مجلة المقتبس/العدد 81/رحلة إلى المدينة المنورة
مجلة المقتبس/العدد 81/رحلة إلى المدينة المنورة
تتمة ما في الجزء السابع
في مدينة الرسول
ماذا يرجى لراكب القطار الحديدي أن يراه ليصفه والقطار يسرع في سيره مواصلاً الليل بالنهار وكل بقعة من البقاع بين دمشق عاصمة الإسلام الثانية ويثرب عاصمة الإسلام الأولى تحتاج إلى عدة علماء يتوافرون عَلَى دراسة ما فيها من الآثار العادية والتاريخية والطبقات الأرضية والأحداث الجوية والمواليد الثلاثة الطبيعية أو المملكة النباتية والحيوانية والجمادية ولكن عابر سبيل يمر كالسهم لا يطالب بمثل ما يطالب به الباحث محققاً مدققاً فمعذرة إلى من يتوقعون منا أن يروا في رحلتنا هذه فائدة تخرج عن حد ما وقع عليه النظر في أيام معدودة.
ركبنا من محطة القطرانة في الكيلومتر 326 إلى المدينة فوقف بنا القطار ساعات في المحطات الكبرى وهي معان في الكيلومتر 489 وتبوك في الكيلومتر 692 ومدائن صالح في الكيلومتر 955 ثم المدينة في الكيلومتر 1303 وكانت المناظر تختلف علينا اختلاف الأهوية وكلما تقدمنا نحو الحجاز نشعر بالحرارة. وكان الوقت شهر آذار والطريق التي سلكها الخط الحجازي غريبة تدل عَلَى حذق في الهندسة وتفنن وهي لا تبعد كثيراً عن الطريق التي يسلكها الراكب الشامي مدة ثلاثة عشر قرناً فيما نعلم اللهم إلا ما اقتضته الهندسة من التعاريج كما شاهدنا ذلك في المحل المسمى ببطن الغول وغيره.
والجبال غريبة التكوين في الطريق من بعد تبوك فبعضها هرمي الشكل والآخر أسطواني وبعض متساوي الأضلاع وآخر زاوية منفرجة أو حادة أو قائمة جعلت في بسائط منظمة منفرجة تسير ساعات بل أياماً بسير الجمال ولا ترى إلا رمالاً وصخوراً وليس من الغابات إلا الهشيم (الهيش) في بعض الأصقاع أو السلم والسمر وهما أكثر شجر الحجاز. والجبال مصهورة حمراء أو كما قال البكري (معجم ما استعجم) في وصف الجبال بين مكة والمدينة أنها كلها تضرب إلى الحمرة تنبت الغرب والغضور والثمام.
وإن المرء لتحدثه نفسه وهو يطوي البيد طي السجل للكتاب من دمشق إلى المدينة كيف كان الحجاج قبل السكة الحديدية يقطعون هذه الأودية والتلول والجبال والحرات والبرقات في ثلاثين يوماً عَلَى الجمال والبغال والخيول من يتعب وهو راكب في القطار الحديدي ثلاثة أيام كان حرياً بان يهلك عَلَى ظهور المطايا أو في المحفات والهوادج والمحارات ثلاثين يوماً يضاف إليها عشرة أخرى من المدينة إلى مكة ولكن هي العادة تسهل الأشياء والتعب ينال الراكب في الأيام الأولى ثم يدمن ويمرن.
أعلى نقطة في هذا الطريق اليوم العقبة تعلو 1153 متراً عن سطح البحر والمطالع تعلو 1142 متراً وفي بعض هذه الرمال يمكن إنباط المياه وفي بعضها مياه يستقي منها العرب الرحالة هنا وأبناء السبيل فإن عشيرة الفقراء ومنازلها من تبوك إلى مدائن صالح لا تقل عن ثمانمائة بيت وقبيلة بني عطية تنزل من المدور إلى المعضم وهي تزيد عن ألفي بيتفلو صرفت عناية الحكومة إلى إسكان هاتينم العشيرتين وإعطائهما الأراضي مجاناً والصالح منها للزراعة كثير لما أتت بضع سنين إلا ودخلت هذه الموامي والمغارات في دور عمران تغني ساكنيها عن شن الغارات أو مد الأكف لأبناء السبيل في أستوكاف الصدقات.
