مجلة المقتبس/العدد 57/المسلمون والبولونيون
مجلة المقتبس/العدد 57/المسلمون والبولونيون
في الغرب من مملكة روسيا وفي الجنوب من بروسيا وفي الشمال من النمسا بلاد متنائية الأطراف وساعة البقاع مخصبة الرباع كثيرة الأنهار والغابات والمناجم اسمها بولونيا أي السهل باللغة الصقلبية وهي المعروفة في تواريخ الأتراك باسم لهستان قضى عليها نكد الطالع أن تفقد استقلالها لاختلاف كلمة أمرائها وأبنائها منذ نحو قرن ونصف فتقاسمتها روسيا والنمسا وألمانيا وتبلغ مساحة بولونيا الروسية وفيها عاصمة البلاد القديمة فارسوفيا 127. 319 كيلومتراً مربعاً وسكانها 9. 456. 000 واذا أضنا إليهم سكان بولونيا النمسوية وبولونيا الألمانية يبلغ عددهم نحو عشرين مليوناً بحسب تقدير الجغرافيات الحديثة من أهل أوربا يدين نحو نصفهم بالكثلكة وباقيهم إسرائيليون وبرتستانت ومسلمون تاتار.
ومناخ هذه البلاد شديد ول
كنه معتدل في الجملة اذا قيس بمناخ روسيا وهو حار في الصيف بارد جداً في الشتاء وتقل فيها الثلوج وتجمد فيها الأنهار في الشتاء من شهرين ونصف إلى ثلاثة أشهر ونصف وقد انتشرت فيها الصناعات لكثرة ما فيها من الفحم الحجري فأصبحت أهم أقاليم روسيا من هذه الوجهة أما التجارة فتاد تكون محصورة في أيدي الإسرائيليين.
وتاريخ هذه الأمة قديم غامض أشبه بأساطير حتى القرن التاسع للميلاد وغاية ما يعلم أن هذه الأقطار الممتدة بين البحر الأسود وبحر البلطيق كان يسكنها في الأصل شعوب اسمها الأنتس والهنت والفاند ثم نزلها الصقالبة. وأول زعيم أنشأ مملكة بولونيا فلاح صالح اسمه بياست فحكمها إلى سنة 1333 ودخلت النصرانية إلى بولونيا على يد ميسيسلاس الأول (962_922) وانضمت بلاد ليتوانيا إلى بولونيا في القرن الرابع عشر بزواج هدويج ابنة كازمير الأول (1333_1370) من لاديسلاس جاجلون.
وفي أوائل القرن الخامس عشر أي وفي العهد الذي بدأت تنشأ في أوربا ممالك مطلقة الحكم مستبدة السلطان بدأ الفشل السياسي والفوضى الإدارية تدب في مملكة بولونيا مما عجل تقسيمها وحذفها من رقعة السياسة الأوربية وذلك لاختلاف مصالح البلادين ليتوانيا وبولونيا واختلاف لسانيهما فكانت مجالس النواب في الولايات متباينة المقاصد تعاكس الملك في أقل الأمور حتى في عزل الموظفين الذين كانوا يعينون بلا عزل مدة حياته وأقل صاحب رأي في الانتخاب يوقف عمل الأكثرية ويفسد عليها أمرها حتى انقلبت الحال بعهد أن كتب النصر لبولونيا على الهوسيين وفرسان حملة السيوف أن تبقى بلا حكومة ولا جيش ما خلا أيام أسرة جاجلون.
وقد بدأ انحطاط بولونيا على عهد سيجسموند فازا سنة 1618 فأصبحت المملكة بدون مالية ولا بيت ملك وطني بل كان ينتقل الملك من فرنسوي يعينه مجلس النواب إلى مجري هذا وليس للبلاد حدود طبيعية تحميها من هجمات المهاجمين.
ثم عادت إلى البلاد بعض حياتها على عهد يوحنا سوبيسكي (1674_1695) فأصبح لها بعض مجد بجيش لها نظمته فبالجيش البولوني أنقذت فيينا من أيدي العثمانيين الذين حاصروها ولكن لم تعد نجاة البولونيين للنمساويين بشيءٍ من الفائدة عليهم ولا على حكومتهم. وخلف المنتخب فريدرك أغطس في ساكس ملكها سوبيسكي فاستند إلى إمارته سكسونيا فاستقام له أمر بولونيا ثم خلع وتداخلت روسيا في أمره ثم نشأ خصام بين بيوت الملك في بولونيا يدعي كل منهم حق التملك على البلاد وفي سنة 1764 قضت إرادة كاثرينا الثانية صاحبة روسيا بتأييد ساتنيسلاس بونيانوفسكي على عرش السلطنة البولونية وفي وسط ذاك الاضطرابات كثرت الانقسامات الداخلية وجاءت الفتن الدينية التي كانت هادئة هناك فانضمت إلى المنافسات السياسية وذلك بما تخلل الأمر من عبث الأصابع الأجنبية فاستصرخ الأروام كاثرينا الثانية إمبراطورة روسيا واستنجد البرتستانت ماري تريز ملكة النمسا وفريدرك الثاني. وكان لروسيا نفوذ في مجلس نواب سنة 1766 فسعت إلى إطلاق حرية المذهب وألفت حرية الانتخاب فاستقام أمر الحكومة وكان الاضطراب عندما ألفت سنة 1768 اتحاد بار يضمن احترام الاستقلال الوطني ولكن كان قد سبق السيف العذل فتقرر بين روسيا والنمسا سنة 1772 تقسيم بولونيا ولم يقاوم في ذلك من الدول سوى الدولة العلية فتقاسمت النمسا وألمانيا وروسيا تلك المملكة العظمى وفي سنة 1795 قسمت البلاد نهائياً فوقعت العاصمة أي فارسوفيا من حصة روسيا وكراكوفيا وفيها كلية بولونيا العظمى من حظ النمسا ونالت بروسية بقية المملكة ثم نظم جزء منها مملكة جديدة ولكنها انتفضت وثارت سنة 1830 فدخل الروس إلى فارسوفيا بعد أن أبلى البولونيون بلاءً حسناً فانحلت مملكة فارسوفيا وأقفلت كلية فلينا البولونية وصادرت الأموال ونفت الرجال فأصبحت بولونيا ولاية روسية وقام البولونيون سنة 1863 ثانية وحملهم على الانتفاض وما رأوه من اشتغال روسيا في حرب الشرق فألف البولونيون منهم عسكراً لا يبقي ولا يذر بالنظر لقلة عدده تمكنت روسيا من قمع جماح الفتنة بعد سنة من نشوبها وما فتئ منذ ذاك العهد حال بولونيا في الولايات الروسية آيلا إلى نزع لغتها وإبدالها باللغة الروسية وتدريب أهلها على المناحي الروسية وكذلك حال ولايات بروسيا آخذة بالصبغة الألمانية الجرمانية.
