مجلة المقتبس/العدد 76/أبيات العادات
مجلة المقتبس/العدد 76/أبيات العادات
من أبيات العادات قول الشاعر:
يهب الجلاد بريشها ورعانها ... كالليل قبل صباحه المتبلج
وهو مبني عَلَى عادة كانت لملوك العرب ذكرها الجاحظ وذلك أنهم كانوا يغرزون الريش في أسنمة جمالهم يحملونها بذلك شرف أصحابها ومنه يظهر لك المراد من قولهم في أحاديثهم فرجع النابغة من عند النعمان وقد وهب له مائة من عصافيره بريشها. والعصافير إبل كانت للملوك نجائب وفي لسان العرب وأعطاه مائة بريشها قيل كانت الملوك إذا حبت حباءً جعلوا في أسنمة الإبل ريشاً وقيل ريش نعامة ليعلم أنها من حباء الملك وقيل معناه برحالها وكسوتها وذلك لأن الرحال لها كالريش اهـ.
وأما قول ذي الخرق الطهوي:
لما رأت إبلي حطت حمولتها ... هزلى عجافاً عليها الريش والخرق
قالت ألا تبتغي عيشاً تعيش به ... عما تلاقي فشر العيشة الرنق
وقول الآخر:
كأنها ريشة في غارب الجرد ... في حيثما ضربته الريح يتصرف
فليسا مما تقدم بل المعنى أن هذه الإبل قد دبرت ظهرها لأنهم كانوا إذا ظهرت دبرة بظهر بعير غرزوا في سنامه إما قوادم نسر أسود وإما خرقة سوداء لتفزع الغربان فلا تسقط عليه لأن الغراب مولع بنقر الدبر وعقرها حتى يبلغ الدأيات وهي عظام الكاهل ولهذا سمت العرب الغراب بابن دابة.
(ومنها) قول الحرث بن حلزة اليشكري في معلقته:
عنناً باطلاً وظلماً كما تعتر عن حجرة البيض الظباء
الحجرة بالفتح الناحية والمراد بها هنا موضع الغنم وأصل العتر الذبح في رجب وكانت العرب تنذره لآلهتها فيقول أحدهم إن رزقني الله مائة شاة ذبحت عن كل عشرة شاة في رجب ويسمى هذا الذبح العتيرة والرجيبة وهو مما نهى عنه الإسلام. والبيت مبني عَلَى عادة كانت لهم وهي أن الرجل كان إذا ضن وبخل بما نذر صاد الظباء فذبحها عوضاً عن الشياه والمعنى أنكم تطالبوننا بذنوب غيرنا كما تذبح الظباء بدل الغنم. وقول كعب بن زهير في رثاء جويءٍ المزني: لنذرك والنذر لها وفاء ... إذا بلغ الخزاية بالغوها
كأنك كنت تعلم يوم بزت ... ثيابك ما سيلقى سالبوها
فما عتر الظباء بحي كعب ... ولا الخمسون قصر طالبوها
معناه أننا وفينا لك ولم نقنع بأخذ ثأرك بشيءٍ يغني عما نذرته كما تذبح الظباء بدل الغنم وهو مثل ضربه وكان جويء لما أصيب مر به رجل فقال أخا مزينة ما طرحك هذا المطرح فو الله إنك من قوم يحمونك فرفع رأسه إليه وهو يجود بنفسه فقال أعطي الله عهداً ليقتلن منكم خمسون ليس فيهم أعور ولا أعرج وبلغ قوله قومه فوفوا له بما قال.
(ومنها) قول عروة بن الورد أشد صاحب اللسان
وغني وإن عشرت من خشية الردى ... نهاق حمار إنني لجزوع
عشر الحمار نهق أو تابع النهيق عشر نهقات ووالى بين عشر ترجيعات في نهيقه فهو معشر ونهيقه يقال له التعشير. وكانت عادتهم أن الرجل منهم إذا ورد أرض وباء وضع يده خلف أذنه فنهق عشر نهقات نهيق الحمار ثم دخلها لزعمهم أنه إن فعل ذلك أمن من الوباء. وكان عروة قد خرج في رفقة إلى خيبر فلما قربوا منها عشروا وأبى هو أن يفعل فعلهم.