ومن آسف ما رأيناه في الخط الحديدي ولاسيما بعد بلاد الشام أن الأولاد والبنات والرجال والنساء يأتون يلتقطون ما تجود به أكف الراكبين من الخبز والأدم يلتهمونه التهاماً وقد كان يقتلهم الجوع كما صهرت شمس الحجاز أبدانهم وإنك إذا أعطيتهم نقوداً لا ترضيهم بمثل ما يرضون بكسرات من الخبز القفار. فكأن القفار لا ينفع فيها إلا الخبز القفار. وعندنا أن أعظم صدقة يتصدق بها قاصدو البقاع الطاهرة في السكة الحجازية أن يحملوا معهم ما تسمح به نفوسهم من الخبز والأدم يوزعونه في المحطات عَلَى هؤلاء المجاويع المدقعين وذلك ريثما تصح عزيمة ولاة الأمر عَلَى تهيئة أسباب المعاش لهم.
ليس من الرأي السديد أن يعلم شعب أو أكثره عَلَى الشحاذة بل أن يعود العمل والاعتماد عَلَى النفس ولكن أرضاً لم تشفق عليها سماؤها حرية بأن يكون لأبنائها عناية من حكومتها فإن معظم ما نسمع به من الغزوات والغارات منبعث عن جوع مذيب والجوع كافر. فيساق الغازون إلى الموت أو ينالون ما يتبلغون به لسد رمقهم. وكل من قطع الطريق من مكة فالمدينة فدمشق يحدثك من فقر عرب تلك الأنحاء ما هو العجيب العجاب أو من الغريب أن الحكومة العثمانية لم تفكر حتى اليوم في إحداث موارد للرزق يعيش عليها عرب الحرمين وغيرهم ممن أرمضت نفوسهم القلة.
وإذا كان بعض قبائل الحرمين يعيشون بأجور الجمال بإكرائها في موسم الحج للحجاج بين جدة ومكة وبين هذه والمدينة تعذر تمديد الخط الحجازي من المدينة إلى مكة الآن أو تفتح الحكومة موارد جديدة يعيش منها عشرات الألوف من أهل البادية تعيضهم عن العيش من كري جمالهم في الجملة وما يتصوره بعض عمال الدولة ممن قضوا سنين في نجد والحجاز من أن العرب لا يتحضرون إلا إذا أهلكت جمالهم برمتها فيضطرون إلى السكنى ويكفون عن الغزو فهو كلام لم يراع به قائله حالة العمران والمكان وكيف يتخلى الأعراب عن تربية الأنعام وهي تدر عليهم رزقاً يسدون به حاجاتهم يستثمرون ألبانها وصوفها وشحمها وجلدها وعظامها ويبيعون حوارها وما يكبر من نياقها وجمالها. ومصر وحدها تبتاع من جمال الجزيرة العربية كل سنة ما لا يقل عن مئة ألف ليرة.
في الحجاز منافع كثيرة غفلت عنها الحكومة فلم تعرف حتى الآن غير إرهاف الحد وعندي إنها لو استعاضت مثلاً عن بناء اثنتي عشرة ثكنة من العلا إلى المدينة التي صرفت عليها 184 ألف ليرة ببعض حقول تنشئها لأعراب تلك الأنحاء وطرق للكسب توجدها لهم ومدارس ساذجة تعلم فيها بنيهم وبناتهم موجزات تنفعهم في دينهم ودنياهم لأحسن صنعاً.
ولا يستهان بعدد السكان هنا فإن جهينة وبلي والحويطات لا تقل عن سبعين ألف رجل وأكبر قبائل المدينة حرب وهي خمسون ألفاً ففي الوجهة وينبع والعلا والعقبة من أعمال المدينة مائتا ألف محارب كما قدر بعض العارفين وفي قضاء السوارقية عرب مطير وهتيم. وهتيم بقد مطير في العدد والمدد. وحدود المدينة تمتد إلى الفرع من جهة مكة وسكانها بادية كلهم وفيها قرى واسعة وقرى جوار المدينة اثنتا عشرة قرية. والفرع لا تحكمها مكة ولا المدينة وقوتهم كلهم الأرز الهندي والدقيق والتمر واللبن والأقط وأقل العرب واشرهم في أطراف هتيم ومطير. ومع كل ما في هذا القطر من الفقر تصدر منه بعض الحاصلات كالجلد والصمغ والتمر والأغنام والجمال والخيل والصوف والسمن ولو مد الخط الحجازي إلى مكة فالبحر الأحمر ومن مكة إلى صنعاء اليمن لتضاعفت صادرات الحجاز واليمن والشام ووارداتها وأمكن الناس ولاسيما الحجاج الخلاص من عاديات البدو بين الحرمين وزاد عدد الحاجين كل سنة ثلاثة أو أربعة أضعاف عددهم الآن.
