مفيد العلوم ومبيد الهموم/كتاب الغرائب/الباب الثامن

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


( الباب الثامن في أن الثواب والعقاب للروح أم للجسد )

إعلم أن الثواب والعقاب للروح مع البدن ومن قال كل ذلك للروح دون البدن فقد أمحل وكذب وهو مذهب السوفسطائى لانا نعلم ضرورة ان الأفعال والتدابير والآراء كلها تصدر من الجسد الحي وفي حال النوم كما يخيل له يكون على وجه ما رآه في حال اليقظة حتى أن الاكمه لا يبصر ولا يحس فمن قال أن جميع الأفعال تصدر من الروح فقد رفع الضرورة وأيضًا من قال أن الروح هي الحياة التي يخلقها الله تعالى في الشخص فإذا أراد أن يميته لم يخلق تلك الحياة فيموت الشخص فكيف تبقي الروح وأن الثواب والعقاب معها هذا محال وأيضًا أن الطاعة والمعصية حصلت منهما جميعًا لا من أحدهما فمن قال أنه يفرد أحدهما بالنعمة والعقوبة فقد أبعد وظلم وأيضًا إذا نام الانسان لا يكون له خبر بما فعل ودبر في حال اليقظة ولا يكون له خبر من المنامات المتقدمة الماضية فلو كان للروح خبر بعد الموت كان يجب أن يعرف أحوال نفسه وأيضًا لو كانت الروح تحس وتؤلم وتتلذذ باللذة والفرح ويعلم قطعًا أن البدن إذا تألم وتوجع وتحزن ثم نام ليستريح ويتروح دل انه لا خبر للروح في شيء من ذلك ولا علم لها في أحواله وأفعاله وأن لا يحس ولا يعلم من غير ملابسة الجسد ولا يجوز في دين الله أن لا يكون حاله هو الحساس الدراك الباقي المتنعم والجسد هو المتألم المتوجع فيكون ظلمًا والحجة الواضحة في ذلك أن الثواب بالطاعة والعقاب بالمعصية إنما صدر من الجسد بواسطة الروح ولم تنفرد الروح بذلك فإن كانت الطاعة بهما تحصل فيجب أن يكون العقاب والثواب لهما كيلا يكون اجحافًا وظلمًا وأيضًا فإن خطاب الله تعالى يتوجه على النفوس والأبدان بقوله يا ﴿أَيُّهَا الْإِنْسانُ ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ولم يقل يا أيها الروح فإذا كان الأمر والنهي والخطاب مع الجسد فيستحيل أن تكون الروح مفردة في ذلك يدل عليه أن الله تعالى حيث ذكر الثواب والعقاب والوعد والوعيد ونعيم الجنة وعذاب الجحيم إنما عنى به الجسد يا ﴿أَيُّهَا النَّاسُ ﴿فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ فالله تعالى خلق هذا الجسد من التراب وأمات هذا الجسد ثم يحيا هذا الجسد ثم يخاطب ويحاسب هذا الجسد فدل أنه المثاب والمعاقب فانه سبحانه حكيم لا يجوز أن يأخذ زيدًا بجناية عمرو ولا يجوز أن يحمل جريمة زيد على عمرو فدل أن الروح لا تحيا بدون الجسد.