مجلة المقتبس/العدد 72/جنون الاستعمار

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 72/جنون الاستعمار

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 2 - 1912



إذا قيل أن السياسة لا قلب لها فيقال أن جنون الاستعمار فنون فقد ساق الغرور دولة إيطاليا إلى أن تخرق العهود وقوانين الدول وتبعث إلى طرابلس الغرب وبرقة بمدرعاتها وجيوشها للاستيلاء بدون مسوغ قانوني عَلَى بلاد طرابلس وبرقة من يد صاحبتها الشرعية دولتنا العثمانية ولو أتت دولة شرقية مع دولة غربية ما أتته إيطاليا مع العثمانية لقامت الدول الكبرى يداً واحدة والله أعلم أي تعريض كن يقضين عَلَى المعتدية به ولكن السياسة لا قلب لها وجنون الاستعمار فنون.

قال الرحالة روهلفس الألماني وقد زار صحراء أفريقية مرة ثانية سنة 1877: إن طرابلس الغرب مفتاح أفريقية فمن يملكها يملك السودان كله وفي الواقع أن البحر المتوسط يكاد يمس الصحراء من طرابلس وإليها تنتهي ثلاثة أو أربعة طرق من الطرق المهمة في الصحراء فمن طريق غدامس يوصل إلى السودان الغربي ماراً ببلاد توات وتومبكتو ومن طريق مرزوق وغات ينتهي الطريق إلى بحيرة تشاد وطريق بنغازي (برقة) يؤدي إلى النيل ودارفور ولكن هذه الطرق لا أمن فيها وخصوصاً في جهات فزان من الجنوب حيث ال + + ة والجياع من الطوارق قد يمدون أيديهم بالأذى إلى أبناء السبيل ولاسيما أيام المجاعات وما أكثرها في طرابلس وبرقة.

وهذا ما منع فرنسا وغيرها من دول الاستعمار من قطع المطامع من طرابلس لأنها متنائية الأطراف وعمران الصحراء هو والعدم سواء وبلاد هذا حالها من الفقر الطبيعي يستحيل عَلَى شركة عاقلة في الغرب أن تقد عَلَى إنشاء خط حديدي يرابط أدناها بأقصاها عَلَى الأقل ولذلك كانت نقاط اتصال الصحراء بالبحر من البحر الأتلانتيكي وخليج غينية والبحر الأحمر يفضلها التجار وأكثر طرقها لا ماء فيه أربعة أو خمسة أيام عَلَى الوصول إلى البحر المتوسط من إحدى موانئ هذا الإقليم طرابلس ودرنة وبرقة وطبروق والسلوم.

بيد أن إيطاليا تحلم بالاستيلاء عَلَى طرابلس قبل أن تؤلف وحدتها لتكون لها مركزاً تعتمد عليه بين جزيرة كورس الفرنسوية وثغر برزت التونسي وجزيرة مالطة الإنكليزية وثغر تريسته النمسوي فتجعل طبروق من إقليم برقة مرفأً حربياً في نقطة وسطى بين تلك الجزائر والثغور. ويقول أنصار إيطاليا أنهم إذا تم لهم ما تريد فإنها تنتفع من الوجهة الاقتصادية من برقة عَلَى الخصوص لأنها تشبه تونس بعمرانها وقد غرس اليونان الك والزيتون في أرضها وفيها من غلات الإسفنج شيء كثير فتصرف فيها وفي غيرها مصنوعات معامل بيمون ولومبارديا وبالنظر لقرب طرابلس وبرقة من جزيرة صقلية الإيطالية ولكثرة سكان هذه الجزيرة يجيء بعض أهلها يستنبتون الحقول ويستثمرون المعادن في طرابلس.

ولكن فات أولئك الباعثين أن ذاك الحلم عَلَى فرض تحقيقه والرجاء أن يخيب أن إيطاليا كانت تستطيع الوصول إلى هذا الغرض من إفادة بعض أبنائها من خيرات هذا الإقليم العثماني بأن تبذر في مشروعاته النافعة جانباً من أموالها فتنال ما تريد بحكم المنافسة بين أرباب الأموال والأعمال ولاسيما الأوربيين منهم كما هو الحال في معظم أصقاع المملكة العثمانية.

