مجلة المقتبس/العدد 94/العلم في ألمانيا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 94/العلم في ألمانيا

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 11 - 1914



لم تحرز ألمانيا التفوق الباهر على الشعوب المتمدنة في فروع العلم والصناعة إلا بفضل انتظام جامعاتها وارتقاء كلياتها فهي تتجدد على مرور الزمان وتتطور بأطوار العصور وتراقب الاختراعات والاكتشافات في جامعات أوربا وأمريكا الكبرى فتناظرها وتنافسها فهي تبعث كل عام في العطلة المدرسية بوفود علمية مؤلفة من فحول العلماء والأساتذة ومعهم فريق من نوابغ التلامذة ونخبة أذكيائهم للطواف في عواصم العالم المتمدن والتفتيش عن نظامات دور العلم والصناعة والمجامع الأدبية والفلسفية والطبية والمحافل المالية والاقتصادية وذلك لاقتباس ما يناسب الروح الألمانية فتعود البعثة مزودة بأجد الأفكار وأحدث الأطوار وتطبق حينئذ العلم على العمل وعلى هذه الطريقة ترسخ أقدام التجدد في تلك الكليات التي أصبح لها ألفضل العظيم في تكوين الوحدة الألمانية، وتشييد أركان هذه الإمبراطورية الواسعة التي أرهبت العالم بقوتها وصوتها وامتداد سلطانها في قلب القارة الأوربية بعد أن كانت شعوباً متفرقة وإمارات متشتتة ومعرضة لإطماع ألفاتحين والغزاة من القياصرة والملوك. قال بسمارك في حديث له مع أحد المكاتبين الحربيين في حرب السبعين أن ألمانيا لم تنتصر على فرنسا في ميادين القتال والنزال إلا بفضل النظام ناشئتها ورجاحة عقول شبيبتها التي أدركت المنافع الوطنية من طريق المدرسة وعرفت أن حياة الافتراق والانشقاق لا تفرق كثيراً عن الموت الحقيقي والانقراض الطبيعي فليست مهارة القواد الألمانيين وكثرة الجيوش وقوة السلاح هي التي نصرت ألمانيا على عدوتها بل المدرسة الألمانية والعقل المدني هو الذي عقد ألوية النصر والفوز على رؤوس الألمانيين فالحروب الحديثة لا تأثير السلاح والكراع فيها وإنما العامل الوحيد للانتصار فيها هو العقل والتربية والنظام ونمو الروح الوطنية وفي الحقيقة أن ألمانيا لم تكن على جانب كبير من العلم والتمدين يوم اكتسحا نابليون وأخضعها لسياسته وجبروته فقد كانت حينئذ ميداناً للفتن وكان الخصام والنزاع والبغضاء سائدة مستحكمة في قلوب أمرائها وملوكها فلما أنشئت المدارس في أرجائها وشيدت الدارس في أمصارها وأقطارها وأشرقت شمس العلم والعرفان في البلاد أصبح من الخزي والعار أن يخضع الألمان لأجنبي فاتح فكان من آثار تلك النهضة العلمية نهضة سياسية أثمرت الوحدة الألمانية وأعقبها انقلاب عجيب في العلم والصناعة والتجارة والزراعة.

للجامعات الألمانية بما تكتشفه وتخترعه فيما ينفع الحضارة والعمان المقام الرفيع بين كليات العالم المدني ولها الامتياز على غيرها من الكليات باتباعها خطة بث الاستقلال ألفكري والاعتماد على النفس وحب العمل والتجرد إلى ما ينفع الوطن والعنصر وقد فضلها بعض العلماء الباحثين على جامعات ألفرنسيين والإنكليز والأمريكيين من هذه الوجهة، ومما أذاع شهرة الكليات الألمانية وجود دور المساعي والمباحث العلمية التي أنشئت كفروع لها يطبق فيها التلميذ النظريات على العمليات بعد نيله الشهادة بالامتحان ففي إحدى كليات ألمانيا نحو خمسين فرعاً لها من دور البحث والتنقيب في المسائل العلمية وهي تشمل على عدد كبير من المكتبات والمتاحف والمصانع لإجراء التجارب ألفنية في الطب والكيمياء والهندسة وعلم طبقات الأرض والفلك وغيرها من فروع العلم والصناعة التي توسع مادة الدماغ الألماني وتعده أهلاً للاكتشاف والاختراع.

