مجلة المقتبس/العدد 6/عود الشباب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 6/عود الشباب

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 7 - 1906



كانت العقول في أوربا قبل انتشار العلوم والفنون بين خاصتها وعامتها أشبه بالعقول الآن في معظم البلاد العربية تستهويها الخرافات والخيالات، وتستغويها الأباطيل والترهات، فيتلقى المرء فكره عن أمه ومرضعته، أو عن خادمه وخادمته، أو عن محيطه وبيئته، وكلها عوامل جهل مركب، وأدوات إضلال وانحلال. ومن ذلك ما كان القوم يذهبون إليه من المذاهب في إطالة الأعمار ويتناولون من أجله الأشربة والمعاجين، ويعمدون إلى اتخاذه من أساليب تنتهي بالموت لا بالحياة. ولا يزال فينا قسم عظيم من أهل التخريف، يعتقدون هذا الاعتقاد السخيف، ويعملون بوصفات وردت في بعض كتب الطب القديم التي ما كانت قط عند الثقات معمولاً بها أو يذكرها العجائز والشيوخ وينقلونها خلفاً عن سلف.

وقد بحث هذا الشهر أحد علماء الإفرنج في أسرار الشبيبة فقال ما تعريبه: غصت الأجيال القديمة بالأساليب الغريبة لحفظ الشبيبة وكان المفكرون يصرفون من ذكائهم وأعمالهم شطراً كبيراً إرادة تمديد حدود الحياة البشرية. وما من حكيم إلا واهتدى إلى مذاهب في هذا الباب. وقد حوى علم التنجيم والكيمياء والطب وما يتصرف عليها من أنواع هذه الأدوية ألواناً وضروباً.

نشر أحد أطباء الألمان في القرن الثامن عشر كتاباً رأى فيه أن خير ما يبعد الهرم ويبقي على الشباب ما استعمله النبي داود في شيخوخته قائلاً أن الجسم المثقل بالأيام يستفيد من الاحتكاك بالجسم القريب العهد بالولادة أي الجسم الهرم البالي من الجسم الفتي الشديد. وقد عمد إلى استعمال هذا الدواء كثير من أهل الحكمة والفلسفة ومنهم غاليين في القديم وهو عالم التشريح اليوناني المناقض لأبقراط في مبادئه الطبية وممن قال به في العهد الحديث روجر باكون الراهب العالم الإنكليزي الكبير المتوفى سنة 1294. ذلك لأنهم زعموا أن ريح الشباب تعدي الشيوخ والأجسام السليمة الجيدة التركيب ولاسيما الغضة الإهاب تزيد الشيوخ والضعفاء قوة لما ينبعث منهم من الروائح الطيبة والأبخرة السليمة الشهية ولما فيهم من المزايا والقوة.

وعندما بلغ داود على ما في الكتاب الأول من سفر الملوك السبعين من عمره اقترح عليه خدمته أن يتزوج فتاة فانتفع بذلك. وارتأى كثير من الأطباء ومنهم كوهزن أن نفس الفتاة من أنفع الأمور للشيخ الهمّ قائلاً أن نفس القوي يقوّي كما أن نفس المسلول يؤذي. وم على من شك في هذا إلا أن يذكر أن رائحة الزهور البلسمية تنعش منا الجسد وتحفنا بالصحة والبهجة. وتوسع كوهزن فذكر أمثلة كثيرة من رجال أوشكوا أن يقضوا نحبهم فأعيدوا إلى الحياة بما نفخ فيهم حاشيتهم من روحهم. وأورد بوريللي الفسيولوجي الطلياني المتوفى سنة 1679 وتاكيوس وغيرهم أسماء من أشرفوا على الموت وردت إليهم قواهم بما نفخ أصحابهم الصحاح الأجسام في أفواههم. وكذلك الشأن في استنشاق عرق الفتاة.

