مجلة المقتبس/العدد 57/الدرر الكامنة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 57/الدرر الكامنة

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 11 - 1910


ليس أحسن من تراجم الرجال للوقوف على حال السياسة والاجتماع في عصر من العصور ففي جملة ما طبع من كتب التراجم والطبقات كتاب خلاصة الأثر في تراجم أهل القرن الحادي عشر للمحبي المتوفى سنة 1111 وسلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر للمرادي المتوفى سنة 1232 ولم تطبع تراجم أعيان القرن الثامن والتاسع والعاشر وإن كان مثل السبكي في طبقاته والصلاح الكتبي في وفياته قد تعرضا لبعض المترجمين في الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لحافظ عصره قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن علي حجر الكناني العسقلاني الأصل المصري والضوء اللامع لأهل القرن التاسع لشمس الدين السخاوي المتوفى سنة 902 وإن لم يدركا من الرجال من جاء ممن ذكرهم صاحب الكواكب السائرة في أعيان المئة العاشرة النجم الغزي المتوفى سنة 1061.

وها نحن نتكلم عن الدرر الكامنة وسنعقبه في الجزئين التاليين بالكلام على الضوء اللامع والكواكب السائرة.

جاء في كشف الظنون: الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة لشهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 اثنتين وخمسين وثمانمائة مجلد ضخم أوله الحمد لله الذي يحيي ويم يت الخ جيمع فيه تراجم من كان في المائة الثامنة من الأعيان مرتباً على الحروف ذكر في آخره أنه فرغ منه في شهور سنة 830 ثلاثين وثمانمائة ولم يكمل الغرض لبقايا من التراجم في الزوايا ثم اختصره جلال الدين السيوطي في مجلد ولابن المبرد أيضاً مختصره.

أما الكتاب الذي نحن بصدده فمنه في دمشق مخطوط قديم بخط إبراهيم البقاعي مهمل غير معجم وتعسر في الحايين قراءته وهو في مجلد ضخم من القطع الكبير قال في مقدمته: أما بعد فهذا تعليق مفيد جمعت فيه تراجم من كان في المائة الثامنة من الهجرة النبوية من ابتداء سنة إحدى وسبعمائة إلى آخر سنة ثماني مائة من الأعيان والعلماء والملوك والأمراء والوزراء والأدباء والشعراء وعنيت فيه برواية الحديث النبوي فذكرت من اطلعت على حاله واشرت إلى بعض مروياته إذ الكثير منهم شيوخ شيوخي وبعضهم أدركته ولم القه وبعضهم لقيته ولم أسمع منه وبعضهم قد سمعت منه واستمددت فيب هذا الكتاب من أعيان العصر لأبي الصفا الصفدي ومجاني العصر لشيخ شيوخنا أبي حيان ومذهبه وذهبة العص لشهاب الدين أبي الفضل وتاريخ مصر لشيخ شيوخنا الحافظ قطب الدين الحلبي وذيل سير النبلاء للحافظ شمس الدين الذهبي وذيل ذيل المرآة للحافظ علم الدين البرزالي والوفيات للعلامة تقي الدين ابن رافع والذيل عليه للعلامة شهاب الدين ابن جحى وما جمعنا صاحبنا تقي الدين المقريزي في أخبار الديار المصرية وخططها ومعاجم كثير من شيوخنا والوفيات للحافظ أبي الحسين بن أسد الدمياطي والذيل عليه لشيخنا الحافظ أبي الفضل بن الحسين العراقي وتاريخ غرناطة للعلامة لسان الدين ابن الخطيب والتاريخ للقاضي ولي الدين ابن خلدون المالكي إلى غير ذلك وبالله الكريم عوني وإياه أسأل عن الخطأ صوني إنه قريب مجيب. .

وهذا المجلد في 267 ورقة مرتبة على حروف المعجم يميل فيه المؤلف إلى الاختصار وفيه من تراجم المشاهير ترجمة أبي جعفر ابن الزبير والشهاب الأذرعي وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن فضل الله العمري وعماد الدين ابن كثير وابن الوردي وابن الشهاب محمود وابن المطهر الشيعي والصلاح الصفدي والعلائي والطوفي وابن خطيب داريا وابن عقيل وابن القيم وبرهان الدين القيراطي وابن هشام وابن رجب وابن جماعة والتاج السبكي والأردبيلي والتقي السبكي والسلطان محمود غاران والحافظ البرزالي وابن الأكفاني والحافظ اله1بي وشيخ الربوة ولسان الدين ابن الخطيب والخطيب القزويني والكمال ابن الزملكاني وابن دقيق العيد والبدر البلقيني وابن الوكيل وابن سيد الناس وابن نباتة وابن الحاج وابن المكرم والشمس القونوي وأبو حيان الأندلسي وقطب الدين الشيرازي والحافظ المزي وغيرهم ممن كانوا غرة ذاك القرن.

كما أن فيه من الخاملين ممن لا تسقط لهم على تراجم ولو مختصرة إلا في هذا السفر ومن أعظم ما يلفت نظرك في هذا الكتاب روح التعصب التي كانت مستحوذة في ذاك العصر أيام كان يقتل كل من يخالف الجمهور في فكر أو مذهب فتقرأ فيه صورة مكبرة من حال ذاك القرن الذي استولت فيه على هذه البلاد الجراكسة والتتار ممن أصبحوا ألعوبة في أيدي المتعصبة من رجال الدين هاك ما قاله في ترجمة إسمعيل بن سعيد الكردي المقري المصري تفقه وتمهر في القراآت والفقه والعربية وكان طلق العبارة سريع الجواب حسن التلاوة يدري الحاوي والحاجبية ويحفظ الكثير من التوراة والإنجيل رمي بالزندقة بسبب أنه كان كثير الهزل وحفظت منه كلمات قبيحة حتى صار يقال له إسمعيل الكافر وإسمعيل الزنديق وطلب إلى تقي الدين الأختاي وأدعي عليه فخلط في كلامه فسجن فجاءه شخص من الصالحين فأخبره أنه رأى النبي في منامه فقال له قل: للأخناي يضرب رقبة إسمعيل فإنه سب أخي لوطاً فاستدعى به وأعد مجلساً وأقيمت عليه البينة بأمور معضلة فأمر به فقتل بحكم المالكي بين القصرين في السادس والعشرين من صفر سنة عشرين وسبعمائة نقلته من خط القطب وذكر أنه حضر ذلك وقال كان قد نظر في المنطق فدخل في كلام لا فائدة فيه فضبط عليه. وقرأت في تاريخ موسى بن محمد اليوسفي أنه كان مشهوراً بالعلم بين الفقهاء وله فضيلة مشهور في الأدب. . قلنا وأقبح بعصر يقتل فيه العالم عقيب رؤيا يراها أحد أرباب الخيال.