نقول عرب الحرمين هم كالسائمة أشرار منذ القديم عَلَى ما أنبأنا التاريخ ظلوا عَلَى جاهليتهم الأولى لم يلطف الإسلام من شرتهم إلا قليلاً فهم يحاولون بكل ممكن أن يحولوا دون تمديد الخط أو تجعل لهم مرتبات سنوية يتقاضونها ويأمنون تقاضيها عَلَى الدهر وهي لا تقل مسانهة عن ربع مليون جنيه والعقل يعذرهم فيما لا يأتون لأن من يدافع عن رزقه يعذر والحكومة وهي الوصية الطبيعية عَلَى الضعفاء حتى يقووا مضطرة بحكم الشرائع أن تنظر في حياة أبنائها لا وأن تهلكهم جوعاً وعرياً وتعفي فقيرهم وغنيهم كما هي الآن من الجندية ودفع شيءٍ من الضرائب ولو كانت تأخذ من الموسرين لتفضل عَلَى المعسرين لحمدت خطتها أكثر.
يعيش كثير من سكان المدينة ومكة من الصدقات والأوقاف ورواتب الحكومة وربما غالى بعضهم في هذا الاتكال ولكن كيف السبيل وتجارة بلادهم ضعيفة لا تروج إلا أياماً مخصوصة من السنة في موسم الحج وتكاد زراعتهم تنحصر في بعض البساتين الضئيل ريعها التي تروى من مياه الآبار بالدلاء ثم أن العلوم التي تبعث الهمم عَلَى الأعمال الاقتصادية مفقودة في بلادهم لندرة من يعرفها منهم وبلادهم لا يدخلها إلا المسلمون وربما كان فيمن يزورونها طبقات راقية ولاسيما الهنود والمصريون ولكنهم لا يطيلون مقامهم إلا بقدر ما يزورون أو يجيء الراقون منهم ولا عمل لهم إلا التجرد عن الدنيا لا يخالطون ولا يعاشرون.
لا جرم أن سكة الحجاز قد نفعت سكان يثرب كمما نفعت سكان دمشق لأن الزوار كثر عددهم عَلَى طوال السنة والتجارة دب فيها روح جديدة في الجملة والاختلاط بالأمم نبه أفكار سكان طيبة الأصليين إلى قصورهم في ميدان العلم والتعلم. نقول السكان الأصليون وعددهم لا يكاد يبلغ ثمن السكان والباقون شاميون ومصريون ونجديون وعراقيون وتركيون وجاويون ويمانيون وزنجباريون وسودانيون وجزائريون وتونسيون ومراكشيون وسنغاليون وصينيون وهنديون وقفقاسيون وطاغستانيون وجراكسة وأكراد وكرجيون وغيرانيون وأفغانيون وبخايون وبلوجستانيون وغيرهم من شعوب الإسلام يأتون هذه البلدة الطيبة ينقطعون فيها للعبادة في مسجد خاتم النبيين صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
للمسلمين معرضان دينيان مهمان أحدهما وهو الأكبر في جبل عرفات كل سنة مرة والآخر مسجدي مكة ويثرب طول السنة ولذلمك تسمع فيها كل اللغات في آسيا وأفريقية وترى فيها كل السحنات من أبيض وأحمر وأصفر وأسود ممن تفرع من الجنسين الآري والسامي ولذلك نجد المدينة المنورة أقرب إلى أن تكون برج بابل لاختلاط اللغات والسحنات والعادات منها إلى أن تكون عربية وهي بلد النبي العربي وفي صميم بلاد العرب. والمدينة بطبيعتها تشبه إحدى مدن الأرياف في مصر لأن نحو ربع سكانها مصريون صعايدة ونصف الربع مغاربة والباقون مجنسون عَلَى ما يخمن المخمنون لا عَلَى ما يحصي العادون لأن البلاد العثمانية كلها ليس فيها إحصاء يعتمد عليه بل كثير من أصقاعها ليس له إحصاءٌ بالمرة كالحجاز مثلاً. كنت أؤمل أن أرى عناية الحكومة بالمدينة وهي مهبط أرواح المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أكثر من عنايتها الآن إذا صحة إثبات شيءٍ من العناية لها هنا ومن الأسف أنها لا تقدر هذا الامتياز المعنوي العظيم الذي تتمتع به دولة الخلافة العظمى صاحبة الحرمين الشريفين ولو قدرته حقيقة لذلت كل ما عز وهان في سبيل عمران البلدين الطيبين ولما استطاعت نظارة الأوقاف فيما بلغنا أن تلتهم أوقاف الحرمين عَلَى كثرتها وهي لا تقل عن 17 ألف ليرة في الشهر لا يصرف منها عَلَى الحرم النبوي كل سنة أكثر من خمسة آلاف ليرة لأن الأئمة والخطباء والمؤذنين ليس لهم من الرواتب ما يكفيهم فقد تجد الواحد يتناول راتباً قدره ريالان ونصف في الشهر!