فقد رأينا فرنسا وضعت ملايين من أموالها في شركات السكك الحديدية في المملكة العثمانية فحفظت بذلك نفوذها ونفعت تجارتها ومعالمها فكان عَلَى إيطاليا لو أحبت الانتفاع بسلام أن تجرى عَلَى آثار الفرنسيس جيرانها وبذبك يتوفر لها من النفقة كل يوم عَلَى بريتها وبحريتها منذ نحو ثلاثة أشهر بمئة ألف جنيه وهذا مبلغ جسيم بالنسبة لمملكة تطبق مفاصل ميزانيتها بضرب الضرائب الفادحة عَلَى رعاياها حتى هاجر منهم إلى أقطار الأرض حتى الآن زهاء ستة ملايين رجل.

قضت إيطاليا بنظامها الجائر في التملك أن يترك الناس بلادهم تنعي من بناها وكان أهل صقلية أقاليم جنوب إيطاليا أكثر البلاد هجرة حتى أن بعض القرى خلت من السكان جملة وأكثرها هجرة ثلثا ساكنيه وأصبحت الحال هناك في شقاء ليس بعده شقاء وفقر وعهر لا يدرك غورهما فكر وناهيك ببلاد يهجرها رجالها ولا يبقى فيها إلا البنون والبنات والعاجزون والعاجزات.

لمثل هؤلاء القوم يستعد الخاصة من الطليان كما تقول إحدى مجلاتهم منذ الزمن الأطول للسياسة الاستعمارية ومعظم الشعب الإيطالي لا يهتم بتاتاً بمستقبل المستعمرات الإيطالية كأرتيرة والصومال بل يتجشمون البحار إلى أميركا الشمالية والجنوبية هناك يعملون ويرتزقون. فقد بدأ الخاصة سنة 1905 يلقون محاضرات عَلَى الاستعمار وبعد سنتين أنشئ ديوان الزراعة الاستعمارية الإيطالي وغايته أن يوجه الإيطاليون وجهتهم إلى المستعمرات الإيطالية ويتخلون عن قصد أميركا وغيرها من ديار الأجانب فأُنشئت لذلك حدائق للنبات الاستعماري في مدينتي رومية وبلرمة وهذا الديوان يتلقى من المصادر المختلفة معلومات عن زراعة البلاد التي يراد استعمارها وحيواناتها وموادها ومناخها ومقدار المطار التي تهطل فيها ويقوم بأبحاث جيولوجية من حيث مساحة الأراضي وخصائص شعوبها وأحوالها الاجتماعية والاقتصادية وفيه تلقى محاضرات في زراعة المستعمرات وحفظ الصحة في الاستعمارية وهو يؤسس مدارس إعدادية للاستعمار وينشر مجلات وكتباً في هذه الموضوعات.

وهذه النظريات لم تستطع إيطاليا حتى اليوم أن تطبقها عَلَى العمل إلا في بلادها الأصلية العامرة بطبيعتها مثل الولايات الشمالية وعَلَى كثرة ما يؤلفون من الشركات والجمعيات لإنهاض شأن المهاجرين الإيطاليين في أميركا فإن الإسرائيليين هناك كما أكد محققوهم أنفسهم أقدر منهم عَلَى الأعمال فإن قسماً مهماً من التجارة الصغيرة والعظيمة بأيدي الإسرائيليين وكذلك المصارف الكبرى والحكومة والوظائف العامة وعَلَى قلة عددهم لهم مكانة دونها مكانة الإيطاليين الذين يدعون أنهم من نسل غاريبالدي ومازيني وميكل آنجل وليونارد دي فنسي ورافاييل سانتريو وأمثالهم من أرباب الصناعات النفسية ورجال الإدارة والسياسة.