قال كوهزن حدث أن فتى تزوج بعجوزة فعاد إليها شبابها ورجعت إليها قوتها وصحتها على حين كان زوجها يذبل كل يوم كالزهرة ويقترب من الشيخوخة فتراً وشبراً. وهكذا بلغ كورجياس دي ليونتيوم المائة والثماني سنين واناف ايزوكراتس الفيلسوف الآثيني على المائة سنة. دع عنك الفيلسوف زينون وتيوفراست وغيرهما ممن أعجب معاصروهم بقوتهم ونضرة وجوههم وقد نسب لويز كورنارو الطبيب البندقي المشهور جودة صحته في شيخوخته إلى بطانته بيد أن الباحثين لم يهتدوا إلى ضرر أنفاس الناس شباباً كان أصحابها أو شيباً إلا بعد أن ثبت ذلك لطبيبين نطاسيين سنة 1887 وأكدا أن الأنفاس سم ناقع وأن هناك طرقاً ثانية لعود الصحة الذاهبة والنشاط الضائع.

ولقد كان لأطباء اليهود والرومانيين كافة طرق خاصة لإطالة الأعمار وكانت أدويتهم في هذا الشأن تختلف باختلاف الزمان والمكان كأن يحتوي بعضها على دهن الأسد وجلد الحرباء ودم الأطفال والبالغين ولكن هذه الأدوية لم يكن لها عمل في الأجسام غير إلقاء الحرارة فيها وبقي العمل بهذه الأدوية إلى القرن السابع عشر والثامن عشر أيام أخذ الطب والعلم يرتقيان وانقلب الطب ظهراً لبطن ولم يعد يقبل النسبة بين ماضيه وحاضره.

وهناك أنواع كثيرة من المقويات والمنعشات وتكثير الحياة الذي كان يستعمله القدماء كالا كير الذي استعمله أحد أطباء السويد وبلغ به المائة والسبع سنين من عمره فأعتقد بنفعه كثيرون. والوسواس والإغراء ينفعان في مثل هذه الأحوال ولطالما أعانا أصحابهما على ما يريدون.

نشر الكتاب في الغرب منذ تسعة قرون كتباً ورسائل في معنى إطالة الحياة وعددوا من انتفع بمقوياتهم ووصفاتهم من كبار الرجال ولم يعرف اليوم كيفية تحضير تلك المقويات وبقيت أخبار معظمهما مجردة لا مستند لها.

ولقد مضى على تأصل هذه الأوهام عشرون قرناً ولا يزال إلى يوم الناس هذا من يعتقد بأن العود إلى الشباب ميسور وأن لتلك الأدوية أثراً في النفع وما برحت أندية العلم تشتغل وتبحث وكل سنة نسمع باختراع جديد لطول الحياة قد ينجع بعضها بعض الشيء وقد تكون فائدتها أقصر من عمر الكرام. وما ننس لا ننس تجارب المجمع العلمي في لندن واللائحة التي تلاها الدكتور فبير وأعمال الأستاذ متشنكوف التي نشرها مؤخراً وأعمال كثير من الفسيولوجيين والأطباء والبيولوجيين وكلها ترمي إلى إلغاء الشيخوخة من سجل الوجود. وقد نشر منذ حين أستاذان من شيكاغو بحثاً ادعيا فيه أنهما يعيدان الشباب بالحقن بمصل عجلة ولم يثق الناس بأقوالهما.

وهنا نغفل الأسباب التي تنهك صحة الشباب وتسارع بالهرم إلى الجسم ويقف على الذرائع التي تنتج النتائج السيئة فنقول: حاول كثير من علماء منافع الأعضاء أن يعينوا المقدار الضروري من الغذاء للإنسان في أدوار حياته واختلفت مناحيهم في ذلك إلا أن معظمهم في الغالب قد قدروا ما يلزمه زيادة عن الحاجة. ومن رأي التواتير أنه يكفي البالغ أن يتناول كل يوم 123 غراماً من الزلال (البومين) و125 من الدهن و400 من الهدروكربون (المواد التي تولد الحرارة). وقال رايك أنه يكفيه 100 و100 و240. وقال مولشخوت 130 و40 و340. وقال فوستر 631 و68 و494. وقال ارمند غوتيه أنه يكفيه 100 غرام من الزلال مضافة إلى 65 من الدهن و410 غرامات من الهدروكربون.