وليس معنى هذا أن تصرف كل هذه الأوقاف رواتب للأئمة والخطباء والمطوفين والمزورين والناظرين والمؤذنين بل يصرف قسم منها عَلَى عشرات منهم تكفيهم ذل الطلب ويصرف الباقي في مرافق الحرمين الشريفين ثم عَلَى تزيين البلدين وفتح الشوارع والجادات فيها وجلب المياه وتوزيعها في مناهل وغرس الحدائق وإنشاء المتنزهات والساحات فمن أعظم ما شهدناه أن لا يكون في طيبة سوى شجيرات مع أنه كان عَلَى الحكومة لو غرست كل سنة عشرين شجرة أن يصبح لديها منها ألوف تحسن الهواء ويكون منها مورد يصرف في مرافق المدينة وكل حكومة تريد العمران لا يصعب عليها تحقيقه مهما حاربها الجو وما طبيعة هواء المدينة بأصعب من طبيعة عدن ومع هذا أصبحت عدن بحكومتها جنة عدن بعد أن كانت جحيماً تعوذ من نزولها كل سائح منذ عرف التاريخ.
تقول العمران: وما أحرانا أن نقول الأمن والأمان أولاً لأنه هو أول ما تطالب به الحكومة فقد شهدنا الحامية وافرة جداً في المدينة بالنسبة لسائر المدن العثمانية ومع هذا ترى اللصوص وقطاع الطريق يسلبون وربما يقتلون كل من يصادفونه خارج السور ليلاً وأحياناً نهاراً. ولقد كنت نازلاً في الفندق الوحيد الكبير الذي بناه أحد الوطنيين خارج سور بالحجر السود طبقات كلف نحو عشرين ألف ليرة وهو عَلَى قيد غلوة من سور البلدة أقضي عند بعض الأحباب إلى أول الهزيع الثاني من الليل ومع أن الحكومة الاتحادية كانت أصحبتني بدون طلب مني شرطيين يراقبان أعمالي إرساباً لي فإن أصحابي كانوا يتكفلون إيصال ي إلى النزل كل ليلة خوفاً من اللصوص أما أنا فكنت أعد الخطب سهلاً مع قطاع السابلة أكثر من الخطب بأولئك اللصوص الطغام في صور حكام ومن يكتفي بالمال والمتاع ويعفو عن قطع الأعناق لا يسوءك بقدر من يسرق ويقتل. القتل أنواع ومنه القتل المعنوي الذي ارتكبته عصابات الهول والإرهاب وبلغت بها أنقحة في استعماله حتى في البلد الطاهر في حين من دخله كان آمناً.
نعم إنني لا أعجب لتراخي الحكومة هناك في تقرير الأمن في نصابه فإن احتلال أسباب الراحة قضت عَلَى صاحب كل عربة نقل للحجارة يدفع خوة أو باجاً للصوص الأعراب الذين يستوفون خوة أيضاً من بساتين المدينة ما خلا بساتين كبار الأشراف. وهذه المساءل المحسوسة لا يجرأ أحد من أهل المدينة أن يكتبها في الصحف أو يرفعا إلى المقامات العليا لأن طواغيت الحكومة هناك هم لا يعدمون أنصاراً من الأهلين المنافقين يرهقون الكاتب ويختلقون عليه الزور للإيقاع به إذا شُهروا. ومن أغرب ما تحققت أن الحكومة قلما ترسل محافظاً للمدينة ممن ترضي سجاياهم في الجملة بل أن معظمهم عَلَى شاكلة بصري وعثمان: شدة في غير موضعها وعدم معرفة بالأمور الإدارية وأشياء ليس هذا محل سرودها.
تأملت كثيراً في مسجد الرسول أثناء الصلوات وغيرها فما رأيت خشوعاً من جميع من يختلفون إلى الحضرة النبوية الشريفة ولاسيما من غير الناطقين بالعربية فقلت في نفسي - وقد سمعت خطبة الجمعة وهي لا تخرج عن حد التزهيد في العمل والإعراض عن الدنيا كسائر خطب الجوامع في بلاد الإسلام خلافاً لما كانت عليه سنة السلف الصالح ولكن لبس الإسلام لبس الفرو مقلوباً كما قال علي كرم الله وجهه فوارحمتاه لغربة الإسلام ـ
هو أدار هذه القوة المعنوية رجال دين سليم وعقل راجح لكانت فوائد هذا الاجتماع من حيث الدين والمدنية أضعاف أضعاف فوائده اليوم فكما أرسل عليه الصلاة والسلام شعاعاً من نور حكمته قلب به العالم وغير بشريعته الطاهرة نظام الأمم هكذا يحمل دعاة دينه والمؤتمنون عَلَى تراثه سياسة المهتدين بهديه ما تستنير به العقول في هذا المجمع الجامع ويعم ضياؤه سكان الخافقين وهذا من القوى المهمة التي أضعفناها وكم ضاعت في بلادنا مواهب وقوى.
