معركة الإسلام والرأسمالية (1952)/شبهات حول حكم الإسلام/التعصب ضد الأقليات
التعصب ضد الأقليات
بقيت شبيهة أخيرة، أنا أكره الحديث فيها، ولكن بعضهم يشير إليها تصريحًا أو تلميحًا، وبعضهم يتخذها تكأة وسببًا لإرضاء غايات صغيرة، وتحقيق منافع يسيرة.. تلك مسألة الأقليات في حكم الإسلام، وقومية الحكم في ظل إسلامية التشريع.
إنني أحسب مجرد التخوف من حكم الإسلام على الأقليات القومية في بلاده نوعًا من التجني الذي لا يليق؛ فما من دين في العالم وما من حكم في الدنيا، ضمن هذه الأقليات حرياتها وكراماتها وحقوقها القومية، كما صنع الإسلام في تاريخه الطويل. بل ما من حكم دلل الأقليات فيها دلل الإسلام من تفهم أرضه من أقليات. لا الأقليات القومية التي تشارك شعوبه في الجنس واللغة والوطن، بل الأقليات الأجنبية عنه وعن قومه.
وما كان جزاء الإسلام على عدله رعايته، إلا اضطهاد أتباعه في بلاد الأديان الأخرى، وفي ظل جميع أنواع الحكم ما عداه في القديم وفي الحديث سواء مما يجعل الحديث عن قومية الحكم لا إسلاميته، حديثًا بغيضًا، لا سند له من الحق ولا من الواقع ولا من التاريخ، ولا من روح الإنصاف التي يجب أن يتحلى بها المواطنون في كل بلاد الإسلام.
وسأختار هنا عهدًا من عهود الإسلام كان ينتظر أن يكون أشد العهود تعصبًا وقسوة وفظاظة. إذ أنه كان في العهود المظلمة، وكان القائمون عليه هم الأتراك. وسأدع كاتبًا مسيحيًا أوربيًا يتحدث عنه في معاملته للأقليات غير المسلمة والبلاد المفتوحة، وسأكتفي بهذا المثال دون سواه، لأنه يبلغ فصل الخطاب في هذا المقام.
قال «سيرت . و . أرنولد» في كتابه «الدعوة إلى الإسلام» ترجمة حسن إبراهيم حسن، وعبد المجيد عابدين، وإسماعيل النحراوي ص ۱۳۸ – ص ۱۳٩.
« إن المعاملة التي أظهرها الأباطرة العثمانيون للرعايا المسيحيين – على الأقل بعد أن غزوا بلاد اليونان بقرنين – لتدل على تسامح لم يكن مثله حتى ذلك الوقت معروفة في سائر أوربا: وإن أصحاب كلفن Calvin في المجر وترنسلفانيا، وأصحاب مذهب التوحيد Unitarians من المسيحيين الذين كانوا في ترنسلفانيا، طالما آثروا الخضوع للأتراك على الوقوع في أيدي أسرة هابسبورج المتعصبة، ونظر البروتستانت في سيليزيا إلى تركيا بعيون الرغبة، وتمنوا بسرور أن يشتروا الحرية الدينية بالخضوع للحكم الإسلامي. وحدث أن هرب اليهود الأسبانيون المضطهدون في جموع هائلة، فلم يلجأوا إلا إلى تركيا. كذلك نرى القوزاق Cossaks الذين ينتمون إلى فرقة المؤمنين القدماء Old Believers الذين اضطهدتهم كنيسة الدولة الروسية، قد وجدوا من التسامح في ممالك السلطان ما أنكره عليهم إخوانهم في المسيحية. وربما يحق لمقاريوس بطريق إنطاكية في القرن السابع عشر أن يهنئ نفسه حين رأي أعمال القسوة الفظيعة التي أوقعها البولنديون من الكاثوليك Catholic Poles على روسي الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية، قال مقاريوس: «إننا جميعا قد ذرفنا دمعًا غزيرًا على آلاف الشهداء الذين قتلوا في هذه الأعوام الأربعين أو الخمسين على يد أولئك الأشقياء الزنادقة أعداء الدين. وربما كان عدد القتلى سبعين ألفًا أو ثمانين ألفًا. فيا أيها الخونة! يا مردة الرجس! يأيتها القلوب المتحجرة! ماذا صنع الراهبات والنساء؟ وما ذنب هؤلاء الفتيات والصبية والأطفال الصغار حتى تقتلوهم؟ ولماذا أسميهم البولنديين الملعونين؟ لأنهم أظهروا أنفسهم أشد انحطاطًا وأكثر شراسة من عباد الأصنام المفسدين، وذلك بما أظهروه من قسوة في معاملة المسيحيين؛ وهم يظنون بذلك أنهم يمحون اسم الأرثوذكس. أدام الله بقاء دولة الترك خالدة إلى الأبد.»
