الجامع لأحكام القرآن/سورة الفاتحة/الباب الرابع فيما تضمنته الفاتحة من المعاني والقراءات والإعراب وفضل الحامدين

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
ملاحظات: الباب الرابع فيما تضمنته الفاتحة من المعاني والقراءات والإعراب وفضل الحامدين


وفيه ست وثلاثون مسألة

الأولى- قوله سبحانه وتعالى : {الْحَمْدُ لِلَّهِ} روى أبو محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري عن النبي قال : "إذا قال العبد الحمد لله قال صدق عبد ي الحمد لي" . وروى مسلم عن أنس بن مالك قال قال رسول الله  : "إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها" . وقال الحسن : ما من نعمة إلا والحمد لله أفضل منها . وروى ابن ماجة عن أنس بن مالك قال قال رسول الله  : " ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أخذ" . وفي "نوادر الأصول" عن أنس بن مالك قال قال رسول الله  : "لو أن الدنيا كلها بحذافيرها بيد رجل من أمتي ثم قال الحمد لله لكانت الحمد لله أفضل من ذلك" . قال أبو عبد الله : معناه عندنا أنه قد أعطي الدنيا ثم أعطي على أثرها هذه الكلمة حتى نطق بها ، فكانت هذه الكلمة أفضل من الدنيا كلها لأن الدنيا فانية والكلمة باقية ، هي من الباقيات الصالحات قال الله تعالى : {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} 1 . وقيل في بعض الروايات : لكان ما أعطى أكثر مما أخذ . فصير الكلمة إعطاء من العبد ، والدنيا أخذا من الله فهذا في التدبير . كذاك يجري في الكلام أن هذه الكلمة من العبد والدنيا من الله وكلاهما من الله في الأصل الدنيا منه والكلمة منه أعطاه الدنيا فأغناه وأعطاه الكلمة فشرفه بها في الآخرة . وروى ابن ماجة عن ابن عمر أن رسول الله حدثهم : "أن عبد ا من عباد الله قال يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك فعَضَلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى السماء وقالا يا ربنا إن عبد ك قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها ، قال الله عز وجل وهو أعلم بما قال عبد ه ، ماذا قال عبد ي ؟ قالا يا رب إنه قد قال يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك ، فقال الله لهما اكتباها كما قال عبد ي حتى يلقاني فأجزيه بها" .

قال أهل اللغة : أعضل الأمر : اشتد واستغلق ، والمعضّلات بتشديد الضاد" : الشدائد . وعضّلت المرأة والشاة : إذا نشِب ولدها فلم يسهل مخرجه ، بتشديد الضاد أيضا فعلى هذا يكون : أعضلت الملكين أو عضلت الملكين بغير باء . والله أعلم . وروي عن مسلم عن أبي مالك الأشعري قال قال رسول الله  : "الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض" وذكر الحديث .

الثانية- اختلف العلماء أيما أفضل قول العبد : الحمد لله رب العالمين ، أو قول لا إله إلا الله ؟ فقالت طائفة : قوله الحمد لله رب العالمين أفضل لأن في ضمنه التوحيد الذي هو لا إله إلا الله ، ففي قوله توحيد وحمد ، وفي قوله لا إله إلا الله توحيد فقط .

وقالت طائفة : لا إله إلا الله أفضل لأنها تدفع الكفر والإشراك وعليها يقاتل الخلق ، قال رسول الله  : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" . واختار هذا القول ابن عطية قال : والحاكم بذلك قول النبي  : " أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له" .

الثالثة- أجمع المسلمون على أن الله محمود على سائر نعمه وأن مما أنعم الله به الإيمان فدل على أن الإيمان فعله وخلقه والدليل على ذلك قوله : "رب العالمين" . والعالمون جملة المخلوقات ومن جملتها الإيمان لا كما قال القدرية : إنه خلق لهم على ما يأتي بيانه .

الرابعة - الحمد في كلام العرب معناه الثناء الكامل ، والألف واللام لاستغراق الجنس من المحامد فهو سبحانه يستحق الحمد بأجمعه إذ له الأسماء الحسنى والصفات العلا وقد جمع لفظ الحمد جمع القلة في قول الشاعر :

وأبلج محمود الثناء خصصته . . . بأفضل أقوالي وأفضل أحمدي

فالحمد نقيض الذم ، تقول : حمدت الرجل أحمده حمدا فهو حميد ومحمود والتحميد أبلغ من الحمد . والحمد أعم من الشكر والحمد : الذي كثرت خصال المحمودة . قال الشاعر :

إلى الماجد القرم الجواد المحمد

وبذلك سمي رسول الله . وقال الشاعر :

فشقّ له من اسمه ليجله . . . فذو العرش محمود وهذا محمد

والمحمدة : خلاف المذمة . وأحمد الرجلُ : صار أمره إلى الحمد . وأحمدته : وجدته محمودا ، تقول : أتيت موضع كذا فأحمدته ، أي صادفته محمودا موافقا ، وذلك إذا رضيت سكناه أو مرعاه . ورجل حُمَدَة - مثل هُمَزة - يكثر حمد الأشياء ويقول فيها أكثر مما فيها . وحَمَدة النار - بالتحريك - : صوت التهابها .