هذا إجمال من تاريخ انقسام مملكة بولونيا أما حالتها الأدبية والعمرانية فإن لغتها من فروع اللغات السلافية الغربية وقريبة جداً من اللغة الكاسوبية واللغة البولابية.
وفي بولونيا عدة لهجات وقد نشأ من كلية كراكوفيا التي أنشأها كازمير الأكبر عدة رجال في الفلسفة والعلم منهم كوبرنيك الفلكي ونجحت اللغة البولونية على عهد ملوكها من أسرة جاجلون وذلك بفضل دعاة المذهب البرتستانتي الذين اختاروا نشر تعاليمهم بلغة الشعب وعلى يوحنا كوشانوفسكي سلم ذوق اللغة وتألفت على القواعد العلمية المألوفة لليونان والرومان ودام ذلك إلى القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر وهما قرنا الانحطاط لأن القوم شكغلوا بالفتن الداخلية فلم يعد أحد ينظر في الأدب وداهمت اللغة مفردات من اللغات الأجنبية.
وقد نشأ للآداب البولونية شعراء وكتاب كبار ومؤلفون ووعاظ وأثريون ومؤرخون وجغرافيون وقصصيون ودخل الشعر البولوني عل عهد الثورة سنة 1830 في طور جديد وأثر على عقول الناهضين من شبانهم أحوال الفتن وانطلقت ألسنتهم بالشعر الممزوج بعواطف النفوس المتألمة ودامت طبقة الشعر في ارتقاء إلى أواخر القرن التاسع عشر بما تنشأ لهم من الشعراء بل والشاعرات المجيدات الذين حركوا كوامن النفوس وهيأوها لمطلب الكمال والاستقلال وساعد القصصيون خاصة بما نشروه من الأساطير والروايات على ترقية اللغة البولونية وإدخال حياة جديدة فيها في العهد الأخير دع عنك من خرج من هذه الأمة من الفلاسفة والمؤرخين.
وإن ما بقي من الآثار القليلة والعاديات في تلك البلاد ليدل دلالة واضحة على أن قدماء الصقالبة كانوا يحبون الصناعات والفنون وكذلك كانت الحال في القرون الوسطى في بولونيا فإن ملوكها حموا حمى الصنائع النفيسة فكانوا يأتون من إيطاليا بالبنائين والنقاشين المصورين حتى جاراهم البولونيون ونافسوهم في هذه الأعمال بعد.
ولكن الفتن التي استطار شرارها في القرنين الأخيرين سلب من نفوس البولونيين قرارها فهاموا على وجوههم بعد فقد استقلالهم في طول أوربا وأميركا وعرضهما وكثر منهم المهاجرون ولاسيما إلى أميركا الشمالية حتى قيل أنهم بلغوا نحو مليوني بولوني يحافظون إلى اليوم على لغتهم وآدابهم وعاداتهم القومية.
وللبولونيين غرام فائق في احتفاظهم بلغتهم وبتناغيمهم بتاريخهم فتراهم كلما طال المطال على تمزق ملكهم يحنون لاسترجاعه وتقوى عزائمهم على المطالبة به ولكن أوربا أو الساسة من أهلها قد قدت قلوبهم من حجر فلا تسمع لباك ولا تؤحم كل شاك. على أن البولونيين لم يعتمدوا بعد التجارب الكثيرة إلا على أنفسهم فكانوا وما زالوا يستعدون في بلادهم وخارجها للتربية الحربية حتى لا تزول منهم ملكة الكر والفر وقد أنشأوا لغرض الاستقلال جمعيات بثوا دعاتها في بلادهم وفي أوربا وأميركا يجمعون المال إلى أيام الشدة وهاذ المال يحفظونه في الغالب في فروع جمعياتهم في سويسرا وقد صرفوها كلها في الفتن الأخيرة التي ثارت في بولونيا الروسية عقيب حرب روسيا مع اليابان فكانت تأتينا أخبار فارسوفيا بفظائع البولونيين وشدة حكومة روسيا في قطع دابر الفتنة. وفي سويسرا أيضاً حفظ البولونيون تاج آخر ملكهم وصولجانه ونموذجاً من ألبستهم جعلوها في متحف خاص.
