الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب الصيام/فصل وجوب القضاء على من افطر لعذر شرعي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



فصل وجوب القضاء على من افطر لعذر شرعي


ويجب على من أفطر لعذر شرعي أن يقضي كالمسافر والمريض ، وقد صرح بذلك القرآن الكريم فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر وقد ورد في الحائض حديث معاذة عن عائشة وقد تقدم ذكره والنفساء مثلها .

والفطر للمسافر ونحوه رخصة إلا أن يخشى التلف أو الضعف عن القتال فعزيمة الأحاديث في ذلك كثيرة منها : قوله () إن شئت فصم وإن شئت فأفطر لما سأله حمزة بن عمرو الأسلمي عن الصوم في السفر وهو في الصحيحين من حديث عائشة ، وفيه دليل على تفويض الفطر في الصوم وعدمه إلى المسافر ، ومن حمله على صوم التطوع فلم يصب ، فإنه عند أبي داود والحاكم وصححه أنه قال : ربما صادفني هذا الشهر يعني رمضان . وأما حديث أنه قيل له () أن جماعة لم يفطروا في سفر من أسفارهم فقال : أولئك العصاة فذاك لأنه () قد كان أمرهم بالإفطار في ذاك اليوم بخصوصه ، فسماهم عصاة لمخالفة أمره لا لمجرد الصوم في السفر . وأما حديث ليس من البر الصيام في السفر وهو متفق عليه ، ففي رواية زادها النسائي في هذا الحديث عليكم برخص الله التي رخص لكم فاقبلوا فالتصريح بالرخصة مشعر بأن الصوم عزية وهو المطلوب . وأما ما روي بلفظ الصائم في السفر كالمفطر في الحضر فقد صحح جماعة من الحفاظ وقفه على عبد الرحمن بن عوف ، ولا حجة في ذلك . وفي الصحيحين من حديث أنس كنا نسافر مع رسول الله () فلم يعب الصائم على المفطر . ولا المفطر على الصائم وأخرج مسلم وغيره عن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال يا رسول الله : أجد مني قوة على الصوم فهل علي جناح فقال : هي رخصة من الله تعالى فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه وفي الصحيحين من حديث جابر قال : كان رسول الله () في سفر ، فرأى زحاماً ورجلاً قد ظلل عليه فقال : ماهذا ؟ فقالوا : صائم . فقال : ليس من البر الصوم في السفر وأخرج مسلم وأحمد وأبو داود من حديث أبي سيد قال : سافرنا مع رسول الله () إلى مكة ونحن صيام قال : فنزلنا منزلاً . فقال رسول الله ()  : إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم ، فكانت رخصة فمنا من صام ، ومنا من أفطر ، ثم نزلنا منزلاً آخر فقال : إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فافطروا فكانت عزيمة ، ثم لقد رأيتنا نصوم بعد ذلك مع رسول الله () في السفر وقد ذهب إلى كون الصوم رخصة في السفر الجمهور ، وروي عن بعض الظاهرية ، وهو محكي عن أبي هريرة أن الفطر في السفر واجب ، وأن الصوم لا يجزيء . والمراد بنحو المسافر الحبلي والمرضع لما أخرجه أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي من حديث أنس بن مالك الكعبي أن رسول الله () قال : إن الله عز وجل وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة ، وعن الحبلى والمرضع الصوم .

ومن مات وعليه صوم صام عنه وليه لحديث عائشة في الصحيحين وغيرها إن رسول الله () قال : من مات وعليه صيام صام عنه وليه وقد زاد البزار لفظ إن شاء قال في مجمع الزوائد : وإسناده حسن ، وبه قال أصحاب الحديث وبعض الشافعية وأبو ثور والأوزاعي وأحمد بن حنبل قال البيهقي في الخلافيات : هذه السنة ثابتة لا أعلم خلافاً بين أهل الحديث في صحتها . وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يجب صوم الولي عن وليه . وقال في الحجة : ولا إختلاف بين قوله ()  : من مات وعليه صوم صام عنه وليه وقوله فيه أيضاً : فليطعم عنه مكان كل يوم مسكيناً إذ يجوز أن يكون كل من الأمرين مجزئاً . قال ابن القيم في أعلام الموقعين : وصح عنه () أنه قال : من مات وعليه صيام صام عنه وليه فطائفة حملت هذا على عمومه وإطلاقه وقالت : يصام عنه النذر والفرض ، وأبت طائفة ذلك وقالت : لا يصام عنه نذر ولا فرض ، وفصلت طائفة فقالت يصام النذر دون الفرض الأصلي وهذا قول ابن عباس وأصحابه والإمام أحمد وأصحابه وهو الصحيح ، لأن فرض الصيام جار مجرى الصلاة ، فكما لا يصلي أحد عن أحد ولا يسلم أحد عن أحد فكذلك الصيام ، وأما النذر فهو إلتزام في الذمة بمنزلة الدين ، فيقبل قضاء الولي له كما يقضي دينه ، وهذا محض الفقه وطرد هذا أنه لا يحج عنه ولا يزكي عنه إلا إذا كان معذوراً بالتأخير ، كما يطعم الولي عمن أفطر في رمضان لعذر ، فأما المفطر من غير عذر أصلاً فلا ينفعه أداء غيره عنه لفرائض الله تعالى التي فرض فيها وكان هو المأثور بها إبتلاء وإمتحاناً دون الولي ، فلا ينفع توبة أحد عن أحد ولا إسلامه عنه ولا أداء الصلاة عنه ولا غيرها من فرائض الله تعالى التي فرط فيها حتى مات والله تعالى أعلم .