الخامسة- ذهب أبو جعفر الطبري وأبو العباس المبرد إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد سواء وليس بمرضي . وحكاه أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب "الحقائق" له عن جعفر الصادق وابن عطاء . قال ابن عطاء : معناه الشكر لله إذ كان منه الامتنان على تعليمنا إياه حتى حمدناه . واستدل الطبري على أنهما بمعنى بصحة قولك : الحمد لله شكرا . قال ابن عطية : وهو في الحقيقة دليل على خلاف ما ذهب إليه لأن قولك شكرا إنما خصصت به الحمد لأنه على نعمة من النعم . وقال بعض العلماء : إن الشكر أعم من الحمد لأنه باللسان وبالجوارح والقلب والحمد إنما يكون باللسان خاصة . وقيل : الحمد أعم لأن فيه معنى الشكر ومعنى المدح ، وهو أعم من الشكر لأن الحمد يوضع موضع الشكر ولا يوضع الشكر موضع الحمد . وروي عن ابن عباس أنه قال : الحمد لله كلمة كل شاكر ، وإن آدم عليه السلام قال حين عطس : الحمد لله . وقال الله لنوح عليه السلام : "{فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 2 وقال إبراهيم عليه السلام : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} 3 . وقال في قصة داود وسليمان : {وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} 4 . وقال لنبيه  : {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} 5 . وقال أهل الجنة : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} 6 . {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 7 . فهي كلمة كل شاكر .

قلت : الصحيح أن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان ، والشكر ثناء على المشكور بما أولى من الإحسان . وعلى هذا الحد قال علماؤنا : الحمد أعم من الشكر ، لأن الحمد يقع على الثناء وعلى التحميد وعلى الشكر ، والجزاء مخصوص إنما يكون مكافأة لمن أولاك معروفا فصار الحمد أعم في الآية لأنه يزيد على الشكر . ويذكر الحمد بمعنى الرضا يقال : بلوته فحمدته ، أي رضيته . ومنه قوله تعالى : {مَقَاماً مَحْمُوداً} 8 . وقال عليه السلام : "أحمد إليكم غسل الإحليل" أي أرضاه لكم . ويذكر عن جعفر الصادق في قوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ} : من حمده بصفاته كما وصف نفسه فقد حمد ، لأن الحمد حاء وميم ودال ، فالحاء من الوحدانية ، والميم من الملك ، والدال من الديمومية ، فمن عرفه بالوحدانية والديمومية والملك فقد عرفه ، وهذا هو حقيقة الحمد لله . وقال شقيق بن إبراهيم في تفسير "الحمد لله" قال : هو على ثلاثة أوجه : أولها إذا أعطاك الله شيئا تعرف من أعطاك . والثاني أن ترضى بما أعطاك . والثالث ما دامت قوته في جسدك ألا تعصيه ، فهذه شرائط الحمد .

السادسة- أثنى الله سبحانه بالحمد على نفسه وافتتح كتابه بحمده ، ولم يأذن في ذلك لغيره بل نهاهم عن ذلك في كتابه وعلى لسان نبيه عليه السلام فقال : {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} 9 . وقال عليه السلام : "احثوا في وجوه المداحين التراب" رواه المقداد . وسيأتي القول فيه في "النساء" إن شاء الله تعالى .

فمعنى "الحمد لله رب العالمين" أي سبق الحمد مني لنفسي أن يحمد نفسه أحد من العالمين ، وحمدي نفسي لنفسي في الأزل لم يكن بعلة ، وحمدي الخلق مشوب بالعلل . قال علماؤنا : فيستقبح من المخلوق الذي لم يعط الكمال أن يحمد نفسه ليستجلب لها المنافع ويدفع عنها المضار . وقيل : لما علم سبحانه عجز عباده عن حمده حمد نفسه بنفسه لنفسه في الأزل فاستفراغ طوق عباده هو محمل العجز عن حمده . ألا ترى سيد المرسلين كيف أظهر العجز بقوله : "لا أحصي ثناء عليك" . وأنشدوا :

إذا نحن أثنينا عليك بصالح . . . فأنت كما نُثني وفوق الذي نثني

وقيل : حَمِد نفسه في الأزل لما علم من كثره نعمه على عباده وعجزهم على القيام بواجب حمده فحمد نفسه عنهم ، لتكون النعمة أهنأ لديهم ، حيث أسقط به ثقل المنة .

السابعة- وأجمع القراء السبعة وجمهور الناس على رفع الدال من "الحمد لله" . وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجّاج : "الحمد لله" بنصب الدال وهذا على إضمار فعل . ويقال : "الحمد لله" بالرفع مبتدأ وخبر وسبيل الخبر أن يفيد فما الفائدة في هذا ؟ فالجواب أن سيبويه قال : إذا قال الرجل الحمد لله بالرفع ففيه من المعنى مثل ما في قولك : حمدت الله حمدا ، إلا أن الذي يرفع الحمد يخبر أن الحمد منه ومن جميع الخلق لله ، والذي ينصب الحمد يخبر أن الحمد منه وحده لله . وقال غير سيبويه . إنما يتكلم بهذا تعرضا لعفو الله ومغفرته وتعظيما له وتمجيدا ، فهو خلاف معنى الخبر وفيه معنى السؤال . وفي الحديث : "من شغل بذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" . وقيل : إن مدحه عز وجل لنفسه وثناءه عليها ليعلم ذلك عباده فالمعنى على هذا : قولوا الحمد لله . قال الطبري : "الحمد لله" ؛ ثناء أثنى به على نفسه وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنه قال : قولوا الحمد لله ، وعلى هذا يجيء قولوا إياك . وهذا من حذف العرب ما يدل ظاهر الكلام عليه كما قال الشاعر :

وأعلم أنني سأكون رمسا . . . إذا سار النواعج لا يسير

فقال السائلون لمن حفرتم . . . فقال القائلون لهم وزير

المعنى : المحفور له وزير ، فحذف لدلاك ظاهر الكلام عليه وهذا كثير . وروي عن ابن أبي عبَلة : "الحمد لله" بضم الدال واللام على إتباع الثاني الأول وليتجانس اللفظ وطلب التجانس في اللفظ كثير في كلامهم نحو : أجودك وهو منحدر من الجبل بضم الدال والجيم . قال :

