معركة الإسلام والرأسمالية (1952)/شبهات حول حكم الإسلام/حكم المشايخ والدراويش

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
​حكم المشايخ والدراويش​ المؤلف سيد قطب

شبهات حول حكم الإسلام


حكم المشايخ والدراويش

هنالك آخرون يتصورون أن حكم الإسلام، معناه حكم المشايخ والدراويش! من أين جاءوا بهذا التصور؟ من الثقافة السطحية الناقصة، ومن ملابسات الواقع فى هذا الجيل.. فأما الإسلام الحقيقى الصحيح، فلا يعرف هذا الوضع، لا فى أصوله النظرية، ولا فى واقع التاريخى.

حتى تلك الأزياء الخاصة للمشايخ والدراويش.. إنها ليست شيئاً فى الدين، فليس هنالك زى إسلامى وزى غير إسلامى؛ والإسلام لم يعين للناس لباساً، فاللباس مسألة إقليمية؛ ومجرد عادة تاريخية، ومحمد بن عبد الله لم يلبس جبة وقفطاناً، أو قفطاناً و «کاکولة» وإنما لبس ثيابه العربية التى كان يلبسها قومه وجيله. كذلك لبس المسلمون فى فارس ثيابهم الفارسية، والمسلمون فى مصر ثيابهم المصرية.

وعلام يتميز بعض المسلمين من بعض بلباس؟ وليس فى الإسلام رجال دين، ولا هيئة « إكليروس » لا تقام الطقوس الدينية إلا بوساطتها. والتفقه فى الدين اجتهاد كالتفقه فى الطب والهندسة والتجارة وسائر المعارف الإنسانية الأخرى.

نعم قد توجد مناصب رسمية كمناصب القضاء، ولكن الإسلام لا يعرف أن هناك قاضياً للأحوال الشخصية يحكم بالقانون الإسلامى، وقاضياً للعقوبات والمدنيات يحكم بقانون غيره. الإسلام لا يعرف إلا شريعة واحدة تنظم العقوبات والشؤون المدنية، كما تنظم أحوال الزواج والطلاق والميراث؛ وتخضع الجميع لفكرة كلية واحدة تصدر عنها هذه التفريعات فى شتى نواحى النشاط الإنسانى. والذى يتولى القضاء فى هذه النواحى جميعاً أو فى ناحية واحدة منها – حسب تخصيص الدولة له – إنما يتولاه باسم تفقهه فى الشريعة كلها أو بعضها.

كما يتولى الطبيب عمله لتعلمه الطب العام أو التخصص فى فرع منه؛ وكما يتولى المهندس عمله لتخصصه فى الهندسة أو فرع منها.. والقاضى ليس رجل دين فى الإسلام. إنما هو مسلم حذق فرعاً من فروع المعرفة، فأسند إليه العمل الذى يحسنه. ولكل امرئ ما يتحسنه فى الحياة.

والخدمة الدينية - كمجرد إمامة الصلاة - ليست عملا بأجر الإسلام من يقوم به من بيت مال المسلمين! ما لم تكن لهذا الإمام وظيفة أخرى يؤديها. كإلقاء دروس فى المسجد، أو القيام بإدارته من الناحية النظامية لا التعبدية. فإمامة المصلين ليست وقفاً على شخص من المصلين. إنما يؤمهم أفضل الموجودين، وتصبح صالاتهم جماعة أو فرادى إلا فى صلاة الجمعة خاصة، ومن هذا البيان يتضح أن ليس فى الإسلام «رجال دين» يخشى أن يتولوا الحكم إذا صار الحكم إلى الإسلام.

ذلك من الوجهة النظرية؛ فأمّا من وجهة الواقع التاريخى فى الإسلام فإن حذق الفقه الإسلامى لم يكن بذاته مرشحاً للحكم، وتولى الأعمال فى القيادة والإدارة وما إليها، حتى فى أزهى عصور الحكم الإسلامى الكامل. إنما كان الحذق فى كل حرفة هو المؤهل لها دون نظر إلى درجة الفقه الدينى لصاحبها، ولا حتى الميزة الكبرى التي يعتبرها الإسلام أساساً للتفاضل بين الناس، وهي التقوى.

كتب أبو بكر أعرف أصحاب رسول الله بروح الإسلام، إلى أبي عبيدة بن الجراح، الذي كان يلقبه رسول الله «أمين الأمة» يقول:

« بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله بن أبى قحافة إلى أبى عبيدة ابن الجراح. سلام الله عليك. أما بعد، فقد وليت خالداً قتال العدو في الشام، فلا تخالفه واسمع له وأطع، فإنى وليته عليك وأنا أعلم أنك خير منه وأفضل دينا. ولكن ظننت أن له فطنة فى الحرب ليست لك. أراد الله بنا وبك سبيل الرشاد».