وممن ضربوا على الزندقة ناصر بن أبي الفضل بن إسمعيل المقري الصالحي ولد سنة 666 ونشأ جميلاً جداً وكان صوته مطرباً فكان يقرأ في الختم والترب وحفظ التنبيه ثم ركب الباجر يقي علي فصار يقع منه كلمات معضلة وسلك سبيل التزهد ودخل إلى بغداد مع ركب العراق فيقال أنهم نقموا عليه شيئاً وهموا به فتوجه إلى ماردين ثم فر منها إلى حلب فجرى على عادته في الشطح فأنكر عليه كمال الدين بن الزملكاني وهو يومئذ قاضي حلب فقبض عليه وأرسله مقيداً إلى دمشق فقامت عليه البينة عند القاضي شرف الدين المالكي فأعذر إليه فما أبدى عذراً بل تشهد وصلى ركعتين وجهر بتلاوة القرآن ثم ضربت عنقه وذلك في ربيع كالأول سنة 726 ويقال أنه أنشد حين قدم ليقتل:

إن كان سفك دمي اقصى مرادهم ... فما غلت نظرة منهم بسفك دمي

وقال ابن الحبيب قلت فيه لما قتل:

يا أيها الهيتي هيت إلى الردى ... كم تجتري بلسان خب هالك

أرسلت من حلب لجلق موثقاً ... ونقلت بعد الشافعي لمالك

وفي الحاشية بخط ابن حيان البقاعي: قال ابن كثير ضربت عنقه بسوق الخليل على كفره واستهتاره بآيات الله وشركه وصحبته الزنادقة كالنجم ابن خلكان والشمس محمد الباجريقي وابن العمار البغدادي قال الشيخ علم الدين: وحضر قتله العلماء والأكابر وأرباب الدولة وكان يوماً مشهوداً أعز الله فيه الإسلام (!) وأذل فيه الزنادقة وأهل البدع وقد شهد مهلكه وكان شيخنا ابن تيمية أيضاً حاضراً يومئذ وقن أنبه وقرعه على ما كان يصدر منه اهـ. .

وقال في ترجمة السكاكيني ما نصه: محمد بن أبي بكر بن ابي القاسم الهمداني ثم الدمشقي السكاكيني الشيعي ولد سنة 635 بدمشق طلب الحديث وتأدب وسمع وهو شاب ابن إسمعيل العراقي والرشيد بن مسلمة ومحمد بن علام في آخرين وتلا بالسبع روى عنه البرزالي والذهبي وآخروتن من آخرهم أبو بكر بن المحب وبالإجازة شيخنا برهان الدين التنوخي. وأقعد في صناعة السكاكين عند شيخ رافضي فافسد عقيدته فأخذ عن جماعة من الإمامية وله نظم وقصائد ورد على العفيف التلمساني في الاتحاد وأمَّ بقرية جسرين مدة وأمَّ بالمدينة النبوية وعند أميرها منصور بن جماز (؟) ولم يحفظ عنه سب في الصحابة بل له نظم في فضائلهم إلا أنه كان يناظر على القدر وينكر الجبر وعنده تعبد وسعة علم قال ابن تيمية: هو من يتسنن به الشيعي ويتشيع به السني. وقال الذهبي: كان حلو المجالسة ذكياً عالماً فيه اعتزال وينطوي على دين وإسلام وتعبد سمعنا منه وكان صديقاً لأبي وكان ينكر الجبر ويناظر على القدر ويقال أنه رجع في آخر عمره ونسخ صحيح البخاري ووجد بعد موته في سنة خمسين وسبعمائة بخط يشبه خطه كتاب يسمى الطرائف في معرفة الطوائف يتضمن الطعن على دين الإسلام وأورد فيه أحاديث مشكلة وتكلم على متونها تكلم عارف لما يقول إلا أن واضع الكتاب يدل على زندقة فيه وقال في آخره وكتبه مصنفة عبد الحميد بن داود المصري وشهد جماعة من أهل دمشق أنه خطه فأخذه تقي الدين السبكي عنده وقطعه في الليل وغسله بالماء ونسب إليه عماد الدين ابن كثير الأبيات التي أولها.

أيا معشر الإسلام ذمي دينكم الأبيات ومات السكاكيني في صفر سنة 731 وفي الحاشية وجزم ابن كثير أن الكتاب الدال على الزندقة خطه وقال: إن فيه انتصاراً لليهود وأهل الأديان الفاسدة قال ولما مات لم يشهد دفنه القاضي شمس الدين بن مسلم ودفن بسفح قاسيون وقتل ابنه فيما بعد على قذف أمهات المؤمنين عائشة وغيرها رضي الله عنهما.

وتراجم مثل السكاكيني تؤخذ على أمثال الحافظ الذهبي وكفاه فضلاً أن مثل الذهبي والبرزالي يعدان من مفاخرهما الأخذ عنه وآثار التعصب والحقيقة لا تخفى على قراء العبارة الأخيرة. وقال في ترجمة علي بن الحسن بن أبي الفضل بن جعفر بن محمد ابن كثير الحلبي الرافضي قدم دمشق وأقام بها سنوات فاتفق أنه شق الصفوف الناس في صلاة جنازة بالجامع الأموي وهو يعلن بسبب من ظلم آل محمد فنهره عماد الدين بن كثير وأغرى به العامة وقال أن هذا يسب الصحابة فحملوه إلى القاضي تقي الدين السبكي فاعترف بسب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فعقدوا له مجلساً فحكم نائب المالكي بضرب عنقه تعزيزاً وزجراً بعد أن كررت عليه التوبة ثلاثة أيام فأصر فضربت عنقه بسوق الخليل وحرق العوام جسده وذلك في جمادى الأولى سنة سبعمائة وخمس وخمسين.

ومن أنعم النظر في تراجم من قتلوا يتضح له أنهم كانوا على جانب عظيم من العقل والعلم وأن أكثر ما روي عنهم متقول عليهم ليجدوا السبيل إلى إقناع العامة والحكام لإزهاق أرواجهم.