ولما انتشر ت الحرية بعض الشيء في روسية تنفس خناق البولونيين وقاموا يعيدون أمجاد آبائهم بمدارسهم ولم تنل روسيا مأرباً من نزع لغتهم وتلقينهم لغتها بالقوة بل عادت اللغة البولونية أكثر انتشاراً مما كانت قبل انقسام بلادهم ومن الغريب أن التشتت الذي أصاب أهلها والسعي الحثيث في معاملة مدارسها بالشدة في ألمانيا وروسيا لم تسفر إلا عن اندماج كثير من اليهود الجرمانيين في الجنسية البولونية لأن البولونيين من أقدر الأمم على جلب غيرهم إليهم كأن من خواص شعبهم أن يأخذ ولا يعطي.
كانت النمسا وما زالت أرفق الدول الثلاث الكبرى التي تقاسمت بينها بولونيا بهذه الأمة ولغتها وآدابها وعاداتها ولذلك كان إخلاص البولونيين لها أكثر من إخلاصهم للألمان والروس لأنمها ساوتهم بسائر عناصرها فلم يستثقلوا ظلها ولا تبرموا بإدارتها.
ولكثرة اندماج الألمانيين والإسرائيليين بالبولونيين من حيث يشعرون ولا يشعرون زادت نفوس فارسوفيا زيادة هائلة حتى بلغت الآن ثمانمائة ألف وكانت أقل من خمسين ألفاً وعدت من عواصم بلاد أوربا وبالنظر لخصب البلاد وعراقتها في الصناعات والتجارات ونشاط أهلها أكثر مكن سائر العناصر السلافية بلغت مداخيل المصنوعات البولونية 420 مليون روبل وكانت أقل من ثلاثين وبلغت قيمة الثروة العامة في بولونيا الألمانية نحو ألف وثلاثمائة مليون مارك وكانت نحو أربعمائة مليون.
وهكذا تجد تجارتها واسعة باتساع غاباتها ومناجمها وخصب تربتها واقتدار أهلها على الصناعة والتقليد حتى حاكوا أعرق الأمم الغربية في الحضارة ويكفي أن كوري مخترع الراديوم هو وعقيلته من أهل بولونيا وإن فغي أهل أوربا كثير ممن نعرفهم الآن فرنسويون أو ألمانيين أو نمساويين أو إنكليزيين وهم في الحقيقة بولونيون لغة ومنشأ.
وبعد فيجدر وقد اتصل بنا نفس الكلام في هذا المبحث إلى هذا الحد أن نلم بطرف من تاريخ هذه الأمة وعلاقتها بالمسلمين ولاسيما آل عثمان فقد بدأت الصلات المهمة بين بولونيا والأمم الإسلامية على عهد لاديسلاس جاجلون والسلطان مراد الثاني وحاكم بلاد المجر على ذلك العهد يوحنا هونياد وهو تابع لبولونيا وكانت تحدث على الدوام مشاكل بين جيشه وجيش السلطان وبعد حروب وفتن كتب فيها النصرة تارة للعثمانيين وأخرى للمجريين سئمت نفوس الطرفين القتال فطلب السلطان مراد التوسط بالصلح إلى صاحب بولونيا فوقع على صكه في 14 ربيع الآخر سنة 848هـ (1444) لمدة عشر سنين على أن يعيد السلطان بلاد الصرب إلى ملكها وأن تضم بلاد الفلاخ إلى المجر ويفتدي السلطان صهره محمد الحلبي الذي أسر في وقعة كونوييرا بسبعين ألف دوكا (805. 000 فرنك).
واذا صادف أن السلطان مراد تنازل عن عرش الملك لابنه محمد طمعت أوربا في السلطنة ورأت الفرصة مناسبة للنيل منها وعلى عرش فتى لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره فطلب إلى صاحب بولونيا أن يشارك الدول في تحالفهن على العثمانيين فأبي للعهد الذي عقده مع سلطان العثمانيين فأرسل البابا إليه أوجين الرابع يصرح بنه لا خشية في بعض الأحوال من الحنث بالأيمان ومثل له بنفسه إذ أنه جهز ثماني سفن على نفقته وسمى نفسه رئيس العصبة فاضطر صاحب بولونيا أن يسير على الخطة التي رسمها إمام الأحبار فأنفذ بعوثه إلى إقليم تراسيا واشتبك القتال بين المجريين والبولونيين والفلاخيين من جهة والعثمانيين من جهة أخرى ونزل السلطان مراد بنفسه إلى ساحة الوغى بدل ابنه الذي خلفه فقتل أحد شيوخ العسكر العثماني واسمه خوجه خير ملك ملك بولونيا فدب الفشل في الجيش المتحزب كله وذلك في رجب سنة 848هـ (1444).
قال المؤرخ ليونارد شودزوكو: قال السلطان مراد بينا هو يطوف ساحة الوغى مع أمين سره أريب بك لما رأى صرعى الحرب من أعدائه: أليس من الغريب أن يكون كل هذا الجيش مؤلفاً من شبان وليس فيه شيخ واحد فأجابه أريب بك: لو كان فيه شيخ واحد لما ألقى بنفسه في مثل هذه الورطة المجنونة وقد فقد جيوش المحاربين في تلك الوقعة أشياء ثمينة ومنها سجلات ملك بولونيا فقدت مع ما فقد عند مصرعه وهي خسارة كبرى.
