مجلة المقتبس/العدد 88/في ديار الغرب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 88/في ديار الغرب

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 5 - 1914



سويسرا الوطنية والجيش

قالت العرب احرص على الموت توهب لك الحياة وقال المتأخرون من أراد السلم فليكن أبداً على استعداد للحرب وهاتان القاعدتان جرت عليهما سويسرا فمن يظن أن هذه الأمة التي تعيش بمعزل عن الدول وليست لها سياسة خارجية واستقلالها مضمون باتفاق الدول العظمى تتمرن ليلها ونهارها على الأعمال الحربية وكلها مسلحة وكلها محاربة عند الاقتضاء وتستطيع عند أول صرخة أن تجهز 180 ألفاً من الجند الذين يحسنون الرماية كأحسن أهلها ويعلمون عما يدافعون ويأتون إلى أي مكان من حدودهم في سرعة البخار ثم يستطيعون أن يجهزوا 140 ألفاً من الدرجة الثانية ومثل هذا العدد في الدرجة الثالثة وتجهيزاتهم ليست على الورق بل عددهم وعددهم حقيقة لا شائبة فيها كأعمالهم.

قسم السويسريون الخدمة العسكرية إلى عدة أدوار حتى لا تثقل عليهم وينقطعوا بتاتاً عن أعمالهم وبيوتهم ويخففوا عن أمتهم نفقة إطعامهم وإيوائهم فبلاً من أن يقضي الشاب سنتين أو ثلاث سنين تحت السلاح كما هو عند معظم الأمم لا يبقون في الخدمة إلا أشهراً معدودة في السنة الأولى ولكن المرء يبقى جندياً من العشرين إلى الأربعين ويدعى لحمل السلاح والتعلم في مواعيد مختلفة قد لا تتجاوز إلا ربع السنين وتكون عنده بندقيته يتعلم فيها في بيته وحقله ولا يستعملها إلا لهذا الغرض والولد منذ المدرسة الابتدائية إلى المدرسة العليا إلى الكلية يتعلم التعليم العسكري وهو تحت ملاحظة الضباط الذين يأتون أحياناً للتحقيق عن أمره والإشراف على رمايته وفحص سلاحه الذي تعطيه إياه الحكومة ومن خالف ذلك يعاقب بأشد العقوبات وهيهات أن تجد مخالفاً.

سويسرا الحديثة ليست محاربة ولا تثير بينها وبين جاراتها أسباب النزاع لأن قلة عددها بين أمم كبرى لا يجعل الحرب من مصلحتها ولذلك فاستعداد السويسري للطوارئ وتمرينه على الحرب ووطنيته المشتعلة وفكره الشعبي ليست إلى عداء وحب فتح بل للدفاع عن كيانه فسويسرا كل سنة تعطي منحة لمكتب السلام في برن ولكنها باليد الأخرى تبتاع السلاح الجديد وتجهز جيشها بكل ما تقدر عليه من القوة وتزيد في ميزانيتها البرية سنة عن سنة لم يمنعها الحياد أن تعمد على الطرق العملية كسائر أعمالها في فروع الحياة لأن أرضها لا تحمى إلا إذا كانت على حال الدفاع بحيث يحترمها جيرانها وب1لك تحفظ استقلالها لا بمجرد العهود التي تدار بالأرجل عند ثوران الغضب وهيجان النفوس للفتح وجر المغانم.

سويسرا لا تريد أن تكون طعمة سهلة لكل آكل ولا تخاف في الأغلب أن تداهمها فرنسا من الغرب والنمسا من الشرق بل تحاذر في الأكثر من الشمال تخاف عادية ألمانيا وأن تضمها هذه ذات يوم بالقوة إلى أرضها كما فعلت بمقاطعة شلشويق هولستاين وهانوفر وهيس وفرانكفورت والألزاس واللورين وأخوف ما تخاف من عادية إيطاليا من الجنوب ولذلك تقيم على الشمال معظم جيشها وعلى الجنوب المعاقل المدهشة ومنها معقل غوتار والسمبلون فإن كان السويسريون يحمون بلادهم ويفادون بالرجال والمال للذب عن حياضها فذلك لأنهم يحبونها حباً يمازج أجزاء نفوسهم ولا شيء أحسن وأضمن للتعلق بالوطن من الاستقلال وحكم المرء نفسه بنفسه.

قال أحدهم إن سويسرا ليست من البلاد التي تبقى لضرورة في بقائها كإنكلترا وإسبانيا بل إنها لم تبقى إلا لأن السويسريون يريدون بقائها نعم إن الإرادة وحب الحريات السياسية من القوى ولكنها ليست كلها جماع القوى فإن سويسرا لم تتألف عرضاً ولإرادة المتعاقدين المتحدين من أبنائها بل إنها اجتمعت لاتفاقها في العواطف والروح وبما لها من التقاليد المتماثلة والماضي والمجد الذي يتجسم كل حين باسمغليوم تل بطلها القديم.

وغليوم تل هو أحد رجال الثورة الذين أنقذوا سويسرا منربقة النمسا سنة 1307م وذلك أن عامل الإمبراطور النمساوي كان علق قبعة الدوج على رأس خشبة في الساحة العامة في التورف وأراد أن يذل السويسريون بأن يسلموا على القبعة كلما مروا بها فأبى أن يخضع غليوم تل لهذه المذلة فاستدعاه الوالي النمساوي ولما عرف أنه من الرماة الماهرين بالقوس والنشاب حكم عليه جزاء إبائه أن يضرب سهماً على تفاحة وضعها الوالي على رأس أبن غليوم تل فلم يسع هذا إلا أن ألقى سهمه فأصاب التفاحة ولم يصب ابنه بسوء ولما سأله الوالي لماذا أعد سهمين فقال له الواحد للتفاحة والآخر لك وعندها نادى بالثارات سويسرا وكان بذلك خلاص البلاد من حكم النمساويين في أوقات مختلفة كان يكتب فيها النصر للسويسريون لأنهم مدافعون لا مهاجمون.

غليوم تل نصبت له التماثيل الكثيرة اليوم في بلاد سويسرا فهو مثل غاريبالدي في إيطاليا أحيا أمته بشجاعته ومن أجل هذا التاريخ المعنعن بالواقع لا ترى السويسريين سواء ممن كانوا يتكلمون الألمانية وهم الأكثرية أو الإفرنسية أو الإيطالية أو الرومانشية تحدثهم نفوسهم أن ينضموا إلى أبناء جنسهم بل إنك ترى السويسري وأبناءه وأحفاده وأحفاد أحفاده تغربوا في إيطاليا وألمانيا والنمسا وفرنسا قرناً وأكثر ولا يزالون محافظين على تابعيتهم وقد عرض مرة على أحد علمائهم إدوار وود وكان باريزياً في موطنه فقط وسويسرياً بجنسيته أن يتجنس بالجنسية الفرنسوية لينتخب عضواً في المجمع العلمي مجمع الأربعين المخلدين فقالف والسذاجة طافحة من كلامه إنني أحب فرنسا وأسكن باريز ولكنني سويسري مات والدي ووالدتي في سويسرا وأنا لا أكون في المجمع العلمي. . هذه هي الوطنية السويسرية متأصلة في شغاف القلوب ولكنها ساذجة لا تتعمد الصياح ولا التظاهر ولا تجد داعياً للتبجح بها كل حين.

وطنية السويسريين في صدورهم مكتومة لها أعياد وحفلات ومصانع وتذكارات تذكرهم الساعة بعد الساعة بما بذل أجدادهم من إهراق دمائهم في دفاعهم عن وطنهم وما يجب عليهم أن يقوموا به ليحفظوا هذا التراث الجميل النادر دع ما ينشره علماؤهم وأدباؤهم من المصنفات الممتعة التي كلها ترمي إلى تحبيب وطنهم إليهم وتلقن أبناءهم منذ نعومة أظفارهم التعليم الوطني في المدارس وتلامذة مدارسهم يتغنون في كل شارقة وبارقة بالقصائد الحماسية الوطنية التي نظمها الشاعر السويسري جوست أليفيه ويتلون الفترة بعد الفترة ما وصف الشاعر الكاتب أوجين رامبرت طبيعة سويسرا وجبالها وأوديتها وبحيراتها فيزيد هيامهم بأرضهم.

