاذ عن النبي أنه قال من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة

وهذا التوحيد يتضمن إثبات صفات الكمال لله ونفي النقص ونفي مماثلته لشيء من الأشياء وإثبات خصائصه بالمحبة والعبادة والتعظيم ونحو ذلك

وإنما يتفاوت أهل العلم والإيمان بحسب تفاوتهم في تحقيق هذا التوحيد كما قد بسط في موضعه والله أعلم

تمت القاعدة من كلام شيخ الإسلام مفتي الأنام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية الحنبلي


الصفدية لابن تيمية
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16