أقول : الظاهر والله أعلم أنه يجب على الولي أن يصوم عن قريبه الميت إذا كان عليه صوم ، سواء أوصى أو لم يوص ، كما هو مدلول الحديث ، ومن زعم خلاف ذلك فليأت بحجة تدفعه .

والكبير العاجز عن الأداء والقضاء يكفر عن كل يوم بإطعام مسكين لحديث سلمة بن الأكوع الثابت في الصحيحين وغيرهما قال: لما نزلت هذه الآية وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين كان من أراد أن يفطر يفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها وأخرج هذا الحديث أحمد وأبو داود عن معاذ بنحو ما تقدم وزاد ثم أنزل الله فمن شهد منكم الشهر فليصمه فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح ، ورخص فيه للمريض والمسافر ، وأثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام وأخرج البخاري عن ابن عباس أنه قال : ليست هذه الآية منسوخة هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً وأخرج أبو داود عن ابن عباس أنه قال : أثبتت للحبلى والمرضع أن يفطرا ويطعما كل يوم مسكيناً وأخرج الدارقطني والحاكم وصححاه عن ابن عباس أنه قال رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً ولا قضاء عليه وهذا أنه قال وهذا من ابن عباس تفسير لما في القرآن مع ما فيه من الأشعار بالرفع ، فكان ذلك دليلاً على أن الكفارة هي إطعام مسكين عن كل يوم .

أقول : لم يثبت في الكفارة على من لم يطق الصوم شئ من المرفوع في شئ من كتب الحديث ، وليس في الكتاب العزيز ما يدل على ذلك ، لأنه قوله تعالى : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين إن كانت منسوخة كما ثبت عن سلمة بن الأكوع عند أهل الأمهات كلهم أنها كانت في أول الإسلام ، فكان من أراد أن يفطر يفتدي حتى نسختها الآية التي بعدها وهي قوله تعالى: فمن شهد منكم الشهر فليصمه . ومثل ذلك روي عن معاذ بن جبل أخرجه أحمد وأبو داود ومثله عن ابن عمر أخرجه البخاري، فالمنسوخ ليس بحجة بلا خلاف ، وإن كانت محكمة كما رواه أبو داود عن ابن عباس ، فظاهرها جواز ترك الصوم لمن كان مطيقاً غير معذور ووجوب الفدية عليه ، وهو خلاف ما أجمع عليه المسلمون . وأما قول ابن عباس المتقدم فكلام غير مناسب لمعنى الآية ، لأنها في المطيقين لا فيمن لا يستطيع أن يصوم كما قال ، وكذلك ما رواه عنه أبو داود أنها أثبتت للحبلى والمرضع ، فإنه يدل على أنها منسوخة فيما عداهما ، فعلى كل حال ليس في الآية دليل على وجوب الإطعام على من ترك الصوم وهو لا يطيقه وهو محل النزاع ، وإذا لم يوجد دليل في كتاب الله ولا في سنة رسوله فليس في غيرهما أيضاً ما يدل على ذلك فالحق عدم وجوب الإطعام ، وقد ذهب إليه جماعة من السف منهم : مالك وأبو ثور وداود ، وكذا لا فدية على من حال عليه رمضان وعليه رمضان أبو بعضه ولم يقضه ، لأنه لم يثبت في ذلك شئ صح رفعه ، وغاية ما فيه آثار عن جماعة من الصحابة من أقوالهم وليس بحجة على أحد ولا تعبد الله بها أحداً من عباده ، والبراءة الأصلية مستصحبة فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح ، وقد ذهب إلى هذا النخعي وأبو حنيفة وأصحابه . وأما التفريق في قضاء رمضان فقد أخرج الدارقطني من حديث ابن عمر أنه () سئل عن قضاء رمضان فقال : إن شاء فرقه وإن شاء تابعه وفي إسناده سفيان بن بشر وقد ضعفه بعضهم ، وقال ابن الجوزي ما علمنا أحداً طعن فيه ثم صحح الحديث ، ويؤيد ما دل عليه هذا الحديث من التخيير قوله تعالى فعدة من أيام أخر وهذه العدة تصدق على ما كان مجتمعاً ومتفرقاً لأنه يحصل من كل واحد منهما عدة والبراءة الأصلية قاضية بعدم التعبد بما هو أشق ما يصدق عليه معنى الآية دون ما هو أخف . وأما ما يروى من أنه () قال : من كان عليه صوم من رمضان فليسرده ولا يقطعه كما أخرجه الدارقطني من حديث أبي هريرة ففي إسناده عبدالرحمن بن إبراهيم القاص وقد ضعفه جماعة من الأئمة ، وقال البيهقي لا يصح ، وأنكره أبو حاتم على عبد الرحمن ، وأما ابن القطان فقال : لم يأت من ضعفه بحجة انتهى . ولكنه مع ذلك لا ينتهض للنقل عن مجرد البراءة الأصلية فضلاً عما عضدها

الروضة الندية شرح الدرر البهية - كتاب الصيام
فرضية صيام رمضان | فصل ويبطل الصوم بالأكل والشرب عمدا لا مع النسيان | فصل وجوب القضاء على من أفطر لعذر شرعي | باب صوم التطوع | باب الاعتكاف