في ألمانيا اليوم دور خطيرة للمباحث العلمية غير ما تقدم من المصانع الخاصة بالجامعات وهي أوسع نطاقاً وأعظم دائرة منها اتفق على تجهيزها بالأدوات العلمية وتوفير أسباب البحث والتنقيب فيها مئات الملاين من الماركات فكان لها النتائج الحسنة والفوائد الغزيرة في الحرب العامة فقد توفق العاملون فيها وهم من خيرة علماء الألمان إلى اختراع أشياء كثيرة أفادت السلاح الألماني في ميادين القتال فاكتشفوا مادة كيماوية أطلقوا عليها لفظ - بروغليسيرين - فاستعملوا مقام مادة - الغليسرين - الذي كانت تجلبه ألمانيا من الديار الأجنبية قبل الحرب فانقطع وروده بسبب احتشاء أساطيل الأعداء في البحار وقد أنتج هذا الاختراع أثراً حسناً في إظهار مقام المدينة الألمانية ولما استعمل الأعداء المواد الخانقة في مقاومة الجيش الألماني بعد أن أعيتهم الحيل والمكائد الحربية وفشلت خططهم واختلت نظاماتهم اخترع علماء الألمان الباحثون في تلك المعاهد والمصانع مادة كيماوية أبطلت تأثير الغازات الخانقة التي حرمت القوانين الدولية استعمالها رأفة بالعنصر الألماني والجامعة البشرية وعلى أثر امتداد الحرب نفدت بعض المواد الإبتدائية في ألمانيا فاكتشف الكيماويون وعلماء النبات مواداً ثابت منابها وقامت مقامها فلم يمد الألمان يد العوز والافتقار إلى غيرهم من الشعوب المتحايدة واستغنوا عن سواهم بعقولهم وأعمالهم.

من حسنات دور ألفنون الألمانية إجراء التدريس في دائرة الاستقلال والحرية لإنماء ألفكر وتربية العقل، فالأستاذ في الجامعة غير مضطر إلى توفيق محاضراته وخطبه مع مستوى عقل التلميذ واقتداره فهو قانع أن طلابه مستعدون لقبول ما يلقيه عليهم من الدروس العالية ومختلف الأفكار والآراء. أما التلميذ في الكلية فهو حر مستقل كأستاذه يطلب العلم الذي يراه لائقاً بنفسه ويصبو إلى الأستاذ الذي يعتقد فيه النفع والفائدة لعقله ويشتغل بدروسه على مقدار ما تميل إليه الروح والنفس وما يفوته من شوارد خطب أستاذه يستطيع أن يجده في مكتبات الكلية الغاصة بمئات الألوف من المجلدات في علوم مختلفة فإن أحط جامعة في ألمانيا لا تخلوا من مكتبة واسعة تسد حاجة التلميذ وتوسع مادة علومه ومعارفه.

أما التدريس في المدارس التالية وهي التي تعد الناشئة للدخول إلى الجامعات الكبرى - وتقابلها عندنا المدارس السلطانية - فهو جار على أصول المجانسة فالأستاذ فيها يراعي قاعدة مراقبة التلامذة وأطوارهم وطباعهم وقياس عقولهم واقتدارهم فهو يتفنن في تلقين الطلاب وحثهم على استماعها والمل بعقولهم إليها، والمراد بأصول المجانسة في المدارس الألمانية هو التزام الجد والاعتناء في إجراء الامتحانات سواء في قبول التلامذة الجدد أو في الامتحانات السنوية بحيث لا يستطيع أحد أن يجد فرقاً في العلم والعقل والاقتدار والكفاءة بين تلامذة صف من الصفوف بخلاف مدارسنا التي يجلس على مقاعد صفوفها الذكي ألفاضل إلى جانب الغبي الخامل وهو ناجم فينا عن مراعاة العواطف والالتماس في ألفحص السنوي مما أخل بنظام مدارسنا خللاً بليغاً وللمدارس التالية الألمانية عناية خاصة بأطوار التلامذة فهي تنتخب لهم مشاهير الأطباء في الأجسام والعقول لإجراء الكشف الطبي فالتلامذة المصابون بأمراض وعلل مختلفة والمبتلون بالخمول والجمود أوالحماقة وخفة العقل بطريق الوراثة لا تجوز لهم مخالطة غيرهم في المدرسة بل ينقلون إلى مدارس خاصة بهم تتوفر فيها أسباب معالجاتهم ومداواتهم مع إعطائهم قليلاً من العلوم والفنون على ما يناسب اقتدارهم وتكون غالباً تلك المدارس قائمة بين الغابات والأحراج أو على ضفاف الأنهار حول المروج وغيرها من المواقع الطبيعية.

