مجلة المقتبس/العدد 87/معجم البلدان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 87/معجم البلدان

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 4 - 1914



في الكتب ملا يبلى جديده كلما توالى الجديدان ومنها كتب ياقوت الرومي.

وكتابه معجم البلدان إن لم يكن أفضل كتبه فهو من أفضلها على أنه لم يطبع به من الكتب حتى الآن غير معجم الأدباء والمشترك وضعاً والمختلف صقعاً أما كتابه معجم الشعراء وتاريخه المبدأ والمآل وكتاب الدول ومجموع كلام أبي على الفارسي وعنوان كتاب الأغاني والمقتضب في النسب وأخبار المتنبي وعيره فهذه لن يبلغنا أنها طبعت ولا نعرف إن كانت باقية في إحدى خزائن المخطوطات في الشرق والغرب أو دثرت مع ما دثر من آثار سلفنا وثمرات عقولهم.

أخذ عبد الله شهاب الدين الرومي أسيراً من الروم وهو صبي فقيل له الرومي اشتراه في بغداد تاجر يعرف بعسكر الحموي المقتبس م1 ص489 فنسب إليه فقيل له ياقوت الحموي أيضاً وقد جعله في الكتاب يتعلم ما يستفيد هو منه في ضبط متاجره وقرأ شيئاً من النحو واللغة وشغله مولاه بالأسفار فكان يتردد إلى كيش وعمان وتلك النواحي ويعود إلى الشام ثم اعتقه مولاه سنة 596 فاشتغل بالنسخ بالأجرة وحصل بالمطالعة فوائد وعاد مولاه فألوى عليه وأعطاه شيئاً وسفره إلي كيش ولما عاد كان مولاه قد مات فأعطى أولاد مولاه وزوجته ما أرضاهم به وبقيت بيده بقية جعلها رأس ماله وسافر بها وجعل بعض تجارته كتباً. وبذلك سهل على ياقوت أن يطوف الشام والعراق والجزيرة وخراسان واستوطن مرو ودخل خوارزم وغيرها وبعبارة أخصر كما قال عن نفسه أنه جاء البلاد ما بين جيحون والنيل.

تعود ياقوت في رحلاته الحالات المختلفة وألف من زمانه كل حالة حتى عده صاحب كتاب الفلاكة والمغلوكين في جملة البائسن ومنذ ذكر يوماً أحدهم في بع أسواق دمشق وذكر رأيه في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وكان منحرفاً عنه فيما يقال وثار عليه الناس وكادوا يقتلونه ففر إلى حلب ثم إلى الموصل وأربل ودخل خراسان ومرو وخوارزم فانهزم منها من التتار بنفسه وقاسى شدائد وبلغ الموصل وهو فقير داثر منذ وقع له هذا وما زال يغتني بعض الشيء تارة ويفتقر أخرى وكثيراً ما يخرج من بلد كيوم ولدته أمه لا مال ولا نوال قال جمال الدين القفطي في تاريخ النحاة أنه كتب إليه رسالة من الموصل شرحاً لما لتم على خراسان ومنها كان المملوك لما فارق مولاه أراد استعتاب الدهر الجامح واستدرار حلب الزمان الجائح اغتراراً بأن الحركة بركة والاغتراب داعية الاكتساب فامتطى غارب الأمل إلى الغربة وركب ركوب التطواف مع كل صحبة فلم يرث له دهره الخؤون ولا رق له زمانه المفتون

إن الليالي والأيام لو سئلت ... عن عيب أنفسها لم تكتم الخبرا

وهيهات مع حرفة الأدب بلوغ وطر أو إدراك أرب ومع عبوس الحظ ابتسام الدهر الكظ ولم أزل مع الدهر في تفنيذ وعتاب حتى رضيت ن الغنيمة بالإياب. . .

والقفطي هو وزير حلب الذي يروي عنه ياقوت كثيراً في كتبه بقوله وحدثني الصاحب الأكرم والغالب أنه كان من المحسنين لياقوت ولا يعرف الفضل إلا ذووه لأن القفطي كان عالماً أيضاً وهو صاحب أخبار الحكماء المقتبس م5 ص335 واحتكاك ياقوت بأمثال القفطي من أرباب الدولة هيأ له الإطلاع على ما يتعذر على كثير من المشتغلين بالتأليف أن يطلعوا عليه مثل مقدار الجباية في قطر وبعض أمور تتعلق بالبلاد وترى من ذلك نموذجاً في مادة حلب فإن ياقوت جوَّد الكلام على هذه المدينة أكثر من تجويده على دمشق في الجملة لأن الصاحب الأكرم أطلعه على أمور كثيرة ولذلك ترى المؤلف قضى شطراً من حياته في حلب وما نظنها كانت إلا دون دمشق بمكانتها العلمية والاقتصادية ولكن الرجل الواحد تكبر به البلد وتعظم في النفوس ومئات الألوف من الناس قد لا يكون فيهم الرجل الرشيد فتزدريهم وتتخطاهم إلى غيرهم.

