الصفدية/15

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


وهذا يتعلق بمسألة محبة الله أي أنه محبوب في نفسه وهو محب لنفسه ولعباده المؤمنين وهي أصل هذا الباب وهي أصل ملة إبراهيم التي بعث الله بها موسى وعيسى ومحمدا أجمعين بل هي أصل دين الإسلام الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه وبها تزول عامة الشبهات الواقعة في هذا الباب في مسألة فعله هل هو معلل أم لا وفي الإرادة والمحبة وفي مسألة التحسين والتقبيح وفي عامة مسائل الخلق والأمر

والمقصود هنا أن السعادة التي هي كمال البهجة والسرور واللذة ليس هي نفس العلم ولا تحصل بمجرد العلم بل العلم شرط فيها بل لا بد من العلم بالله وبأمره كما قال النبي في الحديث المتفق على صحته من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين فكل من أراد الله به خيرا فلا بد أن يفقهه في الدين فمن لم يفقهه في الدين لم يرد به خيرا وليس كل من فقهه في الدين قد أراد به خيرا بل لا بد مع الفقه في الدين من العمل به فالفقه في الدين شرط في حصول الفلاح فلا بد من معرفة الرب تعالى ولا بد مع معرفته من عبادته والنعيم واللذة حاصل بذلك لا أنه هو ذلك فغلطوا من هذين الوجهين هذا لو كان ما ذكروه من العلم حقا وكان كافيا فكيف والامر بخلاف ذلك

ولهذا قال من قال من المسلمين الإيمان قول وعمل ومتابعه للسنة وهؤلاء أخرجوا العمل ولم يلتزموا شرائع الأنبياء وإنما معهم نوع من القول لا يكفي مع ما فيه من الخطاء وهم يدعون أن كمال النفس أن تصير عالما معقولا مطابقا للعالم الموجود ولهذا تنازعوا في بقائها بعد الموت على ثلاثة أقوال والثلاثة للفارابي فمنهم من قال تبقى العالمة والجاهلة كما يقوله ابن سينا وأمثاله ومنهم من يقول بل تبقى العالمة فقط لأنها تبقى ببقاء معلوماتها والجاهلة ليس لها معلوم باق فلا تبقى ومنهم من يقول بل كلاهما تفسد بالموت وهو قول المعطلة المحضة منهم ومن غيرهم الذين ينكرون معاد الأبدان ومعاد الأرواح جميعا أو ينكرون معاد الأرواح وبقاءها بعد الموت فقط مع بقاء البدن فقط كما يقول ذلك كثير من أهل الكلام المحدث في الإسلام

فإن لبني آدم في المعاد أربعة أقوال أحدها القول بمعاد البدن والروح جميعا وأن الروح المفارقة للبدن التي يسمونها النفس الناطقة تكون بعد فراق البدن منعمة أو معذبة ثم إن الله يعيدها عند القيامة الكبرى إلى البدن وهذا قول الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين وعليه دل الكتاب والسنة وإن كانوا لا يصفون بالنفس بالصفات التي يذكرها المتفلسفة بل يثبتون لها بعد الموت حركة وبقاء وغير ذلك مما دلت عليه النصوص النبوية والآثار السلفية

والثاني القول بمعاد البدن فقط وهذا قول كثير من أهل الكلام من الجهمية والقدرية ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم فبنوا ذلك على أنه ليس فينا روح تبقى بعد فارق البدن بل ظنوا أن الروح عرض يقوم بالبدن كالحياة أو جزء من أجزاء البدن كالنفس الخارج والداخل فأنكروا أن تكون الأرواح المفارقة للأبدان منعمة أو معذبة ثم من أثبت من هؤلاء عذاب القبر كالأشعرية وبعض المعتزلة قال إنه تخلق حياة في جزء من أجزاء البدن فينعم أو يعذب وإنكار بقاء النفس بعد الموت قول مبتدع في الإسلام لم يذهب إليه أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين وإن كان كثير من كتب الكلام لا يوجد فيها قول للمسلمين إلا هذا وربما حكاه بعضهم عن أكثر المسلمين وهذا لأن الذين يذكرون هذا كالرازي وأمثاله ليس لهم خبرة بأقوال الصحابة والتابعين وأقوال أئمة المسلمين في مسائل أصول الدين بل إنما يعرفون أقوال الجهمية والمعتزلة ونحوهم من أهل الكلام المحدث وهؤلاء كلهم مبتدعة عند سلف الأمة وأئمتها وبسبب مناظرة هؤلاء للمتفلسفة حصل شر كثير في الإسلام فإنهم يناظرون بجهل كثير بالعقليات والسمعيات

والقول الثالث قول من يقول بمعاد الأرواح التي هي النفس الناطقة فقط كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة

والرابع إنكار المعادين مطلقا كما هو قول المكذبين بالجزاء بعد الموت كما كان عليه المكذبون بذلك من مشركي العرب وغيرهم من الأمم ولهذا بين الله المعاد في كتابه بأنواع متعددة من البيان كما قد بسط في موضعه

الوجه السابع أن يقال إن النفس بعد مفارقتها إن لم يكن لها حب وطلب لم يكن لها لذة فإن وجود اللذة بدون المحبة غير معقول ولا موجود بل هو ممتنع فإذا قالوا إن النفس بعد المفارقة لا يبقى لها إلا مجرد أن تعلم لم يكن لها لذة ولا سرور وإذا قالوا لها لذة وسرور فقد أثبتوا لها محبة فحينئذ تكون لها قوتان قوة العلم والشعور والثاني قوة الإرادة والمحبة ولا تكمل النفس إلا بالكمال في القوتين فدعواهم أن الكمال في مجرد العلم دعوى باطلة بمنزلة من قال كمال النفس في مجرد القدرة أو في مجرد الإرادة

والكمال لا يحصل إلا بالعلم والقدرة والإرادة التي أصلها المحبة وحيث كان الإنسان يلتذ بالعلم فلا بد أن تكون هناك محبة لما يلتذ به

فتارة يكون المعلوم محبوبا يلتذ بعلمه وذكره كما يلتذ المؤمنون بمعرفة الله وذكره بل ويلتذون بذكر الأنبياء والصالحين ولهذا يقال عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة بما يحصل في النفوس من الحركة إلى محبة الخير والرغبة فيه والفرح به والسرور واللذة والأمور الكلية تحب النفس معرفتها لما فيها من الإحاطة التي توصلها إلى معرفة المعينات