فالذين يخشون - لو حكم الإسلام - أن يبصروا فيروا على رأس الجيش مثلا فى المعركة، أو فى مصلحة الكيمياء أو الطب الشرعى، أو فى وزارة الأشغال أو المالية، شيخاً مطمطما، أو درويشاً معمما لمجرد أنه قرأ كتب الفقه والسنة، أو حفظ المتون والحواشى والشروح، أو أتقن التراتيل الدينية ودلائل الخيرات.. أولئك فليطمئنوا. فواقع الإسلام التاريخى، كأصوله النظرية، لا يعترف إلا بالكفاية الخاصة فى العمل الخاص. ولكل وجهة هو موليها.

إن حكم الإسلام لا يتحقق لأن فى الحكم طائفة دينية - وليس فى الإسلام كما ترى طائفة دينية - إنما يتحقق لأن القانون الإسلامى ينفذ، ولأن فكرة الإسلام تحكم، ولأن مبادئه ونظمه تحدد نوع الحكومة، وشكل المجتمع. وهذا كل ما هناك.

فأما نوع الحكم الذي يحتمه الإسلام فهو الحكم الشورى. والقرآن ينص على هذا نصاً: ﴿وشاورهم في الْأَمر والنبي يقول: «لو كنت مؤمراً أحداً دون مشورة المؤمنين لأمَّرت ابن أمِ عبد» فيقرر مبدأ الشورى فى الحكم وفى الإدارة تقريراً صريحاً. لأنه وهو النبى لا يملك أن يؤمر أحداً دون مشورة المؤمنين.

فأما طريقة الشورى فلم يحددها الإسلام تحديداً معيناً، لأنها مسألة نظامية ترجع إلى حاجات كل عصر، ووسائله وإمكانياته فى تحقيق المبدأ، فى كل مكان وفى كل زمان.

فحين كان أهل الرأى الذى يمثل الشعب كله مجتمعين فى المدينة حول النبي - وهم الصحابة - كان النبى يستشيرهم - فيما لا وحى فيه ولا نص بطبيعة الحال - ويترك لهم حرية القول والتصرف فى شؤونهم الدنيوية، لأنهم أخبر بها. ومعنى دنيوية هنا أنها لا تتعلق بحكم شرعى أو اجتماعى، وإنما تمثل الخبرات العملية، كفنون القتال، وزراعة الأرض، وحماية الثمار. وما إليها. وهى ما نستطيع أن نسميه فى عصرنا الحاضر الشؤون العلمية البحتة والشؤون العملية التطبيقية.

وأما الشؤون التشريعية الخاصة بالإنسان: روحه وعقله، وعلاقاته بالناس وعلاقات الناس به، والحدود بين حقه وواجبه.. الخ، فتلك مسائل يرجع فيها إلى النصوص والقياس، أى إلى القوانين الإسلامية المحددة، أو المبادئ العامة والفكرة الكلية. وما يتفق معها فهو منها.

وقد ظلت الشورى مقصورة على المدينة، ما ظلت المدينة تمثل أهل الرأى؛ فلما تغير الوضع شيئاً توسع الخليفة الأول أبو بكر فاستشار أهل مكة فى حرب الشام. إذ كانت المسألة عملية حربية خارج الحدود العربية كلها، تعود آثارها على من فى مكة كما تعود على من فى المدينة.

فإذا انتهينا فى هذا العصر إلى أن يصبح رأى الجماهير لا يمثله من يقيمون فى القاهرة وحدها، ولا الاسكندرية، ولا أية مدينة من المدن، فالطريقة إذن أن تستشير الجميع بالطريقة التى تكفل الحصول على آراء الجميع.. وهى مسألة نظامية تتعلق بالتنفيذ. أما المبدأ فهو مقرر في الإسلام تقريراً أصيلا واضحا. كل ما يحتمه الإسلام هو إزالة القيود التى تجعل الانتخاب غير ممثل لحقيقة الرأى فى الأمة. فلا يكون الناخب تحت رحمة صاحب الأرض أو صاحب العمل أو صاحب السلطان. كما هو واقع الآن.