وقد اهدى ياقوت معجم البلدان إلى القاضي الأكرم وزير حلب فقال في ذلك: إذ كنت منذ وجدت في حل وترحال ومبارز للزمان ونزال أسأل منه سلماً ولا يزيدني إلا هضماً

فلما قضت نفسي من السير ما قضت ... على ما بلت من شدة وليان

بعد طول مكابدة حرقة الحرفة وانتظار تبلج ظلام الحظ يوماً من سدفة.

علقت بحبل من حبال ابن يوسف ... أمنت به من طارق الحدثان

فرد عني صرف الدهر والمحن ورفه خاطري عن معاندة الزمن لما

تغطيت عن دهري بظل جناحه ... فعيني ترى دهري وليس يراني

فأصبحت من كنفه في حرز حريز ومن إحسانه وتكرمه في موطن عزيز

فلو تسأل الأيام عني لما درت ... وأين مكاني ما عرفن مكاني أهدى ياقوت كتابه إلى صاحبه الذي عرف قدره وهكذا تجده يصرح ولا يحمجم في ممادح البلاد وبالعكس فقد قال في مرو ولولا ما عرا من ورود التتر إلى تلك البلاد وخرابها لما فارقتها فارقها سنة 616هـ - أي قبل وفاته بعشر سنين إلى الممات لما في أهلها من الرفد ولين الجانب وحسن العشرة وكثرة كتب الأصول المتقنة بها قال وكانت سهلة التناول لا يفارق منزلي منها مائتا مجلد وأكثره بغير رهن تكون قيمتها مائتي دينار فكنت أرتع فيها واقتبس من فوائدها وأنساني حبها كل بلد وألهاني عن الأهل والولد وأكثر فوائد هذا الكتاب معجم البلدان وغيره مما جمعته فهو من تلك الخزائن.

تقرأ حرية ياقوت في تآليفه وكلامه على البلدان والسكان فاقرأ هذا الفصل وهو صورة من أخلاقه وقل معنا أنه لا يقل عن اعتراف الفيلسوف جان جاك روسو لكنه في غير محرم قال: وكنت قدمت نيسابور في سنة 613 وهي الشاذياخ فاستطبتها وصادف بها من الدهر غفلة خرج بها عن عادته واشتريت بها جارية تركية لا أرى أن الله تعالى أحسن منها خلقاً وخلقاً وصادفت من نفسي محلا كريماً ثم أبطرتني النعمة فاحتجبت بضيق اليد فبعتها فامتنع علي القرار وجانبت المأكول والمشروب حتى أشرفت على البوار فأشار علي بعض النصحاء باسترجاعها فعمدت لذلك واجتهدت بكل ما أمكن فلم يكن إلى ذلك سبيل لأن الذي اشتراها كان متمولاً وصادفت من قلبه أضعاف ما صادفت مني وكا لها إلى ميل يضاعف ميلي إليها فخاطبت مولاها في ردها علي بما أوجبت به على نفسها عقوبة فقلت في ذلك:

ألا هل ليالي الشاذياخ تؤب ... فإني إليها ما حييت طروب

بلاد بها تصبي الصبا ويشوقنا ال ... شمال ويقتاد القلوب جنوب

لذاك فؤادي لا يزال مروعاً ... ودمعي لفقدان الحبيب سكوب

ويوم فراق لم يرده ملالة ... محب ولم يجمع عليه حبيب

ولم يحد حاد بالرحيل ولم يزع ... عن الألف حزن أو يجول كئيب

أئن ومن أهواه يسمع أنتي ... وبدعو غرامي وجده فيجيب

وأبكي فيبكي مسعداً لي فيلتقي ... شهيق وأنفاس له ونحيب

على أن دهري لم يزل مد عرفته ... يشتت خلان الصفا ويريب

ألا يا حبيباً حال دون نهائه ... على القرب باب محكم ورقيب فمن يصح من دار الخمار فليس من ... خمار خمارٍ للمحب طبيب