السويسريون لا يقنعون أن يحبوا بلادهم حباً مجرداً بل يزورونها بعناية واهتمام وعدد من يرحل منهم صيفاً وشتاءً 22 % في المئة من مجموع السياح القادمين إلى سويسرا ينتقلون في جبالها وأوديتها وترى العامي منهم إذا اجتاز أرضاً لم يعرفها بعد يقف في القطار مأخوذاً بما يمر به منا الأصقاع بحيث لا يفوته منها جميل وإذا ذهبت إلى القرى أتاك بعض من أهلها بدون طلب منك وحدثوك عما تجب زيارته من المحال البديعة في جوارهم فالسويسريون معجبون ببلادهم وحق لهم العجب وربما كانوا أكثر الأمم المجاورة في طربهم بما خصت به جبال الألب من المحاسن التي تخلب الألباب.

اشتهر السويسريون منذ عهد غليوم تل أنهم في مقدمة الرماة في أوروبا لأن بلادهم تستلزم ذلك ولا تكون حربها بالنظر إلى جبالها إلا مناوشة وكميناً فترى في كل قرية جمعية للرمي وتقام له الأعياد وكل سويسري في سن العسكرية فلاحاً كان أو ساكن المدينة يصرف مع رفقته يوم الأحد ساعات طويلة في التدرب على الرماية وفي كل بيت بندقية أو عدة بنادق لشبان سويسرا يعدونها ليدفعوا بها عن أنفسهم وبلادهم كأنهم لا يزالون في عهد الإقطاعات يكلف فيها كل واحد بحماية نفسه وأسرته ولكن هذا شأن الأمة المسلحة بسلاحين سلاح القوة المادية وسلاح القوة المعنوية العلمية التي لم تكن في القرون الوسطى.

ضباطهم يخرجون من الجيش مباشرة ثم يتعلمون التعليم الحربي وأكثره عملي في الغالب وهم في الأكثر من أبناء الفلاحين يعاشرون الأفراد ويواكلونهم وطعام الجنود من أحسن ما يعهد لهم مطابخ تنتقل معهم في المناورات فتراهم في كل وقت يتناولون الطعام الصحي الفاخر الذي لا يوجد إلا في المدن وفي حال التوطن والرفاهية وجنديهم يقبض كل يوم 80 سنتيماً في المشاة وفرنكاً في الفرسان وهو أحسن راتب يقبضه جندي في جميع أمم أوروبا لأن هذه عجزت عن إطعامهم وإلباسهم لكثرتهم بدون فائدة دع إدرار النفقة عليهم ولا يبتعد عن أهله من الجند إلا من دخل في جيش الفرسان فالسويسري سعيد في كل حال من أحواله مرتب في حله وترحاله ممتع باستقلاله ناهض في عامة أعماله ولذلك لا تراه يشكو شيئاً على نحو ما يشكو ابن البلاد الراقية الأخرى الذي يرزح تحت أثقال المغارم والمظالم لينفق على بحريته وبريته قال لي كثيرون نحن سعداء في بلادنا فكنت أقول لهم بارك الله بسعادتكم التي أحرزتموها بجدكم ورزق شرقنا المسكين بعض ما أنتم فيه إنه كريم جواد.

سويسرا المذاهب والقوميات واللغات

الدين واللسان من جملة المظاهر المهمة التي تدل على روح شعب وقد كان لهما في الأرض السويسرية بفضل التسامح والاتحاد ومراعاة حرية الغير مشاكل في الماضي ولكنها اليوم قد انحلت صعوباتها وتعبدت عقباتها وكان الدين ثم اللسان شعار الوطن الأصغر ثم امتزج أهل كل دين وأهل كل لسان امتزاجاً في البلاد فلم ينشأ في سويسرا مشاكل تذكر كما نشأ في بعض البلاد التي تنازعتها البرتستانتية والكاثوليكية أو الأرثوذكسية والإسرائيلية أو مذهب أهل السنة والشيعة في الإسلام.

المذهبان السائدان في سويسرا هما البرتستانتية والكاثوليكية ولما انتشر المذهب البروتستانتي في القرنين السادس عشر والسابع عشر على يد دعاة من أبناء البلاد أخذت كل مقاطعة تجعل مذهباً رسمياً وإجبارياً وتدعو إليه في أرضها وتحتم على الأهلين حضور الصلاة به وإن كان لا ينتحل هذا المذهب وهو شيء من الشدة نشأ للسويسريين بانتشار المذهب البرتستانتي ثم أخذت المدنية تعدل من شدته والبروتستانت أكثر عدداً من الكاثوليك بقليل.

قال دوزا إذا كان الدين يؤثر احياناً أثراً ظاهراً في روح أمة فإن الشعب يكيف الدين على صورته مع توالي الأيام والأمر الثاني ظاهر في سويسرا وإن لم تكن تخلو من الأول ولا جدال بأن المقاطعات الكاثوليكية بمجموعها أكثر انحطاطاً من المقاطعات البروتستانتية والأنحاء الأقل نظافة هي كاثوليكية أيضاً والمقاطعات الكاثوليكية هي التي احتفظت بالأكثر بلهجاتها وإن فكر حرية البحث الذي دعت إليه البروتستانتية قد أثمر وأينع فإن التعليم العام في البلاد البرتستانتية أكثر انتشاراً مما هو في غيرها وأفكار التسامح مقبولة فيها بسرعة ورجال المذهب البروتستانتي قلما يعنون بالسياسة وليست هذه الفروق مهمة فإن تأثير عقل الأمة في المذهبين هو أشد ظهوراً.

السويسري متدين حق التدين ولكن دينه في قلبه وهو لا يحفل على الجملة بالظواهر ولذلك ناسبت البروتستانتية مزاجه وللقيام بالفروض الدينية منزلة من حياة السويسري المنظمة كما للأعمال الدنيوية كذلك فتراه يذهب صباح الأحد إلى الكنيسة كما يذهب في المساء إلى القهوة بكل رزانة وتماسك أو كما يذهب إلى عمله خلال أيام الأسبوع والرجال والنساء يحضرون في القرى والمدن في البيع لسماع القداديس أو المواعظ وربما كان النساء أكثر عدداً في الكنائس الكاثوليكية كما لحظت من الحضور في بعض الكنائس لوزان الكبرى ولكن الكنيسة البروتستانتية مع هذا تغص بالمستمعين والعابدين الراكعين وكلهم يستمعون باحترام لما يلقى عليهم من المواعظ.

ذكرت الفروض الواجبة نحو الخالق في جميع البرامج المدرسية ومعظم المدارس تقيم الصلوات وليس لرجال المذهب البروتستانتي في سويسرا ارتباط بسلطة خارجية وكذلك أهل المذهب الكاثوليكي ليس لهم أساقفة ورؤساء عظام بل إن كل واحد مرتبط بالمقام البابوي ارتباطاً خفيفاً لا يشبه ارتباط سائر البلاد الكاثوليكية في أوربا وآسيا وأميركا وأفريقية مثلاً فالسويسريون غلاة في حب الاستقلال في كل شيء حتى أن رهبانهم وقساوستهم يلبسون لباساً يخالف ألبسة غيرهم في الأمم الأخرى ونرى الكل متشابهين متقاربين مما يذكر أن سويسرا كانت في القرون الوسطى مهد التسامح وإن وقع لها في القرن التاسع عشر أن نشبت فيها حرب دينية من أجل القانون الذي وافقت عليه الأكثرية بنفي الرهبنات من سويسرا في حين لم تنشب في أوربا حرب دينية في ذاك القرن ومع ذلك تجد جنيف ببرتستانيتها وفيبورغ كذلك في تمسكها بكثلكتها كأنهما رومية بكاثوليكيتها ولم تمض على هذه الحرب خمس وعشرون سنة بفضل تلقين المدارس فكر التسامح حتى أصبحت سويسرا أكثر بلاد أوربا تعلقاً بحرية الوجدان والعبادة على صورة منظمة حرة لا مثيل لها.

اعتبرت سويسرا حتى اليوم الكنيسة إدارة من إدارات الحكومة هذا مع أن الحياة الدينية فيها مادة من مواد الحياة العامة فجعل الأديان تحت سلطة الحكومة مثل المصارف والسكك الحديدية ولكل مقاطعة قانونها الأكليركي الذي تنظر فيه السلطة التشريعية وتقر عليه أو تعدل منه مطلقة الحرية تحت بعض شروط يقتضيها الدستور السويسري من مثل حرية الوجدان وحرية التدين وغير ذلك ورؤساء الدين بحسب المقاطعة بروتستانتاً كانوا أم كاثوليكاً تدفع لهم الحكومة رواتب تستوفيها من أهل هذه المذاهب وللحكومة حق التدخل في مسائل العبادة والطقوس وإذا أرادت فيكون القول الفصل في بعض المسائل لمجلس الأمة وتدخل الكنيسة البروتستانتية في أعمال الحكومة غير محسوس في سويسرا الألمانية البروتستانتية مثل ما هو في سويسرا الكاثوليكية الفرنسوية وغيرها.