نحن نعلم أن الطليان كثير نسلهم يباكرون إلى الزوج رجالاً ونساءً وإن نسبة السكان منهم إلى كل كيلومتر مربع أكثر من نسبتها في ألمانية ففي الكيلو متر المربع في إيطاليا 117 ساكناً وفي ألمانيا 104 أشخاص وقد ارتقت التجارة الإيطالية ارتقاء مهماً ولاسيما بعد أن توطدت أركان الوحدة الإيطالية وتألفت من تلك الممالك الصغرى البندقية وطوسكانيا وجنوة وغيرها هذه المملكة الكبيرة وإن دين إيطاليا قليل بالنسبة لسائر الممالك الممدنة ولكن كل هذه الصفات لا تبرر عملها عند العقلاء وسوف تعلم أنها لو صرفت نصف ما صرفته حتى الآن من المال والرجال في الأعمال العمرانية سواءٌ كان في بلادها أو خارجها لكان أحسن لها وأبقى.

وما نظن أن إيطاليا تستطيعان تنزع من أرباب الأملاك أملاكهم في طرابلس مهما نوعت أساليب الحيل ففرنسا بعد استعمار الجزائر منذ سنة 1830 عَلَى شدتها في استعمارها لم تتمكن من الاستيلاء عَلَى ما تحب من الأراضي كما يفعل الرومانيون في البلاد التي يفتحونها وينزعون من المالكين ويستعمرونها بأبنائهم غالباً والرومانيون أجداد الإيطاليون الأول وإلى اليوم لم تربح حكومة فرنسا من الجزائر بل هي تخسر عليها.

فهل يعقل أن تتحقق أماني إيطاليا في طرابلس والخصب فيها في أماكن معينة وعي ملك لأهلها ولطالما دافعوا عنها دفاعهم اليوم من اعتداء الفاتحين وطردوهم من عقر دارهم. فإذا كانت إيطاليا تقصد الإثراء ونفع أبنائها فهذه الطريقة من أعقم ما لجأت إليه دولة مستعمرة من دول المدنية الحديثة فإن ثروة الناس لا تزيد باتساع ممالكهم فالصيني ليس أغنى من الفرنسوي مع أن سكان الصين عشرة أضعاف سكان فرنسا والألماني ليس أغنى من البلجيكي من أن سكان ألمانيا عشرة أضعاف سكان بلجكا وقد تضيق أرض بسكانها حتى يقل الرزق عليهم فيها فتضطر حكوماتهم أن تمتلك بلاداً أخرى كثيرة الخيرات قليلة السكان حتى تسهل عَلَى الفاضل من أهاليها المهاجرة إلى تلك البلاد والارتزاق فيها كما فعلت إنكلترا وهولاندا وجرت فرنسا وألمانيا مجراهما. ولكن إيطاليا لم تعمر كل بلادها حتى الآن فليس بها حاجة إلى فتح بلدان أخرى وتعميرها للارتزاق منها فإن عندها جزيرة سردينيا مساحتها أكثر من 9300 ميل مربع وليس فيها من السكان سوى 810000 نفس مع أن صقليا تماثلها مساحة وسكانها أكثر من ثلاثة ملايين ونصف وعندها مستعمرة ارتريا في أفريقية عَلَى حدود السودان ومساحتها 45800 ميل مربع أي نحو نصف مساحة إيطاليا كلها وهي من أغنى بلاد الدنيا بالمناجم والحراج وليس فيها من السكان نصف مليون نفس وعندها بلاد الصومال ومساحتها نحو 140000 ميل مربع أي أكثر من مساحة إيطاليا بنحو ثلاثين في المئة وسكانها نحو 400000 نفس وهي بلاد زراعية كثيرة الخيرات فعَلَى م لا يهاجر الإيطاليون إلى هذين البلادين ويعمرونها إن كانت بلادهم قد ضاقت عليهم.