لم أشهد في المدينة عناية بأمور النظافة والإسلام جعلها من أولى الفروض فإن في المدينة عشرات من التكايا والزوايا منها نحو 25 تكية للبنود فقط كلها تحتاج لإشراف رجال الصحة وكذلك الحال في المستشفيات. أما المدارس والكتاتيب فهي تشبه بضعفها سائر فروع الأعمال واللغة العربية لا تكاد تجد لها من العناية في المدارس الأميرية نصف ما لها في مدارس لبنان الأهلية! فكأننا أبت الأقدار إلا أن نكون حتى في بلادنا غرباء. ويكفي أن يقال من جملة التمثيل في هذا الباب أن الورق الروسي والروبيات الإنكليزية معمول بها في المدينة أكثر من النقود العثمانية.
وأهم خزائن الكتب في المدينة خزانتان مكتبة السلطان محمود العثماني ومخطوطاتها ومطبوعاتها تافهة لا شأن لها وأكثرها من المشهور ونظامها وسط. وأحسنها وربما كانت خير مكتبة في البلاد العثمانية كلها بنظامها وانتقاء أمهاتها في مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت أفندي ففيها نحو عشرة آلاف مجلد كتبت بخطوط المشهورين من الخطاطين كأن تجد الكتاب ذا العشرين جلداً مكتوب بخط مشرق بديع في مجلد أو مجلدين وفي هذه المكتبة من التسهيل من المطالعين والعناية براحتهم ما لا تكاد تجد مثله في دار الكتب الخديوية بمصر لعهدنا وما ذلك إلا لكثرة ريعها وإنفاقه في سبله واختياره القيمين عليها وإدرار المشاهرات الكافية عليهم.
وبعد فإن مسجد الرسول عَلَى كثرة عناية ملوك الإسلام بأمره في كل دولة وحكومة ليس من السعة وجودة البنيان بأكثر من جامع السلطان أحمد أو آيا صوفية من جوامع الآستانة وإن كان يشبههما في طراز بنائهما فهو أقل سعة من جامع الأزهر بالقاهرة والجامع الأموي بدمشق كان هذا المسجد الشريف والمسلمون قليل عددهم لا يتجاوزون عشرات الألوف ثم كبره بعض الملوك بحسب ما اقتضت الحال ولو نظرنا اليوم إلى عدد المسلمين وهم لا يقلون عن 250 مليوناً وعددنا من يحج ويزور منهم كل سنة لأقضى لا أن نجعل سعة الحرم المدني أربعة أضعاف ما هو الآن عَلَى الأقل ونزينه بجميع أسباب المدنية الحديثة التي لا يحرمها الشرع ولا تنم عن إسراف.
قال ابن قتيبة في المعارف: روى إبراهيم بن صالح عن سعد بن كسيان عن نافع أن عبد الله بن علي أخبره أن المسجد يعني مسجد المدينة كان عَلَى عهد رسول الله ﷺ مبنياً بلبن وسقفه الجريد وعمدوه خشب النخل فلم يزد فيه أبو بكر شيئاً وزاد فيه عمر ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة وبالفضة وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج ووسعه المهدي سنة ستين ومائة وزاد فيه المأمون زيادة كثيرة ووسعه والمؤذنون فيه من ولد سعد القرظ مولي عمار بن ياسر وقرأت عَلَى موضع زيارة المأمون أمر عبد الله عبد الله بعمارة مسجد رسول الله سنة اثنتين ومائتين طلب ثواب الله وطلب جزاء الله وطلب كرامة الله فإن عنده ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعاً بصيراً أمر عبد الله عبد الله بتقوى الله ومراقبته وبصلة الرحم والعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عيه وسلم وتعظين ما صغر الجبابرة من حقوق الله وإحياء من أماتوا من العدل وتصغير ما عظموا من العدوان والجور وأن يطاع الله ويطاع من أطاع الله ويعصى من عصى الله فإن لا طاعة لمخلق في معصية الله والتسوية بينهم في فيئهم ووضع الأخماس مواضعها.