والحاكم فى الإسلام يتلقى الحكم من مصدر واحد هو إرادة المحكومين. فالبيعة الاختيارية هى الطريق الوحيد لتلقى الحكم. والواقع التاريخى قام على هذا المبدأ. فخلافة أبى بكر وعمر وعثمان وعلى قامت على أساس الاختيار المطلق. ولا يتعارض هذا مع وصية عمر أن تكون فى واحد من ستة فقد كانت هذه نصيحة للمسلمين، ولم تكن أمراً واجب الطاعة. ولو اختار المسلمون واحداً من غير الستة لاختاروا. ولكن هؤلاء كانوا بالإجماع أصلح الجميع، فاختاروا واحداً منهم برضاهم وإذنهم، لا بأمر عمر ووصايته.

ولما عدل بنو أمية عن هذه القاعدة الإسلامية الأساسية في الحكم، رده إليها الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز. رده إلى الأمة التي يجب أن تختار حكامها حرة طائعة مختارة.

صعد المنبر فقال:

«أيها الناس: إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأى كان منى فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين. وإنى قد خلعت مافى أعناقكم من بيعتى. فاختاروا لأنفسكم».

فقال الناس: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضيناك. فلِ الأمر باليمن والبركة.

وبذلك رد الأمر إلى نصابه فى ولاية الأمر. فلا ولاية بغير شورى ورضى وقبول.

والحاكم الإسلامى يتلقى طاعته بعد توليه من قيامه على تنفيذ الشريعة الإسلامية، لا من أى اعتبار آخر. وذلك عهده مع المحكومين. فإذا لم ينفذ الشريعة فقد سقطت طاعته عليهم. يقول صاحب هذا الدين: «اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشى كأن رأسه زبيبة - ما أقام فيكم كتاب الله تعالى» وواضح فى هذا الحديث توقيت السمع والطاعة بإقامة كتاب الله تعالى، فليست هى الطاعة المطلقة الإرادة الحاكم، وليست هى الطاعة الدائمة ولو ترك شريعة الله ورسوله.

بهذا وحده يقوم الحكم الإسلامى، لا بوجود طائفة معينة فى الحكم من المشايخ والدراويش كما يتصوّر الكثيرون

ذلك كذلك من ناحية الأسس الدينية.. ثم أحب بعدها أن أطمئن الخائفين من حكم الإسلام أن يجيئهم بالمهابيل والدراويش فى الدواوين! أحب أن أطمئنهم إلى أن نوعاً من أنواع الحكم لن يطارد هؤلاء كما يطاردهم الإسلام!

إن حكم الإسلام بعد هذه الطوائف - فى أوضاعها الحالية - متبطلة متعطلة، لا تنتج شيئاً وهى قادرة على الإنتاج. فسيجند هذه الجموع للعمل المنتج، لتأتى للأمة بشىء يعينها على الحياة.

إن حكم الإسلام لن يدع الدراويش يتدروشون، ولا مشايخ الطرق يعيشون على النذور.. إن الإسلام يطالب إلى كل فرد أن يعمل عملا ليأجره عليه أجرا. فلا أجر بلا جهد، ولا جزاء بلا عمل. والصلوات والدعوات عبادة شخصية وليست عملاً اجتماعياً؛ أما إقامة الأذكار وتلاوة الأوراد، فتلك أشياء تعرفها عصور التبطل، ولا تعرفها عصور الحياة والنشاط.

إن العهود الإقطاعية هى التي ترزق المشايخ المتبطلين، والدراويش المهبولين، وتخلع عليهم وتعترف بوجودهم.. لأن هذه كلها أجهزة لتخدير الجماهير عما هى فيه من حرمان وشقاء. فأما حكم الإسلام الذى يكافح الإقطاع، ويرد عن الناس الاستغلال، فليس فى حاجة إلى هذه الأجهزة. فسيوجه هذه الجموع المتعطلة المتبطالة لتعمل، وسيهيئ لها مرافق العمل، لأنه سيعمل للجميع، وسيأخذ من القادر للعاجز، وسيجمع من الضرائب وغير الضرائب ما يحتاج إليه المجتمع بلا تحرّج من مس الأغنياء إلا بقفاز الحرير؛ وسينفق ما يجمعه لمصلحة المجتمع كله لحساب المحظوظين دون المنبوذين.

وعندئذ لن يكون المشايخ المتعطلون، والدراويش المتبطون، هم سادة عهده، بل سيكونون طريديه، إن لم يغيِّروا ما بأنفسهم، ويبدّلوا وسائل كسبهم، ويعملوا مع العاملين فى حقل الإنتاج المثمر. حقل الحياة.

حكم المشايخ والدراويش