فماذا لقي المسلمون في مثل ذلك الزمان؛ بل ماذا يلقون حتى الآن؟ إن الجرائم الوحشية ترتكب ضدهم في الحبشة جارتنا، وفي الملايو تحت الحكم الإنجليزي1 وفي روسيا ويوغوسلافيا وسائر البلاد الشيوعية التي يزعم المروجون لها هنا، والمستغفلون من إخواننا أن لا علاقة لها بالأديان، ولا عصبية فيها ضد الإسلام وفي الهند التي هددنا سفيرها في مصر، لأن سفيرنا بالباكستان قد نسبت إليه كلمة حق من كشمير. لا بل إن هذه الجرائم الوحشية لترتكب ضدهم في عقر دارهم، في الشمال الإفريقي على يد فرنسا، وفي جنوب السودان على يد إنجلترا، وفي كل مكان يضع فيه الاستعمار قدمه حتى الآن!
إن كل ما يذكرونه ضد حكم الإسلام هو أصداء لبعض المذابح الأرمنية على أيدي الترك المتأخرين. ولكن هذه المذابح لم تكن وليدة تعصب ديني، بل كانت ذات طابع سياسي. فهذه العناصر كانت شوكة تستخدم دائمًا لوخز الدولة العثمانية في إبان ضعفها، وتحركها روسيا أو أوربا لأسباب سياسية، ناشئة عن روح صليبية، على أن ما وقع للأرمن المسيحيين وقع مثليه للعرب المسلمين في سورية، في ظروف سياسية مشابهة. وقد قامت بهذه وتلك أرذل العناصر في الدولة العثمانية، تلك العناصر التي هي بطبيعتها شغوفة بالدماء والقسوة والإجرام؛ واستوى المسلمون وغير المسلمين في تلقي ويلاتها وآثامها في طول البلاد. وما كان هؤلاء فهمة للإسلام ولا لغير الإسلام!
إن الحكم حين يصير إلى الإسلام، سيسير على مبادئه السمحة الكريمة، التي لا يملك إنكارها أحد. ولن يتغير على الأقليات شيء في أوضاعها ولا حقوقها التي تتمتع بها الآن.
وعلى الذين يتحدثون في هذ الموضوع أن يذكروا أن الولايات المتحدة الأمريكية التسع والأربعين، ليس فيها حاكم كاثوليكي واحد، لمجرد أن الأغلبية هناك من البروتستانت. وكلاهما مسيحي، لا يختلف عن صاحبه إلا في المذهب.
وعليهم أن يذكروا أن اضطهاد المسلمين في الحبشة قد بلغ إلى حد استرقاق المدين المسلم الذي لا يوفي بدينه المسيحي. لمجرد أن الحكم للمسيحيين. ولو أن الأغلبية العددية هناك للمسلمين!
ما الذي يمكن أن يفتح به فمه إنسان عن حكم الإسلام من ناحية الأقليات؟ إن الحياء وحده يكفي، وإنني لأكره الحديث في هذا الموضوع، فكل حديث فيه هو نوع من التجني القبيح لا يليق!
- ↑ وأقرب الحوادث إلى الأذهان حادث الفتاة الهولاندية التي التقطتها سيدة مسلمة وهي طفلة شاردة فرعتها وربتها، فنشأت مسلمة وتزوجت من مسلم.. وإذا بالدولة الانجليزية تجند جيشها لرد هذه الفتاة إلى المسيحية، وضربه مسلمي سنغافورة بالمدافع الرشاشة! إنها تدل على التسامح الديني الكامل! التسامح الانجليزي والهولندي بطبيعة الحال!