بنفسي أفدي من أحب وصاله ... ويهوى وصالي ميله ويثيب

ونبذل جدينا لشمل يضمنا ... ويأبى زماني إن ذا لعجيب

وقد زعموا أن كل من جدَّ واجد ... وما كل أقوال الرجال تصيب

الكلام على معجم البلدان طويل كطوله ولكنه طول غير مملول وكأن ياقوت شعر بما أتى فقال في مقدمته: ولقد ألتمس مني الطلاب اختصار هذا الكتاب مراراً فأبيت ولم أجد لي على قصر هممهم أولياء ولا أنصاراً فما انقدت لهم ولا أرعويت ولي على ناقل هذا الكتاب والمستفيد منه أن لا يضيع ما لفقت وتفريق ملتئم محاسنه ونفي كل علق نفيس عن معادنه ومكامنه باقتضابه واختصاره وتعطيل حيده من حليه وأنواره وغصبه إعلان فضله وأسراره فرب راغب عن كلمة غيره متهالك عليها وزاهد في نكتة فيره مشغوف بها ينضي الركاب إليها فإن أجبتني فقد بررتني جعلك الله من الأبرار وإن خالفتني فقد عققتني والله حسيبك في عقبي الدار ثم اعلم أن المختصر من الكتاب كمن أقدم على خلق سوي فقطع أطرافه فتركه عاطلاً أو كالذي سلب الكمي سلاحه فتركه أعزل راجلاً. وقد حكي عن الجاحظ أنه صنف كتاباً وبوبه أبواباً فأخذه بعض أهل المصنف كالمصور وأني قد صورت في تصنيفي صورة كانت لها عينان فعورتهما أعمى الله عينيك وكان لها أذنان فصلمتهما صلم الله أذنيك وكان لها يدان فقطعتهما قطع الله يديك حتى عد أعضاء الصورة فاعتذر إليه الرجل بجهله هذا المقدار وتاب إليه عن المعاودة إلى مثله أه.

ومع كل هذا التصريح ودعاء ياقوت على من يقدم على اختصار كتابه معجم البلدان مع علمه بتطويله أقدم الجلال السيوطي على اختصاره كما أقدم على تلخيص اللباب في الأنساب لابن الأثير وسماه لب اللباب وأصل اللباب للسمعاني راجع باب المخطوطات والمطبوعات من هذا الجزء.

جاء في كشف الظنون أن مختصر معجم البلدان للسيوطي لم يتمكما في الفهرست قال السيوطي في مختصره وبعد فإن الغرض من وضع هذا الكتاب إنما هو بيان ما يدل على المقصود فلا ينبغي أن يخلط به غيره مما يبين في علم آخر لئلا يتشعب الفهم ويطول الكلام فيؤدي إلى الإملال وهذه حال معجم البلدان فإن الغرض إنما هو معرفة أسماء الأماكن والبقاع التي على الربع المسكون من الأرض مما ورد به خبر وجاء في شعر وبيان جملة من الأرض من أصقاعها فما زاد على هذا القدر فهو فضل لا حاجة إليه وخلط الحموي اشتقاق الأسماء وذلك علم يرأسه تشتمل عليه كتب اللغة وكذلك ما ذكره من طول الكتب الموضوعة في معرفة الرجال واستقصاؤه غير ممكن فكتب منه ما لا بد منه في الأسماء الواردة على الأخبار والآثار وكتب المنازي وقيدت ما أهمله وربما زدته بياناً في بعض المواضع وأصلحت ما نبهت عليه فيه من خلل ووجدن النقل من غيره وهو خطأ وأظنه كذلك وسميته مراصد الإطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع طبع في أوربا كما طبع لب اللباب قال كاتب حلبي بعد إيراد ما تقدم أقول لكنه أي مراصد الإطلاع لم يتم وللصميري ولأبي عبيد البكري ولابن عساكر ولصفي الدين عبد المؤمن مختصرات من كتاب معجم البلدان في معرفة المدن والقرى والخراب والعمار والسهل والوعر من كل مكان.

