معركة الإسلام والرأسمالية (1952)/شبهات حول حكم الإسلام/غموض النصوص
غموض النصوص
بعض الأبرياء الجهلاء يصدق ما يشيعه المغرضون عن غموض النصوص في الشريعة الإسلامية، لأن بعض هؤلاء المغرضين يتسمون باسم العلماء؛ فتنشأ في نفوسهم شبهة في أن قبول النصوص للتأويل، سيحيلهم إلى عماية ومتاهة، فلا يجدون أصول القانون الذي يحكمهم واضحة معروفة.
والجهل بهذا الدين هو الذي يبقى على مثل هذه الشبهة في النفوس؛ والتفسيرات والحواشي والشروح التي عكف عليها الأزهر في وقت جموده، والتي مازال يعيش عليها، دون الرجوع إلى المنابع الأولى الواضحة البسيطة، يجعل للجهلاء بالدين عذرًا. فأين هم وهذه المتاهة الواسعة في الحواشي والشروح؟!
وثمة أصل آخر لهذه الشبهة لا يعرفه الأبرياء الجهلاء، ولكن يتخذه بعض المغرضين وسيلة للتخويف.. هو شمول المبادئ الإسلامية وسعة أصولها. وبدلاً من أن تكون هذه مزية تحمد، فإنهم يجعلونها خطرًا يخشى..
إن الأصول الإسلامية ليست هي هذه الشروح والحواشي التي يتدارسها الأزهر، ليقتل بها شباب طلابه، ويأكل أعمارهم، ليخرجوا منها بأقوال متعارضة، وجدل عقيم. ولقد كتبت قبل اليوم كتابًا كاملاً «العدالة الاجتماعية في الإسلام» في نحو ثلاثمائة صفحة وكتابًا آخر عن «السلام العالمي والإسلام» في نحو مئتي صفحة، فلم أجد أنني بحاجة إلى الرجوع إلى شيء من كتب الحواشي، لأن الينابيع الأصيلة في الإسلام في الكتاب والسنة والسيرة والتاريخ، كانت كافية لي لإخراج هذين البحثين ولإخراج سواها مما سيجئ.
والمذاهب الأربعة الكبرى في الإسلام كان مصدر كل ما فيها من أحكام وتشريعات هو الكتاب والسنة وهي.. مصادر ميسرة للكثيرين.
نعم قد تختلف الآراء في الجزئيات والتطبيقات. ولكن كل نظرية تشريعية في العالم تختلف حولها الشروح. ويتجادل فيها الفقهاء القانونيون. ثم لا يدعو أحد إلى نبذ تلك النظريات التشريعية، لأن الشراح لم يجمعوا فيها على تفسير.
فأما سعة المبادئ وعمومها، فذلك في غير الحدود، أي في الشؤون العامة المتجددة مع الحياة. كتقرير مبدأ الشورى في الحكم، وترك الطريقة التي تتم بها الشورى دون تحديد. كما ينص الدستور المصري الحاضر على أن تكون الحكومة برلمانية، ثم يترك طريقة الانتخاب القانون الانتخاب. وكتقرير مبدأ درء الحدود بالشبهات، ثم ترك بيان الحالات التي يدرء فيها الحد عن المتهم، يصوغها القانون الذي يفسر هذه القاعدة، أو يحددها القاضي الذي يزاول النظر في الحادثة. وكتقرير مبدأ قتال الفئة الباغية من المحاربين حتى تفيء إلى أمر الله، وترك تحديد الحالات التي توصف بأنها حالات بغي للمحكمين فيها. وذلك ما تصنعه هيئة الأمم المتحدة اليوم في تقرير أن حالة ما بعد اعتداء ترده بقية الأمم، حتى يفيء المعتدى إلى أمر القانون الدولي!
إن الحلال بين والحرام بين. أمّا الذين يتعمدون التأويل الأغراض غير التي يعنيها القانون، فهم مستطيعون ذلك في كل وقت، وفي ظل أي قانون. وها نحن أولاء نرى كل وزارة تلي الحكم تجد للقانون تفسير وتأويلا، وترتكب في ظله مالم يخطر على بال واضعه. أيقال حينئذ إن هذه القوانين يجب أن تلغي، لأن طاغية من الطغاة قد أولها تأويلًا سيئًا تقبله نصوصها أو لا تقبله؟ فما بال القانون الإسلامي وحده هو الذي يتهم عندما يؤوله الطغاة تلك التأويلات؟
إنها شبهة ظالمة في الواقع لا تنهض على أساس سليم.