وتارة يكون بالعلم يدفع من الشبه ما يعارض محبوبه فقد يكون محبه شيئا وقد عرف منه أمورا عورض فيها فصار عنده ألم ومرض قلب لما عنده من الجهل بزوال تلك الشبه فإذا علم ما يزيلها وجد لذة عظيمة وإما أن يكون محتاجا إلى العلم بذلك لأنه يتوصل به إلى جلب منفعة ودفع مضره وهذا كثير مشهور وأما إن لم يكن هناك محبوب بل المعلوم بغيض فإن تصوره يؤلم النفس لا يسرها فلا يقال إن كل علم يحصل به لذة وهم يسلمون هذا ويقولون إنما اللذة إدراك الملائم لكن يتناقضون مع ذلك فيجعلون اللذة في مجرد علم بالوجود المطلق من غير بيان فلا يفيد الإنسان فيعود كلامهم إلى أن نفس اللذة هي نفس العلم من غير تقييد بالملائمة للمعلوم ويقولون إن العين تلتذ بالنظر والأذن بالسمع والنفس تلتذ بالعقل ومعلوم أن العين لا تلتذ برؤية كل شيء ولا يلتذ السمع بسمع كل شيء كذلك النفس لا تلتذ بعقل كل شيء بلا لا بد أن يكون ذلك الشيء ملائما أو عونا على الملائم أو مانعا من المنافي ونحو ذلك

الوجه الثامن أن يقال إذا كان لها حب وإرادة كان لها عمل في تحصيل المحبوب المراد وهذا نوع من الحركة التي تناسبها فإن الحركة في اصطلاحهم ليست هي النقلة من مكان إلى مكان بل النقلة نوع من الحركة وهم يقولون حركة في الكم وحركة في الكيف وحركة في الأين وحركة في الوضع فالحركة في الكيف هو تحول الموصوف من صفة إلى صفة إما في لونه وإما في طعمه أو ريحه أو غير ذلك وكذلك النفس إذا كانت جاهلة فصارت عالمة أو كانت مبغضة فصارت محبة أو كانت متألمة فصارت ملتذة فهذا حركة في الكيف

والحركة في الكم مثل النمو الذي يحصل في أبدان الحيوان والنبات

والحركة في الوضع مثل حركة الفلك فإن حركته لا توجب خروجه من حيزه والحركة في الأين هي النقلة مثل حركة الماء والتراب والهواء والمولدات من حيز إلى حيز وإذا كان كذلك فالنفس بعد الموت لها محبة لشيء وطلب إن حصل التذت به وإلا تألمت فهي متألمة أو ملتذة لما تدركه من مناسب أو مناف وهذه حركة ومن المعلوم بالضرورة أن ما يحدث له آلام ولذات فلا بد له من نوع حركة

الوجه التاسع إنهم يقولون اللذه إدراك الملائم والألم إدراك المنافي وسواء كانت اللذة هي نفس الإدراك والشعور والمعرفة أم هي حاصلة بسبب الإدراك والشعور والمعرفة فعلى التقديرين إنما تكون اللذة في إدراك الملائم فلم يبق جنس الإدراك والعلم هو اللذة ولا موجبا للذة بل لا تكون اللذة إلا في إدراك الملائم فلا بد أن يكون المعروف المعلوم المشعور به المدرك ملائما في نفسه للعالم العارف الشاعر المدرك حتى يكون في إدراكه له لذة ومعلوم أن ما لاءم الشيء فهو محب له وما نافره فهو مبغض له فلا بد في اللذة والألم من ثلاثة أمور ملائمة ومنافرة بين المدرك والمدرك ومحبة أو بغضة من المدرك للمدرك ثم علم به وإدراك له ثم تحصل اللذة أو الألم بعد هذا وهذا مما يبين أن أكمل اللذات لذة النظر إلى الله كما دلت عليه نصوص الأنبياء

ففي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن صهيب رضي الله عنه قال قال رسول الله إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه قالوا ما هو ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب من النظر إليه وهي الزيادة

فدل على أن اللذة الحاصلة بالنظر أعظم من كل لذة كانت قبل ذلك

وفي حديث آخر رواه النسائي وغيره عن عمار بن ياسر رضي الله عنه عن النبي أنه كان يقول في دعائه اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني ما كانت الوفاة خيرا لي اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا وأسألك القصد في الغنى والفقر وأسألك نعيما لا ينفد وأسألك قرة عين لا تنقطع وأسألك الرضا بعد القضاء وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين

وهذا كما أنه ليس في الدنيا من اللذات أعظم من لذة العلم بالله وذكره وعبادته ولهذا كان النبي يقول حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة هكذا لفظ الحديث لم يقل حبب إلي ثلاث فإن المحبب إليه من الدنيا اثنان وجعلت قرة عينه في الصلاة فهي أعظم من ذينك ولم يجعلها من الدنيا وفي الحديث إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قيل وما رياض الجنة قال حلق الذكر ولهذا كان أعظم آية في القرآن آية الكرسي كما ثبت في

صحيح مسلم أن النبي قال لأبي بن كعب يا أبا المنذر أتدري أي آية في كتاب الله معك أعظم قال الله لا إله إلا هو الحي القيوم سورة البقرة 225 فضرب بيده في صدري وقال ليهنك العلم أبا المنذر

وثبت في الصحيح من غير وجه أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن

فإن القرآن كلام والكلام إما خبر وإما إنشاء فالإنشاء هو الأمر والنهي والإباحة والخبر إما عن المخلوق وهو القصص وإما عن الخالق وقل هو الله أحد اشتملت على هذا الثلث وهو الخبر عن الخالق

الوجه العاشر إنه إذا كانت اللذة في إدراك الملائم ولا بد أن يكون المدرك ملائما للمدرك ثم بالإدراك له تحصل اللذة بطل ما يقولونه في نهاية فلسفتهم وهو أن كمال النفس أن تصير عالما معقولا مطابقا للعالم الموجود فإن ذلك إنما يكون بإدراك الفلسفة الأولى والحكمة العليا عندهم التي يقال لها علم ما بعد الطبيعة باعتبار علم الناس وقد يقال علم بأنها باعتبار وجودها في نفسها ويسمونه العلم الإلهي