(ومنها) قول امرئ القيس بن حجر من قصيدة يصف بها رحيله إلى قصره:
إذا قلت روحنا أرن فرانق ... عَلَى جلعد واهي الأباجل أبثرا
عَلَى كل مقصوص الذنابي معاود ... بريد السرى بالليل من خيل بربرا
الفرانق الذي يدل صاحب البريد عَلَى الطريق وبربر قبيلة توصف خيلها بالصلابة وقد يسأل لم كانت هذه الخيول مقصوصة الأذناب فالجواب أنه كان من عادتهم قص أذناب بغال البريد ومنه قول الفرزدق:
أتغضب أن أُذنا قتيبة حزناً ... جهاراً ولم تغضب لمقتل ابن حازم
وما منهما إلا نقلنا دماغه ... إلى الشام فوق الشاحبات الرواسب
تذبذب في المحلاة تحت بطونها ... محذفة الأذناب جلع المقادم
يعني بالشاحبات البغال والمراد هنا التي للبريد كما في كامل المبرد. وأما الخيل فكانت خاصة ببرد ملوك العرب في الجاهلية ولهذا ذكر امرئ القيس في بيته المتقدم لأنه كان ملكاً بريده الخيل أما تخصيصه خيل بربر بالذكر دون سواها من خيل العرب فقد قال عنه ابن رشيق في العمدة كانت الخيل البربرية تلهب أذنابها كالبغال لتدخل مداخلها في خدمة البريد وليعلم إنها للملك اهـ قلت لعل ذلك كان لصلابتها كما قدمنا وأما قص أذنابها فربما للإعلام بأنها للبريد ولا يبعد أنه كان طلباً للخفة في العدو كما كانوا يعقدون شعر الأعراف والأذناب في الحرب قال الشاعر:
عقدوا التواصي في الطعان فلا ترى ... في الخيل إذ يعدون إلا أنزعا
وقال المتنبي:
ويوم جلبتها شعث النواصي ... معقدة السبائب للطراد
والسبائب جمع سبيب وهو شعر الذنب ويجوز أن يكون لسبب آخر لم أقف عليه. ثم اعلم أن عادة قص الأذناب كانت خاصة عندهم بخيل البريد دون عامة الخيل فإنهم كانوا يستحبون طول أذنابها ويمتدحون به كما قال النابغة:
وكل مدجج كالليث يسمو ... عَلَى أوصال ذيال رفن
وكما قال امرؤ القيس:
لها ذنب مثل ذيل العروس ... تسد به فرجها من دبر
الفرج الفرجة التي بين الرجلين قال ابن رشيق أراد طوله لأن العروس تجر ذيلها إما حياءً وإما من الخيلاء اهـ. قلت وإن عندي امرأ القيس لم يصب كل الإصابة في هذا الوصف لأنهم قالوا يكوه من الفرس أن يكون قصير الذنب وإن يكن طويلاً بطأ عليه فليته جرى هنا عَلَى ما قاله في معلقته:
ضليع إذا استدبرته سد فرجه ... بضاف فويق الأرض ليس بأعزل
فوصف ذنبه بالطول إلا أنه جعله فويق الأرض لأنه إذا بلغها وطئه برجليه وربما عثر به وذلك عيب منه يظهر لك ما في البحتري من الخطأ والوصف:
ذنب كما سحب الرداء يذب عن ... عرف وعرف كالقناع المسبل
(ومنها) قول أنس بن مدرك:
إني وعقلي سليكاً بعد مقتله ... كالثور يضرب لما عاقت البقر
لأن العرب كانت إذا أوردت البقر فلم تشرب لكدر الماء أو لقلة العطش ضربوا الثور ليقتحم الماء لأن البقر تتبعه كما تتبع الشول الفحل وكما تتبع أتن الوحش الحمار وكانوا يزعمون أن الجن هي التي تصد الثيران عن الماء حتى تمسك البقر عن الشرب فتهلك. وقال الجوهري إذا البقر امتنعت عن شروعها في الماء لا تضرب لأنها ذات لبن وإنما يضرب الثور لتفزع هي فتشرب اهـ. وقيل أراد بالثور ثور الماء وهو الطحلب فإذا أورد البقلر القطعة من البقر فعافت الماء وصدها عنه الطحلب ضربه ليفحص عن الماء فتشربه فيكون ذكره هنا بعد البقر للإلغاز به عَلَى المسامع.
