محلى ابن حزم - المجلد الرابع/الصفحة السبعون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


كتاب فعل المريض مرضا يموت منه أو الموقوف للقتل أو الحامل أو المسافر في أموالهم

1772 - مسألة: قال أبو محمد : كل من ذكرنا فكل ما أنفذوا في أموالهم من هبة أو صدقة أو محاباة في بيع أو هدية أو إقرار : كان كل ذلك لوارث , أو لغير وارث , أو إقرار بوارث , أو عتق أو قضاء بعض غرائمه دون بعض كان عليهم دين أو لم يكن فكله نافذ من رءوس أموالهم , كما قدمنا في الأصحاء الآمنين المقيمين , ولا فرق في شيء أصلا , ووصاياهم كوصايا الأصحاء ، ولا فرق.

برهان ذلك : قول الله تعالى : {وافعلوا الخير} وحضه على الصدقة وإحلاله البيع

وقوله تعالى : {ولا تنسوا الفضل بينكم} ولم يخص عز وجل صحيحا من مريض , ولا حاملا من حائل , ولا آمنا من خائف , ولا مقيما من مسافر : وما كان ربك نسيا. ولو أراد الله تعالى تخصيص شيء من ذلك لبينه على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام فإذ لم يفعل فنحن نشهد بشهادة الله عز وجل الصادقة : إنه تعالى ما أراد قط تخصيص أحد ممن ذكرنا والحمد لله رب العالمين. وقد اختلف الناس في ذلك فروينا من طريق مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة أم المؤمنين : أن أبا بكر نحلها جاد عشرين وسقا من ماله بالغابة , فلما حضرته الوفاة قال لها : إني كنت نحلتك جاد عشرين وسقا من مالي بالغابة , فلو كنت جددتيه وحزتيه كان لك , وإنما هو اليوم مال الوارث , فاقتسموه على كتاب الله تعالى.

ومن طريق ابن أبي شيبة ، حدثنا وكيع عن هشام الدستوائي عن قتادة عن الحسن ، عن ابن مسعود فيمن أعتق عبدا في مرض موته ليس له مال غيره قال : يعتق ثلثه

وبه إلى ابن أبي شيبة ، حدثنا حفص عن حجاج ، هو ابن أرطاة عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال : أعتقت امرأة جارية ليس لها مال غيرها , فقال ابن مسعود : تسعى في ثمنها.

ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد الرحمن بن عبد الله عن القاسم بن عبد الرحمن قال : اشترى رجل جارية في مرضه فأعتقها عند موته , فجاء الذين باعوها يطلبون ثمنها , فلم يجدوا لها مالا , فرفعوا ذلك إلى ابن مسعود فقال لها : اسعي في ثمنك.

ومن طريق ابن أبي شيبة ، حدثنا حفص عن حجاج بن أرطاة عن قتادة عن الحسن قال : سئل علي عمن أعتق عبدا له عند موته وليس له مال غيره وعليه دين قال : يعتق ويسعى في القيمة.

وأما من بعدهم فصح عن قتادة أن من أعتق مملوكا له عند موته ليس له غيره , وعليه دين , فإنه حر ويسعى في ثمنه , فإن لم يكن عليه دين استسعى في ثلثي ثمنه وصح هذا أيضا عن إبراهيم. وصح عن عطاء بن أبي رباح , وعبيد الله بن أبي يزيد من أعتق عند موته ثلث عبد له أقيم في ثلثه وعتق كله. وصح عن الشعبي من أعتق ولد عبده عند موته نفذ واستسعى في ثلثي قيمته وصح عنه أيضا : من أعتق عبده عند موته , وليس له مال غيره , فإنه يقوم قيمة عدل , ثم يسعى في قيمته. وصح عن شريح فيمن أعتق مملوكا له عند موته , لا مال له غيره , أنه يعتق ثلثه , ويستسعي في ثلثي قيمته وعن الحسن أيضا مثل هذا وعن عطاء أيضا , وسليمان بن موسى.