وبعد حرب سوند بربوند اتهم اليسوعيون بأنهم أوقدوا الفتنة الدينية في البلاد السويسرية فطردوا منها وقد حظر عليهم دستور سنة 1748 الدخول إلى سويسرا بيد أنهم دخلوا في الحقيقة على فريبورغ بعد عشر سنين ومدرسة اللاهوت في هذ المدينة يديرها الدومنيكيون في الظاهر ولكنها بيد اليسوعيين في الواقع ولاهوتها هو اللاهوت اليسوعي دع من هناك من الرهبان الذين طردوا من فرنسا وجاؤوا فريبورغ وغيرها من بلاد الكثلكة السويسرية يعلمون ويعظون ولمعظم الكليات السويسرية صفة دينية ظاهرة عليها فإذا كانت كلية فريبورغ كاثوليكية محضة فكلية لوزان وكلية جنيف برتستانتيتان.

هذا إجمال ما يقال في المذاهب في هذه البلاد أما القوميات أو الجنسيات أو العناصر المتألفة منها فإن نصف سويسرا روماني أو لاتيني والنصف الآخر جرماني وربما كان العراك بين هذين العنصرين على صورة لم يعرف بها في بلد آخر في أوربا منذ أوائل القرون الوسطى واختلط العنصر اللاتيني بالجرماني وعلى العكس اختلاطاً كبيراً ومن السويسريين الفرنسويين من تألمنوا أي أصبحوا ألماناً بلسانهم على طول الزمن ومن الألمانيين من تفرنسوا ويكاد لا يتجاوز اللاتينيون أي الفرنسيس والطليان والرومانش في سويسرا مليوناً ومائتي ألف وبقية الأربعة ملايين هم ألمان عاشوا حتى اليوم بحرية تامة في استعمال ألسنتهم بفضل استقلال المقاطعات وعدم المركزية وربما كان الألمان أكثر توسعاً في البلاد وهم الرابحون في التبسط في ربوعها على الزمن حتى أصبح اللسان الفرنساوي خاصاً بغرب البلاد والرومانشي بشرقها والإيطالي بجنوبها والألماني بشمالها ويقدرون عدد الألمان المهاجرين إلى المقاطعات الفرنساوية بمئة ألف وعدد الفرنسيس المهاجرين إلى المقاطعات الألمانية بخمسين ألفاً.

ولم تعترف الحكومة رسمياً بلغة الرومانش كما اعتبرت الألمانية والإفرنسية والإيطالية وكتبت معظم الأوراق الرسمية بهذه اللغات الثلاث وذلك لأن المتكلمين بها قلائل ولأنها أشبه بلهجة خاصة لا أدبيات لها وأهلها يتزوجون بالألمان ويختلطون بهم وكل سنة يخف عدد المتكلمين بلسانهم وربما كان الرومانشيون مثال مملكة أضاعت لغتها على التدريج بدون أن تضيع استقلالها أضاعت لغتها واندمجت في غيرها على خلاف الطليان وعددهم في سويسرا اللاتينية زهاء 230 ألفاً فإنهم احتفظوا بعنصريتهم لأنهم احتفظوا بلغتهم واحتفظوا بلغتهم لأن لها آداباً خلافاً للرومانشية.

ومسألة الألسن غريبة في سويسرا لا تؤثر في الأمور الإدارية لأن حقوق الأقلية مصونة كحقوق الأكثرية ومن أعجب الأمور أن اللسان في سويسرا وإن كان من مواد الوطنية المحلية فليس شارة من شارات الوطنية الجامعة واختلاف الألسن ليس من العوائق في إدماج السويسريين في قالب الأخلاق وليس في اللسان أدنى مادة من مواد الانفصال فالسويسري الفرنساوي في مقاطعتي ألفو ونوشاتل لا يريد ان يصبح فرنسياً بتابعيته وكذلك السويسري الإيطالي لا يحب بوجه من الوجوه أن ينضم إل ى إيطاليا ومثله ألماني مقاطعات شافوز وتوركوفي وسان غال لا يريد أن ينضم إلى ألمانيا.

ولولا أحوال نادرة لصح أن يقال أن سويسرا في جميع أدوار التاريخ قد نالت أعظم الحرية في استعمال اللغات في جميع الأعمال الخاصة والعامة أما اليوم فإن الحرية موجودة مبدئياً ولكن احترام حقوق الأكثرية والأقلية على أسلوب معقول تحت نظارة جمعيات تتولى النظر في مسائل اللغات المحلية وانتشارها وتدافع عن حقوق الأكثرية ولا تغمط حقوق الأقلية في كل بلد يسبق غيره في عدد المتكلمين بلغة دون أخرى وكانت كتابة جميع الرسميات والعموميات بعدة لغات في القديم للإفهام والتفهيم أما اليوم فإنه يراعى بما يكتب حق السواد الأعظم.

اللغة الرسمية في كل ناحية هي لغة أكثرية السكان وبهذه اللغة تكتب مداولات المجالس البلدية والأعمال الإدارية التي تعلق ليقرأها الجمهور وبها تكتب أسماء الشوارع والمصانع ويدرس في المدارس ويلقى الوعظ أو القداس في الكنائس ومن النواحي من اختارت برضاها التساهل مع أهل اللغة الأخرى في بعض هذه المسائل كأن تترك مقاطعة المدينة اللغة الإفرنسية تجعل لسان التدريس فس مدرستها أو أن سكان مقاطعة رومانشية يقدس لهم بالألمانية وللمنتخبين في المقاطعات المختلفة أن يتكلموا بإحدى اللغتين كما يشاؤن في جميع المداولات وتكتب الإعلانات وغيرها باللغتين وإذا بلغت الأقلية العدد الكافي تكون لها مدرسة بلغتها وكنيسة تعظ وتقدس بلسانها وفي الكتابات الخاصة وعناوين الدكاكين تركت للناس حريتهم وما يسري على الناحية يسري على المديرية حذو القذة بالقذة أي تكون اللغة الرسمية لغة الأكثرية والأقلية لا تحرم من حق التفاهم.

ويطلب إلى الموظفين في جميع المقاطعات المختلفة معرفة لغتين وتكثر فيها الإعلانات وأسماء الأماكن باللغتين ويقبل استعمال اللغتين في المجالس وعمال السكك الحديدية يبدأون في كل مقاطعة بلغة البلاد في مخاطبة الركاب ثم يثنون ويثلثون إذا اقتضى الحال بغيرها وجميع القطارات تكتب عليها اللغات الثلاث إلا الإيطالية فإنها تنقص من بعض القطارات التي تمر قليلاً في البلاد الإيطالية والسويسرية وللغتين الألمانية والإفرنسية المساواة التامة تكتب جميع أسماء المحطات وغيرها بهما ويجعل التقدم للغة البلدة الشائعة.

وفي سويسرا سبع كليات منها ما يدرس بالألمانية ومنها بالإفرنسية وفي بعضها دروس مختلفة باللغتين فكلية بال التي أنشئت سنة 1460 تدرس بالألمانية وكذلك كلية زوريخ التي أنشئت 1833 وكلية برن التي أنشئت سنة 1834 أما كلية جنيف التي أسست سنة 1873 وكلية لوزان المؤسسة سنة 1890 وكلية نوشاتل التي تمت سنة1909 وكلية فريبورغ التي قامت سنة 1889 فإنها تدرس بالإفرنسية وفي كلية فريبورغ عدة دروس مختلطة بين اللغتين.

أعضاء مجلس الاتحاد السويسري سبعة ومنهم رئيس الجمهورية خمسة منهم ألمان واثنان فرنسويان وقراراتهم تكتب باللغتين وفي سويسرا ثمانية فيالق اثنان فرنسويان وخمسة ألمان وواحد إيطالي ورومانشي ولغة التعليم في الفيلق الأخير الألمانية والإدارات الخاصة تتبع هذه القاعدة لإرضاء قرائها من ذلك أن نقابة أصحاب الفنادق في سويسرا الألمانية لم ترض أن تغير أسماء قوائم الطعام من الإفرنسية إلى الألمانية لأن معظم الداخلين إلى البلاد يفهمون الإفرنسية أكثر من الألمانية حتى أن الألمان أنفسهم يفضلون أن يرووا أسماء الألوان بالإفرنسية لاعتقادهم بأن المطبخ الفرنساوي هو خير المطابخ وألوانهم أجمل المآكل وكذلك ترى أصحاب الفنادق يصدرون جريدتهم باللغتين كل ذلك يدل على جوهر أخلاق السويسريين وإن المحافظة على حق أو على حرية ينبغي أن يكون على قدم المساواة.

