مجلة المقتبس/العدد 7/عميان يؤلفون
مجلة المقتبس/العدد 7/عميان يؤلفون
تكاد تكون قاعدة لا تتخلف أن من فقد إحدى حواسه تقوى فيه غيرها فمن فقد بصره مثلاً تقوى ذاكرته ومن فقد سمعه يشتد إدراكه. ولما قرأت ترجمة هوميروس الشاعر اليوناني وعلمت أنه كان ضريراً وقرأت ترجمة ملتون الشاعر الإنكليزي وعلمت أنه كان كذلك وقرأت ترجمة أبي العلاء المعري الشاعر العربي وقلت أنه كان مثلهما وقرأت ترجمة ابن الحناط وقع في نفسي أن أكتب مقالاً في عميان صنفوا وأجادوا أيام كان العرب يؤلفون ويجيدون.
فمنهم قتادة بن دعامة كان اكمه وكان يقول لقائده سعيد بن أبي عروبة تجنب بي الحلق التي فيها الخطأ فإنه ما وصل إلى سمعي شيء قاداه إلى قلبي فنسيه. وكذلك كان بشار بن برد رأس طبقة شعراء المولدين اكمه وغاية في ذكائه وتوقد خاطره. وكان ابن الثمانيني نحوياً ألف فيه وانتفع بالاشتغال عليه جمع كثير توفي سنة 442 هجرية وكان شمس الدين بن جابر الأندلسي ضريراً وهو صاحب بديعية العميان وله أمداح نبوية كثيرة وتآليف منها شرح ألفية بن مالك وغير ذلك وله ديوان شعر جيد توفي سنة 780. وكان أبو بكر بن هذيل الكفيف عالم أدباء الأندلس أخذ عنه صناعة الأدب جماعة منهم الرمادي الشاعر القرطبي المشهور. وكان أبو عبد الله محمد بن الصفار القرطبي حافظاً للآداب إماماً في علم الحساب مع أنه كان أعمى مقعداً مشوه الخلقة ولكنه إذا نطق عرف كل منصف حقه.
وكان العلامة أبو القاسم الشاطبي صاحب حرز الأماني والعقيلة وغيرهما المقري الفقيه الحافظ من كبار أئمة الإسلام مكفوف البصر قوي الحفظ وكان يقول عند دخوله إلى مصر أنه يحفظ وقر بعير من العلوم وكان عالماً بكتاب الله قراءة وتفسيراً وبحديث رسوله مبرزاً فيه وكان إذا قرأ عليه صحيحا البخاري ومسلم والموطأ يصحح النسخ من حفظه ويملي النكت على المواضع المحتاج إليها وهو أوحد في النحو واللغة. وكان أبو البقاء العكبري شارح ديوان المتنبي وغيره من الكتب الجيدة مكفوف البصر حاسباً فرضياً نحوياً ولم يكن في آخر عمره في عصره مثله في فنونه وكان الغالب عليه علم النحو توفي سنة 616.
وكان ابن سيده المرسي الحافظ إماماً في اللغة والعربية جمع في ذلك جموعاً منها كتاب المحكم في اللغة وكتاب المخصص الذي طبع حديثاً وله غيره من الكتب الممتعة التي لم يؤلف في فنها مثلها وكان ضريراً وأبوه ضريراً أيضاً وكان أبوه قيماً بعلم اللغة وعليه اشتغل ولده في أول أمره توفي ابن سيده سنة 458 وكان يحفظ عشرات من أمهات كتب اللغة. وكان أبو الحسن علي ابن عبد الغني الفهري المقري الشاعر عالماً بالقراآت له عدة تآليف توفي سنة 488. ومن مشايخ عبد اللطيف البغدادي الفيلسوف المشهور الوجيه الواسطي كان تلميذه يحفظه ويحفظ معه ثم يذهبان إلى كمال الدين عبد الرحمن الأنباري فيقرأ درسه.
وكان أبو الحزم الماكسيني الموصلي المقري النحوي المتوفى سنة 603 جامع فنون الأدب وحجة كلام العرب أخذ الناس عنه وانتشر ذكره في البلاد وله رواية واسعة. وكان خليفة أبي العلاء المعري في عماه وأدبه وهو ينحو منحاه. وكان أبو عبد الله هشام بن معاوية النحوي الكوفي ضريراً وله عدة تصانيف في النحو ومن جملة من أخذ عنه الخليفة المأمون. وكان أبو العز مظفر ابن إبراهيم العيلاني المصري الأعمى شاعراً مجيداً صنف في العروض وله ديوان توفي سنة 623 وكان أبو القاسم بن الخطيب الأندلسي صاحب الأشعار الكثيرة والتصانيف الممتعة المتوفى سنة 581 مكفوفاً ضريراً.
وكان أبو عيسى ابن الضحاك السلمي الحافظ المشهور أحد الأئمة المصنفين في الحديث ضريراً. وكان أبو العيناء صاحب النوادر والشعر والأدب مكفوفاً كف بصره وقد بلغ الأربعين. وكان أبو بكر ابن الدهان النحوي الواسطي ضريراً وهو من مدرسي النظامية. وهكذا لو تقصيت أسماء الرجال لقرأت العجب من أحوال أولئك العميان ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.