وفي الدرر عدة تراجم من هذا القبيل تدل على انحطاط في ذاك العصر وأن الناس كانوا يعمدون للتشفي ممن يحبون إلى استفتاء القاضي المالكي لأن مذهب مالك يقضي بأن يكون التعزيز بالقتل أو بالحبس أو بالتشهير كما وقع لأحمد بن محمد مري البعلي الحنبلي من أشياع بان تيمية فرفعوا أمره إلى القاضي المالكي بالقاهرة فضربه ضرباً مبرحاً بحضرته حتى أدماه ثم شهره على حمار أركبه مقلوباً ثم نودي عليه هذا جزاءُ من يتكلم في حق رسول الله صلي الله عليه وسلم فكادت العامة تقتله ثم أعيد إلى السجن.

ومثل ما وقع لأحمد بن محمد البققي المصري الأديب العالم فضربوا عنقه بأمر القاضي المالكي بالطبع لأنه بدت منه كما قيل أمور تنبئ بأنه مستهزئ بأمور الديانة وأنه منحل مستحل المحرمات.

ومثل ما وقع لأحمد بن محمد بن إسمعيل الحلبي الأديب المتصوف فضبطت عليه ألفاظ موبقة فرفع أمره إلى الحاكم بحلب فحكم القاضي المالكي صدر الدين الدميري بسفك دمه فقتل وهو القائل:

إذا نلت المنى بصديق صدق ... فكان وداده وفق المراد

فحاذر أن تعامله بقرض ... فإن القرض مقراض الوداد

ومثله إسمعيل الكردي وأحمد الروسي وعثمان الدكالي وفضل الله ابن اليهودي ومحمد الباجريقي وعلي بن الحسن الرافضي وغيرهم ممن ذهبوا شهداء قضاة المالكية والمتعصبة من العامة وبعضهم كانوا في مظهر علماءهم الذين أوصلوا الأمة إلى هذه الدرجة من الأفكار والتصور.

ومن الغريب أنهم كانوا يخوفون حتى من كان على رأيهم من الفقهاء والعلماء فقد ذكر ابن حجر في ترجمة العلاء ابن العطار أن الشيخ شمس الدين النقيب وغيره تكلم فتاوى تصدر من أبي الحسن ابن العطر وادعوا أن فيها تخبيطاً ومخالفة لمذهب القاضي واجتمعوا عند بعض الحكام فبادروا جماعة من محبي الشيخ علاء الدين فقالوا له إنهم هيأوا شهادات يشهدون عليك بها فخارت قوته وبادر إلى الحنفي وصدرت عليه دعوى فحكم بإسلامه وحقن دمائه وبقاءُ جهاته علية!!!

وها نحن أولاء ننقل ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية لأنها تصور لك مزية هذا الكتاب وهي خير ترجمة عثرنا عليها بل تصور لك ذاك العصر الذي كثر فيه تعذيب العلماء قال ابن حجر رحمه الله: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله ابن أبي القاسم ابن تيمية الحراني ثم الدمشقي الحنبلي تقي الدين أبو العباس بن شهاب الدين ابن مجد الدين ولد سنة 661 وتحول به أبوه من حران سنة 67 فسمع من ابن أبي عبد الدائم والقاسم الأربلي والمسلم ابن علان وابن أبي عمر والفخر في آخرين وقرأ بنفسه ونسخ سنن أبي داود وحصل الأجزاء ونظر في الرجال والعلل وتفقه وتمهر وتميز وتقدم وصنف ودرس وأفتى وفاق الأقران وصار عجباً في سرعة الاستحضار وقوة الجنان والتوسع في المنقول والمعقول والاطلاع على مذاهب السلف والخلف.

وأول ما أنكروا عليه في مقالاته في شهر ربيع الأول سنة 698 فقام عليه جماعة من الفقهاء بسبب الفتوى الحموية وبحثوا معه ومنع من الكلام ثم حضر مع القاضي إمام الديون القزويني فانتصر له وقال هو وأخوه جلال الدين: من قال شيئاً عن الشيخ تقي الدين عزرناه.

ثم طلب ثاني مرة سنة خمس وسبعمائة إلى مصر فتعصب عليه بيبرس الجاشنكير وانتصر له سلار ثم آل أمره إلى أن حبسفي خزانة البنود مدة ثم نقل في صفر سنة تسع إلى الإسكندرية ثم أفرج عنه وأعيد إلى القاهرة ثم أعيد إلى الإسكندرية.

ثم حضر الناصر من الكرك فأطلقه ووصل إلى دمشق في آخر سنة 712 وكان السبب في هذه المحنة أن مرسوم السلطان ورد على النائب بامتحانه في معتقده لما وقع إليه من أمور تنكر في ذلك فعقد له مجلس في سابع رجب فسئل عن عقيدته فأملى منها شيئاً ثم أحضروا العقيدة التي تعرف بالواسطية فقريء منها وبحثوا في مواضع ثم اجتمعوا في ثاني عشره وقرروا الصفي الهندي يبحث معه ثم أخروه وقدموا الكمال الزملكاني ثم انفصل الأمر على أنه شهد على نفسه أنه شافعي المعتقد (كذا) فأشاع أتباعه أنه انتصر فغضب خصومه ورفع واحداً من أتباع ابن تيمية إلى الجلال القزويني نائب الحكم بالعادلية فعززه وكذا فعل الحنفي باثنين منهم.

ثم في ثاني عشرين رجب قرأ المزيّ فصلاً من كتاب أفعال العباد للبخار يفي الجامع فسمعه بعض الشافعية فغصب وقال: نحن المقصودون بهذا ورفعه إلى القاضي فطلع إلى القلعة فوافاه ابن تيمية فتشاجرا بحضرة النائب فاشتظ اتبن تيمية على القاضي بكون نائبه جلال الدين آذى أصحابه في غيبة النائب فأمر النائب من ينادي: إن من تكلم في العقائد فعل به كذا. وقصد بذلك تسكين الفتنة.

ثم عقد له مجلس في سلخ رجب وجرى فيه بين ابن الزملكاني وابن الوكيل مباحثة فقال: ابن الزملكاني لابن الوكيل ما جرى على الشافعية قليل حتى تكون أنت رئيسهم. فظن القاضي نجم الدين ابن صصري أنه عناه فعزل نفسه وقام فأعاده الأمراء وولاه النائب وحكم الحنفي بصحة الولاية ونفذها المالكي فرجع إلى منزله وعلم أن الولاية لم تصح فصمم على العزل فرسم النائب لنوائبه بالمباشرة إلى أن يرد أمر السلطان.