ويقولون موضوعه هو الوجود وما يلحقه من حيث هو وجود كانقسامه إلى واجب وممكن وإلى قديم ومحدث وإلى علة ومعلول وإلى الجوهر والعرض وانقسام الجواهر إلى خمسة وهي النفس والعقل والمادة والصورة والجسم وانقسام الأعراض إلى تسعة أجناس على رأي المعلم الأول جمعها بيتان

زيد الطويل الاسود بن مالك ... في داره بالأمس كان يتكي

في يده سيف نضاه فانتضى ... فهذه عشر مقولات سوا

فذكر الجوهر والكم والكيف والإضافة والأين ومتى وهو المكان والزمان والوضع والملك وأن يفعل وأن ينفعل وقد مانع كثير من الناس في حصرها في تسعة حتى قال بعضهم تنحصر في ثلاثة وبعضهم قال في خمسة

والمقصود أن موضوع هذا العلم هو أمر كلي مطلق مشترك بين أنواعه فإن الوجود المنقسم إلى الواجب والممكن وإلى الجوهر والعرض وإلى القديم والمحدث ليس هو وجودا معينا موجودا في الخارج إذ القسمة قسمتان قسمة الكلي إلى أنواعه وقسمة الكل إلى أجزائه والمراد بلفظ القسمة عند الجمهور هو الثاني وبذلك جاء القرآن في مثل قوله ونبئهم أن الماء قسمة بينهم سورة القمر 28 وقوله لكل باب منهم جزء مقسوم سورة الحجر 44 وقوله نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا سورة الزخرف 32 ومنه باب القسمة التي يذكرها الفقهاء كقسمة المواريث والغنائم والفيء من عقار ومنقول بين المشتركين فيه فيحصل لكل واحد جزء من المقسوم موجود في الخارج غير الجزء الحاصل للشريك الآخر

وقد قال جابر قضى رسول الله بالشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة

ولهذا كان قدماء النحاة يقولون الكلام ينقسم إلى اسم وفعل وحرف كما ذكره غير واحد منهم ابن جني والزجاجي صاحب الجمل وغيرهما فاعترض عليهم بعض المتأخرين كالكزولي صاحب القوانين النحوية وقال كل جنس قسم إلى أنواعه أو أشخاص أنواعه فاسم المقسوم الأعلى صادق على الأنواع والأشخاص وإلا فليست أقساما له

وكذلك أبو البقاء النحوي ذكر هذا فيما اعترض به على ابن جني وأجاب أن مراده أجزاء الكلام ونحو ذلك

وليس هذا الاعتراض بشيء فإن ما ذكره هؤلاء إنما هو في القسمة العقلية وهو قسمة الكل الذي يكون كليا في العقل إلى أنواعه وأشخاص أنواعه وأما القسمة الحسية الموجودة في الخارج فهو قسمة الكل إلى أجزائه والكلام مركب من الإسم والفعل والحرف كما يتركب البيت من السقف والحيطان والأرض وكتركب بدن الإنسان من رأس وصدر وبطن وأفخاذ وغير ذلك

فقولهم الكلام ينقسم إلى ثلاثة أقسام أرادوا به هذه القسمة كما يقال الدار ينقسم إلى سفل وعلو وهذه الأرض تنقسم إلى بيضاء وذات شجر ونحو ذلك وهذه القسمة التي يعرفها بنو آدم فإنها قسمة لما هو موجود معلوم بنفسه إما جوهر كالعقار وإما عرض قائم بالجوهر كالكلام والأصوات والألوان وتلك القسمة إنما هي بعد أن ينتزع العقل من الجزئيات أمرا كليا مشتركا عاما ثم يقسمه العقل إلى أنواعه وأشخاصه وهي تلك الجزئيات والكليات الخمسة التي يسمونها الجنس والفصل والنوع والخاصة والعرض العام تنقسم هذه القسمة فإذا كان موضوع الفلسفة الاولى والحكمة العليا عندهم هو الوجود الكلي المشترك المطلق الذي يعم كل موجود فلفظه ومعناه يتناول الموجودات كلها وكذلك لفظ الثبوت والشيء ونحوهما مطابق للفظ الوجود عند جمهور النظار

فغاية ما يسمى الوجود أن يكون بمنزلة مسمى الشيء ومسمى الثبوت والحصول ونحو ذلك وهذا المعلوم ليس هو شيئا موجودا في الخارج حتى يقال إنه ملائم للنفس أو غير ملائم بخلاف ما إذا قيل واجب الوجود ورب العالمين وخالق العالم فإن مسمى هذا الإسم موجود بنفسه سبحانه وتعالى وهو الحي القيوم ورب كل شيء ومليكه فالنفس إذا عرفته عرفت ما يكون كمالها في معرفته وعبادته وهو سبحانه العلي الأعلى فالعلم به أعلى العلوم إذ العلم يطابق المعلوم

وأما الوجود العام المشترك كاسم الشيء فذاك لا يوجد كليا إلا في الذهن ليس في الخارج شيء يعم جميع الأشياء ولا وجود يعم جميع الموجودات

ومن المعروف عندهم وعند غيرهم أن الكليات إنما توجد كليات في الأذهان لا في الأعيان وهم قد جعلوا الكليات ثلاثة الطبيعي والعقلي والمنطقي فالطبيعي أن يوجد الكلي مطلقا لا بشرط الإطلاق كما إذا أخذ الإنسان مطلقا والحيوان مطلقا من غير تقييد بوجود ولا عدم ولا وحده ولا كثرة ولا غير ذلك من القيود

والمنطقي ما يعرض له من العموم والكلية فإن المنطقي ينظر في عموم هذا وخصوصه فكونه عاما وخاصا هو موضوع نظر المنطقي

والمركب منهما هو العقلي وهو الإنسان بشرط كونه عاما ومطلقا وهو المطلق بشرط الإطلاق وهذا يسلمون كلهم أنه لا يوجد إلا في الذهن إلا من قال بالمثل الأفلاطونية

