مجلة المقتبس/العدد 52/الصحف والنجاح

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 52/الصحف والنجاح

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 6 - 1910



للنجاح في الأعمال أسباب كثيرة منها ما هو مادي ومنها ما هو معنوي إذا اختل أحدها تعذر النهوض بالشق الآخر. وإنشاء الجرائد والمجلات لا يخرج عن هذا الحد المقرر وهل في الأرض عمل لا يحتاج إلى علم وتجارب ومال واستعداد. ولطالما رأينا مصر في الثلاثين سنة الأخيرة والشام في عهدها الدستوري الجديد وغيرهما من الأمطار والأقطار التي يتكلم أهلها بالعربية تتجرأ على إصدار الصحب بدون حساب ولا روية وأدركنا العامة أجرأ من الخاصة على اقتحام هذا المركب الصعب وليس لديهم في الأغلب من وسائط النجاح كبير أمر فلا يلبث ما ينشئون أن يظهر إلى الوجود حتى يختفي اضطراراً لا اختياراً.

وهذا هو السبب في تعداد الجرائد وقصر أعمارها واشمئزاز الناس منها غذ توهموا بما تمثل لهم من حال بعض من أقدموا عليها آلة للتكسب والتدجيل لا أداة للوعظ والإرشاد والتعليم.

ما رأينا صناعة من الصناعات استسهل الناس أمرها كالصحافة فلم يعهد معلم في النجارة أو الحدادة أو البناء أو الهندسة يحترف هذه الحرف بدون سابق ممارسة ويتصدر للاعتياش منها وهو لا يعرف من أسراها سراً ولكن فن الصحافة في هذه الديار الذي يتوقف النجاح فيه على أسباب كثيرة أهمها العلم والتجربة والمال قد رأينا أناساً من الأغمار يدعونه بدون خشية وأكثرهم لا يعرفون قراءة الجرائد والمجلات دع عنك تأليفها وإصدارها.

كان جمهور الناس إلى عهد قريب يشارك الأطباء في طبهم فترى الكبير والصغير إذا عرض لهما مريض من خاصتهما ومعارفهما لا يتوقفان في وصف علاج يشفيه مدعيين أن ذلك من مجرباتهما أو مجربات أصحابهما ولما كثر الأطباء واستنارت الأمة بعض الشيء خفت هذه العادة في التعدي على الأطباء في طبهم إلا عند الطبقة الجاهلة أما الصحافة فيدخل فيها الفعل أناس ليسوا منها وليست منهم ويصفون للأمة أدوية تقيها الأسواء والأرزاء والأدواء ويعترضون على العالمين والحاكمين والسلاطين بلا خشية ولإحياء كأن طب الأرواح أصعب من طب الأشباح أو كأن الصحافة من العلوم اللدنية لا الكسبية يتعلمها المرء بالذوق وتوحى إليه إيحاءً.

من أجل هذا احتقرت الأمة الصحافة لما رأت من ضعف كثير من أدعيائها في أخلاقهم معارفهم ممن شانوا شأنها وعبثوا بمالها تذرعاً إلى مطمع ينالونه وصيت بالباطل يحصلونه ومقام عالٍ ينزلونه. نعم لم نشهد العطار بيطاراً ولا الإسكاف نجاراً ولا الحطاب رساماً ولا الفحام نظاماً ولا الجوهري حجاماً ولكن شهدنا الفلاح صحفياً والمتشدق مؤلفاً والثرثار محامياً والمكثار خطيباً كما نشهد الأغبياء قد يحاولوا بلوغ درجات الأذكياء والفقراء يقلدون الأغنياء.

بيد أن سنن الفطرة التي لا تغالب ونظام هذا الكون البديع الذي قلما اختل يعاقبان المعتدي على ما لا يعلم بما جنته يداه كما قيل في الأمثال الإفرنجية كل خطاء يحمل عقوبته فيه. وندر جداً في الناجحين من تيسر لهم الوصول إلى ما وصلوا إليه باتخاذ الذرائع المنجحة ونسج حلل مجدهم بأيديهم.

رأينا كثيراً ولاسيما في بلاد مصر والشام التصقوا بالصحافة وأنفقوا ثرواتهم في سبيلها فلم ينجحوا في مسعاهم ورجعوا بعد العناء الطويل وخسارة المال صفر الأيدي خائبين لأن مائدة العلم لا يجلس إليها طفيلي ولأن التمويه إن صعب في عمل فهو في الأعمال العلمية أصعب.

ومن ذلك رجلان اثنان صرف أحدهما في تأسيس الجرائد بضعة ألوف من الجنيهات والآخر بضعة مئات من الليرات وبعد العمل سنين ومحاولة النجاح ولو بالتلون في المبادئ وقلب الحقائق وتقبيح ما يستحسن واستحسان ما يستهجن والظهور في مظهر المصلحين الغيورين بعد كل هذا اضطرا إلى الرجوع أدرهما ولو كانا صرفا ربع ما بذلاه في هذا السبيل على درس فن الصحافة على أصوله وتلقناه كما تتلقن الصناعات المهمة ويدرب عليها المشتغلون بها لكان النجاح مضموناً لا محالة.

ولقد شاهدنا عياناً أن معظم الصحف التي كتبت لها البقاء في هذين القطرين الشقيقين خاصة هي التي قام بأعبائها أناس متعلمون تخرجوا في الكتابة وتدربوا في السياسة وتذوقوا لماظة من العلوم التي لا يسع صاحب جريدة ومحل جهلها. ومعظم من لم يخاذنهم ما يسمونه بالتوفيق أخفقوا لأسباب ناشئة من ضعفهم وقلة معارفهم في صناعة يلزمها ما يلزم لكل صانع من الأدوات إن لم نقل أنها تتوقف على أدوات أكثر.

وهنا مجال لأن ننصح الشبان المتهوسين في الكتابة الراغبين في الشهرة أن لا يقدموا على الدخول في معترك الصحافة والسياسة والآداب قبل أن يستتموا أدواتها ويستعدوا لها ويتخرجوا بها مدة فالإجادة في مقالة يكتبها كاتبها في أيام وربما عاونه غيره في تلقين موضوعها وتقويم أصولها وفروعها لا يتأتى منه الإجادة في كل موضوع ودعوى كل علم. والنشر والطبع مما ترغب فيه النفس والنفس غالباً تميل إلى نيل المحمدة والذهاب بفضل الشهرة والعاقل على أي حال من اتهم نفسه وحاسبها ولو يسيراً حتى لا يكون كل من يخط سطرين مغروراً بهما كمن هو بابنه وبشعره مفتون. وبعد فإن قانون المطبوعات العثمانية الجديد يقضي على من يصدر جريدة أو مجلة أن يحسن الكتابة باللغة التي يصدر بها صحيفته ليعلم ما يكتب فيها ولو كان قومنا يبالغون في انتقاء الرجال للأعمال لوضع في قانوننا بند يلزم كل من تصدر لمعاناة صنع القلم أن يمتحنفي الفن الذي يخوض عبابه كما امتحن المتطببون والصيادلة فإنشاء الصحف إن لم يكن أحق بالعناية بمعرفة الأمراض والعلل والعقاقير فلا أقل على أن يكون بمستواها فكم من جاهل قتل نفساً زكية ومن صحافي جرع قراءه السم الزعاف على حين ينتظر منه الترياق النافع.