واللحم يحتوي على 20 في المائة من الزلال فيكفي الإنسان أقل من رطل (مصري) من اللحم في اليوم لإيجاد الزلال اللازم ولا ينبغي أن يستعمل مع اللحم شيء آخر من المغذيات كالبيض والجبن وغيرهما. وأنت ترى فيما تقدم غلواً وإسرافاً. وفي الأبحاث الأخيرة أنه لا يكفي الجسم 40 غراماً من الزلال. وقال غيرهم من أكابر الأطباء المعاصرين أن 5 إلى 7 غرامات من الآزوت وهي توجد في 30 إلى 45 غراماً من الزلال تحفظ قوام الصحة وتقوم بحاجة أقوى الأجسام وهذه الكمية تتيسر بتناول بعض الأغذية النباتية وقد جرب أحد الأطباء فتناول كمية من الآزوت من 6 إلى 7 فكان من ذلك أن تحسنت صحته كثيراً وشفي من داء المفاصل الذي كان أصيب به منذ سنين كما ثبت نفع ذلك لغيره من أصدقائه بالفعل. وخفف ثمانية من طلبة كلية يال الجامعة في أميركا طعامهم فانتهت بهم الحال أن اقتصروا على 50 غراماً من الزلال وهم ممن اعتادوا الرياضة البدنية العنيفة مثل ركوب الخيل والبحر والصيد وغيرها فجادت صحتهم أيما جودة.

وارتأى أحد المتطببين في باريس أن إملاء المعدة بالطعام وهو مما عمت به البلوى بين الناس كلهم إجمالاً لا ينتج إلا الضرر فاختار لمن يطبهم الصيام - عملاً بالمأثور صوموا تصحوا - وقد جرب بنفسه فعل الامتناع عن الطعام مرات كثيرة فأسفر عن نجاح بين وثبتت لمرضاه فائدة الإقلال من الطعام بل الامتناع عنه في الأحيان.

وكذلك كان مذهب الدكتور باردت في رأيه الذي عرضه على جمعية مداواة الأمراض الباريسية وأثبت خطأ قدماء الأطباء في كمية الغذاء المقتضي بزعمهم وقال بأن حواسنا تسمم بالإكثار من الغذاء ذاك الإكثار الذي يجلب لا محالة أمراضاً عضالة وأوصاباً كثيرة.

ألا وإن الإفراط في تعاطي المشروبات والغذاء ليسبب عدة أمراض يكون من مجموعها سرعة الشيخوخة والهرم. ويا ما أشد هول الشره على الأجسام فهو خطيئة أصلية ينبغي تطهير الأرض منها وقلما نفكر معاشر البشر فيه على أن الطبيعة تعاقبنا من أجله عقوبات شديدة وتكافئنا فيه فلا نرعوي. متى جاء اليوم الذي يقتنع فيه الناس ببلغة من العيش وسداد من عوز ويقتصرون من الطعام على ما ينفع ولا يثقل المعد بشر الصحة والشباب بالقوة.

ولقد أبان كثير من نطس الأطباء في كلية باريس الطبية أمثال هذه الملاحظات وأبان بعضهم الأضرار التي تنبعث من إكراه الأطفال على إطعامهم كثيراً. وحال الجسم في إثقاله بالأطعمة والزلال كحال آلة تجعل فيها كمتة من الزيت تفيض عن حاجتها فإنها تنتهي بالوقوف عن الجري على قانونها المعتاد وكذلك جسم الإنسان إذا أفضت عليه ما لا يحتمله ويكفيه أقل منه.

وبعد فقد أصيبت اليوم الطبقة النازلة من الناس بنقمة الأشربة الروحية بحيث يموت عشرهم منها كما أصيب أهل الطبقة العالية بالنهم والشره والإكثار من المواد الزلالية وكلتا الطبقتين الغنية والشقية تلتقيان في طريق الآلام والأوصاب ومهما يكن من الأمر فإن الحرمان من الطعام أقل ضرراً من الإفراط فيه والجوع خير من الشبع. وإني لأرى أن يكف المكثرون من الأطعمة عن تناول أكثر من اللازم ويتركوا الفائض عن حاجتهم لأولئك المعوزين المحاويج فيحفظون بذلك سلامتهم فينتفع بذلك الأغنياء والفقراء معاً. فإن التكافل نافع على كل حال وقد أبان علم إطالة الأعمار فوائد الغيرية الاجتماعية وبعبارة ثانية الإيثار على النفس وفائدة الإقلال والاعتدال والامتناع عن الإكثار والإقلاع عن المضار.