بدأ مؤلفنا بوضع كتابه سنة خمس عشرة وستمائة أي قبل وفاته بإحدى عشرة سنة وقد نضج علمه وكثرت تجاربه وتجوابه إذ ألقي في روعه افتقار العالم إلى كتاب في هذا الشأن وقد سئل بمرو الشاهجان عن اسم حباشة فاستعصى كشفه في كتب غرائب الأحاديث ودواوين اللباب فأخذ منذ ذلك الحين يأخذ من كتب جغرافي العرب ولغويتهم قال وهذه الكتب المدونة في هذا الباب التي نقلت منها ثم نقلت من دواوين العرب والمحدثين وتواريخ أهل الأدب والمحدثين ومن أفواه الرواة وتفاريق الكتب وما شاهدته في أسفاري وحصلته في تطوافي أضعاف ذلك.

رتب ياقوت كتابه على حروف المعجم ووضعه كما قال وضع أهل اللغة المحكم وإبان عن كل حرف من الاسم هل هو ساكن أو مفتوح أو مضموم أو مكسور وذكر اشتقاقه إن كان عربياً وفي أي إقليم هو وأي شيء طالعه ومن بناه وأي بلد من المشهورات يجاوره وكم المسافة بينهما وبماذا اختص من الخصائص وما قيد من العجائب وبعض من دفن فيه من الأعيان والصالحين والصحابة والتابعين ونبذاً مما قيل فيه من الأشعار في الحنين إلى الأوطان وفي أي زمان فتحه المسلمون وكيفية ذلك ومن كان أميره وهل فتح صلحاً أو عنوة ليعرف حكمه في الفيء والجزية ومن ملكه في أيامه ولا سيما البلدان المشهورة ونقل أشياء تأباها العقول على علاتها مع أنه مرتاب بها كما قال وهو في مثل هذه النقول مقلد أما وصفه للبلاد التي رآها فهو فيه مجتهد ولذلك ترى التحقيق بادياً على كلامه.

ولقد رأينا بعض الخاصة ينقدون على ياقوت قوله في الأحايين أن الاسم الفلاني اسم جبل في اليمن مع أن بلاد اليمن واسعة الأطراف لا تعد مملكة بل ممالك وكان عليه أن يحدد موقع الجبل ويعينه تعييناً بيد أن هذا مما يفوت طوق المؤلفين لعهدنا فما بالك في القرن السابع للهجرة والعرب وأهل الغرب إلى اليوم لا يعرفون جغرافية اليمن على ما يجب مع ارتقاء فن الطبوغرافيا وكثرة المواصلات البحرية والبرية وكثرة الباحثين من الغربيين في مهد الحضارة الحميرية. فطلبنا من ياقوت أن يكون مدققاً في كل ما نقل وروي هو طلب خيالي لا تقوم به الجمعيات الكبرى اليوم فما الحال بالأفراد أمس وياقوت معذور على كل حال إذا يجود كلامه إلى على البلاد التي رحب إليها أو على الحواضر منها وكفاه ذلك منقبة ومثل ذلك يقال في كتب تقويم البلدان التي وضعها المقدسي والاصطخري وابن حوقل والهمداني وأبو الفدا وغيرهم من جغرافي العرب.

ألا ترى إلى ما قاله ياقوت في أرم ذات العماد المختلف فيها ومن الناس من قال أنها الإسكندرية ومنهم من قال وهم الأكثر أنها دمشق وإياها عنى البحتري بقوله:

إليك رحلنا العيس من أرض بابل ... يجور بها سمت الدبور ويهتدي

فكم جزعت من وهدة بعد وهدة ... وكم قطعت من فدفد بعد فدفد

طلبتك من أم العراق نوازعاً ... بنا وقصور الشام منك بمرصد

إلى أرم ذات العماد وإنها ... لموضع قصدي موجفاً وتعمدي

وحكى الزمخشري أن أرم بلد منه الإسكندرية وروى آخرون أن أرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد بين اليمن وحضرموت وصنعاء من بناد شداد بن عاد وكل مئة رجل من وكلائه وقهارمته تحت يد كل رجل منهم ألف من الأعوان وأمرهم أن يطلبوا فضاء فلاة من أرض اليمن ويختاروا أطيبها تربة ومكنهم من الأموال ومثل لهم كيف يعملون وكتب إلى عماله الثلاثة غانم بن علوان والضمان بن علوان والوليد بن الريان يأمرهم أن يكتبوا إلى عمالهم في آفاق بلدانهم أن يجمعوا جميع ما في أرضهم من الذهب والفضة والدر والياقوت والمسك والعنبر والزعفران فيوجهوا به إليه ثم وجه إلى جميع المعادن فاستخرج ما فيها من الذهب والفضة ثم وجه عماله الثلاثة إلى الغواصين إلى البحار فاستخرجوا الجواهر فجمعوا منها أمثال الجبال وحمل جميع ذلك إلى شداد ثم وجهوا الحفارين إلى معادن الياقوت والزبرجد وسائر الجواهر فاستخرجوا منه أمراً عظيماً فأمر بالذهب فضرب أمثال اللبن ثم بني بذلك تلك المدينة وأمر بالدر والياقوت والجزع والزبرجد والعقيق ففضض به حيطانها وجعل لها غرفاً من فوقها غرف فعمد جميع ذلك باسطين الزبرجد والجزع والياقوت ثم أجرى تحت المدينة وادياً ساقة إليها من تحت الأرض أربعين فرسخاً كهيئة القناة العظيمة إلخ.