ومما هو جدير بإطالة النظر وإمعان الفكر قلة المدارس الليلية في ألمانيا بالنسبة إلى ما في بلاد الشعوب الأوربية والأمريكية. فالألمانيون لا يقبلون عليها ولا يميلون إليها وهي تكون على الأغلب ملجأ للمنقطعين وأبناء السبيل وغيرهم من ألفقراء والمسغبين الذين يتعذر عليهم إعاشة نفوسهم مع الاختلاف إلى المدرسة وطلب العلم أما الأغنياء والمتوسطون وبعبارة أخرى كل من يستطيع أن يقوم بنفقة ابنه وقريبه في داره فهم يفضلون المدارس النهارية على الليلية، ومنشأ هذا الميل اعتنائهم بحياة العائلة وتربيتها فالوالد يرغب من صميم فؤاده أن يكون طفله قريباً من حياة أسرته مشاركاً لها في معائشها كي لا يطرق الخلل إلى تربيته وأخلاقه الموروثة عن آبائه وأجداده فهو يود أن يشرف دائماً على أطواره وعاداته وأخلاقه وتربيته ويرجح أن يمضي ولده سواد الليل في داره وبين أركان عائلته على أن يكون نائياً عنها في مدرسة ليلية.

ولا تقل مدارس الإناث في ألمانيا رقياً وانتظاماً عن مدارس الذكور وقد فاقت ألمانيا غيرها من أمم العالم المتمدن في هذا الشأن وبرزت عليها جميعها فالمأة الألمانية - حسب شهادة بعض العلماء - أعلى كعباً في العلم وأرقى أخلاقاً وأشرف نفساً من المرأة في فرنسا وانكلترا وأميركا وايطاليا والنمسا فهي خلقت لتربية أطفالها ومشاركة زوجها في أعماله وتخفيف كروبه وخطوبه ولها عناية كبرى في تدبير منزلها لا يسابقها أحد في هذا المضمار وهي أقل نفقة من النساء ألفرنساويات والأميركيات والإنكليزيات ولا تميل إلى البهرجة والفخفخة بل تقنع بالألبسة المتينة البسيطة وتجتهد في اجتناب ما ينافي أطوارها الاجتماعية ويمس تربيتها وأخلاقها، والفضل في ارتقاء المرأة الألمانية عائد بالطبع إلى انتظام مدارس الإناث وإحكام أصول التدريس فيها وهي تنقسم إلى ثلاثة فروع أو أقسام فالأول هو إعداد ألفتيات للدخول إلى الجامعات الكبرى والإحصاء في علم من العلوم كالطب والهندسة والفلسفة والتربية والتعليم والاجتماع والآداب والثاني هو اللحوق بدور المعلمات لتخريج معلمات من الجنس اللطيف أخصائيات في التربية والتعليم وإدارة المعاهد العلمية والثالث من أهم فروع مدارس الإناث هو المدارس الخاصة بالنساء الراغبات في علم تدبير المنزل وتأليف الأسر وإنشاء العائلات ويشترط على اللاحقات بهذا ألفرع أن يكنّ من حاملات شهادة البكلوريا وقد أصبح لهذه المدارس أثر خالد في ارتقاء الحياة الاجتماعية والانتظام السائد في المدارس الألمانية فهي تنشئ ألفتيات على أساليب علمية وأصول راقية بحيث تكون الخريجة منها صالحة لإدارة منزلها وتربية أطفالها ومعاشرة زوجها فالمرأة هي الحاكمة والأميرة المطلقة في دارها فإذا لم تكن عالمة بشؤون الاقتصاد وأصول التربية والأخلاق والمعاشرة تصبح وباءً على أسرتها وزوجها فشقاء الأمة بشقاء المرأة وسعادتها قائمة بتربيتها وتعليمها.

وبالإجمال فإن ألمانيا لم تهمل فرعاً من ألفروع العلمية سواء في التربية والعلم والخلاق والصناعة والتجارة والاقتصاد وجميع الماديات والمعنويات إلا وأدخلته إلى كلياتها ومدارسها التي لم تأل جهداً في إنماء الروح الوطنية في قلوب الناشئة إذ تنتخب لهذا الأمر الخطير أساليب بديعة وطرائق متنوعة بحيث يخرج التلميذ على جانب من العلم والفضل مع الوطنية الصحيحة والمبادئ العالية فيكون ألمانياً صادقاً بميوله وأفكاره وطبائعه لا يحب غير ألمانيا ولا يميل إلى غير وطنه وعنصره، ورجلاً مستقلاً بنفسه مستعداً لركوب الأخطار والمهالك في كسب الرزق وإنماء الثروة وهذا هو الذي رفع شأن ألمانيا بين الممالك والقوام فأصبح لها المقام الرفيع في عالم الحرب والسياسة والاقتصاد، وفي حياة الشعب الألماني وما تقلب عليه من حوادث العسر واليسر والتشتت والاجتماع والانحطاط والارتقاء عظات بليغة ودروس نافعة للأمم الخاملة والشعوب الجاهلة.

إبراهيم حلمي العمر