سويسرا بابل اللغات لأن فيها على صغرها منهن أربعاً وفي النمسا سبع وفي العثمانية سبع أمهات الآن ماعدا اللهجات ولكن سويسرا والنمسا حلتا هذه المسألة الحل المعقول العادل فهل نوفق نحن إلى حلها كذلك والعرب هم السواد الأعظم وقد أمرنا باتباع الأكثرية وللغتهم ميزات ليست لغيرها والأمم الدستورية تراعى فيها قبل كل شيء حقوق الأكثرية.

سويسرا كيف تجلب الغريب

كانت بعض البقاع في سويسرا منذ نحو ثلاثين سنة من أفقر بلاد أوربا فبفضل ما أنشئ فيها من الفنادق وبذل من المساعي لاستجلاب رضى السياح والمصطافين والمشتين اغتنت تلك الأصقاع وأصبحت سويسرا وجل اعتمادها على القادمين إليها من أقطار الأرض حتى لقبوها فندق أوربا ولكن هذا اللقب وهذه الثروة التي يبذرها فيها الأجانب لم تحصلها عن عبث فإن علم جلب الغرباء وإمساكهم وحملهم على العودة ثانية بكمية أوفر قد أصبح في سويسرا علماً حقيقياً له أساليبه وقوانينه وإحصاآته وجرائده ومنشوراته المنوعة الظريفة وكلها متناسقة متساوقة كآلة الساعة وقد علمت السويسريين التجارب أن السائح يستمال بست قواعد من أحسن استخدامها اغتنى وأفاد واستفاد.

القاعدة الأولى: أن يزرع المرء كثيراً ليحصد أكثر فقد جعل السويسريون لنشر الإعلانات بالكلام والصور المقام الأول ما عدا إعلانات المحطات والمنشورات المصورة وغيرها من المقالات التي تدفع عليها الأجور الباهظة أحياناًُ في صحف سويسرا وغيرها والمقصود منها الإعلان وكل إدارة وكل نقابة توزع منشوراتها مجاناً وكثيراً ما تكون كبيرة الحجم يحتاج طبعها لمال كثير وعناية تامة من استجادة الورق والصور والجلود وفيها من كل شيء أطيبه بحيث تستدعي النظر إليها ولو بعد مدة وتنفق على ذلك كله نفقات هائلة ولكن الثمرات التي تعود منها قد قدرت بثلاثة أضعاف أو أربعة.

القاعدة الثانية: جميع تراكيب هذه الآلة متضامنة ولا تنافس بينها وهذه قاعدة اقتصادية مهمة وهو أن كل صاحب فندق لا تحدثه نفسه أن يحتكر جميع السياح بل يهتم لإنجاح المدينة أولاً ثم الناحية وأرباضها أو النجاح العام وهذا لا يتم إلا بالتضامن بين أبناء هذه الحرفة فيشترك مثلاً جميع أرباب الفنادق في بقعة ليعملوا عملاً يسر جمهور النازلين في فنادقهم وإنزالهم ويجلبوا السرور والراحة لهم على السواء ومثل ذلك التضامن نراه على أتمه أيضاً بين الإدارات والشركات المختلفة لا تحاسد بينها ولا تعاير في المصلحة قد ألف معظم أرباب الفنادق نقابات لهم فتألفوا مديرية أولاً ثم تألفت المديريات كلها نقابة واحدة آخراً فأصبحت فنادق سويسرا كالبنيان المرصوص ومثل ذلك أصبحت بعض القهاوي ومحال السماع ومحال إعطاء التعليمات وشركات التضامن نقابة خاصة يأتون كل ذلك على شرط أن يرضى السائح ويرتاح.

القاعدة الثالثة: أن تراعى حال جميع الطبقات بحيث يرضى كل سائح بالمعاملة التي يراها وذلك لأن سويسرا أدركت أن الرحلات اليوم قد أصبحت ديمقراطية أيضاً وإن المتوسط غناهم هم أكثر من الأغنياء أرباب اليسار بل هم أخلص وأشرف وعلموا بالإحصاء أن واحداًً فقط في المائة من السياح الذين يصطافون أو يشتون في بلادهم يركب في الدرجة الأولى في السكك الحديدية و85 في الدرجة الثالثة ولركاب هذه الدرجة ميزانية مقررة إذا فصدوا كثيراً في مادياتهم لا يعاودون رؤية تلك البلاد وفي سويسرا فنادق وإنزال على اختلاف أذواق الناس واقتدارهم فمن أراد الرفاهية يدفع ثمنها في قصور هي أحسن من قصور الملوك ومن أحب التوسط كان له ما أراد وكذلك من أحب أقل من التوسط وإني لم أسمع بأن إنساناً يمكن في أوربا أن يأكل ويشرب وينام بفرنكين وهذا ما أعلن عنه مؤخراً إحدى البيوت التي تنزل الأضياف عليها في لوزان

القاعدة الرابعة: النظر أبداً إلى راحة السائح وإظهار العناية بأمره فقد عني السويسريون أن يسهلوا جميع مصاعب السفر على المسافر فيرى هذا أهم اللغات الأوربية الرئيسية يتكلم بها في المحطات والفنادق والمخازن الخ والبريد من أسهل ما يمكن وفي زهاء 107 مدينة وبلد من سويسرا مكاتب للاستعلامات للغريب والقريب يسأل الإنسان فيها عما يشاء مجاناً وقد نظمت بمعرفة الشركات المحلية ولا عمل لعمال هذه المكاتب إلا أن يجيبوا الناس عما يسألون من الصباح وإلى المساء والشعب يبدي العطف على الغريب والعناية بأمره فالسويسريون إذا لم يكونوا في رقة الطليان بالاحتفال بالغريب والأخذ بيده فيما لا يعلم ومرافقته مئات من الأمتار أحياناً لدلالته على طريق أو غيره فهم وسط في ذلك فإن الواحد منهم يشرح لك محل مقصدك بأوضح عبارة ممكنة وإذا شكرته لا يرى أنه يستحق الشكر.

القاعدة الخامسة: أن يعرض كل شيء أمام السائح من دوت أن يعجز بمطالب مبرمة وذلك أن تصل إلى المحطة فلا تجد حمالاً بل أنت تصرخ حمال فيجيبك ولا تجد عاملاً من عمال الفنادق بل تجد لوحة موضوعة في مخرج المحطة فيها أسماء الفنادق في البلدة على اختلاف درجاتها ولا تجد حوذياً يريد أن يركبك في مركبته ولا سائقاً يريد أن يستاقك في سيارته بل أنت إذا طلبت واحداً منهم أتاك سريعاً بأدب أما وجود الشحاذين الذين يطلبون صدقة كما تشاهد في إيطاليا فهذا لا أثر له لأن الشحاذة ممنوعة هنا أكثر من فرنسا ولا تجد أحداً يتعرض لك لابتياع شيء منه وتحسين بضاعته بل تراها على اختلاف أنواعها معروضة في الزجاج وقد كتبت عليها أسعارها وهذه أخصر طريقة وأشرفها في قاعدة العرض والطلب وهكذا بائع المرطبات والمشروبات يكتب عليها أسعارها ويجلس في المحطات بحيث تراه ولا يسألك شيئاً. القاعدة السادسة: إرضاء جميع الأذواق والحاجات حتى الغريب منها واجتناب ما يكدر وإذا وقع خلاف فيراعى ذوق الأكثرية. ولأجل استمالة قلوب السياح عني السويسريون بحسن الانتفاع من بلادهم من كل وجه وضاعفوا المسليات والمفرحات فتقرأ في نشراتهم التي يستولون بها على عقل الغريب ما يشير إلى أن في بقعتهم ما يرضي جميع المشارب والأمزجة من أرباب الصفاء إلى طلاب الخلاء إلى المولعين بالألعاب الرياضية إلى الراغبين في التصعيد في جبال الألب إلى من يريدون التسلي إلى من يرغبون في التعليم إلى من يؤثرون الوحدة إلى المصورين والطبيعيين والأثريين وكل واحد يخاطبونه بما يشتهي ويدلونه على ما يهمه.