. . . . اضرب الساقينُ أُمّك هابل

بضم النون لأجل ضم الهمزة . وفي قراءة لأهل مكة "مُرُدفين" بضم الراء إتباعا للميم ، وعلى ذلك "مُقُتلين" بضم القاف . وقالوا : لإمِّك ، فكسروا الهمزة اتباعا للاّم ، وأنشد للنعمان بن بشير :

ويلِ امِّها في هواء الجو طالبة . . . ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب

الأصل : ويلٌ لأمها ، فحذفت اللام الأولى واستثقل ضم الهمزة بعد الكسرة فنقلها للأم ثم أتبع اللام الميم . وروي عن الحسن بن أبي الحسن وزيد بن علي : "الحمدِ لله" بكسر الدال على اتباع الأول الثاني .

الثامنة- قوله تعالى : {الْحَمْدُ لِلَّهِ} أي مالكهم ، وكل من ملك شيئا فهو ربه ، فالرب : المالك . وفي الصحاح : والرب اسم من أسماء الله تعالى ولا يقال في غيره إلا بالإضافة ، وقد قالوه في الجاهلية للملك قال الحارث بن حِلِّزة :

وهو الرب والشهيد على يوم . . .الحيارين والبلاء بلاء

والرب : السيد : ومن قوله تعالى : {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} 10 . وفي الحديث : "أن تلد الأمة ربتها" أي سيدتها وقد بيناه في كتاب "التذكرة" . والرب : المصلح والمدبر والجابر والقائم . قال الهروي وغيره : يقال لمن قام بإصلاح شيء وإتمامه : قد ربه يربه فهو رب له وراب ، ومنه سمي الربانيون لقيامهم بالكتب . وفي الحديث : "هل لك من نعمة تربُّها عليه" أي تقوم بها وتصلحها . والرب : المعبود ومنه قول الشاعر :

أربٌّ يبول الثعلبان برأسه . . . لقد ذل من بالت عليه الثعالب

ويقال على التكثير : رباه ورببه وربته ، حكاه النحاس . وفي الصحاح : ورب فلان ولده يربه ربا ورببه وترببه بمعنىً ، أي رباه . والمربوب : المربى .

التاسعة- قال بعض العلماء : إن هذا الاسم هو اسم الله الأعظم لكثرة دعوة الداعين به ، وتأمل ذلك في القرآن كما في آخر "آل عمران" وسورة "إبراهيم" وغيرهما ، ولما يشعر به هذا الوصف من الصلاة بين الرب والمربوب مع ما يتضمنه من العطف والرحمة والافتقار في كل حال .

واختلف في اشتقاقه فقيل : إنه مشتق من التربية ، فالله سبحانه وتعالى مدبر لخلقه ومربيهم ومنه قوله تعالى : {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ} 11 . فسمى بنت الزوجة ربيبة لتربية الزوج لها .

فعلى أنه مدبر لخلقه ومربيهم يكون صفة فعل ، وعلى أن الرب بمعنى المالك والسيد يكون صفة ذات .

العاشرة- متى أدخلت الألف واللام على "رب" اختص الله تعالى به ، لأنها للعهد وإن حذفنا منه صار مشتركا بين الله وبين عباده ، فيقال : الله رب العباد وزيد رب الدار فالله سبحانه رب الأرباب يملك المالك والمملوك ، وهو خالق ذلك ورازقه وكل رب سواه غير خالق ولا رازق ، وكل مملوك فمُمَلَّك بعد أن لم يكن ، ومنتزع ذلك من يده وإنما يملك شيئا دون شيء وصفة الله تعالى مخالفة لهذه المعاني فهذا الفرق بين صفة الخالق والمخلوقين .

قوله تعالى : {الْعَالَمِينَ} اختلف أهل التأويل في "العالمين" اختلافا كثيراً ، فقال قتادة : العالمون جمع عالم وهو كل موجود سوى الله تعالى ولا واحد له من لفظه مثل رهط وقوم . وقيل : أهل كل زمان عالم قاله الحسين بن الفضل ، لقوله تعالى : {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} 12 أي من الناس . وقال العجاج :

فخِنْدِفٌ هامة هذا العأْلَمِ

وقال جرير بن الخَطَفي :

تَنَصَّفُه البرية وهو سامٍ . . . ويُضحي العالَمون له عيالا

وقال ابن عباس : العالمون الجن والإنس ، دليله قوله تعالى : {ليكون للعالمين نذيرا} 13 ولم يكن نذيرا للبهائم . وقال الفراء وأبو عبيدة : العالم عبارة عمن يعقل ، وهم أربعة أمم : الإنس والجن والملائكة والشياطين . ولا يقال للبهائم : عالم ، لأن هذا الجمع إنما هو جمع من يعقل خاصة .

قال الأعشى :

ما إن سمعت بمثلهم في العالمينا

وقال زيد بن أسلم : هم المرتزقون ، ونحوه قول أبي عمرو بن العلاء : هم الروحانيون . وهو معنى قول ابن عباس أيضا : كل ذي روح دب على وجه الأرض . وقال وهب بن منبه : إن لله عز وجل ثمانية عشر ألف عالم ، الدنيا عالم منها . وقال أبو سعيد الخدري : إن لله أربعين ألف عالم ، الدنيا من شرقها إلى غربها عالم واحد . وقال مقاتل : العالمون ثمانون ألف عالم ، أربعون ألف عالم في البر وأربعون ألف عالم في البحر . وروى الربيع بن أنس عن أبي العالية قال : الجن عالم والإنس عالم وسوى ذلك للأرض أربع زوايا في كل زاوية ألف وخمسمائة عالم خلقهم لعبادته .

