نظرة إجمالية في حياة المتنبي/منشأ المتنبي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
​نظرة إجمالية في حياة المتنبي​ المؤلف معروف الرصافي


كل الرواة متفقون على أن المتنبي ولد في الكوفة، ولكنه قدم الشام في صباه، وبها نشأ وتأدب.

وهنا ترد هذه الأسئلة: -

ما سبب ذهاب المتنبي إلى الشام؟ ومع من ذهب وهو صبي؟ ومن الذي كفله هناك حتى استطاع أن يتعلم ويتأدب في صباه؟ وكم كان له من العمر لما فارق الكوفة؟.

إن هذه الأسئلة غامضة جداً، إذ لم نجد، فيما قرأناه من تراجم المتنبي ومن شعره، شيئاً يكون جواب لهذه الأسئلة أو لبعضها. وقد روى له صاحب (الصبح المُنْي) بيتين كتب بهما وهو في الحبس إلى والدي الذي اعتقله بحمص وهما:

بيدي أيها الأمير الأريب         لاشيء، إلا أني غريب

أولأم لها إذا ذكرتني         دم قلب بدمع عين يذوب

فهذان البيتان يدلان على أنه غريب، وأنه بعيد عن أمه.

وفي ديوان المتنبي قصيدة كتب بها إلى الوالي أيضاً، وهو في الاعتقال، وقد جاء في هذه القصيدة ما يدل على أنه كان عند اعتقاله دون البلوغ، إذ قال يخاطب الوالي:

تعجلَ في وجوب الحدود         وحّدي قُبيلَ وجوبِ الحدود

يقول، تعجل على أيجاد الحدّ، وأنا لم يجب علي السجود، لأني لم أزل من الصبيان.

فإذا كان عند اعتقاله دون البلوغ، فكم كان عمره يوم قدم الشامة من الكوفة، فهل كان أبن السبع أو أقل أو أكثر؟. وذلك كله يستبعد معه سفره إلى الشام وحده.

وأما كانت حياة المتنبي في صباه هي الأساس الذي تقوم عليه، وتعترف به حياته من بعد، وجب قبل كل شيء معرفتنا، لعلل بها كثيراً من أحواله في حياته الأخرى. واكننا، ويا، للأسف، نرى حياته الأولى مظلمة في وجوهنا، لا نهتدي منها إلى ما نريد.

لاشك أن أسرة المتنبي لن تكن من أولي الغناء والثروة، وإنما كانت متوسطة الحال، أو دون المتوسطة إذا نظرنا بالصحة إلى ما رووا من أن أباه كان سقاء في الكوفة. ولو أن المتنبي كان نابتاً في البيت من بيوت الثروة والغنى، لأمكن أن نقول إنه عند سفره إلى الشام أخذ معه من المال ما يكفيه، أو أن المال كان يرسل إليه من الكوفة وهو في الشام. ولكن، لا هذا ولا ذاك، لأنه من بيت غير ذي ثروة.

على أنا نراه في أيام صباه وهو في الشام يمدح الناس ويأخذ نتهم الجوائز، فقد مدح محمد بن عبيد الله العلوي المشطب بقصيدته التي يقول في مطالعها:

أهلاً بدارِ سباك أغيدهُا         أبعد ما بان عنك خُردَهُا

وقال، وهو في المكتب يمدح رجلاً آخر كناه بأبي الفضل بقصيدة، قال في مطالعها:

كفي أراني، ويك، لوماً ألوماً         همّ أقام على فؤاد أنجما

ومدح في صباه عبيد الله بن خلكان، وسعيد بن عبيد الله بن الحين الكلابي المنجمي، وأبا نصر شجاع بن محمد بن أوس بن معنبن رضي الرذي، وعلي بن أحمد الطائي، وغيره هؤلاء من الرجال زمانه. فلعله كان يعيش بما يأخذه من جوائز هؤلاء الممدوحين، إذ ليس له حرفة يحترفها، بل لم يزل صبياً في المكتب. إن هذه الاحتمالات والظنون التي نبديها على علاتها غير كافية في فهم حياة المتنبي في صباه، وإنما هي نظرات نقصد بها تنبيه الناظرين في حياته إلى حل هذه العويصة.