وفي سنة 1447 كان التاتار في بلاد القريم في حروب دائمة فأجمع رأيهم على أن يحكموا كازمير جاجلون ملك بولونيا ودوق ليتوانيا فيما شجر بينهم فنزل بعض المنكوبين من التاتار بلاد ليتوانيا على الرحب والسعة وأعطاهم صاحب بولونيا أراضي يتوفرون على زراعتها وأخلصوا له ودافعوا في مواقف القتال عن حوزة بلاده وأطلق لهم حريتهم الدينية حتى استمال بذلك قلوبهم وجاء الملك لاديسلاس الرابع وأيد امتيازاتهم فأنشأوا لهم جوامع ومنارات وبعد أن كانوا بادية رحالة أصبحوا مزارعين ساكنين وادعين وفي سنة 1494 جمع يوحنا البر ملك بولونيا بعض أمراء النصرانية في جواره وتحالفوا على قتال العثمانيين فساق السلطان بايزيد جيشاً مؤلفاً من أربعين ألف جندي اجتازوا نهر الطونة وانضموا إلى الفلاخيين وهجموا سنة 1894 على بلاد بولونيا وكان صدر الأمر السلطاني إلى والي سيلسترا على بعض مواقعها في وقعتين ظفروا فيهما ولكن داهم الجيش العثماني برد قارس وثلج وأعاصير فهلك منه لأربعون ألفاً ولم يسلم سوى عشرة آلاف جندي عادوا أدراجهم يجتازون نهر الطونة.
وإذ تحالف ملك بولونيا مع ملك المجر وملك ليتوانيا اضطر السلطان بايزيد أن يبعث إلى كراكوفيا سفراء لعقد الصلح. وفي سنة 1521 أرسل السلطان سليمان الأول إلى بلاد المجر سفيراً لم يجبه المجريون إلا بخنق سفيره فساق السلطان على المجر قوة من جيشه غلب بها المجر ولئن أمدهم صاحب بولونيا بستة آلاف جندي لكن قوة الدولة العلية كانت أعظم وعاد السلطان سليمان في ربيع سنة 1526 أيضاً في قوة من رجاله على بلاد المجر فأمد ملك بولونيا قوة الدولة العثمانية تغلبت فكتب النصر لأعلامها وهلك في المعركة لويز الثاني ملك المجر في خمسة وعشرين ألفاً من رجاله.
ثم سار سليمان إلى جهات المجر وأرجع البلاد إلى ملكها الشرعي وانقلبت الحال فتحالف سلطان العثمانيين مع ملكي بولونيا وفرنسا وتزوج السلطان سليمان بروكسلان من سبايا البولونيات فشغفته حباً واتخذها سلطانة شرعية وسماها خرّما وكانت على غاية من الجمال والأدب والذكاء ولكنها صرفت ذكاءها إلى الخبث فكانت القاضية على السلطان أن يعامل ابنه معاملة بربرية شهدت لها تواريخ العثمانيين فقتله بدسائسها.
وفي سنة 1572 أعانت بولونيا الدولة العلية عندما تداخلت هذه لإقرار الأمن في نصابه في إقليم مولادافيا وسعت الدولة العلية كل السعي أن يبقى التحالف مستحكماً بينها وبين فرنسا وبولونيا عوادي النمسا ولكن حكم بولونيا ملوك لم يعدوا لهذا الأمر عدته. وفي سنة 1576 تحالف السلطان مراد الثالث مع أتين باتوري أمير ترانسلفانيا وملك بولونيا وجددت المعاهدة سنة 1619.
ولكن أمير ترانسلفانيا واسمه بتلم كابور كان يطمع في الاستيلاء على المجر فحرض العثمانيين والتاتار على البولونيين فوقعت بين صاحبي بولونيا والعثمانية وقعة أخرى سنة 1620 كسر فيها البولونيون وفي سنة 1621 قام السلطان عثمان الثاني في مئة ألف من جنده قاصداً إلى بولونيا فدحر جيشه ولما رأى أنه فقد منه ستون ألفاً اضطر يوم 23 ذي القعدة 1030 إلى عقد صلح صدق عليه في الأستانة سنة 1623 سفير بولونيا.
ثم أن روسيا أهاجت خاطر السلطان مراد الرابع على بولونيا ولكن حكمة صاحب بولونيا قضت بحقن الدماء وإن كان أزمع السلطان العثماني أن يملأ بجيوشه السهل والوعر في بولونيا لكون السفير البولوني تلطف في السفارة وأغضى عما سمع من السلطان من إرادة هذا أن تدين بولونيا بالإسلام وتدك حصونها وتؤدي إليه الجزية فعقدت بين الدولة العثمانية وبولونيا معاهدة سنة 1634 كانت نافعة للبولونيين. وفي تلك السنة بدأت روسيا بحجة الدفاع عن مسيحيي الشرق تدس الدسائس.
خدم نالي بك وهو بولوني واسمه الأصلي بوبوفسكي الباب العالي أعظم خدمة في القرن السابع عشر كما خدم البولونيين والليتوانيين فقد عينته الدولة مترجماً في الباب العالي وكان يحسن سبع عشرة لغة.