وأما الطبيعي فقد يقولون هو موجود في الخارج وقد ينازع منازع في ذلك وفصل الخطاب أنه موجود في الخارج لكن لا يكون كليا في الخارج فليس في الخارج ما هو كلي في الخارج بل ما يوجد كليا في الذهن يوجد في الخارج معينا مشخصا مخصوصا مقيدا وقولهم هذا موجود في الخارج كما يقال لما يتصور في النفس إنه موجود في الخارج وكما يقال فعلت ما في نفسك وقلت ما في نفسك ونحو ذلك فإن الشيء موجود في نفسه ثم الذهن يتصوره ثم يعبر اللسان عن ما تصوره الذهن ثم يكتب بالخط عبارة اللسان ولهذا يقال للشيء أربع وجودات وجود في الأعيان ووجود في الأذهان ووجود في اللسان ووجود في البنان وجود عيني وعلمي ولفظي ورسمي

ولهذا كان أول ما أنزل الله على رسوله محمد سورة اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم سورة العلق 1 5 فذكر في هذه السورة التي ثبت في الصحيح عن النبي أنها أول ما أنزل عليه من القرآن أنه سبحانه موجد الموجودات الأربعة فذكر الوجود العيني وهو الوجود الحقيقي الثابت في نفسه فعم بالخلق وخص الإنسان فقال اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق ثم ذكر الموجودات الثلاثة المطابقة لهذا فعم وخص فقال اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم فذكر العلم عموما وخص الإنسان بالتعليم وذكر أنه علم بالقلم وذلك هوالخط والخط يطابق اللفظ واللفظ يطابق المعنى الذي في القلب فإن الخط لا يدل بنفسه على المعنى وإنما يدل على العبارة الدالة على المعنى

ولهذا من لم يعرف لغة صاحب الخط فإنه إذا قرأ خطا بالعربي واللسان فارسي وهو لا يعرف معنى اللغة الفارسية لم يعرف المعنى فإن الخط إنما يدل بواسطة اللفظ

فهؤلاء إذا قالوا الكلي الطبيعي موجود في الخارج كما يقال إن المعلوم في نفسي موجود في الخارج فهو صحيح فإن الكلي الطبيعي مطلق لا بشرط فهو مطابق للأعيان الموجودة في الخارج

فإذا قيل الإنسان يطلق على هذا وهذا كان صحيحا بخلاف الكلي العقلي فإنه يطلق بشرط الإطلاق وذاك إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان فلا يطابق ما في الخارج بل هو من باب المقدرات الذهنية كما يقدر في الذهن ما يمتنع وجوده في الخارج مثل الجمع بين النقيضين أو رفع النقيضين

فإذا قدر أن الشيء موجود معدوم أو لا موجود ولا معدوم فهذا التقدير لا يكون إلا في الذهن ولا يكون في الخارج والذين ظنوا أن هذا الكلي يكون في الخارج مقارنا للموجودات المعينة أو مفارقا لها فقد غلطوا في ذلك كما غلط أمثالهم من المتفلسفة فإن هؤلاء المتفلسفة كثيرا ما يغلطون فيظنون ما هو موجود في الأذهان موجودا في الخارج مثل غلط أولهم فيثاغورس وشيعته في الأعداد المقارنة المطلقة المجردة حيث ظنوا أنها تكون في الخارج مجردة عن المعدودات والمقدورات ومثل غلط أفلاطون وشيعته في الطبائع الكلية كالإنسان الكلي والحيوان الكلي حيث ظنوا أنها تكون في الخارج كليات مجردة عن الأعيان أزلية أبدية لم تزل ولا تزال وقالوا ذلك في الزمان والمكان والمادة فظنوا أن في الخارج جوهرا عقليا أزليا أبديا غير الأجسام وأعراضها وجوهرا مثالا أزليا أبديا غير الأجسام وحركاتها ومقدار حركاتها وظنوا وجود مادة عقلية مجردة عن جميع الصور هي المادة الأولية التي يثبتها هؤلاء

وقد خالفهم أصحابهم كأرسطو وشيعته والمتأخرون الذين سلكوا خلفه كالفارابي وابن سينا وردوا على متقدميهم وقالوا إن الفلسفة كانت نية فأنضجت فإن مبدأها إنما هو النظر في الطبيعيات ثم انتزعوا من الأمور الطبيعية هذه الكلية العقلية وظنوا وجودها في الخارج

فرد عليهم هؤلاء وأصابوا في الرد ثم جعل هؤلاء هذه الماهيات العقلية موجودة في الخارج مقارنة للموجودات الحسية الطبيعية فاثبتوا مادة عقلية مع الجواهر الحسية وأثبتوا ماهية مجردة كلية مقارنة للأعيان وقالوا هذه الماهيات غير الوجود وأسباب الماهية شيء وأسباب الوجود شيء فإنا نعقل المثلث قبل أن نعلم وجوده وقالوا هذه الماهية يغشاها غواش غريبة حسية وخيالية

وقسموا في منطقهم اليوناني المتلقي عن معلمهم الأول أرسطو الذي هو صاحب تعاليم المنطق والطبيعي والإلهي قسموا الصفات اللازمة للموصوف إلى ذاتي داخل في الماهية مقوم لها وإلى عرضي خارج عن الماهية ثم العرضي قسموه إلى لازم للماهية وإلى لازم لوجودها لما فرقوا بين الوجود والماهية وإلى عارض لها إما بطيء الزوال أو سريع الزوال

وهذا التقسيم وما بنوه عليه من الحدوث مما أنكره عليهم جمهور النظار من المسلمين وغيرهم وبينوا ما بينوه من خطئهم فيه كما قد بسط الكلام عليهم في مواضع

والمقصود هنا التنبيه على منشأ غلطهم أما تقسيم الصفات إلى لازم للموصوف وإلى غير لازم فهذا حق وهو تقسيم نظار المسلمين يقسمون الصفات إلى لازم وعارض فإن الحيوانية الناطقية والضاحكية لوازم للإنسان بخلاف العربية والعجمية والسواد والبياض والشباب والمشيب والإسلام والكفر

وأما تقسيم الصفات اللازمة إلى ثلاثة أنواع نوع داخل في الماهية ونوع خارج عنها والخارج على قسمين لازم لها ولوجودها ودعوى أن الماهية مركبة من الصفات الداخلة فيها وهي الذاتية وهو الجنس والفصل كالحيوان والناطق وأن الإنسان مركب منهما وأن الحدود الحقيقية لا تصح إلا بذكر الصفات الذاتية المشتركة وهي الجنس والمميزة وهي الفصل وبهما يتم النوع المركب كما يتم الإنسان بالحيوان والناطق فهذا من الخطأ الذي أنكره عليهم نظار المسلمين كما قد كتبنا بعض كلام النظار في ذلك في غير هذا الموضع في الكلام على المحصل وعلى منطق الإشارات وعلى المنطق اليوناني مصنف كبير ومصنف مختصر وغير ذلك