ثم وصل بريدي في أواخر شعبان بعوده ثم وصل بريدي في خامس رمضان يطلب القاضي والشيخ وأن أرسلوا بصورة ما جرى للشيخ في سنة 698 ثم وصل مملوك النائب وأخبر بأن الجاسنكير والقاضي المالكي قد قاما في الإنكار على الشيخ وأن الأمر اشتد بمصر على الحنابلة حتى صفع بعضهم ثم توجه القاضي والشيخ إلى القاهرة ومعهما جماعة فوصلا في العشر الأخير من رمضان وعقد مجلس في ثالث عشريه بعد صلاة الجمعة فادعى على ابن تيمية عند المالكي فقال: هذا عدوي ولم يجب عن الدعوى فكرر عليه فأصر فحكم المالكي بحبسه فأقيم في المجلس وحبس في برج ثم بلغ المالكي أن الناس تتردد إليه فقال: يجب التضييق عليه إن لم يقتل وإلا فقد ثبت كفره فنقلوه ليلة عيد الفطر إلى الجب وعاد القاضي الشافعي على ولايته ونودي بدمشق: من اعتقد عقيدة ابن تيمية حل دمه وماله خصوصاً الحنابلة. فنودي بذلك وقرئ المرسوم قرأه ابن الشهاب محمود في الجامع ثم جمعوا الحنابلة من الصالحية وغيرها وأشهدوا على أنفسهم أنهم على معتقد الإمام الشافعي (؟).

وذكر ولد الشيخ جمال الدين ابن الظاهري في كتاب كتبه لبعض معارفه بدمشق أن جميع من بمصر من القضاة والشيوخ والفقراء والعلماء والعوام يحطون على ابن تيمية إلا الحنفي فإنه يتعصب له وإلا الشافعي فإنه ساكت عنه وكان من أعظم القائمين عليه الشيخ نصر المنبجي لأنه كان بلغ ابن تيمية أنه يتعصب لابن العربي فكتب إليه كتاباً يعاتبه على ذلك فما أعجبه لكونه بالغ في الحط على ابن العربي وتكفيره فصار هو يحط على ابن تيمية ويغري به بيبرس الجاشنكير. وكان بيبرس يفرط في محبة نصر ويعظمه.

وقام القاضي زين الدين ابن مخلوف قاضي المالكية مع الشيخ نصر وبالغ في أذية الحنابلة. واتفق أن قاضي الحنابلة شرف الدين الحراني كان قليل البضاعة في العلم فبادر إلى إجابتهم في المعتقد وأسلموه خطه بذلك واتفق بأني قاضي الحنفية بدمشق وهو شمس الدين ابن الحريري انتصر لابن تيمية وكتب في خطه مخ0تصراً بالثناء عليه بالعلم والفهم وكتب منه بخطه ثلاثة عشر سطراً من جملتها: منذ ثلثمائة سنة ما رأى الناس مثله فبلغ ذلك ابن مخلوف فسعى في عزل ابن الحريري فعزل وقرر عوضه شمس الدين الأذرعي ثم لم يلبث الأذرعي أن عزل في السنة المقبلة وتعصب سلار لابن تيمية وأحضر القضاة الثلاثة الشافعي والمالكي والحنفي وتكلم معهم في إخراجه فاتفقوا على أن يشترطون معه شرطاً وأن يرجع عن بعض العقيدة فأرسلوا إليه مرات فامتنع من الحضور إليهم واستمر.

لم يزل ابن تيمية في الجب إلى أن شفع فيه مهنا أمير آل فضل فأخرج في ربيع الأول في الثالث والعشرين منه وأحضر إلى القلعة ووقع البحث مع بعض الفقهاء وكتب عليه محضر بأنه قال: أنا أشعري ثم وجد خطه بما نصه: الذي اعتقد أن القرآن معنى قائم بذات الله وهو صفة من صفات ذاته القديم وهوليس مخلوق وليس بحرف ولا صوت وأن قوله الرحمن على العرش استوى ليس على ظاهره ولا أعلم كنه المراد بل لا يعلمه إلا الله والقول في النزول كالقول في الاستواء وكتبه أحمد ابن تيمية.

ثم اشهدوا عليه أنه تاب مما ينافي ذلك مختاراً وذلك في خامس وعشرين ربيع الأول سنة سبع وسبعمائة وشهد عليه بذلك جمع جم من العلماء وغيرهم وسكن الحال وأفرج عنه وسكن القاهرة.

ثم اجتمع جمع من الصوفية عند تاج الدين ابن عطاء فطلعوا في العشر الأوسط من شوال إلى القلعة وشكوا ابن تيمية أنه يتكلم في حق مشايخ الطريق وأنه قال لا يستغاث بالنبي فاقتضى الحال أن أمر بالمسير إلى الشام فتوجه على خيل البريد وكل ذلك والقاضي زيد الدين ابن مخلوف مشتغل بنفسه بالمرض وقد اشرف على الموت وقد بلغه سفر ابتن تيمية فراسل النائب فرده من بلبيس وادعى عليه عند ابن جماعة وشهد عليه شرف الدين ابن الصابوني وقيل ابن علاء الدين القونوي أيضاً شهد عليه فاعتقل بسجن حارة الديلم في ثامن عشر شوال إلى سلخ صفر سنة تسع وسبعين فنقل عنه أن جماعة يترددون إليه وأنه يتكلم في نحو ما تقدم فأمر بنقله إلى الإسكندرية فنقل إليها في سلخ صفر وكان سفره صحبة أمير مقدم لمك يمكن أحداً من جهته من السفر معه وحبس برج شرقي ثم توجه إليه بعض أصحابه فلم يمنعوا منه فتوجهت طائفة منهم بعد طائفة وكان موضعه فسيحاً فصار الناس يدخلون إليه ويقرأون عليه ويبحثون معه. قرأت ذلك في تاريخ البرزالي فلم يزل إلى أن عاد الناصر إلى السلطنة فشفع فيه عنده فأمر المالكي فاشترط المالكي أن لا يعود فقال له السلطان: قد تاب. وسكن بالقاهرة وتردد الناس إليه إلى أن توجه صحبة الناصر إلى الشام بنية الغزاة في سنة 12 وذلك في شوال فوصل دمشق في مستهل ذي القعدة فكانت مدة غيبته عنها أكثر من سبع سنين وتلقاه جمع كثير فرحاً بمقدمه وكانت والدته إذ ذاك في قيد الحياة.