ومنه قول الأعشى:
كالثور والجني يضرب ظهره ... وما ذنبه أن عافت الماء مشرباً
والجني هو اسم الراعي لا الواحد من الجن في قول.
(ومنها) قول النابغة
لكلفتني ذنب امرئ وتركته ... كذي العر يكون غيره وهو رائع
هكذا رواه الأعصمي وروى وابن عربي (حملت عليَّ ذنبه وتركته) والعر بضم العين المهملة قروح تخرج من مشافر الإبل وقوائمها والبيت عَلَى عادة كان يفعلها جهال العرب فكانوا إذا وقع العر في إبلهم اعترضوا بعيراً صحيحاً فكووا مشفره وفخذه يرون أنهم إذا فعلوا ذلك ذهب العر من إبلهم كما كانوا يعلقون عَلَى أنفسهم كعوب الأرانب خشية العطب ويفقؤن عين فحل الإبل لئلا تصيبها العين وهذا قول الأصمعي وأبي عمرو وأكثر اللغويين كما ذكر ابن السيد في الاقتضاب. وقيل إنما كانوا يكوون الصحيح لئلا يعلق به الداء لا ليبرأ السقيم. وقيل هذا أمر لم بكن وإنما هو مثل لا حقيقة. وقيل أصله أن الفصيل إذا أصابه العر لفساد في لبن أمه عمدوا إلى أمه فكووها فتبرأ ويبرأ فصيلها لأن ذلك الداء إنما كان يسري إليه في لبنها قال ابن السيد وهذا أغرب الأقوال وأقربها إلى الحقيقة.
(ومنها) قول عبد الله بن عداء البرجمي:
لو كنت جار بني هند تداركني ... عوف ابن نعمان أو عمران أو مطر
قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم ... لم يسلموه ولم تسنح له بقر
وذلك لأن العرب كانت تتشاءم بالبقر لحدة قرونها.
(ومنها) قول المثلم بن عمرو التنوخي: يمنعني لذة الشراب وإن ... كان قطاباً كأنه عسل
حتى أرى فارس الصموت عَلَى ... أكساء خيله كأنها إبل
وليس المراد أنه امتنع عن خمر لمجرد حزنه أو لاشتغاله بأخذ الثأر كما هو ظاهر المعنى بل هو مبني عَلَى عادة كانت لهم وهي أن الواحد منهم إذا أصيب بوتر كان يعقد عَلَى نفسه نذراً في مجانبة بعض اللذات.
(ومنها) قول مرة بن محكان التميمي في وصف ناقة نحرت وهو من شعراء الحماسة:
زيافة بنت زياف مذكرة ... لما نعوها لراعي سرحنا انتحبا
أمطيت جازرها عَلَى سنانها ... فصار جازرنا من فوقها قتباً
ينشنش اللحم عنها وهي باركةٌ ... كما تنشنش كفّا قاتل سلبا
ينشنش أي يكشف ويفرق قال التبريزي في شرحه قال أبو محمد الأعرابي لو قال قائل لما قال وهي باركة ولم يذكروا وهي مضطجعة وليس شيء من الحيوان يسلخ إلا مضطجعاً قيل له عن عادة العرب أنهم إذا نحروا الناقة وخشوا أن تضطجع رفدها الرجال من جانبيها حتى تموت وهي باركة وذلك إن جزرهم إياها وهي باركة مستوية هو خير من جزرهم إياها وه مضطجعة عَلَى جنبها فإذا ماتت جزلوها والجزل أن يحزوا أصل العنق ما بين المنكبين حتى يسترخي العنق ولم يقطعوه كله وقد فصلوه ثم يكتنفها الرجال فيكتف السنام رجلان وذلك أن يكون أحدهما من جانبها من شق والآخر من الشق الآخر منة قبل الكتفين وآخران من قبل العجز فثلاثة من جانب وثلاثة من جانب والسالخ واحد وهي باركة.