نعم وفروا الراحة لجميع الأذواق وقاموا بما يرضي الأرواح والأشباح فترى أوقات الأطباء معينة مذكوراً إلى جانبها أوقات القداديس والمواعظ وعنوان الطبيب مع عنوان الكاهن أو الواعظ. ولا يأتون ما تشمئز منه نفس السائح حتى إن دفن الموتى لا يجري في أوقات الصيف إلا قبل الشمس حتى لا يقع نظر السائح على مار بما تشمئز منه نفسه فيذكر الموت في بلاد لا يجب أن يكون فيها إلا الصفاء والرخاء.

وكثير من هذه الأعمال تقوم بها شركات لان فكر الاشتراك منتشر للغاية عند السويسريين فمن شركاتهم شركة المنتدى الأدبي السويسري وهذه عنيت بتربية الأدلة وتعليمهم يصعدوا مع السياح في جبال الألب وقد فتحت لتعليمهم ثلاث مدارس في أهم البلاد الجبلية وضمنت لهم حياتهم بمبلغ يربو على ثلاثة مليارات وربع من الفرنكات وعددهم نحو 900 يدفع لهم المنتدى في السنة نحو نصف التقاسيط وهناك شركات لا تحصى في كل مديرية لتحبيب البلاد إلى الأمم ونشر ما ينبغي عنها من مالهم وربما أهان بعضها المجالس البلدية على تحسين حالة البلد أو القرية إذا كان هناك نقص يجب تداركه لاستجلاب رضا الغريب فكان من اثر هذه الجمعيات تكثير سواد القادمين على السويسريين سنة عن سنة.

والحكومة لم تدخر وسعاً في هذا السبيل فبذلت الأموال عن سعة في المدن والدساكر فتحت الشوارع الجميلة وجملت الأرض وعبدت الأرصفة الفسيحة وأنشأت المتنزهات الظليلة والحدائق العامة وأقامت فيها المقاعد الكثيرة ليجلس عليها من أحب وأدخلت الكم باء إلى كل مكان وكذلك التلفون والمياه الطاهرة النقية وأقيمت القهاوي المهمة في جميع المحال التي يلحظ إن المسافر يقصدها.

قد اعد السويسريون جميع الألعاب الرياضية التي يحبها الانكليز كالتينس والفوت بول وغيرها دع أيام الشتاء التزحلق والتدحرج في الثلج (لالوج والسكي والباتناج). عادات أولع الغربيون بها تقليداً للانكليز وكل سنة يموت في خلالها من المرتاضين المئة والمئتان ومع هذا ترى النساء والرجال يرتاضون هذه الرياضة الخطرة ويزيد عددهم سنة عن أخرى. وبذلك كثر ترداد الناس إلى سويسرا في الشتاء ولا سيما الانكليز والاميركان. ويقدر عدد من يقصد سويسرا كل سنة بزهاء مليوني نسمة فإذا فرض أن كل واحد ينفق عشرين ليرة فيكون المجموع أربعين مليوناً تأخذها سويسرا في أشهر معدودة من السنة من الألماني والانكليزي والروسي والنمساوي والمجري والفرنساوي والايطالي والاسبانيولي والبرتغالي واليوناني والمصري والهولندي والأميركاني والبلجيكي والسكاندينافي وغيره وللألمان المقام الأول في كثرة العدد وهم يؤثرون النزول في البيوت لرخص العيش فيها.

ويقدرون عدد الفنادق الكبرى بزهاء ألفي فندق في سويسرا كلها من الطراز الأول والثاني أما الفنادق البسيطة والبيوت فهذه أكثر من إن تعد وما وصلت هذه الصناعة في إقراء الضيوف إلى هذا من الارتقاء إلا بالثبات والعمل والتفنن والعلم حتى أصبح السويسري معلماً للأمم في صناعة الفنادق وكثير من مدن أوروبا وحماماتها المدنية ومتنزهاتها البحرية بيد أناس من السويسريين. ويقدرون عدد السرر الموجودة على الدوام في هذه الفنادق بنحو مئة وثلاثين ألف سرير وعشرة آلاف سرير احتياطية وما برحت شركة الفنادق السويسرية منذ أسست سنة 1882 وهي تتفنن في خدمة الفنادق والإنزال واستجلاب أنظار العالم المتمدن ولها جريدتان لبث أفكارها توزعها مجاناً دع المنشورات والكراسات والكتب التي لا تقصر في توزيعها ومما أنشأته مدرسة لتعليم صناعة الفنادق يتعلم فيها مدير الفندق تعليماً على أسلوب معقول وذلك لان ضرورة المباراة وحاجات الزبن وصعوبة الحياة الحديثة تجعل صناعته مشكلة يوماً بعد آخر ولذلك أحدثوا مدرسة داخلية في ضواحي لوزان واسعة الأطراف مطلة على البحيرة وفيها مجال للألعاب الرياضية وجعلتها داخلية وشددت قانونها فقضت بان ينام طلبتها في الساعة العاشرة وتطفأ المصابيح ويمتنع فيها جميع أنواع اللعب بالورق والقمار ومنعت التدخين والخروج بدون رخصة وان يذهب الواحد إلى غرفته حتى في النهار بدون ترخيص وان يختلف إلى الأماكن العامة وأجرة المدرسة أو ثمن الأكل فيها فقط 130 فرنكاً في الشهر لابن سويسرا و150 للغريب. ومدة الدراسة ثمانية أشهر ويسأل فيها الطالب في الأكثر في اللغات الحية ويجب أن يكون سنه من 16 إلى 18 وتدرس في هذه المدرسة الفرنسوية والانكليزية والألمانية والايطالية والحساب والجغرافيا (الجغرافيا العامة وجغرافيا طرق المواصلات) وتاريخ سويسرا والتعليم الوطني وحسن الخط والحساب (أصول معاملة الفنادق والمعاملات التجارية على أصول الدفاتر) ومعرفة الحاصلات ونظريات في الخدمة ودروس في التنظيم وحسن الهندام وتقديم الطعام وحفظ الصحة والرياضة البدنية والألعاب والرقص وبعد أن ظهرت فوائد هذه المدرسة أنشئت عدة مدارس في سويسرا كلها للوفاء بهذا الغرض ولكن الظاهر أن مدرسة لوزان ارقأها. وأنشأت شركة الفنادق تعلم أناساً فن الطبخ وعهدت إلى الخبراء يمتحنون من يريد الدخول في هذه الصناعة بعد أن ينال شهادة منهم بتقدمه فيها. ويقدرون رؤوس الأموال التي وضعتها الفنادق نحو ثمانمائة مليون فرنك وما برحت على ازدياد وأرباحها كذلك في اعتدال لان السويسري يرضى بالربح القليل جرياً على ما تستلزمه القاعدة الاقتصادية. وتختلف أجور الفنادق فمنها ما يدفع فيه الواحد في اليوم مائتي فرنك منها ما يأكل فيه وينام كل يوم بأربعة فرنكات وكل على حسبه ويقدرون عدد المستخدمين في الفنادق بزهاء خمسة وثلاثين ألفاً معظمهم من النساء وفيهم الغرباء يدفع إليهم 16 مليون فرنك عدا الحلاوين التي تقدر بثلاثة أضعاف هذا المبلغ ومن الصعب تقدير ما تربحه البلاد كلها من السياح والمعروف أن أرباحها من ذلك تجيء بعد أرباحها من صناعة الحرير والتطريز والساعات اللهم إلا إذا حسب من ينتفعون من الغريب بالواسطة فإن أرباح السياح يكون لها المنزلة الأولى وبها اغتنت سويسرا بعد أن كانت فقيرة.

طول الخطوط الحديدية في سويسرا نحو خمسة آلاف كيلو متراي 13 كيلو متر في كل عشرة آلاف متر مربع وقدر ب 95 مليوناً عدد من يتنقلون كل سنة على خطوطها ولها طريقة جميلة في إعطاء أوراق اشتراك فيدفع الواحد 45 فرنكاً يأخذ بها ورقة في الدرجة الثالثة يركب بها أي قطار أحب مدة خمسة عشر يوماً ويدفع 65 في الدرجة الثانية و90 للدرجة الأولى. هذا عدا الخطوط الكهربائية والخطوط الحديدية الجبلية والحوافل.