وفي سنة 1672 زادت الأخطار التي كانت تهدد بولونيا منذ سنة 1652 فكان قيصر الروس يدس الدسائس بين القوزاق والتاتار والأتراك ليحملهم على النيل من البولونيين حتى كان من السلطان محمد الرابع أن أعلن عليهم الحرب في نيسان سنة 1672 فاستولى على كاميليك بودولسكي وليوبول وعلى أهم المواقع الحصينة من إقليم روتينيا غاليسيا. فطلب صاحب بولونيا الصلح من السلطان وتخلت بولونيا للباب العالي عن بودولي وأوكرين وأن تدفع إليه جزية سنوية قدرها 220 ألف دوكا إلا أن الأمة البولونية لم ترض أن تدفع مثل هذه الجزية لما رأت فيها من العار عليها وآثرت أن تعود إلى الحرب تموت في ساحاتها من أن تقبل بشروط ارتضاها ملك لها مأفون الرأي ضعيف الحول والطول فعاد السلطان محمد الرابع إلى القتال وهاجم سوبيسكي جيوش العثمانيين في شوسيم على نهر دنيستر واستولى على المدينة ورجع العثمانيون على أعقابهم إلى بابا سوبيسكي إلى فارسوفيا للاشتراك في انتخاب ملك لبولونيا فقدر انتخابه ملكاً لها مكافأة له على الخدمة التي قدمها لأمته وعاد إلى قتال العثمانيين فهزمهم في بودوليا وأوكرانيا وفي 19 شعبان 1087 هـ عقد الصلح على أن لا تدفع بولونيا شيئاً ويبقى لها قسم من إقليم بودوليا ويحتفظ العثمانيون بكاميليك وأن تكون مفاتيح الأماكن المقدسة بيد بولونيا لأنها دولة تسامح لا تتعصب لكاثوليكي ولا لرومي ولا لبرتستانتي ولا لغيرهم من أهل الأديان وذلك على الرم من إرادة روسيا فصفت العلائق بين الدولة العثمانية وحكومة بولونيا.
ولما ساقت الدولة العثمانية على فينا مائة وخمسين ألف رجل وكادت تستولي عليها أنجد صاحب بولونيا صاحب النمسا فارتد العثمانيون عن عاصمة النمسا ثم اقتتل الجيش العثماني مع الجيش النمساوي سنة 1691 في سالانكم على نهر الطونة فغلب العثمانيون أولاً ثم انهزموا فاقدين ثلاثين ألفاً من رجالهم وفي سنة 1694 رد البولونيون العثمانيين من كامينيك برودولسكي.
ومال العثمانيون على عهد مصطفى الثاني عدة نصرات على جمهورية البنادقة واستولوا على الهرسك وأمدوها بالذخائر وجاز السلطان في جيشه الطونة ماراً بآق بنار (كارلسبرج) وتمسوار ولاغوس وقاتل النمساويين فقتل زعيمهم وقتل العثمانيون من الروس في أزوف ثلاثين ألفاً ثم فشل العثمانيون في غرة صفر 1108 في تسيا على يد النمساويين وكان العثمانيون يريدون إنقاذ بلاد المجر من النمسويين.
وفي خلال ذلك اجتمع ملوك أوربا للمرة الأولى لحل الاختلافات التي كانت بين الدولة العلية العثمانية وبين سبع دول من دول أوربا وبموجب ما تم من هذا الاجتماع أجعت الدلة العلية إلى بولونيا كامينيك وبودوليا وأوكرانيا وتخلت الأولى للثانية عن الخراج الذي كانت تتقاضاه منها ومنذ ذاك العهد تصافت بولونيا والعثمانية لأنهما أيقنا بدسائس حكومات أوربا التي يقصد بها إضعاف الفريقين فكانت أوربا تترك روسيا تعتدي على العثمانية وبولونيا والسويد بدون أن تطالبها بإحكام العدل والإنصاف ومراعاة حق الجوار نعم كانت تغضي عن روسيا لتنال قسطها من الأرض العثمانية والبولونية والسويدية.
نشبت حرب هائلة على عهد السلطان أحمد الثالث بين السويد وروسيا وبولونيا وسكسونيا دامت منذ سنة 1700 إلى 1709 فانهزم السويديون والبولونيون ولجئوا إلى الأرض العثمانية فنزلوا في بندر من إقليم بسرابيا فأكرمت العثمانية مثواهم إلا أن روسيا لحقت بالمنهزمين إلى الأرض العثمانية وفي خلال ذلك دخل الأسطول الروسي إلى الأستانة فاغتاظ السلطان وأعلن الحرب عاهداً بقيادتها العامة إلى الصدر محمد باشا البلطجي وحمي وطيس القتال بين عساكر الدولة يعضدها أنا من البولونيين وبين الروس في سهول هوسكب فأركب الله القائد العثماني أكتاف العدو ولكن على القائد العثماني عاد فارتشي من كاترينا الأولى ملكة روسيا وعقد بين دولته وبين الإمبراطورية الروسية معاهدة أجحفت بحقوق أمته فعزل السلطان ونفاه إلى جزيرة لمنوس وقتل خنقاً من ارتشوا معه من رجال الدولة إذ ذاك مثل وزير الداخلية ورئيس الكتاب وغيرهما وأعلن السلطان أن هذه المعاهدة بين الدولة العلية وروسية لاغية وعاد إلى إعلان الحرب على العدو سنة 1711 بقيادة يوسف باشا الصدر الأعظم فأوقفت الحرب بسعي الروس في الأستانة وعقدت معاهدة جديدة بين المتحاربين فوقع رجال روسيا على عهد الصلح ليشغلوا الدولة ويغنموا الوقت فلما أبلغوا مضمون المعاهدة للقيصر أبى الإقرار عليها فأعلن السلطان الحرب في شوال سنة 1124 ولم يظفر الروس في هذه الوقعة بالعثمانيين إلا أن وزارتي لندرا والهاي كوانتا تعضدانه على العثمانية وبولونيا والسويد وبمسعاهما أوقفت الدولة العلية الحروب ووقعت في أدرنة يوم 13 حزيران 1713 على معاهدة صلح إلى خمس وعشرين سنة ولم تراع فيها مصالح الدولة العلية وعادت روسيا فعقدت معاهدة أخرى مع الدولة العلية سنة 1720 من مقتضاها أنه يحق لها التدخل في شؤون بولونيا.