وبه يقول أبو حنيفة , وسفيان الثوري , وابن شبرمة , وعثمان البتي , وسوار بن عبد الله , وعبيد الله بن الحسن وقول آخر : رويناه من طريق سعيد بن منصور ، حدثنا هشيم ، حدثنا يونس ، هو ابن عبيد عن الحسن , وإبراهيم والشعبي : إنهم كانوا يقولون : إذا لم يكن على المعتق دين أعتق الثلث واستسعى في الثلثين , فإن كان عليه دين أكثر من قيمة المملوك المعتق بيع , إلا أن يكون الدين أقل من قيمته بدرهم واحد فما سواه , فإذا كان كذلك وقعت السعاية. وقول ثالث : رويناه من طريق عبد الرزاق ، عن ابن جريج قال : أخبرني داود بن أبي عاصم قال : سمعت سعيد بن المسيب سئل عمن مات وليس له إلا غلام فأعتقه فقال سعيد : إنما له ثلثه ; فيقوم العبد قيمته , فيستسعى في الثلثين , فله من نفسه يوم ولهم يومان. وقول رابع : رويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني : كتب عمر بن عبد العزيز فيمن عليه دين , وليس له إلا عبد فأعتقه عند موته أنه يباع ويقضى الدين. وقول خامس : رويناه من طريق ابن وهب عن الليث بن سعيد عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال : أدركت مولى لسعيد بن بكر أعتق ثلث رقيق له نحو عشرين , فرفع أمرهم إلى أبان بن عثمان , فقسمهم أثلاثا , فأقرع بينهم فأعتق ثلثهم. وصح ، عن ابن جريج عتق ثلثهم بالقرعة والقيمة. وعن مكحول عتق ثلثهم بالقرعة بالعدد دون تقويم وسواء خرج في العتق أقلهم قيمة أو أكثرهم ينفذ عتقه. فهذه أقوال المتقدمين.

وأما المتأخرون : فقد ذكرنا قول أبي حنيفة أنه لا يرى القرعة أصلا , ولا الإرقاق , لكن يعتق الثلث بلا استسعاء , ويعتق الثلثان بالأستسعاء.

وقال مالك : إن أعتق في مرضه بتا أعتق الثلث بالقرعة والقيمة , ورق الثلثان , سواء أعتقهم في كلمة واحدة أو أعتقهم واحدا بعد واحد بأسمائهم

وقال الشافعي : من أعتق في مرضه الذي يموت منه عبيدا له بتلا وكانوا أكثر من ثلاثة فإن كان أعتقهم بأسمائهم واحدا واحدا : أعتق من سمى أولا فأولا , فإذا تم الثلث بالقيمة رق الباقون , وإن شرع العتق في واحد كان باقيه رقيقا وإن كان أعتقهم في كلمة واحدة قوموا , ثم أقرع بينهم فأعتق الثلث ورق الثلثان , كما ذكرنا أيضا فهذه أقوال في العتق في المرض.

وأما ما سوى العتق : فروينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن جابر الجعفي عن الشعبي في الرجل يبيع ويشتري وهو مريض قال : هو في الثلث وإن مكث عشر سنين. قال الشعبي : وكان يرى ما صنعت الحامل في حملها وصية من الثلث.

ومن طريق سعيد بن منصور أنا هشيم , وجرير , كلاهما عن المغيرة عن الشعبي , قال جرير في روايته : إذا أعطى الرجل العطية حين يضع رجله في الغرز للسفر فهو وصية من السفر , وقال هشيم في روايته : إذا وضع المسافر رجله في الغرز فما صنع في شيء فهو من الثلث.

ومن طريق عبد الرزاق ، عن ابن جريج قال لي عطاء : ما صنعت الحامل في حملها فهو وصية. قلت لعطاء : أرأي أم شيء سمعته قال : بل سمعناه.

وبه إلى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة , قال : ما صنعت الحامل في حملها فهو وصية , وقال معمر : وأخبرني من سمع عكرمة يقول مثل ذلك.