وذلك أن لفظ الماهية والوجود قد يعني بالماهية ما يتصور في الذهن وبالوجود ما يكون في الخارج وهذا حق لم ينازع فيه نظار المسلمين ولا ريب أن الماهية المتصورة في الذهن ليست عين الموجود في الخارج ولكن ما يتصور في الذهن إذا كان مطابقا لما في الخارج كان علما كما أن القول الذي يكون معناه في الذهن ولفظه في اللسان إذا طابق ما في الخارج كان صدقا وليس نفس القول هو المقول الذي في الخارج فكذلك إذا تصورنا ماهية شيء من الأشياء في أنفسنا فما في النفس من التصور يطابق ما في الخارج لا أن هذا عين ذلك فمن قال إن الماهية غير الوجود وأراد بالماهية الصورة العلمية الذهنية وبالوجود ما يوجد في الخارج فقد أصاب وأما إذا عنى بالماهية والوجود جميعا ما هو ثابت في الخارج أو عنى بهما جميعا ما هو متصور في الذهن وقيل إن في الذهن شيئين ماهية ووجودها أو في الخارج شيئان ماهية ووجودها فهذا خطأ

وبهذا التفصيل يزول الإشتباه والنزاع الموجود في أن الماهية هل هي غير وجودها أم لا فمن لم يفصل هذا التفصيل فإما أن يحار ويقف كالآمدي ونحوه وإما أن يختلف كلامه ويتناقض كالرازي ونحوه أو يصر على الباطل إذا نصر أحد القولين كبعض المتكلمين والمتفلسفة

والمقصود هنا التنبيه على مثار غلطهم وهو أنهم يتوهمون ما في الذهن موجودا بعينه في الخارج كما توهموا ذلك في هذه الكليات إما مجردة على رأي قدمائهم أصحاب المثل الأفلاطونية وأصحاب فيثاغورس وإما مقرونة بالموجودات على رأي متأخريهم كشيعة أرسطو ولهذا كان ما يثبتونه من المجردات المفارقة للمادة ليس يسلم لهم منها شيء إلا نفس الإنسان إذا فارقت بدنه فإنها تكون مفارقة لبدنه بالموت وإنما سموا ما سواها مجردا مفارقا للمادة من هذا الباب

فما أثبتوه من العقول العشرة المحركات المفارقات التي ليست جسما ولا متعلقة بجسم ويعبرون عن الجسم بالمادة فيقولون لا في مادة ولا متعلقة ومن النفوس الفلكية التسعة التي ليست في جسم ومادة لكنها متعلقة بالمادة التي هي الجسم تعلق التدبير والتصريف

وهذا التفريق عندهم بين قسمي النفس والعقل أصله من نفس الإنسان فإنها تارة تكون في بدنه مدبرة له فتسمى نفسا وتارة تفارقه فتسمى عقلا عندهم لأنهم عقلت العقليات التي صارت بها عالما معقولا مطابقا للموجود ولهذا سموا العقول العشرة عقولا والنفوس الفلكية نفوسا وهم مختلفون هل هي أعراض في جسم أم هي مجردات على قولين

وإذاأعطى النظر والبحث حقه وكشف حقيقة ما يقولونه في هذا الباب وأزيلت الشبه عن الألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة لم يكن عند القوم من المعقولات المجردة إلا ما هو معقول للإنسان في نفسه مثل الكليات كالإنسانية والحيوانية والوجود العام المشترك ونحو ذلك وإما شيء موجود في نفسه خارج يكون من المعقولات التي أثبتوها فهذا لا حقيقة له

ولهذا غلط من ظن أن عالم المعقولات التي يثبتونها هو الغيب الذي أخبرت به الرسل صلوات الله عليهم أجمعين كما يذكر مثل ذلك جماعة ممن رام أن يجمع بين ما قالوه وبين ما اخبرت به الرسل كما يوجد مثل ذلك في كلام الشهرستاني وأبي حامد والرازي وغيرهم فإن ما أثبتوه من العقليات يجعلون فيه الفرق بين العالم العقلي والحسي هو الفرق بين الغيب والشهادة وليس الأمر كذلك فإن المعقولات التي يثبتها هؤلاء إنما هي معقولات في نفس الناس وهو عرض قائم بنفسه

فأما ما يدعونه من عالم معقول يمتنع أن يكون محسوسا بحال فهذا ليس لهم عليه دليل ولهذا لما احتاجوا إلى إثبات ذلك أثبتوه بالكليات كما فعله ابن سينا في إشاراته أو بموجودات لا يحسها الإنسان لا لامتناع الإحساس بها مطلقا بل لأسباب أخر

وأما ما أخبرت به الرسل من الغيب فليس هو معقولا مجردا في النفس ولا هو موجود في الخارج لا يحس به بحال بل هو مما يحس به كما أخبرت بالملائكة والجن وغير ذلك وكل ذلك مما يجوز رؤيته والإحساس به

وكذلك ما أخبرت به من الجنة والنار هو مما يحس به وكذلك الرب تبارك وتعالى وتقدس وتعظم تجوز رؤيته بل يرى بالأبصار في الآخرة في عرصات القيامة وفي الجنة كما تواترت بذلك النصوص عن النبي واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين

ولهذا فرقت الرسل بين هذا وذاك فإن هذا شهادة أي مشهود لنا محسوس الآن وذاك غيب أي غائب عنا الآن لا نشهده وهذا فرق إضافي باعتبار حالنا في شهوده الآن وعدم شهوده فإذا متنا صار الغيب شهادة وشهدنا ما كانت الرسل أخبرت به وكان غيبا عنا

قال تعالى لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد سورة ق 22

وقال تعالى ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون سورة الأنعام 30

وقال تعالى ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون سورة الأحقاف 34

وقال تعالى ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به تدعون سورة الملك 25 27

وقال تعالى وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا سورة الفرقان 21 22