قلت : والقول الأول أصح هذه الأقوال ، لأنه شامل لكل مخلوق وموجود دليله قوله تعالى : {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ . قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} 14 ثم هو مأخوذ من العلم والعلامة لأنه يدل على موجده . كذا قال الزجاج قال : العالم كل ما خلقه الله في الدنيا والآخرة . وقال الخليل : العلم والعلامة والمعلم : ما دل على الشيء ، فالعالم دال على أن له خالقا ومدبرا وهذا واضح . وقد ذكر أن رجلا قال بين يدي الجنيد : الحمد لله فقال له : أتمها كما قال الله قل رب العالمين فقال الرجل : ومن العالمين حتى تذكر مع الحق ؟ قال : قل يا أخي ؟ فإن المحدث إذا قرن مع القديم لا يبقى له أثر .

الثانية عشرة- يجوز الرفع والنصب في "رب" فالنصب على المدح والرفع على القطع ، أي هو رب العالمين .

الثالثة عشرة - قوله تعالى : {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}

وصف نفسه تعالى بعد {رَبِّ الْعَالَمِينَ} بأنه {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} لأنه لما كان في اتصافه بـ "رب العالمين" ترهيب قرنه بـ "الرحمن الرحيم" لما تضمن من الترغيب ، ليجمع في صفاته بين الرهبة منه والرغبة إليه ، فيكون أعون على طاعته وأمنع كما قال : {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} 15 . وقال : {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} 16 . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال : "لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد ، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد" . وقد تقدم ما في هذين الاسمين من المعاني فلا معنى لإعادته .

الرابعة عشرة- قوله تعالى :

{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قرأ محمد بن السَّمَيقع بنصب مالك ، وفيه أربع لغات : مالك ومَلِك ومَلْك - مخففة من مَلِك - ومَليك . قال الشاعر :

وأيام لنا غر طوال . . .

عصينا الملك فيها أن ندينا

وقال آخر :

فاقنع بما قسم المليك فإنما . . . قسم الخلائق بيننا علامها

الخلائق : الطبائع التي جبل الإنسان عليها . وروي عن نافع إشباع الكسرة في "مَلِكِ" فيقرأ "ملكي" على لغة من يشبع الحركات وهي لغة للعرب ذكرها المهدوي وغيره .

الخامسة عشرة- اختلف العلماء أيما أبلغ : ملك أو مالك ؟ والقراءتان مرويتان عن النبي وأبي بكر وعمر . ذكرهما الترمذي فقيل : "ملك" أعم وأبلغ من "مالك" إذ كل ملك مالك وليس كل مالك ملكا ولأن الملك نافذ على المالك في ملكه حتى لا يتصرف إلا عن تدبير الملك قال أبو عبيدة والمبرد . وقيل : "مالك" أبلغ لأنه يكون مالكا للناس وغيرهم فالمالك أبلغ تصرفا وأعظم إذ إليه إجراء قوانين الشرع ، ثم عنده زيادة التملك .

وقال أبو علي : حكى أبو بكر بن السراج عن بعض من اختار القراءة بـ "مالك" أن الله سبحانه قد وصف نفسه بأنه مالك كل شيء بقول : {رَبِّ الْعَالَمِينَ} فلا فائدة في قراءة من قرأ "مالك" لأنها تكرار . قال أبو علي : ولا حجة في هذا لأن في التنزيل أشياء على هذه الصورة تقدم العام ثم ذكر الخاص كقوله : {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} فالخالق يعم . وذكر المصور لما فيه من التنبيه على الصنعة ووجود الحكمة وكما قال تعالى : {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} بعد قوله : {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} والغيب يعم الآخرة وغيرها ولكن ذكرها لعظمها والتنبيه على وجوب اعتقادها والرد على الكفرة الجاحدين لها وكما قال : {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فذكر {الرَّحْمَنِ} الذي هو عام وذكر {الرَّحِيمِ} بعده لتخصيص المؤمنين به في قوله : {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} . وقال أبو حاتم : إن مالكا أبلغ في مدح الخالق من "ملك" و"ملك" أبلغ في مدح المخلوقين من مالك ، والفرق بينهما أن المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك ، وإذا كان الله تعالى مالكا كان ملكا ، واختار هذا القول القاضي أبو بكر بن العربي وذكر ثلاثة أوجه ، الأول : أنك تضيفه إلى الخاص والعام فتقول : مالك الدار والأرض والثوب كما تقول : مالك الملوك . الثاني : أنه يطلق على مالك القليل والكثير وإذا تأملت هذين القولين وجدتهما واحدا . والثالث : أنك تقول : مالك الملك ولا تقول : ملك الملك . قال ابن الحصار : إنما كان ذلك لأن المراد من "مالك" الدلالة على الملك - بكسر الميم - وهو لا يتضمن "الملك" - بضم الميم - و"ملك" يتضمن الأمرين جميعا فهو أولى بالمبالغة . ويتضمن أيضا الكمال ولذلك استحق الملك على من دونه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} 17 ولهذا قال عليه السلام : "الإمامة في قريش" وقريش أفضل قبائل العرب والعرب أفضل من العجم وأشرف . ويتضمن الاقتدار والاختيار ، وذلك أمر ضروري في الملك ، إن لم يكن قادرا مختارا نافذا حكمه وأمره ، قهره عدوه وغلبه غيره وازدرته رعيته ، ويتضمن البطش والأمر والنهي والوعد والوعيد ، ألا ترى إلى قول سليمان عليه السلام : {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أ} 18 إلى غير ذلك من الأمور العجيبة والمعاني الشريفة التي لا توجد في المالك .