ومن طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه سمع القاسم بن محمد يقول : ما أعطت الحامل فثلثه لزوجها , أو لبعض من يرثها في غير الثلث , وذلك إذا لم تكن مريضة.

وبه إلى ابن وهب عن يونس ، عن ابن شهاب قال جابر : للحامل ما أعطت ما لم يخف عليها. قال يونس : وقال ربيعة : يجوز عطاؤها ما لم تثقل أو يحضرها نفاس. قال ابن وهب : وأخبرني رجال من أهل العلم عن سعيد بن المسيب , ويحيى بن سعيد الأنصاري , وابن حجيرة الخولاني مثل ذلك. وقال ابن وهب : وأخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، أنه قال في مسجون في قتل أو في جرح أو خرج إلى صف أو يعذب. أنه لا يجوز له من ماله إلا ما يجوز للموصي.

ومن طريق سعيد بن منصور عن محمد بن أبان عن النخعي قال : الحامل إذا ضربها الطلق فوصيتها يعني أن فعلها من الثلث.

وروي عن الحسن , ومكحول : أن فعل الحامل من رأس مالها. وعن سعيد بن المسيب ما أعطاه الغازي فمن الثلث. وقال مكحول : من رأس ماله ما لم تقع المسايفة. وعن الحسن في المحبوس : أن فعله من الثلث وقال في راكب البحر , ومن كان في بلد وقد وقع فيه الطاعون : إن عطيته من رأس ماله. وقال مكحول كذلك في راكب البحر ما لم يهج البحر. فهذه أقوال السلف المتقدم. أما في العتق فروي فيه ما ذكرنا عن علي , وابن مسعود وصح عن قتادة , وعطاء , وعبيد الله بن يزيد , والنخعي , والشعبي وشريح , والحسن , وعمر بن عبد العزيز , وأبان بن عثمان , وسعيد بن المسيب : أن عتق المريض من الثلث. ثم اختلفوا في الحكم في ذلك كما ذكرنا.

وأما غير العتق فكما ذكرنا في المسافر عن الشعبي. وفي الغازي عن سعيد بن المسيب وخالفهما إبراهيم , ومكحول ما لم تقع المسايفة. وفي المريض عن الشعبي , وفي الحامل عن عطاء , وذكر أنه سمعه. وعن قتادة , وعكرمة وخالفهم القاسم بن محمد , ومكحول , والزهري وقال النخعي : إذا ضربها الطلق

وروي عن سعيد بن المسيب , وابن حجيرة. وصح عن ربيعة ما لم تثقل , وفي المسجون عن الحسن والزهري وخالفهما إياس بن معاوية ,

وعن مكحول في راكب البحر إذا هال البحر.

وروي خلاف ذلك عن بعض السلف :

كما روينا من طريق حماد بن سلمة أنا يونس بن عبيد عن محمد بن سيرين : أن امرأة رأت في منامها فيما يرى النائم : أنها تموت إلى ثلاثة أيام فأقبلت على ما بقي عليها من القرآن فتعلمته , وشذبت مالها وهي صحيحة , فلما كان اليوم الثالث دخلت على جاراتها فجعلت تقول : يا فلانة استودعتك الله وأقرأ عليك السلام فجعلن يقلن لها : لا تموتين اليوم , لا تموتين إن شاء الله فماتت فسأل زوجها أبا موسى الأشعري فقال له أبو موسى : أي امرأة كانت امرأتك قال : ما أعلم أحدا أحرى أن يدخل الجنة منها إلا الشهيد , ولكنها فعلت ما فعلت وهي صحيحة فقال أبو موسى : هي كما تقول فعلت ما فعلت وهي صحيحة فلم يرده أبو موسى.