ولسويسرا 120 سفينة تجارية في 17 بحيرة كبرى من بحيراتها تغدو وتروح في نقل الركاب تنقل زهاء ثمانية ملايين راكب في السنة وهي دائماً تنتظر القاطرات والقطارات تنتظرها. والبرد متصلة علائقها مع السكك الحديدية وفيها جميع أنواع الراحة للقريب ومراكز البرد وصناديقها كثيرة حتى لقد ذكرت أحدث الصحف مؤخراً ما مثاله: ينم عن ارتقاء الشعب كثرة مواصلاته البريدية وكثرة ما يبتاعه من الصابون وقد امتازت الدانيمرك بكثرة بردها فإن لكل 234 ساكناً فيها صندوق بريد وفي سويسرا لكل 286 نسمة صندوق ولكل 320 في لوكسمبورغ صندوق ولكل 424 ألمانياً صندوق ولكل 472 فرنساوياً صندوق ثم تجيء النمسا فانكلترا فالبرتغال أما العثمانية فقد أحرزت الدرجة الأخيرة إذ ليس عندها غير صندوق واحد لكل 69، 300 عثماني!. هذا بعض ما عرفته عن سويسرا وما يأتيه الأفراد والحكومة لجلب السياح إليها حتى أصبحت فندق أوربا حقاً وصدقاً.

سويسرا: تفننها في الإعلانات

لا ترى في مدينة سويسرا نقصاً في فرع من فروعها وعمل من أعمالها فكل مخزن وكل دكان وكل إدارة وكل معمل وكل شارع وكل حي وكل دار وكل منزل صغير وكل دائرة وكل مدرسة بل وكل مستراح وكل شيء كتب عليه اسمه وعمله وما يجب للداخل إليه والمعاملة معه بحيث لا يحتاج الإنسان أن يسأل أحداً وربما إذا ترويت قليلاً بالنظر لوضوح هذه الكتابات تطوف سويسرا كلها وقلما تطلب من يدلك على من تقصده إذا كانت نمرة محله واسم شارعه في جيبك. خاصية غريبة قلما تجد مثلها حتى في كثير من البلدان الراقية. بل قد كتب على الأبواب الخاصة والعامة ادفع أو اقفل وكتب على المراحيض ارفع أو اخفض لتطهير المكان وكتب على بلاس الباب الرجاء مسح رجليك وكتب في المدارس إياك وإدخال عصاك أو مظلتك إلى الداخل وكتب على الصور والتماثيل ممنوع مس شيء وكتب على صناديق البريد تفتح ساعة كذا ودقيقة كذا ولو أردنا تعداد مثل ذلك لطال بنا المطال وسئم القراء تفاصيل لم يسمعوا بها ولا تخطر لهم في عالم الخيال.

ومن يظن أن في دور البريد صناديق تدفع إليها ثمن الطابع كما هو في بعض بلاد أوربا الراقية فينزل إليك فتلصقه على كتابك وفي صناديق البيوت التي تعلق في دهليز الدار وتكون هذه مؤلفة على الأكثر من خمس أو ست طبقات كل طبقة شقتان أو مسكنان فيجيء الساعي ويضع كتب وجرائد كل منزل في صندوقه حتى إذا وضعها يطن جرس من داخل الصندوق فيسمع أهل المنزل فينزلون ويأخذون بريدهم كل ذلك تخفيفاً على من الحركة بدون لزوم وفي المخازن والمحال العامة صناديق للقبض والصرف لا تغلط في العد وتحصي على العامل ما أباعه في اليومه. ذكرنا هذا وإن كان بعضه لا يدخل في باب الإعلان الذي هو المقصود بهذه الجملة فقد بلغ التفنن بالإعلان في الغرب حداً من الارتقاء لا يكاد يوصف وأظن سويسرا إن لم تكن أرقى الغربيين في التفنن بعلانها فهي من أرقاهم بلا جدال وكفاها فخراً إنها لولا الإعلان عن بلادها ما استطاعت أن يكون لها هذا الغنى الدثر والسعادة الشاملة فعرفت الناس بقدر بلادها وجمال أصقاعها وربما أفرطت في ذلك أحياناً لمقتضى الوصف الشعري ولقد أطلعت على كثير من الكراسات التي توزعها مكاتب الاستعلانات مجاناً على طالبيها فما رأيت أكثر من مهارتهم في إيجاد المزايا لكل مدينة ولكل قرية ولكل طريق ولكل غابة في أرض سويسرا.

وكل شيء هنا بالإعلانات إذا لم تقرأ صحفها لا تهتدي إلى ما تريد ابتياعه أو عمله وقد يكون لها جرائد خاصة بها اسمها جريدة إعلانات مقاطعة كذا ومنها ما يطبع الثلاثين والأربعين ألفاً في اليوم لا تكاد تخلو منها دار واشتراكها عشرة فرنكات في السنة تصدر في ثماني أو عشر ورقات من حجم جريدة المقتبس وكلها إعلانات إلا الصحيفة الأخيرة أو الصفحتان الأخريان ففيهما حوادث ونكات قد يكتفي الواحد بهما للوقوف على حركة بلاده على الأقل. وكل جريدة مرتبطة مع شركة إعلانات تبتاع منها قدراً معيناً من الصحيفة وهي تفتش لها على إعلانات تناسب سعة انتشارها ومكانتها. كنت أتلهى في الأحايين بقراءة بعض الإعلانات في الصحف لأعرف منها روح الشعب وحركة تجارته وعمله فكنت استغرب في الضحك عندما أقرأ السذاجة تغلب على إعلاناتهم والتفنن فيها اخذ آخذه من النيقة والعناية.

فمنهم من يعلن عن 100 كيلو من الجبن من جنس كذا بثمن كذا ومنهم من يقول أن عنده رأسين من البقر عمرها كذا وهما يصلحان للذبح ومنهم من يقول يحب أن يبيع خمس نعاج عجفاء وآخر عشرين رأساً من الغنم وبعضهم يعلن عن لبنه وآخر عن زبته وآخر عن بيع عربته أو دراجته أو دثاره أو صندوقه أو ثيابه وآخر عن خنزيره الذي علفه وغيره عن حذائه الذي ما أتلفه. وتجد آخر خزانته وبعضهم عن سريره وبعضهم عن آلة موسيقاه أو محراثه أو منكاشه أو مجرفته أو حصادته وعصارته ومذراته وآلة تصويره وآلة خياطته وآلة حياكته وآخر عن كلبه. والصدق يغلب عليهم في إعلانهم عن متاعهم وآنيتهم وأدواتهم. أما التفنن في الإعلان عن الاستخدام وطلب عمل في مخزن أو حقل أو إدارة أو منزل ذكوراً كانوا أم إناثاً صغاراً أم كباراً فهذا مما بلغ الغاية التي لم يبق وراءها وراء فكل طالب وكل طالبة يضع شروطه ومزاياه وعمله وربما الأجرة التي يريدها بأخصر عبارة تستهوي القارئ وتستدعي الراغب فيه إلى مفاوضته ومخابرته على أسرع ما يمكن وكل يوم تقرأ إعلانات كثيرة في طلب حالب بقرات تبلغ عدد كذا في محل كذا بغجرة كذا ومستخدم لمخزن يعرف كذا وطاهية تحسن إدارة بيت فيه كذا من الأنفس وبواب لمحل كذا وسائس باجرة كذا وحوذي وسائق وراع كذلك وحراث ومجلد ووراق وسكاف ومطرزة وعاملة في معمل إلى غي ذلك من الأساليب التي لم يسمع بها الشرق وهي من اختراع الغرب لان الإعلان نشأ فيها ومنه نشأت الجرائد.