قلت : وقد احتج بعضهم على أن مالكا أبلغ لأن فيه زيادة حرف فلقارئه عشر حسنات زيادة عمن قرأ ملك .

قلت : هذا نظر إلى الصيغة لا إلى المعنى ، وقد ثبتت القراءة بملك وفيه من المعنى ما ليس في مالك على ما بينا والله أعلم .

السادسة عشرة- لا يجوز أن يتسمى أحد بهذا الاسم ولا يدعى به إلا الله تعالى ، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله  : "يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض" وعنه أيضا عن النبي قال : "إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك - زاد مسلم - لا مالك إلا الله عز وجل" قال سفيان : مثل : شاهان شاه . وقال أحمد بن حنبل : سألت أبا عمرو الشيباني عن أخنع فقال : أوضع . وعنه قال : قال رسول الله  : "أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه رجل كان يسمى ملك الأملاك لا ملك إلا الله سبحانه" . قال ابن الحصار : وكذلك "ملك يوم الدين" و"مالك الملك" لا ينبغي أن يختلف في أن هذا محرم على جميع المخلوقين كتحريم ملك الأملاك سواء ، وأما الوصف بمالك وملك هي :

السابعة عشرة- فيجوز أن يوصف بهما من اتصف بمفهومهما ، قال الله العظيم : {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً} 19 . وقال  : " ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة" .

الثامنة عشرة- إن قال قائل : كيف قال {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ويوم الدين لم يوجد بعد ، فكيف وصف نفسه بملك ما لم يوجده ؟ قيل له : اعلم أن مالكا اسم فاعل من ملك يملك ، واسم الفاعل في كلام العرب قد يضاف إلى ما بعده وهو بمعنى الفعل المستقبل ، ويكون ذلك عندهم كلاما سديدا معقولا صحيحا ، كقولك : هذا ضارب زيد غدا ، أي سيضرب زيدا . وكذلك : هذا حاج بيت الله في العام المقبل ، تأويله سيحج في العام المقبل أفلا ترى أن الفعل قد ينسب إليه وهو لم يفعله بعد ، وإنما أريد به الاستقبال ، فكذلك قول عز وجل : {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} على تأويل الاستقبال ، أي سيملك يوم الدين أو في يوم الدين إذا حضر .

ووجه ثان : أن يكون تأويل المالك راجع إلى القدرة ، أي إنه قادر في يوم الدين ، أو على يوم الدين وإحداثه ، لأن المالك للشيء هو المتصرف في الشيء والقادر عليه والله عز وجل مالك الأشياء كلها ومصرفها على إرادته ، لا يمتنع عليه منها شيء .

والوجه الأول أمس بالعربية وأنفذ في طريقها ، قاله أبو القاسم الزجاجي .

ووجه ثالث : فيقال لم خصص يوم الدين وهو مالك يوم الدين وغيره ؟ قيل له : لأن في الدنيا كانوا منازعين في الملك مثل فرعون ونمروذ وغيرهما وفي ذلك اليوم لا ينازعه أحد في ملكه ، وكلهم خضعوا له كما قال تعالى : {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} 20 فأجاب جميع الخلق : {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} 21 فلذلك قال : مالك يوم الدين ، أي في ذلك اليوم لا يكون مالك ولا قاض ولا مجاز غيره سبحانه لا إله إلا هو .

التاسعة عشرة- إن وُصِف الله سبحانه بأنه ملك كان ذلك من صفات ذاته ، وإن وصف بأنه مالك كان ذلك من صفات فعله .

الموفية العشرين- اليوم : عبارة عن وقت طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس ، فاستعير فيما بين مبتدأ القيامة إلى وقت استقرار أهل الدارين فيهما . وقد يطلق اليوم على الساعة منه ، قال الله تعالى : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 22 وجمع يوم أيام وأصله أيوام فأدغم ، وربما عبروا عن الشدة باليوم يقال : يوم أيوم كما يقال : ليله ليلاء . قال الراجز :

نعم أخو الهيجاء في اليوم اليمي

وهو مقلوب منه أخر الواو وقدم الميم ثم قلبت الواو ياء حيث صارت طرفا ، كما قالوا : أدْلٍ في جمع دلو .

الحادية والعشرون- الدين : الجزاء على الأعمال والحساب بها ، كذلك قال ابن عباس وابن مسعود وابن جريج وقتادة وغيرهم ، وروي عن النبي ، ويدل عليه قوله تعالى : {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} 23 أي حسابهم . وقال : {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} 24 و {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 25 وقال : {أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} 26 أي مجزيون محاسبون . وقال لبيد :

حصادك يوما ما زرعت وإنما . . . يدان الفتى يوما كما هو دائن

آخر :

إذا رمونا رميناهم . . . ودناهم مثل ما يقرضونا

آخر :

وأعلم يقينا أن ملكك زائل . . . وأعلم بأنّ كما تدين تدان

وحكى أهل اللغة : دِنته بفعله دينا "بفتح الدال" ودينا "بكسرها" جزيته ، ومنه الديان في صفة الرب تعالى أي المجازي ، وفي الحديث : "الكيس من دان نفسه" أي حاسب . وقيل : القضاء ، وروي عن ابن عباس أيضا ومنه قول طرفة :

لعمرك ما كانت حمولة معبد . . . على جدها حربا لدينِك من مضر

ومعاني هذه الثلاثة متقاربة . والدين أيضا : الطاعة ، ومنه قول عمرو بن كلثوم :

وأيام لنا غر طوال . . . عصينا المَلْك فيها أن ندينا

فعلى هذا هو لفظ مشترك وهي :

الثانية والعشرون- قال ثعلب : دان الرجل إذا أطاع ، ودان إذا عصى ، ودان إذا عز ، ودان إذا ذل ، ودان إذا قهر ، فهو من الأضداد . ويطلق الدين على العادة والشأن كما قال :

كدينك من أم الحويرث قبلها

وقال المثقب يذكر ناقته :

تقول إذا درأتُ لها وضيني . . .أهذا دينُه أبدا وديني

والدين : سيرة الملك . قال زهير :

لئن حللت بجو في بني أسد . . . في دين عمرو وحالت بيننا فدَك

أراد في موضع طاعة عمرو . والدين : الداء عن اللحياني .

