مجلة المقتبس/العدد 36/حكومة الشورى في المملكة العثمانية
مجلة المقتبس/العدد 36/حكومة الشورى في المملكة العثمانية
من أدق المسائل وأعضلها مسألة توليته الملك واختيار الأصلح لحكم الناس بالعدل والعقل. مسألة شغل بها البشر في كل دور من أدوارهن فقضت ولا تزال تقضي في تأييد سلطة الملوك ملايين من الناس. على هذا كان الحال في حكومات العرب بعد الإسلامية في القرون الوسطى والحكومات الإفرنجية في القرون الحديثة.
الناس بخير ما حافظ ملوكهم على النظام في الجملة فإذا استرسلوا في شهواتهم وأهوائهم واستهانوا بمن تولوا رقابهم فعاملوهم معاملة الأنعام التي يرثها الابن عن أبيه ويتصرف فيها بما يشاء يفسد الأمر وتنتشر الفوضى ويتراجع ىالعمران ويذعر السكان. سنة من سنن هذا الكون مذن قامت المجتمعات الأولى وما من شيء بدل الآن على زوالها من العالم كل الزوال.
لابد للناس من طاعة زعيم يرجعون إليه ببعض أمور دنياهم ولو صورة فإذا استقام هذا الزعيم وسار بمشورة أهل الرأي من قومه استقامت شؤونهم مراميهم. وقد كان من الخلافة الإسلامية وهي تجمع بين السلطتين الدينية والدنيوية أثر عظيم من الجري على هذه الطريقة بإشراك الخليفة أصحابه وسروات بلاده في حربه وسلمه وغنمه وغرمه إلا أن هذه الصورة من الحكم لم يطل عهدها كثيراً فانقلبت بعد زمن قليل إلى ملك عضوض بسعي معاوية بن أبي سفيان وغدا يتقلدها صاحب القوة بل كل ابن يوصي له بها أبوه مهما كانت أخلاقه وكفاءته وسنه.
قال ابراهيم الأنصاري وهو ابراهيم بن محمد المفلوج من ولد زيد القاري: الخلفاء والأئمة وأمراء المؤمنين ملوك وليس كل ملك يكون خليفة وأماماً قال: ولذلك فصل بينهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه في خطبته فإنه لما فرغ من الحمد والصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إن أشقى الناس في الدنيا والآخرة فرفع الناس رؤوسهم فقال: ما لكم أيها الناس أنكم عجلون أن من الملوك من إذا ملك زهده الله فيما عنده ورغبه فيما في يدي غيره وانتقصه شطر أجله وأشرب قلبه الإشفاق فهو يحسد على القليل ويتسخط الكثير ويسأم الرخاء وتنقطع عنه لذة الباه لا يستعمل العبرة ولا يسكن إلى الثقة فهو كالدرهم القسي (الرديء) والسراب الخادع جذل الطاهر حزين الباطن فإذا وجبت نفسه ونضب عمره وضحي ظله حاسبه الله فأشد حسابه وأقل عفوه إلا أن الفقراء هم المرحومون وخ الملوك من آمن بالله وحاكم بكتابه وسنه نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وإنكم اليوم على خلافة النبوة ومفرق المحجة وسترون بعدي ملكاً عضوضاً وملكاً عنوداً وأمة شعاعاً ودما مفاحا فإن كانت للباطل نزوة ولأهل الحق جولة يعفو بها الأثر ويموت لها البشر فالزموا المساجد واستشيروا القرآن والزموا الطاعة ولا تفارقوا الجماعة وليكن الإبرام بعد التشاور والصفقة بعد طول التناظر أي بلاد كمخرسة (إن الله سيفتح عليكم إفصاحاً كما فتح عليكم أدناها).
وبعد فإن معاوية مبدأ شقاء هذه الأمة بملوكها أفسد أمرها كما قال الحسن البصري ليحقق أطماع نفسه ولم يكفه سفك دماء المسلمين في وقعة صفين حتى قام يعهد بالخلافة لابنه يزيد من بعده وفي العرب وقتئذٍ من رجالات قريش والصحابة بقية صالحة اضطرهم إلى مبايعة يزيد والسيوف مصلته على رقابهم في مسجد المدينة واحتال لذلك بكل حيلة تأبى النفس الشريفة أن تأتيها. فأصبح خلفاء الإسلام بعد أن كانوا مساوين للرعية أرباباً يتحكمون بالأموال والدماء والأعراض تحكم الحر المطلق الذي لا يسأل عما يفعل يقومون بضعف الناس ويغتنون بإفقارهم ويعتزون بإذلالهم.
جاء خلفاء من بني أمية وبني العباس عقلوا معنى الخلافة وأدركوا حقوق الرعية وعرفوا أن الشورى لا تستقر إلا إذا كان الخليفة كاملاً في ذاته وصفاته فأحبوا أن يجعلوا الملك بانتخاب الأصلح بعدهم كعمر بن عبد العزيز الذي مثل الخلافة الإسلامية على قاعدة الشورى أحسن تخيل ولطالما قال وقد رأى محمد بن أبي بكر: لو كان لي من الأمر شيء لقلدته أخلاقه بعدي. ولكن بني مروان يشق عليهم أن تخرج الخلافة عن رسمها القيصري الذي رسمه كبيرهم لتكون كالبقرة الحلوب ينتفع بها الأقرب فالأقرب من خليفة.