الإعلان عن الحاجيات والكماليات لطيف ونافع ولكن ما كان يظن أن الغربيين أيضاً تساوى في طلب ذلك الرجال والنساء لأنهم يعتبرون الزواج وما يشبهه من الحاجات الطبيعية التي لا عيب فيها الأمر أنهم يعلنون عن ذلك بدون تسمية أسم الطالب والطالبة. وهذه الطريقة كانت البادئة بها فيما أظن جريدة الجورنال الباريزية ثم تبتعها على الأثر جرائد العالم وكان للسويسريين حظ وافر منها وإن كان عدد الطالبين والطالبات أقل من عددهم في باريز. وذلك بان يطلب أحدهم خادمة تستخدم لكل شيء بأجرة كذا على أن تقوم بعمل كذا وأن يكون عمرها كذا من السنيين أو أن الخادمة تطلب ذلك ولا تتوقف عن أن تصف صفاتها وجمالها وسنها وتصف رزانتها ووقارها. أكتب هذا وأمامي صحيفة إعلانات لوزان وفيها كثير من هذا القبيل منها أن امرأة إسرائيلية تريد التعرف إلى زوج عمره بين الخامسة والعشرين والثلاثين وأن تكون له ثروة ثم وصفت عمرها وما تملكه ومنها أن عقائل وأوانس يردن أن يتعرفن إلى خواجات تكون لهم مراكز طبية ومنها أن شاباً في الثالثة والثلاثين لا يتناول المسكرات حسن الخلقة والخلق من كل وجه له منصب حسن في الأرياف يريد أن يتعرف إلى فتاة في الخامسة والعشرين إلى الثلاثين ويؤثر أن تكون مسيحية ومعودة النظام ويقبل بأن تكون حاملة شيئاً من النقود وأنه رزين لا يفشي سراً وإذا أرسلت إليه الصورة الفوتوغرافية يعيدها في الحال والرجاء أن يكتب في ذلك بنمرة كذا لإدارة جريدة لوزان. والقوم هنا لا يكتفون بتعليق إعلاناتهم على الحوائط والمركبات في السكك الحديدية والكهربائية وعجلات النقل وفي الصحف والمنشورات والكراسات وعلى الأبواب والنوافذ ورؤوس الأبنية بل إن التاجر يعلن عن محله حتى في الورق الذي يصر به لك قميصاً أو بدلة أو كتاباً أو حذاءً أو منديلاً أو ورقاً أو أي شيء تبتاعه بل إن الخيط الذي يربط به الاضبارة أو الرزمة قد كتب عليه أسم محله وما فيه وهكذا في جميع ما يخطر ببال.

وتعتقد جميع المحال التجارية والشركات الصناعية والمدارس وغيرها أنها إذا لم تكثر من الإعلان عنها يتناساها الناس وتقل أرباحها وهذه لوزان لولا ما تفنن أهلها في الإعلان ما أصبحت عاصمة العلم في سويسرا الفرنساوية وبلغ طلبة كليتها ألفاً وأربعمائة منهم نحو ألف غريب من غير السويسريين وهكذا المدارس الخاصة التي يعيش بالتعلم فيها أناس لا يستقل بعددهم ومنها ما يدرس فن تدبير المنزل وآخر الفنون الجميلة وغيرها التجارة وبعضها اللغات وبعضها الألعاب الرياضية إلى آخر ما تفننوا فيه فجاء الغريب يستفيد منه فكان للوزان فصلان فصل الصيف يكثر فيه السائحون للنزهة وفصل الشتاء يكون خاصاً بالطلاب والمتعلمين ويستفيد من ذلك أهل البلاد مئات الألوف من الليرات.

وبلغ من تفنن القوم بالإعلانات أن أحدهم ألف كتاباً في فن الطبخ فكسد كساد بضاعة العلم في بلاد العرب ففكر فلم يجد أحسن من أن يعلن أن الفتاة التي تراجعه مرسلة إليه ثلاثة فرنكات يقدم لها خير نصيحة قبل زواجها تكفيها غوائل الدهر وحوادث الأيام فكان يبعث لكل مرسلة بالمبلغ المطلوب بنسخة من كتابه ويقول لها تعلمي هذا فباع من كتابه ثلاثة ألاف نسخة. وكتب بعضهم إذا أردت أن تغتني فأعمل عملي وأنا لا أعلمك ما عملت إلا إذا بعثت بكذا فرنك حوالة. فكان جواب هذا الشاطر لمن طلب إليه النصيحة أن يقول له أعما عملي فتغتني لا أي أكتب في إعلانك كما كتبت وهناك المال يقبض عليك. ولكن هذه الطرق نادرة جداً والصدق هو الغالب على الإعلانات كما قلنا ولذلك اعتمد الناس عليها وزادت عنايتهم بأمرها وأسست لها البيوت والشركات المهمة التي تدخلها فتظن نفسك في مصرف كبير أو معمل خطير. والإعلانات مادة الصحف في الغرب وكثير من أمهات جرائدها لا تصدر يوماً واحداً لولا الإعلانات لأن ما تأخذه من القراء والمشتركين لا يبلغ ثمن الورق مع أنها تطبع بمئات الألوف فتأمل يا تاجر بلادنا

سويسرا: التربية العملية

من أعظم أسرار امتياز الغربي عن الشرقي إن الفرد عندهم يعيش بنفسه لنفسه ونحن نتكل في عيشنا في الأغلب على الوالد والوالدة والقريب والحكومة ويقل جداً فيهم من اغتنى من غير المذاهب الطبيعية في المعاش من صناعة وزراعة وتجارة واقل منه فتى أو فتاة في مقتبل العمر تقعد به همته عن اتخاذ أسباب الكسب انتظاراً لأرث ربما يورثه إياه أبوه أو أمه أو لوظيفة تليق بعظمته يتناول راتبها الباهظ بعمل ضئيل قليل.

حالة تدهش في الغرب من عيش الاستقلال ونحن حالنا على ما تعهد من عيش الاتكال الذي انقض عدد العاملين والعاملات وقذف بنا من حالق مجد وسعة إلى دركات ذلة وفاقة. كلما ذكرنا وأيم الحق أن في دمشق نحو ثلاثة عشر ألف شحاذ أكثرهم أصحاء أقوياء نقضي المجب من حالنا ونسجل بأننا سواء وحكومتنا في هذا النوم أو التناوم عن السعي في مداواة أمراضنا الاجتماعية وبدون ذلك لا تقوم لنا قائمة ولا نتحرر من قيودنا السياسية والاقتصادية.

وأني آسف وأبكي لمئات من الشبان في سورية ولا سيما في دمشق وحلب وحماة وطرابلس والقدس سئموا الحياة لبطالتهم وهم يعيشون عالة على أهلهم ومنهم الموسع عليه في رزقه لا يتنزلون للاحتراف بحرفة ولا يرون أنه يليق بهم إلا أن يتصدروا على مقاعد الحكم آمرين ناهين يؤثرون البطالة منتظرين أن يموت أولياؤهم ليستولوا على أموالهم وفي الغالب أن يموت الموسر عندنا وهو موسر بالنسبة لمحيطه ويخلف أولاداً كثاراً تقسم بينهم الثروة فينال الواحد جزءاً قليلاً لا يستطيع إنماءه ولا يقوم بتفخله وبذخه هذا إذا لم يكن فاسد الأخلاق ولم يصرف دخل سنة في شهر وهناك بشع بالفقر إلى أرذل العمر.

أما الغرب فحاله غير حالنا إذا تعلم الولد التعليم الابتدائي غالباً يبدأ أهله يقطعون عنه راتبه ويطالبونه باجرة الدار وثمن الطعام ليلقي نفسه في معمعان الحياة ويعلم أنه فرد مسؤول عن نفسه لا يقوم بإعالته غير عمله ولهذا مئات الألوف من الأمثلة ولقد قلنا في مقالة سبقت أن ليس في الأرض امرأة ضاهت الرجل في عمله كالمرأة السويسرية فلا تكاد تجد في النساء من لا يحترفن في هذه الجمهورية السعيدة غنيات كنا أو فقيرات ولذلك تزيد ثروة البلاد يوماً بعد آخر وترتقي في كل فرع من فروعها المدنية الحيوية. وحال معظم أمم الحضارة كذلك.

أكتب هذا وأمامي أربع فتيات في المنزل الذي أويت إليه في لوزان لا أطاب لوطني إلا أن يكون رجاله دع نساءه في درجتين من التفاني في الحياة العملية والتناغي بحب الاستقلال في الأعمال. الفتاة الأولى انكليزية والثانية ألمانية والثالثة سويسرية فرنساوية والرابعة سويسرية ألمانية وكلهن سواء في كره الاتكال ومثال صالح غريب المثال قالت لي الفرنساوية السويسرية وهي في الحادية والعشرين من عمرها تعطي دروساً في الموسيقى وقد سألتها عن والدها وحالته في الدنيا: إنه متعهد أبنية ولنا بيتان يحتويان على زهاء عشرين مسكناً نؤجرهما في شالي من ضواحي لوزان وشقيقي الواحد صاحب نزل في نيس والآخر معلم بستاني في لندرا فقلت لها مثلك في الشرق يستريح ولا يعرف إلا الأزياء والرفاهية فقالت إن الناس كلهم في سويسرا يعملون وكل واحد يعيش لنفسه فليس من العدل أن أعيش عالة على والدي أو والدتي ولا على أحد أشقائي بل أعمل وأجمع ثروة لنفسي عملاً بسنة العاملين والعاملات أما الفتاة الانكليزية وهي في الحادية والعشرين أيضاً فقد هجرت بلادها وجاءت لوزان تدخل في إحدى البيوت الخاصة التي توفرت على تعليم الفتيات اللائي تخرجن من المدارس العليا في انكلترا وألمانيا وروسيا أو غيرها وأردن أن يتقدمن في معرفة الفرنساوية وآدابها والرياضيات البدنية والرقص والغناء وغير ذلك من لوازم المرأة الأوروبية الراقية التي تليق لترأس المجتمعات العالية والتصدر في الردهات والقاعات. قالت إنها تعلم الانكليزية وهي لا تتناول مالاً وإنما تعيش مع الفتيات في مدرسة وتتعلم الافرنسية بهذه الواسطة. وقد ذهب الفتيات خلال عطلة رأس السنة إلى الجبال للتزحلق والتدحرج والتسلق على الثلج فاقفل باب النزل فعرض عليها هي ورفيقتها الفتاة الألمانية أن يذهبا مع الفتيات فأثرتا البقاء في لوزان فجعلتهما مديرة تلك المدرسة في النزل الذي نحن فيه مدة العطلة تنفق عليهما ريثما تفتح أبواب منزلها أو مدرستها. أما الفتاة الألمانية رفيقة الانكليزية فهي في الثالثة والعشرين وحالها أيضاً حال رفيقتها تعلم الألمانية وتتعلم الافرنسية وتزيد عليها بان تعطي دروساً خارج المدرسة وأهلها أصحاب يسار في الجملة ولكنها تحتاج لتعلم الافرنسية وهذه هي الواسطة التي رأت إن تعمد إليها في إتقان لغة هوغو وموسيه لتضمها في صدرها إلى لغة كيتي وشيلر.