وبعد أن أورد تتمة هذه القصة صفحتين قال ما نصه: قلت هذه القصة مما قدمنا البراءة من صحتها وظننا أنها من أخبار القصاص المنمقة وأوضاعها المزوقة.

ومثل ذلك ما رواه في مدينة النحاس قال: ويقال لها مدينة الصفر ولها قصة بعيدة من الصحة لمفارقتها العادة وأنا بريء من عهدتها إنما أكتب ما وجدته في الكتب المشهورة التي دونها العقلاء ثم أتي على ذكرها القريب في ثلاث صفحات.

فكأن ياقوت بما ينقل من هذه الأوهام وغيرها يريد أن لا يخلي كتابه من كل أطروفة ولو كانت سخيفة فيستفيد منه الجاهل ويتفكه به العالم وبتعلم الأديب ويقتبس الباحث. ومما ذكره في استعمال الفضة قوله في شنت مربة في الأندلس فال وأظنه يراد به مريم بلغة الإفرنج وهو حصن من أعمال شنتبرية وبها كنيسة عظيمة عندهم ذكر أن فيها سواري فضة ولم ير الراؤون مثلها لا يحزم الإنسان بذراعيه واحدة منها مع طول مفرط.

ومن ذلك أيضاً ما ذكره في وصف قصر بهرام جور وهو أحد ملوك همذان بقرية يقال لها جوهستة والقصر كله حجر واحد منقورة بيوته ومجالسه وخزائنه وغرفه وشرفه وسائر حيطانه فإن كان مبنياً بحجارة مهندمة قد لوصك بينها حتى صارت كأنها حجر وحد لا يبين منها مجمع حجرين فإنه لعجب وإن كان حجراً واحداً فكيف نقرت بيوته وخزائنه وممراته ودهاليزه وشرفاته فهذا أعجب لأنه عظيم جداً كثير المجالس والخزائن والغرف وفي مواضع منه كتابة بالفارسية تتضمن شيئاً من أخبار ملوكهم وسيرهم وفي كل ركن من أركانه صورة جارية عليها كتابة.

قلنا وليس حفر هذا القصر على هذه الصورة من الأمور المستحيلة بعد أن رأينا خزنة فرعون في وادي موسى (بترا) قطعة واحدة وعبارة ياقوت تبين أنه رأى ذاك القصر أو نقل عن ثقة. وهذا من أعاجيب الدنيا ولا شك مثل قصر شيرين وشيرين بكسر الشين بالفارسية الحلو وهو اسم حظية كسرى أبرويز وكانت من أجمل خلق الله والفرس يقولون كان لكسرى أبرويز ثلاثة أشياء لم يكن لملك قبله ولا بعده مثلها فرسه شبذير وجاريته شيرين ومعنيه وعواده بلهبذ. وقصر شيرين موضع قريب من فرميسين بين همذان وملوان في طريق بغداد إلى همذان وفيه أبنية عظيمة شاهقة بكل الطرف عن تحديدها ويضيق الفكر عن الإحاطة بها وهي إيوانات كثيرة متصلة وخلوات وخزائن وقصور وعقود ومنتزهات ومستشرقات وأورقة وميادين ومصابد وحجرات تدل على طول وقوة. . . .

وقصر اللصوص بناؤه عجيب جداً وذلك انه على دكة من حجر ارتفاعها عن وجه الأرض نحو عشرين ذراعاً فيه إيوانات وجواسق وخزائن تحير في بنائه وحسن نقوشه الأبصار وكان هذا القصر معقل أرويز ومسكنه ومنتزهه. وإيوان آسك من نواحي الأهواز وهو عال في صحراء على عين غزيزة وبيئة وإزاء الإيوان قبة منيفة سمكها على مائة ذراع بناها للملك قبان والد أنوشروان قال مسعر بن مهلهل وما رأيت في جميع ما شاهدت من البلدان قبة أحسن بناء منها ولا أحكم.