توفي السلطان أحمد الثالث سنة 1149 هـ وخلفه السلطان محمود الأول فحارب الفرس واضطر إلى التخلي عن تبريز وفي سنة 1149 وقع الفرس والعثمانيون على هدنة للتفرغ الدولة العثمانية لمقاومة اعتداء روسيا والنمسا. وأزمعت روسيا أن تجتاز بجيوشها بلاد بولونيا لتداهم الأرض العثمانية فاغتاظ لذلك السلطان محمود لأنه مخالف للعهد الموقع عليها ولم يسمع الروس لاحتجاج العثمانية فحاصروا مدينة أزوف واضطرت الحكومة العثمانية أن تسوق جيشاً في 6 صفر 1149 هـ (1736) وكانت قد سقطت المدينة قبل أن ينجدها الجيش العثماني واستولت روسيا على أوتشاكوف وكنبورن وعلى كوزلوف وبغجة وسراي وآق مسجد من بلاد القريم وأتى الروس من الفظائع في هذه الوقائع ما سطره لهم التاريخ بأحرف من نار حتى كتب المسيو كاستلنو في تاريخه الذي قدمه إلى القيصر اسكندر الأول بشأن هذه الوقائع ما تعريبه: إن الحملة لم تولي روسيا شرفاً فإن بلاد القريم أخرقت ودمرت وربما كان مثل هذا العمل يغتفر على عهد البربر لما فطروا عليه من الجهل ولكن إحراق المدن في القرن الثامن عشر وتخريب أهم المصانع والآثار وتدمير المعابد وإبادة المدارس العامة وإدخال الظلام على العقول بإحراق خزائن كتب الأمة التي تريد الانتفاع بها في إنارة أفكارها وإلقاء الشيوخ والنساء والأولاد طعمة للنيران لا يقصد منه الحرب بل إهلاك شعب عن بكرة أبيه.
وتحالفت روسيا والنمسا محالفة دفاعية هجومية واحتالت الثانية لعقد مؤتمر مؤلف من مندوبها ومندوبي روسيا والدولة العثمانية فرأى الروس بموجب المعاهدة المبرمة أنم تلغى جميع المحالفات التي كانت أبرمت بين الدولة العلية وإمبراطورية روسيا وأن تسلم إلى هذه بلاد القريم وكوبان وجميع البلاد التي نزلها التتار ويغترف لمولدافيا وفلاخيا بأنهما إمارتان مستقلتان تحت رعاية روسيا ويعترف بأن ملوك الروس هم قياصرة وأن تدخل السفن الروسية حرة إلى البحر الأبيض بين خليجي البوسفور والدرندنيل فلم ترض الدولة بهذه الشروط المجحفة وعادت النمسا فاستجمعت قواها وحمي الوطيس في بلاد البلقان وهزم العثمانيون العدو حتى اضطر الروس إلى أن يحرقوا بأنفسهم أسطولهم في بحر أزوف لئلا يسقط في أيدي العثمانيين.
وفي سنة 1739 عقد الصلح بواسطة فرنسا بين الدولة العثمانية من جهة ودولتي روسيا والنمسا من أخرى وأعادت النمسا بلغراد وساباكزا وسونا وغيرها وأصبح نهر الطونة والساف تخوماً بينها وبين الدولة العثمانية وقضت المعاهدة الأخيرة على روسيا أن تهدم حصون أزوف وتاكانروج وتسحب سفنها من بحر أزوف والبحر الأسود ولا تتجر إلا على السفن الأجنبية وأن تظل القريم مستقلة وتنال لقاء ذلك حرية المذهب الأرثوذكسي في المملكة العثمانية وأن تقيم لها سفيراً دائماً في الأستانة ووعد السلطان أن يمنح لقب إمبراطورة للقيصرة حنة إيفانوفنا. ولم يجر في هذه المحالفة أي ذكر لبولونيا. وكان من نتائج هذه المعاهدة أن عرف الأرثوذكس على عهد السلطان عثمان الثالث سنة 1757 بأن روسيا تعضدهم في البلاد العثمانية فكان أول عمل لهم أن ينهبوا دير الكاثوليك في يافا وهجموا على الفرنسيسكانيين وغيرهم من الباباويين حتى في كنيسة القبر المقدس وكسروا المصابيح والآثار وغيرها وجردوا الرهبان مما كان لهم.
ولما أبى أغسطس الثالث ملك بولونيا أن يدخل مع أعداء الدولة العلية في محالفة ضدها اعترف به الباب العالي ملكاً وأرسل من قبله إلى فارسوفيا عاصمة البولونيين مندوباً سنة 1737 وذلك على عهد السلطان عثمان الثالث وكذلك أبلغ السلطان مصطفى الثالث بعد ثلاث سنين صاحب بولونيا بجلوسه على العرش وبدأت العلائق الحسنة بين الدولة العلية وحكومة بولونيا حتى كانت الدولة تصدر أوامرها المرة بعد المرة إلى عمالها في شوسيم وبندر والى خان القريم أن لا يكدروا صفو الصلات ينهم وبين بولونيا واذا نشأ على التخوم خلاف يحلونه بالحسنى.