وأنشد :

يا دين قلبك من سلمى وقد دينا

الثالثة والعشرون- قوله تعالى : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} رجع من الغيبة إلى الخطاب على التلوين ، لأن من أول السورة إلى ههنا خبرا عن الله تعالى وثناء عليه كقوله {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} 27 . ثم قال : {إن هذا كان لكم جزاء} . وعكسه : {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} 28 على ما يأتي . و {نَعْبُدُ} معناه نطيع والعبادة الطاعة والتذلل . وطريق معبد إذا كان مذللا للسالكين قال الهروي . ونطق المكلف به إقرار بالربوبية وتحقيق لعبادة الله تعالى ، إذ سائر الناس يعبدون سواه من أصنام وغير ذلك . {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي نطلب العون والتأييد والتوفيق .

قال السلمي في حقائقه : سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول : سمعت أبا حفص الفرغاني يقول : من أقرَّ بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فقد برئ من الجبر والقدر .

الرابعة والعشرون- إن قيل : لم قدم المفعول على الفعل ؟ قيل له : قدم اهتماما ، وشأن العرب تقديم الأهم . يذكر أن أعرابيا سبَّ آخر فأعرض المسبوب عنه ، فقال له الساب : إياك أعني : فقال له الآخر : وعنك أعرض ، فقدما الأهم . وأيضا لئلا يتقدم ذكر العبد والعبادة على المعبود فلا يجوز نعبدك ونستعينك ولا نعبد إياك ونستعين إياك ، فيقدم الفعل على كناية المفعول وإنما يتبع لفظ القرآن . وقال العجاج :

إياك أدعو فتقبل مَلَقي . . .واغفر خطاياي وكثّر ورقي

ويروى : وثَمِّر .

وأما قول الشاعر :

إليك حتى بَلَغَتْ إياكا

فشاذ لا يقاس عليه . والورق بكسر الراء من الدراهم ، وبفتحها المال . وكرر الاسم لئلا يتوهم إياك نعبد ونستعين غيرك .

الخامسةوالعشرون - الجمهور من القراء والعلماء على شد الياء من "إياك" في الموضعين . وقرأ عمرو بن قائد : "إياك" بكسر الهمزة وتخفيف الياء ، وذلك أنه كره تضعيف الياء لثقلها وكون الكسرة قبلها . وهذه قراءة مرغوب عنها ، فإن المعنى يصير : شمسك نعبد أو ضوءك وإياة الشمس "بكسر الهمزة" : ضوءها وقد تفتح . وقال :

سقته إياة الشمس إلا لِثاتِه . . . أُسِفّ فلم تَكدِم عليه بإثمد

فإن أسقطت الهاء مددت . ويقال : الإياة للشمس كالهالة للقمر وهي الدارة حولها . وقرأ الفضل الرقاشي : "أياك" "بفتح الهمزة" وهي لغة مشهورة . وقرأ أبو السَّوار الغَنَوي : "هياك" في الموضعين وهي لغة قال :

فهِيّاك والأمر الذي إن توسعت . . .موارده ضاقت عليك مصادره

السادسة والعشرون- قوله تعالى : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} عطف جملة على جملة . وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش : "نِستعين" بكسر النون وهي لغة تميم وأسد وقيس وربيعة ليدل على أنه من استعان ، فكسرت النون كما تكسر ألف الوصل . وأصل "نستعين" نستعون قلبت حركة الواو إلى العين فصارت ياء ، والمصدر استعانة والأصل استعوان ، قلبت حركة الواو إلى العين فانقلبت ألفا ولا يلتقي ساكنان فحذفت الألف الثانية لأنها زائدة ، وقيل الأولى لأن الثانية للمعنى ولزمت الهاء عوضا .

السابعة والعشرون- قوله تعالى : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} اهدنا دعاء ورغبة من المربوب إلى الرب ، والمعنى : دلنا على الصراط المستقيم وأرشدنا إليه وأرنا طريق هدايتك الموصلة إلى أنسك وقربك . قال بعض العلماء : فجعل الله جل وعز عظم الدعاء وجملته موضوعا في هذه السورة ، نصفها فيه مجمع الثناء ونصفها فيه مجمع الحاجات ، وجعل هذا الدعاء الذي في هذه السورة أفضل من الذي يدعو به الداعي لأن هذا الكلام قد تكلم به رب العالمين فأنت تدعو بدعاء هو كلامه الذي تكلم به ، وفي الحديث : "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء" . وقيل المعنى : أرشدنا باستعمال السنن في أداء فرائضك وقيل : الأصل فيه الإمالة ومنه قوله تعالى : {إنا هُدنا إليك} 29 أي ملنا ، وخرج عليه السلام في مرضه يتهادى بين اثنين ، أي يتمايل . ومنه الهدية لأنها تمال من مِلك إلى مِلك . ومنه الهدي للحيوان الذي يساق إلى الحرم ، فالمعنى مل بقلوبنا إلى الحق . وقال الفضيل بن عياض : "الصراط المستقيم" طريق الحج ، وهذا خاص والعموم أولى . قال محمد بن الحنفية في قوله عز وجل {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} : هو دين الله الذي لا يقبل من العبادة غيره . وقال عاصم الأحول عن أبي العالية : "الصراط المستقيم" رسول الله وصاحباه من بعده . قال عاصم فقلت للحسن : إن أبا العالية يقول : "الصراط المستقيم" رسول الله وصاحباه قال : صدق ونصح .