وقال تعالى إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم سورة النساء 97 99

وقال تعالى ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد سورة الأنفال 50 51

وقال تعالى ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون سورة الأنعام 93 وقال ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولنا كم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون وبالجملة الملائكةالذين أخبر رسل الله عنهم كما ذكرهم الله في القرآن والتوراة والإنجيل وغير ذلك من أخبار الأنبياء من تدبر بعض ما ذكر عنهم وما تقوله المتفلسفة في المجردات العقول العشرة والنفوس التسعة علم بالاضطرار أن هذا مباين لهم من وجوه كثيرة وأن كل من رام من القرامطة الباطنية أو باطنية أهل الكلام والتصوف أن يجعل هذا مكان هذا ويجمع بين ما أخبرت به الرسل وما ذكرته الفلاسفة كان من أجهل الناس إن لم يعرف وأعظمهم تعمدا للكذب إن عرف

والجمع بين هذا وهذا أبعد من الجمع بين شريعة التوراة بعد النسخ والتبديل وبين شريعة القرآن فإن هؤلاء يزعمون أن العقل الأول أبدع كل ما سوى الرب وكل ما سواه معلول مربوب له والعقل الفعال أبدع كل ما تحت السماء وهو معلول ومربوب له وهذا مما يعلم صبيان المسلمين أنه تكذيب صريح لما جاءت به الرسل ليس في كلام الرسل أن ملكا من الملائكة خلق كل ما سوى الله ولا خلق جنسا من المخلوقات ولا كان قديما

بل قد ثبت في الصحيح عن عائشة عن النبي أنه قال خلقت الملائكة من نور وخلقت الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم

وقال سبحانه وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون سورة الأنبياء 26 27 28

وقال تعالى ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون سورة آل عمران 80

وقال تعالى قل ادعو الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا سورة الأسراء 56 57 قال طائفة من السلف كان أقوام يدعون المسيح والعزير والملائكة فأخبرهم الله تعالى أن هؤلاء الذين يدعونهم من الملائكة والأنبياء هم عباد الله كما أنتم عباده يرجون رحمته كما ترجون رحمته ويخافون عذابه كما تخافون عذابه ويتقربون إليه كما تتقربون إليه

وهؤلاء زعموا أن الشفاعة إنما هي بأن يتوجه الإنسان إلى روح مفارق فيفيض عليه من ذلك الروح وذلك الروح قد فاض عليه الأمر من الرب وشبهوا ذلك بشعاع الشمس إذا وقع على مرآة ثم وقع شعاع المرآة على غيره وقد ذكر هذا المعنى ابن سينا والغزالي في المضنون به على غير أهله وغيرهما ممن بنى على أصلهم الفاسد إذ كانوا لا يرون أن الله يسمع كلام عباده ولا يعلم ما في نفوسهم ولا يقدر أن يغير شيئا من العالم ولا له مشيئة يفعل بها من يشاء فأثبتوا الشفاعة على هذا الوجه

وهذه شر من الشفاعة التي يثبتها مشركو العرب والنصارى والمبتدعون من المسلمين ونحوهم ممن يقول إن الله فاعل مختار فإن هؤلاء يثبتون شفيعا يشفع إلى الله فيقضي حاجته وجعلوا شفيعهم من جنس الذي شفع عند الملوك

فأبطل الله سبحانه وتعالى ذكر ذلك وكفر من أثبت هذه الشفاعة فقال تعالى ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سورة يونس 18

وقال تعالى وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون سورة الأنعام 51

وقال تعالى الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون سورة السجدة 4

وقال تعالى من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه سورة البقرة 255

وقال عن الملائكة ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون سورة الأنبياء 28

وقال وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى سورة النجم 26 وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير سورة سبأ 22

وقال تعالى ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير سورة سبأ 23

وقد جاءت الأحاديث الصحيحة عن الصحابة والتابعين في تفسير هذه الآية بأن الملائكة إذا سمعوا تكلم الله بالوحي صعقوا فإذا أزيل الفزع عنهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير سورة سبأ 23

وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة سورة البقرة 254

وقال تعالى واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون سورة البقرة 48

والناس في الشفاعة على ثلاثة أقوال فالمشركون والنصارى والمبتدعون من الغلاة في المشايخ وغيرهم يجعلون شفاعة من يعظمونه عند الله كالشفاعة المعروفة في الدنيا

والمعتزلة والخوارج أنكروا شفاعة نبينا محمد في أهل الكبائر

وأما أهل السنة والجماعة فيقرون بشفاعة نبينا في أهل الكبائر وشفاعة غيره لكن لا يشفع أحد حتى يأذن الله ويحد له حدا كما في الحديث الصحيح حديث الشفاعة أنهم يأتون آدم ثم نوحا ثم إبراهيم ثم موسى وعيسى فيقول لهم عيسى اذهبوا إلى محمد فإنه عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال فيأتوني فأذهب فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن فيقول أي محمد ارفع رأسك وقل تسمع واشفع تشفع فأقول أي رب أمتي فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أنطلق فأسجد فيحد لي حدا ذكر هذا ثلاث مرات

وفي الصحيح أن أبا هريرة قال لرسول الله أي الناس أسعد بشفاعتك يوم القيامة قال يا أبا هريرة لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه فبين أن أسعد الناس بشفاعته في الآخرة أعظمهم إخلاصا لله وتوحيدا له في الدين وذلك أنه من يشفع عنده بغير إذنه كان الشافع شريكا له في العقل ولهذا سمي الشفيع شفيعا لأنه يشفع للطالب كما قال تعالى من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها سورة النساء 85 فكل من أعان غيره على أمر فهو شافع له والشافع عند غيره تؤثر فيه حركة تغير اختياره ويكون شريكا له في المطلوب والله منزه عن ذلك كله

وهو سبحانه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فأسعد الناس بالمغفرة التي تنال بالشفاعة وغير الشفاعة أعظمهم إخلاصا له لا من كان فيه شرك يرجو غير الله ويسأل غير الله ويعبد غير الله كما يفعل المشركون الذين اتخذوا من دون الله شفعاء سواء كانوا ملائكة أو أنبياء أو صالحين أو من يظن فيهم الصلاح فيسألونهم ويستغيثون بهم إما في مغيبهم وإما عند قبورهم