وهب أن إيطاليا اهتمت بإصلاح طرابلس الغرب واستثمار خيراتها فهي إما أن تستأثر بذلك لتنحصر الفائدة فيها وفي سكان طرابلس فتكون قد جرت مجرى إسبانيا والبرتغال في استعمارهما فتفشل فشلهما لأنهما فشلتا فشلاً تاماً في كل البلدان التي امتلكتاها وحاولتا استعمارها ومنعتا غيرهما من مشاركتهما في النفع وأما أن تجري مجرى إنكلترا وهو فتح أبواب مستعمراتها لتجارات كل الأمم وحينئذ لا يكون السبق للإيطاليين بل للإنكليز والألمان لأن السبق في المناظرة التجارية للأغنى مالاً والأوفر علماً والأمهر صناعة. وهيهات أن تعيش إيطاليا في طرابلس الغرب بتعب غيرها وإعنات أهلها فإذا فعلت يحل بها الخراب كما حل برومية في أيامها الخالية.

يحل بها الخراب لأن فكرة العظمة الرومانية يضيق عَلَى إيطاليا الحديثة خناقها ويحرج صدرها فهي تريد أن ترجع إلى أصولها البعيدة وتطمع في غير مطمع ولا تتنازل عن عجبها. تريد بالتهور في الاستعمار أن تغتني وتعيد إلى رومية الثالثة مجداً أضاعته الأيام وفساد الأخلاق والنظام بل تطمع بأن تجعل ممالك أوربا حافات من حول عرشها تسبح بحمدها وتفاخر بمجدها كما طمع نابليون الأول فكان في ذلك إضعاف أمته بأسرها فأهرق دماءها ودماء غيرها وأفقرها وأفقر جيرانها وكان مصيره أسوأ حال.

تحاول إيطاليا اليوم الدعوة إلى إعادة مجد الرومان بجميع أساليب الدعوة من نشر الصحف وإلقاء الخطب وإنشاء المدارس حتى أن الكتب المدرسية التي تعلمها للأولاد تعد فيها نيس وكورس وترانتن من بلادها مع أنها للفرنسيس تسير في ذلك عَلَى سيرة إحياء الشعور الوطني كما كانت تفعل الحكومة عندنا في كتب الجغرافيا التركية فتذكر فيها من أملاكنا ما فقدناه من نحو مئة سنة ولم يبق لنا حق من الحقوق الدولية والشرعية فيه.

تظن إيطاليا أنها تحمل المهاجرين من أبنائها بمئات الألوف إلى طرابلس وفاتها أن هذه البلاد حتى اليوم عَلَى قربها من أوربا ليس فيها سوى 2200 مالطي و1000 إيطالي و700 فرنسوي و600 إنكليزي و150 إسبانيولياً وبعض الهولانديين والنمساويين واليونان والألمان والأميركان لا يبلغ مجموعهم كلهم خمسة آلاف نسمة وإن أكفأ الناس في التجارة والصناعة والزراعة واقدر الأمم بالملل والرجال هم يستثمرون الأرض فأين هم من الألمان فقد بلغ من حذقهم أن استولوا عَلَى كثير من أعمال التجارة في لندن ونيويورك بل في باريز نفسها وناهيك بكره الفرنسيس لأعدائهم الألمان ولقد قدروا مؤخراً عدد الألمان في باريز وضاحيتها بمئة وأربعين ألفا يتجرون في نفس عاصمة الفرنسيس بجميع أنواع التجارة وينافسون الفرنسويين في أرباحهم فتجد منهم الكتبيين والخياطين والجوهريين والفرائين وشركات الضمان والصيارف وغير ذلك من فروع العمل فلو تدبرت إيطاليا أو خاصتها المفكرة لعلمت أنها قادمة عَلَى معترك شديد في طرابلس وبرقة ولو سلم لها ما تنويه من الغوائل الأهلية ولو سلم من كل ذلك لكانت العاقبة في الاستعمار لأرقى الأمم في مذاهب المعاش وأعرفها بطرق الانتفاع والنفع ولكن هو فساد الإدارة وجنون الاستعمار تركب الأمم في سبيلهما العار وتهوي في مهاوي الدمار والبوار.