(ومنها) قول القائل:
إذا انتدى واحتبى بالسيف دان له ... شوس الرجال خضوع الجرب للطال
كأنما الطير منهم فوق هامهم ... لا خوف ظلم ولكن خوف إجلال
احتبى الرجل إذا جمع ظهره وساقيه بعمامته أو بيديه ومنه الحديث الإحتباء حيطان العرب أي ليس في البراري حيطان فإذا أرادوا أن يستندوا احتبوا لأن الإحتباء يمنعهم من السقوط ويصير لهم كالجدار وقوله انتدى أي جلس في النادي والبيت مبني عَلَى عادة كانت لهم ذكرها التبريزي في شرح الحماسة وهي أنهم كانوا يحتبون بالسيوف عند عقد جوار أو حرب أو تسويد رئيس وما يجري هذا المجرى لأن السيف في أمثال هذه الأحوال ربما مست الحاجة إليه ولذلك قال جرير:
ولا يحتبى عند عقد الجوار ... بغير السيوف ولا يرتدى
وفي غير هذه الأحوال إنما يحتبون بالأردية وغيرها.
(ومنها) قول حاتم:
أما والذي لا يعلم السر غيره ... ويحيي العظام البيض وهي رميم
لقد كنت أختار القرى طاوي الحشا ... محافظة من أن يقال لئيم
وإني لأستحيي يميني وبينها ... وبين فمي داجي الظلام بهيم
المعنى أن أقري الضيف وأنا طاوي الحشا لأني أوثره عَلَى نفسي. وقد يسأل عن مراده في البيت الثالث ولم يكن يأكل في الظلمة والجواب أنه بلغ من إكرام العرب للضيف إن أحدهم ربما أطفأ النار وأمسك عن الأكل أوهم الضيف أنه يأكل ليشبع الضيف.
(ومنها) قول الفرزدق:
ولما تصافنا الأدواة أجهشت ... إلي غضون العنبري الجراضم
وجاء بجلمود له مثل رأسه ... ليسقي عليه الماء بين الصرائم
عَلَى حالة لو أن في القوم حاتماً ... عَلَى جوده لضن بالماء حاتم
التصافن اقتسام الماء بالحصص وكانت عادتهم إذا كانوا في فلاة وقل الماء ولم يوجد معهم إناءٌ صغير يقسمونه به تصافنوه بأن يضعوا في الإناء الكبير حصاة ويسكبون فيه الماء بقدر ما بغمر الحصاة فيعطاه كل رجل منهم وقصة كعب بن مامة في المصافنة وتفضيله النمري عَلَى نفسه حتى مات عطشاً مشهورة وبسببها ضربوا به المثل في الجود وهو الذي عناه جرير بقوله لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه:
وما كعب بن مامة وابن سعدى ... بأجود منك يا عمر الجوادا
وبقي في هذه الأبيات جرهم لفظ حاتم والوجه رفعه عَلَى أنه فاعل تضن ولكنهم رووه هكذا تبعاً لقوافي القطعة وخرجوه عَلَى أنه بدل من الهواء في وجوده ولهم في ذلك خلاف وكلام طويل الذيل ليس هنا موضع استيفائه ولو خيرت لكنت اختار رفعه عَلَى الإقواءِ تخلصاً مما تكلفوه. وقال التنوخي في الأقصى القريب ويروى (ضنت به نفس حاتم) ولا إشكال حينئذ والظاهر أن هذا إصلاح لا رواية انتهى كلامه.
(ومنها) قول القائل:
لا در در رجال خاب سعيهم ... يستمطرون لذي الأزمات بالعشر
أجاعل أنت بيقورا مسلعة ... ذريعة لك بين الله والمطر
العشر بضم ففتح والسلع بفتحتين ضربان من الشجر والبيقور البقر وكانت عادتهم في الجاهلية الأولى إذا اسنتوا جعلوا السلع والعشر في أذناب البقر وعراقيبها وأشعلوا فيها النار وحدروها من الجبال فتضج البقر ويمطرون عَلَى زعمهم وتسمى هذه النار نار الاستمطار. والبيت الثاني ذكر صاحب القاموس في مادة (سلع) أن فيه تسعة أغلاط لم يبينها هو ولا شارحه وبينها السيد عبد الرحمن العمادي عَلَى ما ظهر له وذكرها صاحب خلاصة الأثر في ترجمته وكلها أوجلها ليس من الغلط في شيء والله أعلم.
القاهرة
أحمد تيمور