وكثيرا ما يتمثل لهؤلاء المشركين صورة ذلك الشخص المستغاث به ويكون ذلك شيطانا تمثل على صورته ليضل ذلك المستغيث به المشرك كما كانت الشياطين تكلم الناس من الأصنام وكما يقع كثير من ذلك في أرض الشرك أرض الصين والترك والهند والغرب والجنوب والشمال يرون أحيانا أن ميتهم قد جاء وحدثهم بأمور وقضى لهم حوائج فيظنونه قد عاش بعد موته وإنما هو شيطان قد تمثل على صورته ومنهم من يصنع قربانا للشيطان ويقرب له ميتة وما لم يذكر اسم الله عليه ويغنون غناء يناسبه ويأتون بشيخ لهم يناسب ذلك الشيطان فيسقونه الدم أو يفعل به الفاحشة أو ينطق بالكفر الذي يختاره الشيطان ثم يتكلم الشيطان إما منفردا وإما على لسان ذلك الشيخ ببعض ما يريدونه وربما صعد الشيخ في الهواء وهم يرونه وقد يحمل للشيطان بعض هؤلاء الشيوخ الذين لهم حال شيطاني فيطير به في الهواء فيذهب به إلى مكان آخر وربما مشى به على الماء لكن لا بد أن يكون الشيخ عاصيا لله ورسوله وكلما كان أفجر وأكفر كان أقرب له إلى الشياطين

كما قال تعالى هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم سورة الشعراء 221 222

وإذا كان من أولياء الله المتقين المطيعين لله ورسوله هربت منه هذه الشياطين وكان أعوانه جند الله من الملائكة والجن المؤمنين وغيرهم وقد يطيع الشياطين لولى الله في بعض ما يأمر به من طاعة الله ورسوله تعظيما له وإكراما له لا طاعة لله ولرسوله فهذا يقع كثير ولكن لم تسخر الجن والشياطين تسخيرا مطلقا لغير سليمان عليه السلام وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع

والمقصود هنا أن هؤلاء الفلاسفة كثيرا ما يظنون الأمور الذهنية المتصورة في الذهن حقائق ثابتة في الخارج وهذا الأمر غالب عليهم كثير في كلامهم ومن تفطن له تبين له وجه غلطهم في كثير من مطالبهم مع انهم لهم عقول ونظر وفضيلة بالنسبة إلى أتباعهم لا إلى أتباع الرسل

وعلم القوم الذي كانوا يعرفونه هو الطب والحساب فلهم في الطبيعيات كلام كثير جيد والغالب عليه الجودة وكذلك في الحساب في الكم المنفصل والكم المتصل وفيهم خلاف كثير في علم الهيئة وحركات الكواكب ومقاديرها وكذلك في سائر علومهم هم أكثر الطوائف اختلافا

وإذا قال أبو عبدالله الرازي اتفقت الفلاسفة فإنما عنده ما ذكره ابن سينا في كتبه وكذلك كلام المشائين أتباع أرسطو وإلا فالفلاسفة أصناف مختلفة وقد ذكر أبو الحسن الأشعري في كتابه الكبير في المقالات لما ذكر مقالات غير الإسلاميين وكذلك أبو عيسى الوراق والقاضي أبو بكر بن الطيب وغيرهم ممن يحكي مقالات الناس ويناظرهم ذكروا من أقوال الفلاسفة اختلافهم ما يكون كلام المشائين فيه قليل من كثير

وإذا كان غاية فلسفتهم إنما هو العلم بكليات لا وجود لها في الخارج إنما يوجد في الخارج أشخاص معينة وتلك الكليات لا وجود لها في الخارج فليس هناك شيء يلائم النفس حتى تكون النفس كاملة سعيدة بمعرفته فتبين أن ما ذكروه من كمال النفس وسعادتها بعد الموت خطأ وضلال

الوجه الحادي عشر أن الكليات هي مطابقة لجزئياتها فإذا كانت الجزئيات تقبل التغير من حال إلى حال لم تكن الكليات ثابتة على حال فلا يكون العلم بها علما بشيء باق وكل مخلوق فإنه يقبل التغير من حال إلى حال على ما أخبرت به الرسل ودلت عليه العقول وإذا لم يكن في الموجودات كليات عقلية أزلية أبدية لا تقبل التغير فيبقى ما في النفس من هذه الكليات المتعلقة بالمخلوقات جهلا لا علما وذلك مثل الكليات الطبيعية وهو أن النار تحرق فإن هذا له شروط وموانع فقد لا تحرق لفوات الشروط أو وجود المانع وليست الموانع أمرا محدودا فلا يمكن العلم القاطع أن كل نار تحرق بالفعل لما من عادته أن تحرقه ثم هم يدعون قدم الأفلاك وبقائها وكذلك العقول والنفوس

فيقال هذه أمور معينة لا كلية فإذا كانت النفس تبقى ببقاء معلومها فالمعلوم الباقي الأزلي الأبدي الذي لا ريب في بقائه وقدمه وهو رب العالمين فالسعادة والكمال في معرفته وعبادته وهذا هو العلم الأعلى الذي هو علم بالرب الأعلى ليس العلم هو العلم بوجود مطلق وأقسامه كما قوله هؤلاء ومن تبعهم حتى أدخل ذلك في أصول الفقه الرازي ونحوه ويحيلون بالبرهان على العلم الأعلى الناظر في الوجود ولواحقه

وقد بسطنا الكلام في غير هذا الموضع على كلامهم في الحد والبرهان وبينا ما عليه نظار المسلمين في الحد وأن المقصود به التمييز للمحدود من غيره فمقصوده تفصيل ما دل عليه الإسم بالإجمال سواء كان حد الشيء اسم وهو الحد بحسب الإسم أو لشيء موجود وهو الحد بحسب الحقيقة وهذا الحد يحصل بالعرف المطابق للمحدود في العموم والخصوص بحيث يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر ومن عدمه عدمه فيكون الحد مطردا منعكسا كالإسم مع المسمى

