مجلة المقتبس/العدد 7/صدور المشارقة والمغاربة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 7/صدور المشارقة والمغاربة

مجلة المقتبس - العدد 7
صدور المشارقة والمغاربة
ملاحظات: بتاريخ: 20 - 8 - 1906


ابن الحناط الكفيف

كلما نظرنا في تراجم رجال الإسلام نظر الناقد المستبصر يتجلى لنا أن من نفعوا الأمة نفعاً حقيقياً هم في الأكثر ممن كانت لهم ولو مشاركة قليلة في العلوم الطبيعية والرياضية والتاريخية لأن هذه الفنون تلقح فكراً جديداً وتكبر دائرة تصور المشتغل بها ولو نظر فيها نظرة إجمالية فما الحال به إذا أحكمها كل الإحكام. وذاقها كما يذوقها أرباب الأحلام.

خذ لك مثالاً من ترجمة الرازي وابن تميمية والغزالي وغيرهم فقد كانوا من المتمكنين من علوم الأوائل وتواريخهم لذلك كتبت لهم الإجادة في كل ما أثر عنهم من المصنفات الدينية وغيرها. وصاحب الترجمة أبو عبد الله ابن الحناط الأندلسي هو أحد الأمثلة في هذا الباب إلا أنه انصرف بكليته إلى علوم الدنيا فأفاد واستفاد ولم يصده فقد البصر عن توفر البصيرة في العلم والأدب. ولا غرو فقد كان عصره وقطره مبعث النور ومنبثق الفضائل.

قال في الذخيرة: هذا زعيم من زعماء العصر كان ورئيس من رؤساء النظم والنثر في ذلك الأوان. وجمرة فهم لفحت وجوه الأيام. وغمرة علم سالت بأعلام الأنام فكم له من وقذة لا يبرأ أميمها. ونكزة لا يسلم سليمها. وكانت بينه وبين أبي عامر بن شهيد بعد تمسكه بأسبابه. وانحياش كان إلى جنابه. مناقضات في عدة رسائل وقصائد أشرقت أبا عامر بالماء. وأخذت عليه بفروج الهواء. وقد أوردت من ذلك ما يكون انطق لسان بنباهة ذكره وأعدل شاهد على براعة قدره.

وقد ذكره ابن حيان في فصل من كتابه فقال: وفي سنة سبع وثلاثين وأربعمائة نعي إلينا أبو عبد الله محمد بن سليمان بن الحناط الشاعر الضرير القرطبي بقية الأدباء النحارير في الشعر. هلك في الجزيرة الخضراء في كنف الأمير محمد بن القاسم. وهلك أثره ابنه الذي لم يكن له سواه بمالقة فاجتث أصله. وكان من أوسع الناس علماً بعلوم الجاهلية والإسلام بصيراً بالآثار العلوية. عالماً بالأفلاك والهيئة حاذقاً بالطب والفلسفة. ماهراً في العربية واللغة والآداب الإسلامية وسائر التعاليم الأوائلية.

من رجل مرهق في دينه مضطرب في تدبيره سيئ الظن بمعارفه شديد الحذر على نفسه فاسد التوهم في ذاته. عجيب الشأن في تفاوت أحواله. وولد أعشى ضعيف البصر مت الخاطر فقرأ كثيراً في حال عشاه ثم طفئ نور عينيه بالكلية فازداد براعة. ونظر في الطب بعد ذلك فانجح علاجاً. وكان ابنه يصف له مياه الناس المستفتين عنده فيهتدي منها إلى ما لا يهتدي إليه البصير ولا يخطئ الصواب في فتواه ببراعة الاستنباط وتطبب عنده الأعيان والملوك والخاصة فاعترف له بمنافع جسيمة وله مع ذلك أخبار كثيرة مأثورة.