ثم قاموا عليه في شهر رمضان سنة 19 بسبب مسالة الطلاق وأكد عليه المنع من الفتيا ثم عقد له مجلس آخر في رجب ثم حبس بالقلعة ثم أخرج في عاشوراء سنة إحدى وعشرين ثم قاموا عليه مرة أخرى في شعبان سنة 26 بسبب مسألة الزيارة واعتقل بالقلعة فلم يزل بها إلى أن مات في ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة سنة 827.

قال الصلاح الصفدي: كان كثيراً ما ينشدني:

تموت النفوس بأوصابها ... ولم يدر عوادها ما بها وما أنصفت مهجة تشتكي ... أذاها إلى غير أحبابها

وكان ينشد كثيراً:

من لم يقد ويدس في خيشومه ... رهج الخميس فلن يعود خميسا

وأنشد له على لسان الفقراء:

والله ما فرقنا اختيار ... وإنام فرقنا اضطرار

جماعة كلنا كسالى ... واكلنا ما له عيار

تسمع منا إذا اجتمعنا ... حقيقة كلها فشار

وسرد أسماء تصانيفه في ثلاثة أوراق كبار وأورد فيه من أمداح أهل عصره كابن الزملكاني قبل أن ينحرف عنه وكأبي حيان كذلك وغيرهما قال ورثاه محمود بن علي الدقوقي ومجير الدين الخياط وصفي الدين عبد المؤمن البغدادي وجمال الدين ابن الأثير وتقي الدين محمد بن سليمان الجعبري وعلاء الدين ابن غانم وشهاب الدين ابن فضل الله وزين الدين ابن الوردي وجمع جم وأورد لنفسه فيه مرثية على قافية الضاد المعجمة.

قال الذهبي ما ملخصه: كان يقضي منه العجب إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف واستدل ورجح وكان يحق له الاجتهاد لاجتماع شروطه فيه قال: وما رأيت أسرع انتزاعاً للآيات الدالة على المسألة التي يوردوها منه ولا أشد استحضاراً للمتون وعزوها منه كأن السنة نصب عينيه وعلى طرف لسانه بعبارة رشيقة وعين مفتوحة وكان ىية من آيات الله في التفسير والتوسع فيه وأما أصول الديانة ومعرفة أحوال المخالفين فكان لا يشق غباره فيه هذا مع ما كان عليه من المكارم والشجاعة والفراغ من ملاذ النفس ولعل فتاويه في النون وتبلغ ثلثمائة مجلد بل أكثر وكان قوالاً بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم.

قال: ولم أر مثله في ابتهاله واستغاثته بالله وكثرة توجهه وأنا لا أعتقد فيه عصمة بل أنا مخالف له في مسائل أصلية وفرعية فإنه كان مع سعة علمه وفرط شجاعته وسيلان ذهنه وتعظيمه لحرمات الدين بشراً من البشر تعتريه حدة في البحث وغضب وشظف للخصم تزرع له عداوة في النفوس وإلا لو لاطف خصومه لكان كلمة إجماع كان كبارهم خاضعين لعلومه معترفين بشفوفه مقرين بندور خطائه وأنه بحر لا ساحل له وكنز لا نظير له ولكن ينقمون عليه أخلاقاً وأفعالاً وكل واحد يؤخذ من قوله ويترك.

قال: وكان محافظاً على الصلاة والصوم معظماً للشرائع ظاهراً وباطناً ولا يؤتى من سوء فهم فإن له الذكاء المفرط ولا من فقلة علمه فإنه بحر زخار ولا كان متلاعباً بالدين ولا ينفرد بمسائل بالتشهي ولا يطلق لسانه بما اتفق بل يحتج بالقرآن والحديث والقياس ويبرهن يناظر أسوة من تقدمه من الأئمة فله أجر على خطائه وأجران على إصابته إلى أن قال:

تمرض أياماً بالقلعة تمرضاً جداً إلى أن مات لية الاثنين العشرين من ذي القعدة وصلي عليه بجامع دمشق وصار يضرب بكثرة من حضر جنازته وأقل ما قيل في عددهم أنهم خمسون ألفاً.

قال الشهاب بن فضل الله لما قدم ابن تيمية على البريد إلى لاقاهرة في سنة سبعمائة نزل عند عمي شرف الدين وحض أهل المملكة على الجهاد وأغلظ القول للسلطان والأمراء ورتبوا له في مدة إقامته في كل يوم ديناراً ومخفقة طعام فلم يقبل من ذلك وأرسل له السلطان بقجة قماش فردها قال ثم حضر عنده شيخنا ابو حيان فقال ما رأت عيناي مثل هذا الرجل ثم مدحه بأبيات ذكر أنه نظمها بديهة وأنشده إياها:

لما أتاني تقي الدين لاح لنا ... داع إلى الله فرد ماله وزر

على محياه من سيما الأولى صحبوا ... خير البرية نور دونه القمر

حبر تسربل منه دهره حبراً ... حبر تقاذف من أمواجه الدرر

قام ابن تيمية في نصر شرعتنا ... قام سيد تيم غذ عصت مضر

وأظهر الحق إذ آثاره اندرست ... وأخمد الشر إذ طالت له شرر

كنا نحدث عن حبر يجيء فها ... أنت الإمام الذي قد كان ينتظر

قال ثم دار بينهما كلام فجرى ذكر سيبويه فأغلط ابن تيمية القول في سيبويه فنافره أبو حيان وقطعه بسببه ثم عاد ذاماً له وصير ذلك ذنباً لا يغفر قال: وحج ابن المحب سنة 734 فسمع من أبي حيان أناشيد فقرأ عليه هذه الأبيات فقال قد شتها من ديواني ولا أذكره فسأله عن السبب فقال: ناظرته في شيءٍ من العربية فذكرت له كلام سيبويه فقال ليس بشيءٍ قال أبو حيان: وهذا لا يستحق الخطاب وبقال أن ابن تيمية قال له ما كان سيبويه نبي النحو ولا كان معصوماً بل أخطأ في أكثر من أربعين موضعاً وما تفهمها أنت فكان ذلك سبب مقاطعته إياه وذكره في تفسيره البحر بكل سوءٍ وكذلك في مختصره النهر ورثاه شهاب الدين ابن فضل الله بقصيدة رئية مليحة وترجم له ترجمة هائلة تنقل من المسالك إن شاء الله تعالى. ورثاه زين الدين ابن الوردي بقصيدة لطيفة طائية قال كمال الدين السومري في أماليه: ومن عجائب ما وقع في الحفظ من أهل زماننا أن ابن تيمية كان يمر بالكتاب فيطالعه مرة فينتقش في ذهنه وينقله من مصنفاته بلفظه ومعناه.