وأدخلت روسيا في غضون ذلك جنداً لها إلى أرض بولونيا فاعترض الباب العالي عليها فأجابته بأنها تنوي إطفاء فتنة داخلية وأن العهود تقضي بأن لا تتدخل الدولة العثمانية في الشؤون البولونية ومع هذا أصر الباب العالي فاضطرت بولونيا أن تحسم الخلاف الذي حدث بين الشعب بداعي انتخاب ملك جديد فاتحدت بولونيا على أمر بينها تحت حماية الدولة العلية حتى أن السلطان مصطفى الثالث لما ذهب إلى جامع أيوب ليتقلد سيف عثمان الأول على العادة قدم له الجند كأس مشروب على نحو ما جرت العادة فأجابهم أنه يرجو في الربيع القادم أن يشرب معهم على أسوار بندر وضفاف دينبر.
ولقد كان جل رغائب روسيا في ذاك العهد أن تقسم بلاد السويد والدولة العثمانية وبولونيا فكانت تسعى إلى ذلك بكل حيلة وتحيد عن كل محالفة كما فعلت سنة 1767 بالاتفاق سراً مع ملك بروسيا وأدخلت جيوشها إلى بولونيا فاغتاظت الدولة العلية لذلك إذ عدت هذه مقدمة إلى جلب الدب الأكبر إلى جوارها وأعلن السلطان مصطفى الثالث الحرب على كاترينة الثانية سنة 1182 هـ.
وفي سنة 1769 أو 1770 حدثت بين الدولة العلية وروسيا وقائع كتب فيها الظفر للروس ولاسيما في الحرب البحرية التي هاجم فيها الأسطول الروسي الأسطول العثماني في نافارين وأحرق السفن العثمانية بقيادة ربان إنكليزي وأحرقت مدينة تشسما بالقرب من أزمير وسمع صوت القذائف إلى بعد خمسين فرسخاً إلى أزمير على بعد ستة فراسخ ودام الحريق من الساعة الواحدة والنصف بعد نصف الليل إلى الساعة السادسة صباحاً وكان ذلك في 3 ربيع الأول سنة 1183 هـ فخسر العثمانيون خمسة عشر سفينة في كل منها 74 إلى 100 مدفع وتسع سفن في كل واحدة منها من 15 إلى 30 وعدة مراكب واستاق الروس سفينة فيها ستون مدفعاً وخمسة زوارق ودامت الحرب بين لدولتين سنة 1771 و1772 واستولى الروس على القريم وأحبوا عقد الصلح إلا أن السلطان نشر في المحرم 1187 (1773) منشوراً يعلن فيه الحرب على روسيا فظفر الجيش العثماني عدة وقائع في سنتي 1773 و1774 وردوا الروس عن تجاوز نهر الطونة والى ما وراء سيلستر وبينا النصر كان حليف أعلامهم توفي السلطان مصطفى الثالث وكان قبيل وفاته أخذ منشوراً من حكومات بروسيا والنمسا وروسيا باتفاقهن على تقسيم بولونيا تقسيماً أولياً وذلك في سنة 1772.
وخلف عبد الحميد الأول أخاه مصطفى الثالث وفي أيامه اتفقت روسيا والنمسا على حرب الدولة العثمانية فاستوليا على أوتشاكوف سنة 1788 وفي خلال ذلك كانت ألمانيا تحاصر بلغراد فحزن السلطان لما نال ملكه حتى مات قهراً سنة 1789 وظل خلفه سليم الثالث يحارب تينك الدولتين ولكن ردت الجيوش العثمانية على أعقابها واستولى الظافرون على بندر وغيرها واستولى النمسويون على بلغراد وسائر مدن الطونة وفي خلال ذلك أحبت إنكلترا وبروسيا والنمسا أن تحمل روسيا على توقيف الحرب على العثمانيين لاشتغالهن بثورة فرنسا الأولى ولكن كاترينا صاحبة روسيا رأت الفرصة مناسبة لدوام الحرب وإتمام رغائبها بشأن العثمانية وبولونية إلا أن جيوش العثمانيين ظفروا في عدة مواقع بالجيش الروسي وذلك في البحر الأسود بالقرب من يكي قوله ثم بالقرب من آق ير (سباستبول) وانهزم أمير البحر الروسي في 18 أيلول سنة 1790 وتبدد أسطوله بعد خمس وستين سنة في 8 أيلول أي سنة 1855 سقطت سباستبول أيضاً وفي خلال ذلك حدثت لروسيا ما شغلها ببولونيا فعقدت الصلح مع الدولة العلية وفي سنة 1793 قسمت بولونيا تقسيماً ثانياً وفي سنة 1795 قسمت تقسماً ثالثاً بين الدول الثلاث ولم تفه دولة من الدول ببنت شفة في الاعتراض على هذا العمل إلا الدولة العلية التي اعترضت على نزع استقلال بولونيا بالقول والفعل ولكتن قدر فكان واستولت روسيا وبروسيا والنم سا على بلاد البولونيين بعد مذابح يبعث فيها الأرواح بيع المجان.
ولقد عزمت حكومات أوربا سنة 1815 أن تقيم في فينا مؤتمرا دولياً لتقرير حال السياسة وسعت روسيا أن لا يقبل مندوب من الدولة العلية فنجحت في مسعاها وكان من إثر ذلك أن أخذت روسيا تحرض اليونان والصرب والبلغار من رعايا الدولة العلية على نزع أيديهم من حكومتهم فقضي في دسائسها ألوف من هذه العناصر ومن المسلمين أيضاً.
وحدثت بين سنتي 1840 و1848 عدة فتن داخلية في البلاد العثمانية وكذلك في بلاد الفلاخ والمجر وتدخل الباب العالي في شؤون ولايات الطونة وأهم ذلك فتنة المجر ولو جرت الدولة العلية على تحالفها مع بولونيا والمجر وعنصراها من العناصر التي تحب العثمانيين كثيراً لنجحت هي وهم من غوائل سياسية كثيرة.