أما الرابعة وهي ألمانية سويسرية فحالها أدهش من حال الثلاث وذلك لان والدها صاحب مخزنين في لوسرن وانترلاكون لو حسب ما يملكه على حساب بلادنا لعدد من الأغنياء عندنا على انه لا يعد في المحاويج بل المتوسطين هنا فأراد إن يعلم ابنه وابنته الافرنسية لمسيس الحاجة إليها في تجارته وحتى يكونا على أتم الاستعداد لتلقي مصاعب الحياة فجاء بالوالد وهو في السابعة عشرة يجعله في نزل في ارباض لوزان خادماً يأكل وينام ويتناول راتباً قليلاً ويتعلم الافرنسية ويتمرن عليها بالعمل وكان تعلم مبادئها بالنظر في المدرسة وشقيقه هذا الفتى في التاسعة عشرة من عمرها شأن شقيقها تحب إن تتعلم الافرنسية وتدبير المنزل وتعيش مستقلة فجعلها أبوها خادمة براتب25 فرنكاً في الشهر في النزل الذي نحن فيه وهي وحدها تتولى جميع أعمال المنزل إلا ملاحظة الطبخ فان صاحبة الدار تنظر فيه بنفسها فترى تلك الفتاة من الساعة السابعة صباحاً إلى الساعة العاشرة أو الحادية عشرة ليلاً تعمل بكد لم أر مثله وتقوم بجميع أنواع الخدمة على صورة مدهشة فبينما تراها تكنس بضع غرف في الدار وترتب فرشها وتصلح أدواتها الكثيرة أو تفرك الدهليز والممشى والزجاج والدرفات والأبواب إذا هي تتعهد المطبخ أو تخرج كالبرق في جلب حاجة من السوق أو تقدم الطعام على المائدة وترتب السفرة أو تجلو الطباق والصحون أو غير ذلك مما يكثر عدده في البيوت الأوربية تعمل كل ذلك ومنه الشاق الوسخ ومع هذا لا تراها إلا باسمة في حين حرمت من رفاهيتها في دار أبيها وعند الخادمات والخدمة.

هذا مثال ما رأيته بالذات من أمثلة التربية الاستقلالية في البنات هنا وبعدها هل يعجب المرء من غنى هؤلاء الأوربيين بعد أن عدوا كل عمل شريفاً اللهم إلا ما يثلم العرض ويعبث بالمروءة وهذا لا تكاد تخلو منه أمة مهما أدعت أنها أمة أخلاق وتدين وشرف.

كل فتاة من هاته الفتيات وفرت على أهلها بعملها مئة أو مئة وخمسين ليرة في السنة وربحت التعلم العملي والتدرب على الحياة الاقتصادية الاستقلالية فبالله عليك أيستطيع احد أبناء الطبقة الوسطى عندنا وهي تعد من الفقراء في الغرب أن يقول لابنه اذهب إلى بلد كذا واخدم وتعلم فضلاً عن أن يقول لابنته علمتك القراءة والكتابة والحساب فعلميها لمن الطبخ وتدبير المنزل والخياطة والتفصيل.

رآنا في مصر والشام أناساً من المسلتير لم يعقهم عن تعليم أولادهم التعليم المطلوب الأضيق ذات يدهم وكثرة أولادهم لأنهم كلهم يريدون أن يعيشوا مرفهين ابن الحراث كابن الغني صاحب المزارع والعقارات. ورأينا أناساً فادوا بالمال واقتطعوا جانباً من رؤوس أموالهم ليعملوا به أولادهم على أمل أن يعينوهم في أيامهم السود فكان من أولادهم من تعلموا تعليماً ناقصاً ولم يكن منهم إلا أن عظمت نفوسهم وظنوا أنفسهم شيئاً مذكوراً وشمخت أنوفهم عن العمل إلا في الأعمال التي يصورها لهم الخبال أنها نافعة شريفة وذهب ما صرفه أولياؤهم من الذهب عبثاً الأولاد إذا ربوا كما يربي السويسري والألماني والانكليزي بناته جاء منهم محنكون يعرفون قدر المال والعمال ويدخلون في الحياة من الصغير فيرتقون إلى الكبير. يتهمون الألمان بالشح والفرنسيس بالاقتصاد الزائد والانكليز بقسوة القلب والحقيقة أن البشر كله من طينة واحدة يحن إلى أولاده ويستميت في ترفيههم ولكن الفرق بيننا وبينهم إنهم يلقنون أولادهم معنى الحياة المستقلة ونحن ننشئهم على حياة الاتكال والرضا بالقلة.

أيأتي يا ترى على الشرق الأقرب يوم نرى فيه الرجال والنساء صغارهم وكبارهم يعملون لنشهد أو أبناؤنا وأحفادنا مثالاً من الأمم التي تود البقاء لا الدثور والفناء أم نبقى هكذا يسرق بعضنا بعضاً ونعد عمله مهارة أو ينتظر صغيرنا كبيرنا ليموت فيرثه ونحسبه من الموفقين أم تضعف وطنيتنا وحبنا لبلادنا فنتركها تنعي من بناها إلى بلاد أخرى حيث الحياة سهلة والعيش خضال طف المدينة والمزرعة وادخل المعمل والمخزن وانظر الباعة والإشراف في سويسرا تجدهم كلهم لا يستنكفون عن العمل. في لوزان سوق تقام مرتين في الأسبوع على عادة معظم المدن الأوربية مثل سوق الأحد وسوق الجمعة في دمشق تباع في ذاك السوق جميع أنواع المأكول والملبوس والمنظور فترى فيه نموذجاً صالحاً من حاصلات البلاد وصناعتها وأكثرها رخيص قصدته عدة مرات للفرجة وابتياع بعض اللوازم فدهشت وقد رأيت بعض النساء الغنيات والفتيات البارعات الجمال يبتعن بأنفسهن حاجات بيوتهن يجعلنها في كيس براق من المطراز ويحملنها إلى مساكنهن وقد تكون بعيدة وعند أكثرهم على ما بلغني الخادمات والطباخات والوصيفات قلما يعهدن إليهن بشراء حاجة ولو طفيفة ويذهبن بأنفسهن لابتياعها وهكذا تجد الديمقراطية تشربتها نفوس الكبير والصغير فلا يجد احد من المعيب أن يخدم نفسه وداره وأهله وسواء في الشرف من يكسح القمامات والثلج من الشارع ويرزق خمسة فرنكات في النهار ومن يملك مصرفاً كبيراً يعد ما يربحه كل يوم بمئات من الفرنكات ما دام كلاهما يعمل في دائرته بقدر طاقته ولا يتعلق بأحد وأول ما يسأل الزوج عن فتاة يخطبها قبلان يسأل عن جمالها ما هي معارفها وما تسطيع عمله. فاللهم علمنا علماً ينفعنا في نهوضنا حتى لا نخجل من انحطاطنا في أنفسنا دع خجالتنا أمام غيرنا فان الفرق بين بلادنا وبلادهم أصبح كالفرق بين النور والظلمة والجنة والنار وما راء كمن سمعنا.