ومن طريق حماد بن سلمة عن أيوب السختياني , وعبيد الله بن عمير عن نافع , ويحيى بن سعيد الأنصاري : أن رجلا رأى فيما يرى النائم : أنه يموت إلى ثلاثة أيام , فطلق نساءه تطليقة تطليقة , وقسم ماله فقال له عمر بن الخطاب : أجاءك الشيطان في منامك فأخبرك أنك تموت إلى ثلاثة أيام , فطلقت نساءك وقسمت مالك رده ولو مت لرجمت قبرك كما يرجم قبر أبي رغال فرد ماله ونساءه , وقال له عمر : ما أراك تلبث إلا يسيرا قال : فمات في اليوم الثالث

ومن طريق ابن أبي شيبة ، حدثنا علي بن مسهر ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن مسروق : أنه سئل عمن أعتق عبدا لله في مرضه ليس له مال غيره قال مسروق : أجيزه , شيء جعله الله تعالى , لا أرده , وقال شريح : أجيز ثلثه واستسعيه في ثلثيه , قال الشعبي : قول مسروق أحب إلي في الفتيا , وقول شريح أحب إلي في القضاء.

ومن طريق عبد الرزاق عن معمر قال : كتب عمر بن عبد العزيز في الرجل يتصدق بماله كله قال إذا وضعه في حق فلا أحد أحق بماله منه , وإذا أعطى الورثة بعضهم دون بعض فليس له إلا الثلث.

ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري ، عن ابن أبي ليلى عن الحكم بن عتيبة طعن إبراهيم النخعي قال : إذا أبرأت المرأة زوجها في مرضها من صداقها فهو جائز , وقال سفيان : لا يجوز.

قال أبو محمد : فهذا أبو موسى الأشعري يجيز فعل من أيقن بالموت وهو في أشد حال من المريض هي أيضا ذات زوج غير راض بما فعلت في مالها كله. وهذا عمر بن الخطاب رد فعل من أيقن بالموت ولم يجز مثله لا ثلثا ، ولا غيره وهذا مسروق بأصح طريق ينفذ ما فعله المريض في ماله كله متقربا إلى الله عز وجل , ومال إليه الشعبي في الفتيا. وعن إبراهيم جواز فعل المريض من رأس ماله.

وأما المتأخرون : فإن أبا حنيفة قال : ليس للمريض أن يقضي غرماءه بعضهم دون بعض

وأما محاباته في البيع , وهبته , وصدقته , وعتقه كل ذلك من الثلث إلا أن المعتق يستسعى في ثلثي قيمته إن لم يحمله الثلث , قال : فإن أفاق من مرضه : جاز ذلك كله من رأس ماله قال :

وكذلك الحامل إذا ضربها وجع الطلق وما لم يضربها : فكالصحيح في جميع مالها , والواقف في الصف فكالصحيح في جميع ماله قتل أو عاش , قال : والذي يقدم للقتل في قصاص أو رجم في زنى كالمريض لا يجوز فعله إلا في الثلث قال : فإن اشترى ابنه وهو مريض فإن خرج من ثلثه عتق وورثه , وإن لم يخرج من ثلثه لم يرثه. وقال أبو يوسف , ، ومحمد بن الحسن : بل يرثه إلا أنه يسعى فيما يقع من قيمته للورثة فيأخذونه. وقالوا كلهم : إنما ذلك في المرض المخيف , كحمى الصالب , والبرسام , والبطن , ونحو ذلك

وأما الجذام , وحمى الربع , والسل , ومن يذهب ويجيء في مرضه فأفعاله كالصحيح.

وقال مالك : ليس للمريض أن يقضي بعض غرمائه دون بعض. قالوا : والحامل ما لم تتم ستة أشهر فكالصحيح , فإذا أتمتها , فأفعالها في مالها من الثلث

وهو قول الليث. قال : والمريض , والزاحف في القتال صدقتهما , ومحاباتهما في البيع وهبتهما , وعتقهما في الثلث وقال فيمن اشترى ابنه في مرضه وفي صفة المرض كقول أبي حنيفة سواء سواء.

محلى ابن حزم - المجلد الرابع/كتاب فعل المريض مرضا يموت منه
كتاب كتاب فعل المريض مرضا يموت منه (مسأله 1772) | كتاب كتاب فعل المريض مرضا يموت منه (تتمة مسأله 1772)