قلنا أن الجولة العلية ناهضت لحفظ استقلال بولونيا بالقول والفعل وذلك على عهد مصطفى الثالث الذي أعلن الحرب على كاترينا الثانية لمجرد الدفاع عن بولونيا فبعثت الدولة الصدر محمد أمين باشا إلى تخوم نهر الطونة ودنيستر سنة 1768 فحاولت كاترينا أن تدخل إليه السم فاكتشف المكيدة وشنق الأطباء ولكان عاد الصدر فتناول رشوة من روسيا هو وأمير موالدافيا وترجمان الباب العالي فلما اكتشف السلطان أمرهم أمر بإعدامهم في آب سنة 1769 وأرسل الباب العالي قائداً آخر ودام القتال بين البولونيين والعثمانيين من جهة وبين الروس من جهة أخرى إلى سنة 1770 وانتهى على ما مر بك آنفاً بتدمير الأسطول العثماني في تلك الوقعة المشؤومة.
فالمسلمون والبولونيون أصدقاء منذ عرفوا ما يكيد لهم أعداؤهم حتى أن بولونيا لم ترسل بجيش منها مع جيوش الصليبيين لما قام هؤلاء باستخلاص بيت المقدس من أيدي المسلمين. ويكفي في عناية الدولة بالبولونيين وعنايتها بالمجريين أيضاً أنها فتحت صدر بلادها لقبول المنكوبين منهم والعاملين على إنهاض بلادهم واسترجاع سلطانهم فأنزلت في أرضها على الرحب والسعة ووسدت إلى بعضهم المناصب واستعانت بهم على تقوية كلمتها الجندية والسياسية حتى أن الدولة لما أرسلت إلى مؤتمر بكرش الدولة مندوباً من قبلها في أوائل النصف الثاني من القرن التاسع عشر أعلنت بأن دول أوربا اذا رضيت بأن تعيد مملكة بولونيا إلى حالتها يعد الباب العالي علناً عن امتلاك ولاية الطونة ولذلك رأى عقلاء البولونيين أن تؤلف كتائب بولونية سنة 1854 تحت رعاية العثمانية فتألف عسكر القوزاق وكان من كتائب الدراغون التي جاءت إلى سورية أيام فتنة 1860 في جبل لبنان.
وكان من كتائب البولونيين في حرب القريم أن أبلوا مع العثمانيين بلاءاً حسناً ولما انتهت الحرب اقتطعتهم الدولة بعض القرى في ضواحي بروسة وأسسوا لهم بلدة في ضواحي الأستانة لا تزال إلى اليوم وقد دان بعض قوادهم بالإسلام مثل ميخائيل ساجوفسكي الذي سمي بعد محمد صادق باشا ولوبورد زاكي الذي لقب بمحمد حلمي وغيرهما من رجال البولونيين الذين أخلصوا الخدمة للدولة العثمانية. وابن محمد صادق باشا المشار إليه هو مظفر باشا متصرف جبل لبنان السابق.
وهكذا كان الأتراك والبولونيين يتحابان كلما طال المدى خصوصاً والعثمانيون يعلمون حسن معاملة البولونيين ايام استقلالهم للتار المسلمين النازلين في بلادهم ليتوانيا منذ سنة 1401 وكيف كانوا يعتمدون عليهم في الدفاع ويؤلفون منهم كتائب تغني غناءها في رد هجمات المهاجمين على بلادهم وكانت لهم حريتهم المذهبية والشخصية حتى كانت تسمح لرجالهم أن يتزوجوا من النساء البولونيات لقلة النساء عند التتار وأن يتبعن مذهب رجالهن وما قط تزوجت مسلمة من بولوني كما أنه لم يتزوج تتاري من يهودية.
وكانت بلاد بولونيا قديماً الطريق التجاري لبلاد الشرق إلى أوربا لأن بولونيا كانت أول بلاد المسلمين ولذلك ترى العادات والأذواق واحدة في البولونيين وأكثر العثمانيين وبين البلادين من لصلات التجارية شيءٌ كبير ولاسيما بعد أن زادت مدنية البولونيين ونما عددهم الذي بلغ كما قال مؤلف الكتاب الذي اعتمدنا عليه في تعريب هذه النبذة ثلاثين مليوناً وهم نازلون بحر البلطيق إلى البحر الأسود ومن نهر أودر إلى داوينا إلى دنيبر.
ذهب استقلال بولونيا منذ نحو قرن ونصف ودعاة استقلالها مازالوا منبثين في البلاد لم يدخل اليأس على نفوسهم والأب يلقن أباه والأم تلقن ولدها التناغي بالاستقلال ويعلمون أبناءهم تاريخ بلادهم وعظمتها وبطش الحكومات التي تقاسمتهم ولاسيما روسيا ويذكرون لها مذابحها وأفاعيلها فيهم فهل يوفق أولئك الدعاة الغيورون إلى ما قصدوا إليه ذات يوم أن يخضعون على الدهر لمن استصفوا أرضهم وديارهم.
إن انقضاء القرون في حياة الشعوب لا شأن له بقدر كر السنين في حياة الأفراد وما المئة سنة بالشيء الكثير على أمة تطلب التجديد ونزع ربقتها ممن يظلمها ولذلك يرجى الاستقلال لكل أمة كان لها ففقدته كالمصريين والجزائريين والهنديين وغيرهم ممن استعمرت بلادهم وأقرب الأمم باستقلال البولونيون الليتوانيون.