الثامنة والعشرون- أصل الصراط في كلام العرب الطريق ، قال عامر بن الطفيل :

شحنَّا أرضهم بالخيل حتى . . . تركناهم أذل من الصراط

وقال جرير :

أمير المؤمنين على صراط . . . إذا أعوج الموارد مستقيم

وقال آخر :

فصدّ عن نهج الصراط الواضح

حكى النقّاش : الصراط الطريق بلغة الروم ، فقال ابن عطية : وهذا ضعيف جدا . وقرئ : السراط "بالسين" من الاستراط بمعنى الابتلاع ، كأن الطريق يسترط من يسلكه . وقرئ بين الزاي والصاد . وقرئ بزاي خالصة والسين الأصل . وحكى سلمة عن الفراء قال : الزراط بإخلاص الزاي لغة لعُذرة وكلب وبني القَيْن قال : وهؤلاء يقولون في أصدق : أزدق . وقد قالوا : الأزْد والأسْد ، ولسق به ولصق به . و"الصراط" نصب على المفعول الثاني لأن الفعل من الهداية يتعدى إلى المفعول الثاني بحرف جر ، قال الله تعالى : {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} 30 . وبغير حرف كما في هذه الآية . "المستقيم" صفة لـ "الصراط" وهو الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف ومنه قوله تعالى : {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} 31 وأصله مستقوم ، نقلت الحركة إلى القاف وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها .

التاسعة والعشرون- قوله تعالى : {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} صراط بدل من الأول بدل الشيء من الشيء ، كقولك : جاءني زيد أبوك . ومعناه : أدم هدايتنا ، فإن الإنسان قد يهدى إلى الطريق ثم يقطع به . وقيل : هو صراط آخر ، ومعناه العلم بالله جل وعز والفهم عنه ، قاله جعفر بن محمد . ولغة القرآن {الَّذِينَ} في الرفع والنصب والجر وهذيل تقول : اللذون في الرفع ، ومن العرب من يقول : اللذو ، ومنهم من يقول الذي ، وسيأتي .

وفي "عليهم" عشر لغات ، قرئ بعامتها : "عليهُم" بضم الهاء وإسكان الميم . "وعليهِم" بكسر الهاء وإسكان الميم . و"عليهمي" بكسر الهاء والميم وإلحاق ياء بعد الكسرة . و"عليهمو" بكسر الهاء وضم الميم وزيادة واو بعد الضمة . و"عليهمو" بضم الهاء والميم كلتيهما وإدخال واو بعد الميم . و"عليهم" بضم الهاء والميم من غير زيادة واو . وهذه الأوجه الستة مأثورة عن الأئمة من القراء . وأوجه أربعة منقولة عن العرب غير محكية عن القراء : "عليهمي" بضم الهاء وكسر الميم وإدخال ياء بعد الميم ، حكاها الحسن البصري عن العرب . و"عليهُمِ" بضم الهاء وكسر الميم من غير زيادة ياء . و"عليهِمُ" بكسر الهاء وضم الميم من غير إلحاق واو . و"عليهم" بكسر الهاء والميم ولا ياء بعد الميم . وكلها صواب ، قاله ابن الأنباري .

الموفية الثلاثين- قرأ عمر بن الخطاب وابن الزبير رضي الله عنهما "صراط من أنعمت عليهم" . واختلف الناس في المنعم عليهم ، فقال الجمهور من المفسرين : إنه أراد صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين . وانتزعوا ذلك من قوله تعالى : {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} 32 . فالآية تقتضي أن هؤلاء على صراط مستقيم ، وهو المطلوب في آية الحمد وجميع ما قيل إلى هذا يرجع ، فلا معنى لتعديد الأقوال والله المستعان .

الحادية والثلاثون- في هذه الآية رد على القدرية والمعتزلة والإمامية ، لأنهم يعتقدون أن إرادة الإنسان كافية في صدور أفعال منه طاعة كانت أو معصية ، لأن الإنسان عندهم خالق لأفعاله فهو غير محتاج في صدورها عنه إلى ربه ، وقد أكذبهم الله تعالى في هذه الآية إذ سألوه الهداية إلى الصراط المستقيم فلو كان الأمر إليهم والاختيار بيدهم دون ربهم لما سألوه الهداية ، ولا كرروا السؤال في كل صلاة وكذلك تضرعهم إليه في دفع المكروه وهو ما يناقض الهداية حيث قالوا : {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} 33 . فكما سألوه أن يهديهم سألوه ألا يضلهم ، وكذلك يدعون فيقولون : {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} 34 الآية .

الثانية والثلاثون- قوله تعالى : {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}

اختلف في "المغضوب عليهم" و"الضالين" من هم ؟ فالجمهور أن المغضوب عليهم اليهود والضالين النصارى ، وجاء ذلك مفسرا عن النبي في حديث عدي بن حاتم وقصة إسلامه ، أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده والترمذي في جامعه . وشهد لهذا التفسير أيضا قوله سبحانه في اليهود : {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} 35 . وقال : { وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} 36 وقال في النصارى : {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} 37 . وقيل : "المغضوب عليهم" المشركون . و"الضالين" المنافقون . وقيل : "المغضوب عليهم" هو من أسقط فرض هذه السورة في الصلاة و"الضالين" عن بركة قراءتها . حكاه السلمي في حقائقه والماوردي في تفسيره وليس بشيء . قال الماوردي : وهذا وجه مردود ، لأن ما تعارضت فيه الأخبار وتقابلت فيه الآثار وانتشر فيه الخلاف لم يجز أن يطلق عليه هذا الحكم . وقيل : "المغضوب عليهم" باتباع البدع و"الضالين" عن سنن الهدى .

