مجلة المقتبس/العدد 87/صفحة منسية
مجلة المقتبس/العدد 87/صفحة منسية
أفضنا في السنة الأولى للمقتبس (ص30و40و110) في الكلام على ترجمة الوهراني ونكتة وكتابة وهو أحد أدباء عصر صلاح الدين وقد ظفرنا في الجزء الثالث عشر من مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري من مخطوطات دار الكتب الخديوية بمصر على ما يأتي بشأن شكوى الجوامع في دمشق من سوء حالة الأوقاف في أيامه قال: الوهراني ليب أخترع طريقاً، وأفنزع عذراء لم تك رحيقاً، طلعت شمسه من المغرب ولم يغلق للرحمة باب، ولا كانت من مقدمات النذر للألباب، وقد والدولة الصلاحية قد استعلت، ويد تصرفها على البلاد قد استولت، والمجلس الناصري معمود باللإجلاء مأهول بالقاضي الفاضل وأقرانه من الفضلاء، وريح الأدب قد هبت، ووفود الخواطر إلى تلك المشاعر قد لبت، والحظ الفاضل قد أخذ معه حظ كل فأخذ ما للكل ولم يترك لهم إلا الفاضل، وكان يغر على كل بيت فكر ويرى أن لا نصيب لغيره على محياه حذر، وكان الوهراني لوذعياً تحميه لألأوه، والمعيا تريه البصيرة آراؤه، فخاف نفثات ذلك الصل، وعبثات ذلك السيف الذي لا يكل، فمال إلى السحف، إذ كان لا يحد على تلبيه ولا ينافس في ترديه وتحليه، وجعل هذا سبباً لإظهار ما عنده من الإحسان، وتكلم ولم يخف عثرة القلم ولا زلة اللسان، فرفرف عليه جانب من الحنو الفاضلي، ورق عليه كما يرق غسق البابلي، وهنيت له نغبة من العيش قدر عليه رزقها وقرر له رفقها، وولي خطابة المسجد الجامع بداريا، وقيل له الآن أنت وحي ليلى وأدر ريا، وكان إلى هذا ليس له من حاظ الدين ما يزعه، ولا من حاضر العقل ما ينزعه، فرداه سوء التجري من شاهقه وألقاه عدم التحري لقى لبوائقه، وأطلق لسانه فعثر في طلقه، وكبه في طبقه، وتخرص المنام الذي أتى فيه بالأكاذيب، وحسن باطله بحسن الترتيب، وذكر فيه الملائكة الكرام، وانهتك عرض السلف الحرام، وغير ذلك من كباره التي لا تطاق، ومنكراته التي لا يصبر عليها، وقد ذكرت بعضها هنا وإنما ذكرته لئلا أخلي هذا الكتاب منه، وهو من المسموع بهم والمسئول عنهم، وأنا استغفر الله مما ذكرت من دده، وأوردت من أباطيله، وعقدت البيان على القلم حين تسطير أضاليله، وإن كنت لم أوردها كالصد (؟) الحالي، وأنا فيه ناقل لا قائل ومن الله العصمة وبه السلام.
ومن نثره الرقعة التي له عن جامع دمشق، لما حكمت يد الضياع، في مساجد الضياع وارتج باب العدل وغلق، ونبذ كتاب الله وحلق، فزعت المساجد إلى جلق، وهو يومئذ أميرها، وعليه مدار أمورها، فلما دخلوا عليه من بابه، واجتمعوا تحت قبته ومحرابه كتب لهم جامع النيرب قصة إليه، وتوصلوا إلى من عرضها عليه، فكانت الرقعة مسطورة على هذه الصورة.
المماليك مساجد الكورة يقبلون الأرض بين يدي الملك المعظم، الرفيع المكرم، كهف الدين جمال الإسلاموالمسلمين، بيت الاتقياء والصالحين، مدفن الأنبياء والمرسلين معتد الملتين، صاحب الدولتين، بيه أمير المؤمنين أعلا الله مناره، وأيد أنصاره، وعمر بالتوحيد أقطاره، وينهون إليه ما يقاسون من جور العمال. وتضييع الأعمال. ونهب الوقوف. وخراب الحيطان والسقوف. قد ألفهم الظلمة والظلام. وأنكرهم المؤذن والإمام. فلا تسمع فيهم إلا آذان البوم. وتسبيح الغراب. قد ركعت أركانها. وسجدت سقوفها وحيطانها. تبكي عليها النواقيس. وترثي لها البيع والكنائس. يا ويح من يرثي له الشامت. وقد فزهنا أيها الملك إلى بابك. وأوينا تحت جناحك. فافعل بنا ما هو الأهل بك والسلام.