والتأنق في القصور ليس خاصاً بالفرس والروم بل هو من شأن العرب في دولتهم الشرقية ودولتهم الغربية ومن تلا سير الأندلسيين يعرف مبلغ حرصهم على تشييد القصور والزهراء والحمراء بعض بقايا تلك الهندسة البديعة والثروة الوسيعة فانظر الآن مثالاً مما قاله ياقوت في قصر عيسى وهو عباسي مشرقي قال: هو منسوب إلى عيسى ابن علي بن عبد الله بن عباس وهو أول قصر بناه الهاشميون في أيام المنصور ببغداد وكان على شاطئ نهر الرفيل عند مصبه في دجلة وهو اليوم في وسط العمارة من الجانب الغربي وليس للقصر أثر الآن إنما هناك محلة كبيرة ذات سوق تسمى قصر عيسى وقد روي أن المنصور زار عيسى بن علي ومعه أربعة آلاف رجل فتغذى عنده وجميع خاصته ودفع إلى كل رجل من لجند زنبيل فيه خبز وربع جدي ودجاجة وفرخان وبيض ولحم بارد وحلاوى فانصرفوا كلهم مسمطين (يقال رأيته متسمطاً لحماً أي يحمله) ذلك فملا أراد المنصور أن ينصرف قال لعيسى: يا أبا العباس لي حاجة قال: ما هي يا أمير المؤمنين فأمرك طاعة قال: تهب لي هذا القصر قال: ما بي ضن عليك به ولكني أكره أن يقول الناس أن أمير المؤمنين زار عمه فأخرجه من قصره وشرده وشرد عياله وبعد فإن فيه من حرم أمير المؤمنين ومواليه أربعة آلاف نفس فإن لم يكن بد من أخذه فليأمر لي أمير المؤمنين بقضاء يسعني ويسعهم اضرب فيه مضارب وخيماً لقلهم إليها إلى أن أبني لهم ما يواريهم فقال له المنصور: عمر الله لك منزلك يا عم وبارك لك فيه ثم نهض وانصرف.

ومثل ذلك ما رواه في قنطرة خرزاذ تنسب إلى خرزاذ أم أردشير ولها قنطرتان إحداهما بالأهواز والأخرى من عجائب الدنيا وهي بين أيذخ والرباط وهي مبنية على واد يابس لا ماء فيه إلا في أوان المدود من الأمطار فإنه حينئذ يصير بحراً عجاجاً وفتحه على وجه الأرض أكثر من ألف ذراع وعمقه مائة وخمسون ذراعاً وفتح أسفله في قراره بالرصاص والحديد كلما علا البناء ضاق وجعل بين وجهه وجنب الوادي حشو من خبث الحديد وصب عليه الرصاص المذاب حتى صار بينه وبيه وجه الأرض نحو أربعين ذراعاً فعقدت القنطرة عليه فهي على وجه الأرض وحشي ما بينها وبين جنبي الوادي بالرصاص المصلب بنحاتة النحاس. وهذه القنطرة طاق واحد عجيب الصنعة محكم العمل وكان يجتاز عليها لا سيما في الشتاء وحدود الأودية وكان ربما صار إليها قوم ممن يقرب منها فيحتالون في قلع حشوها من الرصاص بالجهد الشديد فلم تزل على ذلك دهراً حتى أعاد ما انهدم منها وعقدها أبو عبد الله محمد بن أحمد القمي المعروف بالشيخ وزير الحسن بن بويه فإنه جمع الصناع المهندسين واستفرغ الجهد والوسع في أمرها فكان الرجال يحطون إليها بالزبل بالبكرة والحبال فلما استقروا على الأساس أذابوا الرصاصا والحديد وصبوا على الحجارة ولم يمكنه عقد الطاق إلا بعد سنين فيقال أنه لزمه على ذلك سوى أجرة الفعلة فإن أكثرهم كانوا مسخرين من الرساتيق التي بين أيذج وأصبهان ثلاثمائة ألف دينار وخمسون ألف دينار وفي مشاهدتها والنظر إليها عبرة لأولي الألباب.

وسنقتبس في الجزئين التاليين شذوراً من كتاب ياقوت تفيذ في تصور العمران على عهده وتدل على مبلغ عناية العرب بكل شيء ولا سيما بفن تقويم البلدان وحالة الإنسان على مدى الأزمان.