قلت : وهذا حسن ، وتفسير النبي أولى وأعلى وأحسن . و"عليهم" في موضع رفع لأن المعنى غضب عليهم . والغضب في اللغة الشدة . ورجل غضوب أي شديد الخلق . والغضوب : الحية الخبيثة لشدتها . والغضبة : الدرقة من جلد البعير ، يطوى بعضها على بعض ، سميت بذلك لشدتها . ومعنى الغضب في صفة الله تعالى إرادة العقوبة ، فهو صفة ذات وإرادة الله تعالى من صفات ذاته أو نفس العقوبة ومنه الحديث : "إن الصدقة لتطفئ غضب الرب " فهو صفة فعل .

الثالثة والثلاثون- قوله تعالى : {وَلا الضَّالِّينَ} الضلال في كلام العرب هو الذهاب عن سنن القصد وطريق الحق ، ومنه : ضل اللبن في الماء أي غاب . ومنه : {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ} 38 أي غبنا بالموت وصرنا ترابا ، قال :

ألم تسأل فتخبرك الديار . . . عن الحي المضلَّل أين ساروا

والضُّلَضِلَة : حجر أملس يردده الماء في الوادي . وكذلك الغضبة : صخرة في الجبل مخالفة لونه قال : أو غضبة في هضبة ما أمنعا

الرابعة والثلاثون- قرأ عمر بن الخطاب وأبي بن كعب "غير المغضوب عليهم وغير الضالين" وروي عنهما في الراء النصب والخفض في الحرفين ، فالخفض على البدل من "الذين" ، أو من الهاء والميم في "عليهم" أو صفة للذين والذين معرفة ولا توصف المعارف بالنكرات ولا النكرات بالمعارف ، إلا أن الذين ليس بمقصود قصدهم فهو عام فالكلام بمنزلة قولك : إني لأمر بمثلك فأكرمه أو لأن "غير" تعرفت لكونها بين شيئين لا وسط بينهما كما تقول : الحي غير الميت والساكن غير المتحرك والقائم غير القاعد ، قولان : الأول للفارسي والثاني للزمخشري . والنصب في الراء على وجهين : على الحال من الذين أو من الهاء والميم في عليهم كأنك قلت : أنعمت عليهم لا مغضوبا عليهم . أو على الاستثناء كأنك قلت : إلا المغضوب عليهم . ويجوز النصب بأعني ، وحكي عن الخليل .

الخامسة والثلاثون - قوله تعالى : "لا" في {وَلا الضَّالِّينَ} اختلف فيها فقيل هي زائدة ، قاله الطبري . ومنه قوله تعالى : {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} 39 . وقيل : هي تأكيد دخلت لئلا يتوهم أن الضالين معطوف على الذين ، حكاه مكي والمهدوي . وقال الكوفيون : "لا" بمعنى غير وهي قراءة عمر وأبي وقد تقدم .

السادسة والثلاثون- الأصل في "الضالين" : الضاللين حذفت حركة اللام الأولى ثم أدغمت اللام في اللام فاجتمع ساكنان مدة الألف واللام المدغمة . وقرأ أيوب السختياني : "ولا الضالين" بهمزة غير ممدودة كأنه فر من التقاء الساكنين ، وهي لغة . حكى أبو زيد قال : سمعت عمرو بن عبيد - يقرأ : {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} 40 فظننته قد لحن حتى سمعت من العرب : دأبة وشأبة .

قال أبو الفتح : وعلى هذه اللغة قول كُثَيّر :

إذا ما العوالي بالعبيط احمأرت

نُجز تفسير سورة الحمد ، ولله الحمد والمنة .


هامش

  1. [مريم : 76]
  2. [المؤمنون : 28]
  3. [إبراهيم : 3]
  4. [النمل : 15]
  5. [الإسراء : 111]
  6. [فاطر : 34]
  7. [يونس : 10]
  8. [الإسراء : 79]
  9. [النجم : 32]
  10. [يوسف : 42]
  11. [النساء : 23]
  12. [الشعراء : 165]
  13. [الفرقان : 1]
  14. [الشعراء : 23]
  15. [الحجر : 49 ، 50]
  16. [غافر : 3]
  17. [البقرة : 247]
  18. [النمل : 20 ، 21]
  19. [البقرة : 247]
  20. [غافر : 16]
  21. [غافر : 16]
  22. [المائدة : 3]
  23. [النور : 25]
  24. [غافر : 17]
  25. [الجاثية : 28]
  26. [الصافات : 53]
  27. [الإنسان : 21]
  28. [يونس : 22]
  29. [الأعراف : 156]
  30. [الصافات : 23]
  31. [الأنعام : 153]
  32. [النساء : 69]
  33. [الفاتحة : الآية]
  34. [آل عمران : 8]
  35. [البقرة : 61 وآل عمران : 112]
  36. [الفتح : 6]
  37. [المائدة : 77]
  38. [السجدة : 10]
  39. [الأعراف : 12]
  40. [الرحمن : 39]
الجامع لأحكام القرآن - سورة الفاتحة
القول في الاستعاذة | القول في البسملة | الباب الأول في سورة الفاتحة في فضائلها وأسمائها | الباب الثاني في نزولها وأحكامها | الباب الثالث في التأمين | الباب الرابع فيما تضمنته الفاتحة من المعاني والقراءات والإعراب وفضل الحامدين