فلما وقف على هذه الحكاية. وفهم مقتضى هذه الشكاية. استوى جالساً في مقعده وضرب بيده على يد. وقال: وكيف أم للإنسان ما تمنى ثم رفع رأسه وغنى
وما شرب العشاق إلا بقيتي ... ولا وردوا في الحب إلا على وردي
ثم أشرف عليهم من إيوانه. بين حفدته وأعوانه. وأقبل يقلب طرفه في الجموع ويكفكف أسراب الدموع. لما يرى من اختلالهم وفساد حالهم. فابتدر جامع المزة للمقال. فتقدم بين يدي الملك وقال: الحمد لله الذي قضى علينا بالخراب. وصير أموالنا كالسراب. وجعنا مأوى للبوم والغراب. أحمده حمد من كان فقيراً فاستغنى. وأدرك بما الوقف ما تمنى. وأشهد أن لا إله إلى الله وحده لا شريك له شهادة عالم عامل. متحمل لثقل الأمانة حامل. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين الطيبين الأكرمين. أما بعد أيها الملك السعيد ثبت الله قواعد أركانه وشيد ما وهى من بنيانك. فإن الخراب قد استولى على المساجد حتى خلت من الراكع والساجد. فأصبحت جوامع الغوطة غيطان. لا سقوف لها ولا حيطان. ومشاهد البقاع. صفصفاً كالقاع. ومساجد حوران. مخازن وأفران. فكم من بنية لعب الجور بأربابها. ونسج العنكبوت وكم من بيوت الله أغلقت دون أصحابها فعشعش الحمام في محرابها. ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها. وقد دخل العمال أيها الملك على الوقوف. بحجة العمارة والسقوف. فاتفقت علينا الأهواء. واختلفت فينا الأمطار والأنواء. فلا يزال بنها. وتأخذه السيول والأمطار. حتى يمنحني رسمه. ولا يبقى منه إلا اسمه. وأنت أيها الملك عمادنا. وإليك بعد الله معادنا فالتفت أيها الملك إلى مالنا. وانظر في مصالح أحوالنا. يصلح الله أحوالك ويسدد أقوالك وأفعالك والسلام.
ثم جلس فقال الملك: هؤلاء المساجد. فما بال المشاهد. فبرز مشهد برزة متوكياً على مشهد الأرزة وهو يصلصل ويصول ويلطم وجهه ويقول:
كلما حاولت أشكو قصتي ... لا ألاقي غير ذي قلب جريح
يتشكى مثل شكواي له ... يا لقومي ما عليها مستريح
أما بعد أيها الملك السعيد أدام الله جمالك وبلغك في العدو آمالك فإن مقام إبراهيم، أصبح في كل وا يهيم، ومغارة الدم، لا تستفيق من الذم، ومسجد الكهف، لا يفتر من اللهف، وقير شيث، قد استأصله الخبيث، وقبر نوح، يبكي وينوح، وقبر جيلة، مالنا في عمارته حيلة، وقبرإلياس، قد تعوضنا عنه باليأس، فأمست المشاهد كأربابها، وأصبحت رميماً كأصحابها، قد محتها الغوادي، وحد بها الحادي،
جرت الرياح على رسوم ديارها ... فكأنما كانوا على ميعاد
فقال الملك رب طارق على غير وعد، وفي كل واد بنو سعد، ثم استفتح المقال بأن قال: الحمد لله الذي لا يحمد على المكروه سواه، نصب صراط العدل وسواه، وأمده بعونه وقواه، فمن أضل ممن اتبع هواه، وأضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه، أحمده على ما رزقني من الأحمال، وأشكره على ذهاب العرض والجاه والمال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً سيد الأولين والآخرين رسول الله، أما بعد معشر المتكلمين، وطائفة المساجد المتظلمين، فإنه والله ما يصل إليكم من الجور إلا ما يفضل عني، ولا ينتهي إليكم إلا ما يستعار مني، ولولا أن أركاني سليمة، وبنيتي قديمة، لأصبح جامع بني أمية، يغني عليه يا دار مية، وقد والله شرقت بغصتكم، وحرت في قصتكم، إن رفعت أمركم إلى الملك العادل، ردكم إلى الشيخ العاذل، فلا يرعى لكم حرمة، ولا يراقب إلا ولا ذمة، شكوى الجريح إلى الغربان والرخم، والرأي عندي أن تكتبوا للشيخ قصة، ولا تتركوا في صدوركم غصة، وأن تجعلوا في الكتاب أنواعاً من الكتاب؟ فإن التأم رأيه برأيكم، إلا فالسلطان من ورائكم، أقروا قولي هذا واستغفر الله لي ولكم، فبادر الغلام بالدواة والأقلام. فقال: استعذ بالله من الشيطان الرجيم واكتب: بسم الله الرحمن الرحيم من ملك الجوامع بجيرون. إلى أبي سعيد ابن أبي عصرون
لقد اسمعت لو ناديت حياً ... ولكن لا حياة لمن تنادي
أما بعد يا عدرا فقد هجت الألم. وأبهمت الظلم. ومن استرعى ظالماً فقد ظلم. كم تغاضينا عن خياناتك. وتغافلنا عن جناياتك. حتى أكتنزت الأموال وبسببه طالت نياحك. ولأجله كنت تسبح وتصيح. حتى غبطك المسيح. لقد عجبت أيها الشيخ من حالك. في ابتداء حالك. ومن فساد أمرك في آخر عمرك. صليت بالمسوح والقيد. حتى ظفرت بأنواع الصيد. وقلدت الأمور العظام. حتى تقلدت الذنوب العظام. إن كنت في العمل إلا كما في المثل
صلى وصام لأمر كان يأمله ... حتى حواه فما صلى ولا صاما
عرفني أيها الشيخ المفتون. والبائع المغبون. لم بعت الباقية بالفانية. والقاصية بالدانية. إن فعلت ذلك إلا لعلة. أو لتحقيق حلة. أما إن تكون استطبت السكباج واستليقت الديباج. وأما أن تصدق أهل الأحقاد. في أنك نصري الاعتقاد لا تقول بالنجعة ولا تصدق بالرجعة. وكلاهما أنت فيه ملوم. ومعاقب ومذموم. وحسبك أنه قد بلغني ما أنت عليه من قلة الوفاء. مع هؤلاء الضعفاء. فاحسم عنهم أذاهم. ولا تمكن منهم عداهم والسلام الخ.