وأما ما يدعونه هم من أن الحد يحصل به معرفة حقيقة المحدود في الخارج وأنه يكون بالصفات الذاتية الداخلة في الحدود المركبة من الجنس والفصل فهذا مما تكلم نظار المسلمين على خطئهم فيه من وجوه كما بيناه في موضعه وبينا أن قولهم إن الإنسان مركب من الجنس والفصل إن أريد به تركيب ما في الذهن فهذا صحيح فإن الإنسان إذا تصور في نفسه حيوانا ناطقا كان ما تصوره مركبا من هذا وهذا وإن تصور حيوانا ضاحكا كان ما تصوره مركبا هذا وهذا وكان لفظه دالا على ما تصوره بالمطابقة وعلى بعضه بالتضمن وعلى الخارج عنه اللازم له بالإلتزام فالمجموع هو مجموع الماهية التي تصورها في نفسه وجزؤها هو جزء الماهية وهو المدلول عليه بالتضمن والخارج عنها اللازم لما هو اللازم للماهية المقصودة في الذهن فيعود تمام الماهية وجزؤها الداخل ولازمها الخارج إلى ما دل عليه بالمطابقة والتضمن والإلتزام هذا هو الذي يتحصل من هذا كما حرره من حرره كما قد بسط في غير هذا الموضع

وأما أن تكون صفات الموصوف اللازمة بعضها داخل في ماهيته الخارجة وبعضها خارج عن ماهيته الخارجة فهذا باطل وما ذكروه من الفروق الثلاثة بين الذاتي المقوم والعرضي اللازم قد اعترفوا هم ببطلانها وقد بين بطلانها بالدليل

وما ذكروه من الوسط بين بعض اللوازم وبعضها أراد به أئمتهم كابن سينا ونحوه أنه الدليل كما يقولون الحد الأوسط فجعلوا من الذات ما يعلم بلا دليل ومنها ما لا يعلم إلا بالدليل وهذا فرق يرجع إلى علم العالم بها لا إلى حقيقة هي علمها في نفس الأمر فظن من ظن من متأخريهم أنهم أرادوا بالوسط أن الصفات اللازمة تارة يتصف بها الموصوف بنفسها وتارة يكون بينه وبينها وسط في هذا الإتصاف

واضطربوا هنا اضطرابا يظهر به أن القوم في ظلمات بعضها فوق بعض فكلام سلفهم فيه خطأ كثير وقد حصل في النقل والترجمة ما حصل من الخطأ ويزيده متأخروهم خطأ فصاروا في شر من دين اليهود والنصارى فإن ذاك أصله حق جاء من عند الله ولكن هم بدلوا وغيروا وهؤلاء كان الأصل فاسد وكثر الفساد في الفروع فإن حاصل ما انتهى إليه أرسطو في الإلهيات فيه من الفساد ما لا يسعه هذا الموضع والقوم من أجهل الناس بذلك وفيه من الغلط أكثر مما في الطبيعيات

وهذا إذا اقتصر على الفلسفة الموروثة عن أولئك ولكن المنتسبون إلى الإسلام منهم والعربية صار لهم بسبب ما استفادوه من المسلمين من العقليات الصحيحة والمعارف الإلهية ما صاروا به خيرا من أوليهم وأعلم وأعقل ولهذا يوجد في كلام ابن سينا وأمثاله من تحقيق الأمور الإلهية والكليات العقلية ما لا يوجد لأوليهم وإن كان هو وأمثاله عند أهل الإيمان بالله ورسوله من جملة المرتدين والمنافقين

وإذا قالوا الإنسان مركب من الحيوان والناطق أو من الحيوانية والناطقية فإن أرادوا انه مركب من جوهرين لزم أن يكون كل موصوف بصفات لازمة ذاتية مركبا من جواهر كثيرة فيكون في الإنسان جوهر هو جسم وجوهر هو حساس وجوهر هو نام وجوهر هو متحرك بالإرادة وجوهر هو ناطق وهذا مما يعلم كل عاقل أنه فاسد وإن أرادوا أنه مركب من عرض فالجوهر كيف يتركب من الأعراض وكيف تكون الأعراض قائمة به مقومة له سابقة عليه وتكون هي أجزاءه وهل تكون قط صفة موصوف متقدمة عليه بوجه من الوجوه لا سيما وهم يثبتون تقدما في الخارج لكنه تقدم كلي مثلما يدعونه من تقدم العلة على المعلول

وكلامهم في هذا ايضا فاسد فإنه لا يعرف قط أن الفاعل متقدم على مفعوله إلا تقدما حقيقيا بحيث يكون الفعل بعده حقيقة وهو الذي يسمونه تقدم بالزمان وسواء سمي الفالع علة أم لم يسم وأما قول القائل حركت يدي فتحرك الخاتم فحركة اليد ليست علة فاعلة لحركة الخاتم بل المحرك لليد هو المحرك للخاتم والخاتم في اليد كأصبع في يد وليست حركة الكف علة لحركة الأصبع ولكنهما متلازمان لما بينهما من الاتصال

وقد بين هذا في موضعه وبين أن ما يدعونه من الفاعل الموجب بالذات الذي يكون مفعوله مساوقا له بالزمان مما اجتمع الاولون والآخرون من جميع طوائف العقلاء على فساده حتى أرسطو وأتباعه من الفلاسفة المتقدمين وإنما قال هذا بعض المتفلسفة كابن سينا وأمثاله الذين ادعوا أن الممكن بنفسه الذي يقبل الوجود والعدم يكون بنفسه قديما أزليا واجبا بغيره

وهذا قول شرذمة منهم وأما جمهور الفلاسفة القائلون بقدم العالم كأرسطو وأتباعه والقائلون بحدوثه فكلهم ينكرون هذا كما ينكره سائر العقلاء ويقولون الممكن لا يكون إلا محدثا فكل ما كان ممكنا يقبل أن يكون موجودا ويقبل أن يكون معدوما لم يكن إلا حادثا كما قد بسط في موضعه

وحينئذ فإذا قالوا النفس تبقى ببقاء معلومها فليس من المعلومات المشهودة ما هو باق أبدا لا يستحيل من حال إلى حال ولا في المعلومات الموجودة التي يعلمون وجودها بالبرهان عندهم ما هو باق أزلا وأبدا لا يستحيل من حال إلى حال إلا الله وحده وما يثبتونه من العقول والنفوس ليس له حقيقة إلا في الوجود الذهني لا الخارجي وأما نفوس بني آدم وإن كانت باقية فهي العالمة التي تكمل وتبقى ببقاء معلومها


الصفدية لابن تيمية
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16