وقال الأقشهري في رحلته في حق ابن تيمية: بارع في الفقه والأصلين والفرائض والحساب وفنون أخرى وما من فن إلا وله فيه يد طولى وقلمه ولسانه متقاربان.

قال الطوفي: سنعته يقول: من سألني مستفيداً حققت له ومن سألني متعنتاً ناقضته فلا يلبث أن ينقطع فأكفى مؤنته وذكر تصانيفه وقال في كتابه أبطال الحيل عظيم النفع: وكان يتكلم على المنبر على طريقة المفسرين مع الفقه والحديث ويورد في ساعة من الكتاب والسنة واللغة والنظر ما لا يقدر أحد على أن يورده في عدة مجالس كأن هذه العلوم بين عينيه فيأخذ منها ما يشاء ويذر. ومن ثم نسب أصحابه إلى الغلو فيه واقتضى له ذلك العجب بنفسه حتى زها على أبناء جنسه واستشعر بأنه مجتهد فصار يرد على صغير العلماء وكبيرهم قديمهم وحديثهم حتى انتهى إلى عمر فخطأه في شيءٍ فبلغ الشيخ إبراهيم الرقي فأنكر عليه فذهب إليه واعتذر واستغفر وقال في حق علي: أخطأ في سبعة عشر شيئاً ثم خالف فيها نص الكتاب منها اعتداد المتوفى عنها زوجها أطول الأجلين. وكان لتعصبه لمذهب الحنابلة يقع في الأشاعرة حتى أنه سب الغزالي فقام عليه قوم كادوا يقتلونه ولما قدم غازان بجيوش التتر إلى الشام خرج إليه وكلمه بكلام قوي فهمَّ بقتله ثم نجا واشتهر أمره من يومئذ.

واتفق أن السيخ نصراً المنبجي كان قد تقدم في الدولة لاعتقاد بيبرس الجاشنكير فيه فبلغه أن ابن تيمية يقع في ابن العربي لأنه كان يعتقد بأنه مستقيم وأن الذي ينسب إليه من الاتحاد أو الإلحاد من قصور فهم من ينكر عليه فأرسل ينكر عليه فكتب إليه كتاباً طويلاً ونسبه وأصحابه إلى الاتحاد الذي هو حقيقة الإلحاد فعظم ذلك عليهم وأعانه عيله قوم آخرون ضبطوا عليه كلمات في العقائد منكرة (؟) وقعت منه في مواعيده وفتاويه فذكروا أنه ذكر حديث النزول فنزل عن المنبر درجتين فقال: كنزولي هذا. فنسب إلى التجسيم ورده على من توسل بالنبي واستغاث فاشخص من دمشق في رمضان سنة خمس (بعد السبعمائة) فجرى عليه ما جرى وحبس مراراً فأقام على ذلك نحو أربع سنين أو أكثر وهو مع ذلك يشتغل ويفتي إلى أن اتفق أن الشيخ نصراً قام على الشيخ كريم الدين الأيلي شيخ خانقاه سعيد السعداء فأخرجه من الخانقاه وعلى شمس الدين الحريري فأخرجه من تدريس الشريفية فيقال أن الأيلي دخل الخلوة بمصر أربعين يوماً فلم يخرج حتى زالت دولة بيبرس وخمل ذكر نصر وأطلق ابن تيمية إلى الشام.

وافترق الناس فيه شيعاً فمنهم من نسبه إلى التجسيم لما ذكر في العقيدة الحموية والواسطية وغيرهما من ذلك كقوله أن اليد والقدم والساق والوجه صفات حقيقية لله وأنه مستوي على العرش بذاته فقيل له يلزم من ذلك التحيز والانقسام فقال أن لا أسلم أن التحيز والانقسام منة خواص الأجسام فألزم بأنه يقول ثبت (؟) التحيز في ذات الله تعالى.

ومنهم من ينسبه إلى الزندقة لقوله أن النبي لا يستغاث له وأن في ذلك تنقيصاً ومنعاً من تعظيم رسول الله وكان اشد الناس عليه في ذلك النور البكري فإنه لما عقد له المجلس بسبب ذلك قال بعض المحاضرين: يغزز فقال البكري لا معنى لهذا القول فإنه إن كان تنقيصاً يقتل وإن لم يكن لا يعزز.

ومنهم من ينسبه إلى النفاق لقوله في علي ما تقدم ولقوله أنه كان مخذولاً حيث ما توجه وأنه حاول الخلافة مراراً فلم ينلها وإنما قاتل للرياسة لا للديانة ولقوله أنه كان يحب الرياسة وأن عثمان كان يحب المال ولقوله أبو بكر أسلم شيخاً لا يدري ما يقول وعلي اسلم صبياً والصبي لا يصح إسلامه على قول ولكلامه في قصة خطبة ابنة أبي جهل وما فيها من الثناء على. . . وقصة أبي العاص بن الربيع وما يوجد من مفهومها فإنه مشنع في ذلك فألزموه بالنفاق لقوله ولا يبغضك إلا منافق.

ونسبه قوم إلى أنه يسعى في الإمامة الكبرى فإنه كان يلهج بذكر ابن تومرت ويطريه فكان ذلك مؤكداً لطول سجنه وله وقائع شهيرة وكان إذا حوقق وألزم يقول لم أرد هذا إنما أردت كذا فيذكر احتمالاً بعيداً قال: وكان من أذكياء العالم وله في ذلك أمور عظيمة منها أن محمد بن أبي بكر السكاكيني عمل أبياتاً على لسان ذمي في إنكار القدر وأولها:

أيا علماء الدين ذمي دينكم ... تحير دلوه بأعظم حجة إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم ... ولم يرضه مني فما وجه حيلتي

فوقف عليها ابن تيمية فثنى إحدى رجله على الأخرى وأجاب في مجلسه قبل أن يقوم بمائة واسعة عشر بيتاً أولها:

سؤالك يا هذا سؤال معاند ... مخاصم رب العرش باري البرية

وقال شيخ شيوخنا الحافظ ابن سيد الناس في ترجمة ابن تيمية وهو الذي حداني على رؤية الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين قال: فألفيته ممن أدرك من العلوم حظاً، وكان يستوعب السنة والآثار حفظاً إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته أو ذاكر في الحديث فهو صاحب علمه وروايته، أو حاضر بالملل والنحل لم ير أوسع من نحلته في ذلك ولا أرفع من درايته، بزر في كل فن على أبناء جنسه، فلم تر عين من رآه مثله ولا رأت عينه مثل نفسه. كان يتكلم في التفسير، فيحضر مجلسه الجم الغفير، ويردون من بحره العذب النمير، ويرتعون ممن ربع فضله في روضة وغدير، إلى أن دب إليه من أهل بلده داء الحسد وألب أهل النظر منهم على ما ينتقد عليهم من أمور المعتقد، فحفظوا عنه في ذلك كلاماً، أوسعوه بسببه ملاماً، وفوقوا لتبديعه سهاماً، وزعموا أنه خالف طريقهم، وفرق فريقهم، فنازعهم ونازعوه، وقاطع بعضهم وقاطعوه، ثم نازعه طائفة أخرى ينسبون من الفقر إلى طريقه، ويزعمون أنه على أدق باطن منها وأجلى حقيقة، وكشف تلك الطرائق، وذكر لها مراغم وموابق، فآضت إلى الطائفة الأولى من منازعه، واستعانت بذوي الضغن عليه من مقاطعته، فأوصلوا إلى الأمراء أمره، وأعمل كل منهم في كفره فكره، فرتبوا المحاضر، وألهبوا الرويبضة (؟) للسعي بها عند الأكابر وسعوا في نقله إلى حاضرة المملكة بالديار المصرية فنقل، وأودع السجن ساعة حضوره واعتقل، وعقدوا لإراقة دمه مجالس، وحشدوا لذلك قوماً من عمار الزوايا وسكان المدارس، من عامل في المنازعة، مخاتل بالمخادعة مجاهر بالتكفير مبارز بالمقاطعة، يسومونه ريب المنون، وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون، وليس بالمجاهر بكفره بأسوأ حالاً من المجامل وقد دبت إليه عقارب مكره، فرد الله كيد كل من نحره، ونجاه على يد من اصطفاه والله غالب على أمره، ثم لم يخل بعد ذلك من فتنة بعد فتنة، ولم ينتقل طول عمره من محنة إلا إلى محنة، إلى أن فوض أمره إلى بعض القضاة فتقلد ما تقلد من اعتقاله، ولم يزل بمحبسه ذلك إلى حيث ذهابه إلى رحمة الله تعالى وانتقاله والى الله ترجع الأمور، وهو المطلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وكان يومه مشهوداً ضاقت بجنازته الطريق، وانتابها المسلمون من كل فجٍ عميق، يتبركون بمشهده يوم تقوم الأشهاد، ويتمسكون بسريره حتى كسروا تلك الأعواد.

وقال الذهبي مترجماً له في بعض الإجازات: قرأ القرآن والفقه وناظر واستدل وهو دون البلوغ وبرع في العلم والتفسير وأفتى ودرس وهو دون العشرين وصنف التصانيف وصار من كبار العلماء في حياة شيوخه وتصانيفه نحو أربعة آلاف كراسة وأكثر.

وقال في موضع آخر وأما نقله للفقه ومذاهب الصحابة والتابعين فضلاً عن المذاهب الأربعة فليس له فيه نظير وفي موضع آخر وله باع طويل في معرفة أحوال السلف وقلَّ أن تذكر مسألة إلا ويذكر فيها المذاهب والأئمة وقد خالف الأئمة الأربعة في عدة مسائل صنف فيها واحتج لها بالكتاب والسنة ولما كان معتقلاً بالإسكندرية التمس منه صاحب سبتة أن يجيز له بعض مروياته فكتب له جملة من ذلك في عشرة أوراق بأسانيده ومن بحفظه بحيث يعجز أن يعمل بعضه أكبر من يكون وأقام عدة سنين لا يفتي بمذهب معين.

وقال في موضع آخر: بصيراً بطريقة السلف واحتج له بأدلة وأمور لم يسبق إليها وأطلق عبارات أحج عنها غيره حتى قام عليه خلق من العلماء بالمصريين فبدعوه وناظروه وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي بل يقول الحق اذا أداه إليه اجتهاده وحدة ذهنه وسعة دائرته فجرى بينهم حملات جزئية ووقعات شامية ومصرية ورموه عن قوس واحدة ثم نجاه الله سبحانه وتعالى وكان دائم الاشتغال كثير الاستغاثة قوي التوكل رابط الجأش له أوراد وأذكار يدمنها.

وكتب الذهبي إلى السكبي يعاتبه بسبب كلام وقع منه في حق ابن تيمية فأجابه ومن جملة الجواب: وأما قول سيدي في الشيخ تقي الدين فالمملوك يتحقق كبير قدره وزخارة بحره وتوسعه في العلوم النقلية والعقلية وفرط ذكاءه واجتهاده وبلوغه في كل من ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف والمملوك يقول ذلك دائماً وقدره في نفسي أكثر من ذلك وأجل ما جمعه الله له من الزهادة والورع والديانة ونصرة الحق والقيام فيه لا لغرض سواه وجريه على سنن السلف وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى وغرابة مثله في هذا الزمان بل من الزمان.

وقرأت بخط الحافظ صلاح الدين خليل العلائي في ثبت شيخ شيوخنا الحافظ بهاء الدين عبد الله بن محمد بن خليل ما نصه: وسمع بهاء الدين المذكور على الشيخين شيخنا وسيدنا وإمامنا فيمت بيننا وبين الله تعالى شيخ التحقيق السالك بمن اتبعه أحسن طريق ذي الفضائل المتكاثرة والحجج الباهرة التي أقرت الأمم كافة أن همها عن حصره قاصرة متعنا الله بعلومه الفاخرة ونفعنا به في الدنيا والآخرة وهو الشيخ الإمام العالي الرباني والحبر البحر القطب النوراني إمام الأئمة بركة الأمة علامة العلماء وارث الأنبياء آخر المجتهدين أوحد علماء الدين شيخ الإسلام حجة الأعلام تقي الدين. . . سيف المناظرين برح العلوم كنز المستفيدين ترجمان القرآن أعجوبة الزمان فريد العصر والأوان. . . حجة الله على العالمين اللاحق بالصالحين للماضين مفتي الفرق ناصر الحق علامة الهدى عمدة الحفاظ ركن الشريعة كنز المعاني والألفاظ ذي الفنون البديعة أبي العباس ابن تيمية اهـ.

هذه ترجمة نابغة الإسلام وأعجوب علماء القرون الوسطى ولو لم يكن في هذا الكتاب سوى ترجمته لكان كافياً في طبعه والكتاب نسخة نفيسة نادرة في بابها لأن ناسخه عالم محقق ويعتاد الإنسان قراءة خطه على إعجامه بعد قراءة بضع صفحات منه وقد طمست بعض سطوره من أوائل بعض الصفحات لماء أو رطوبة ولكن يسهل إثبات الصحة ولو بمراجعة بعض المظان المطبوعة وغيرها.

والكتاب كما تقدم بخط البرهان البقاعي المفسر قال في آخره: قال شيخنا شيخ الإسلام والحفاظ مصنفه ومن خطه نقلت النسخة التي نقلت منها هذه فرغ منه جامعه سوى ما ألحق فيه بعد تاريخ فراغه في شهور سنة ثلاثين وثماني مائة ثم ألحق فيه إلى سنة سبع وثلاثين ولم يكمل الغرض من الإلحاق لبقايا من تراجم في زوايا لم أستوعبها بعد أعان الله تعالى على استكمال ذلك بمنه وكرمه آمين. قلت (البقاعي) وكانت كتابتي فيه للنسخة الأولى في ربيع الآخر سنة 855 وعسر عليَّ قراءة كثير من النظم الذي في التراجم وغير ذلك ثم نقلته كذلك إلى هنا والمرجو من فضل الله تعالى من تحرير ذلك ومقابلته جميعه على الأصل المنقول منه أن تيسر وتحرر ذلك من أصوله إن شاء الله تعالى وكان فراغي من هذه في 17 شوال سنة 859 بمنزلي بحارة بهاء الدين في القاهرة اهـ.

أما ابن حجر العسقلاني فهو شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد بن حجر نسبة إلى حجر قوم تسكن الجنوب العسقلاني الأصل المصري المو لد والمنشأ والدار والوفاة ولد سنة سبعمائة وثلاث وسبعين وتوفي سنة ثمانمائة واثنين وخمسين والمؤلف هذا معدود من أئمة الشافعية وله غير ذلك من الكتب منها تاريخ مرتب على السنين سماه أنباء الغمر في أبناء العمر وفي المكتبة الظاهرية مسودته بخط مؤلفه وهي لا تكاد تقرأ لما فيها من سقم الحروف والشطب والتعليق قال في مقدمته: وبعد فيقول العبد الضعيف أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن أحمد بن محمود بن أحمد بن حجر العسقلاني الأصل المصري المولد القاهري الدار هذا تعليق جمعت فيه حواذث الزمان منذ مولدي سنة ثلاث وسبعين وسبع مائة وهلم جرا مفصلاً كل سنة أحوال الدول ووفيات الأعيان مستوعباً لرواة الحديث خصوصاً من لقيته أو أجاز لي إلى أن قال وسميته أنباء الغمر في أبناء العمر.

وهاك نموذجاً من تأليفه: سنة سبع وسبعين وسبع مائة: فيها في المحرم طهر السلطان أولاده وعمل لهم مهيا عظيماً أنفق فيه من الأموال ما لا يحصى وظهر فيه من الفواحش والقبائح ما لا مزيد عليه واستمر ذلك سبعة أيام. سنة أربع وسبعين وسبع مائة: وفيها كان الوباءُ بدمشق فدام مدة تسعة أشهر وبلغ العدد في كل يوم مائتي نفر. سنة أربع وتسعين وسبع مائة: هجم على النائب بدمشق خمسة أنفس فقتلوه وأخرجوا من الحبس من الميكاسه (؟) وهم نحو مائة نفر وملكوا القلعة لحاجبهم الحاجب في عسكر دمشق وضيق عليهم إلى أن غلبوا فأحرق عليهم الباب وأمسكوا الثائرين فلم يبقوا منهم إلا من هرب.

وقال في أول الجزء الثاني وهو يبتدئ بأول القرن التاسع من الهجرة ما نصه: دخلت سنة إحدى وثماني مائة وسلطان مصر والشام والحجاز الملك الظاهر أبو سعيد برقوق وسلطان الروم أبو زيد عثمان وسلطان اليمن من نواحي تهامة الملك الأشرف ومن نواحي الجبال الإمام الزيدي الحسني وسلطان المغرب الأدنى أبو فارس عبد العزيز الحفصي وسلطان المغرب الأوسط المريني وسلطان المغرب الأدنى ابن الأحمر وصاحب البلاد الشرقية تيمور وكان المعروف باللنك وصاحب بغداد أحمد بن إدريس وأمير مكة حسن بن عجلان والخليفة العباسي أبو عبد الله المتوكل على الله ويدعى أمير المؤمنين وينازعه بهذا الاسم الإمام الزيدي وبع ملوك المغرب وصاحب اليمن.

وقد امتد الكتاب إلى سنة خمسين وثمانمائة وبدئ بعد سنة ثلاث وسبعين وسبع مائة وقد ذكر صاحب كشف الظنون أذيلاً لأنباء الغمر فمن لنا بأن نظفر بالأصل والفرع ويطبعا كما يطبع الدرر الكامنة.

وأما ناسخ الكتاب فهو برهان البقاعي صاحب المناسبات ترجم له الضوء اللامع ترجمة مطولة وكلها مطاعن لأنهما تدارسا العلم في سن الطلب واستفاد كل منهما من الآخر على عادة الطلبة فمما قاله فيه إنه إبراهيم بن عمر البقاعي برهان الدين وكنى نفسه أبا الحسن الخرباوي البقاعي صاحب تلك العجائب والنوائب والقلاقل والمسائل المتعارضة المتناقضة ولد فيما زعم تقريباً سنة تسع وثمانمائة بقرية يقال لها خربة روحا من عمل البقاع ونشأ بها ثم تحول إلى دمشق ثم فارقها ودخل بيت المقدس ثم القاهرة قال ووقائعه كثيرة وأحواله شهيرة ودعاويه مستفيضة أهلكه التيه والعجب وحب الشرف والسمعة بحيث زعم أنه قيم العصرين بكتاب الله وسنة رسوله إلى غير ذلك من المطاعن التي وجهها إليه وظهرت فيها نواجذ الشر والعداوة على أنه من أهل العلم المذكورين في عصره والمعدودين من محاسن دهره ولو لم يكن له إلا تفسيره في تناسب الآيات والسور الذي لم يؤلف في الإسلام مثله لكفاه فضلاً ورحل في آخر أمره إلى دمشق واتخذها موطناً وتوفي في رجب سنة 885 ودفن في مقبرة الحمرية ظاهر الشويكة في دمشق الشام ويوجد في المكتبة الظاهرية من تفسيره المنوه به نسختان عورضت إحداهما على مؤلفها وبها خطه رحمه الله.