وكذلك فعل المأمون وقد رأى على بن موسى الرضا أعقل أهل السنة بالتشيع والشيعة بالاعتزال وهو المفرد العلم في عدله وسيرته وإيثار مصلحة الأمة على مصلحة نفسه، ىلة.
ومنذ ضعف أمر بني العباس واستولى ملوك الطوائف ضعف أمر الخلافة بن ذهب رسمياً جمعة وأصبح الملوك بحسب الاتفاق أن صلح واحد من مئة يجيء أخلاقه يفسدون ما وضعه. ساعد على ذلك في الأكمثر ضعف الآداب والأخلاق وزهد المتأخرين بعلوم الدنيا فصح فينا قول ذي عمرو من أمراء اليمن لجرير بن عبد الله إنكم معشر العرب لن تزالوا بخير ما كنتمة إذا هلك أمير مرت تم في أواخر فإذا كانت بالسيف كانوا ملوكاً يغضبون غضب الملوك ويرضون رضا الملوكثم سلط عليهم جبابرتهم فساموهم سوء العذاب وضربهم بالفاقة وملأ قلوبهم رعباً.
ولقد كتب لبني عثمان أن يتغلبوا على معظم بلاد الإسلام ويبنوا دولتهم على أنقاض حكومات كثيرة فدان لهم المغرب الأوسط ومصر وبلاد اليونان ورومانيا والصرب والبوسنة والهرسك والجبل الأسود وكريت وقبرص فانسلخت عن جسم الدولة بمساعدة أوروبا لها من الخارج ومناعي سكانها من الداخل.
والسبب الأعظم في ذهاب القاصية من بلاد الدولة كونها ما برحت منذ أول تأسيسها دولة سيف وسنان لا دولة علم وعرفان. وضخامة الملك لا تجدي إذا لم تنظم شؤونه بنظام الاجتماع والعلم الصحيح. فجربت البلاد بسياسة التفريق بين العناصر والأجناس بيد أن دوام الحال على ذلك محال مادامت أوروبا شاخصة أبصارها نحو الشرق تتحفز كل ساعة لاكتساحه منذ زهاء مئة سنة وتتطال إلى استعماره القطعة بهد القطة.
عرف وخامة العاقبة أهل الرأي في الأمة العثمانية فقاموا منذ نحو أربعين سنة ينادون في الدعوة إلى لم التعث ومجاراة الحكومات الأوروبية في نظامها فدعا شناسي وكمال ومدحت وفاضل وسعاوي وهم طليعة الأحرار الأبرار إلى نبذ الحكم المطلق والاستعاضة عنه بالحكم المقيد أي ترك الحكومة الاستبدادية الشخصية والأخذ بسنن الحكومة المدنية الثورية لتشارك الأمة سطلنها في إدارة شؤون البلاد وهو يشرف عليها إشرافاً وينفذ ما تقرره تنفيذاً كما هو حال أعاظم ملوك الأرض لهذا العهد إمبراطور الألمان وملك الإنكليز وميكاد واليابان ورئيس جمهورية أميركا على اختلاف طفيف في كيفية تأليف مجالسهم وإشراك ذوي الرأي من أهلهم في سلطانهم.
وما فتئ الأحرار ينشرونة دعوتهم في جرائد لهم أنشؤها وجمعيات الفوها وكلمتهم تزيدم انتشاراً كلما اشتدت الحكومة في إرهاقهم ولاسيما في المدارس العالية في الاستانة.
والمدارس العالية مجمع شمل أذكياء الطلاب من الترك والعرب والجركس والأرناؤود واللاز والروم والأرمن حتى إذا عادوا إلى بلادهم وتفرقوا في الولايات يضيفون إلى تذمر الأهلين من فساد الأحكاتم تذمراً ويكثرون سواد الحانقين على ذاك النظام الرث القديم.
ولما أوشكت الدولة العلية أن تسقط سنة 1293 باجتماع كلمة أوروبا عليها أعلن القانون الأساسي بسعي مدحت باشا وأعوانه ولم تتمتع الأمة أربعة أشهر بافتتاح مجلس قبل ففسدت النيات والتأثت الأحوال وتنتكرت الأخلاق وهزلت الفضيلة وباب القول الفصل للرشى والمحاباة والشفاعات وراجت سوق النفاق رواجاً سوق النفاقات رواجاً لم تعهده آثينة في آخر أيامها ولا رومية عند زوال سلطانها بل ولا فروق لما تأذن الله بانحلال الدولة البيزنطية منها وكثر الغش والخديعة وغلوا في التجسس والوقيعة وكثرت الهجرة من البلادم فهجرها قسم عظيم من العاملين والمفكرين من أهلها وتقهقهر عمرانها فوصلت بعض أقطارها إلى درجة من الفقر لم يعرف التاريخ أنها بلغتها في وقت من الأوقات وأمسى العاقل يعجب من بقاء الدولة العثمانية لم يعرف التاريخ أنها بلغتها في وقت من الأوقات وأمسى العاقل يعجب من بقاء الدولة العثمانية على هذه الحال وما بقي منها إلى اليوم هو من أخصب بقاع الأرض جمعت أطيب الكور من القارات الثلاث أوروبا وآسيا وأفريقية وهي الصلة والعائد بين شرق المعمور وغربه وأهلها من أقوى العناصر ذات الحضارة القديمة المستفيضة كأن لها أيامها الغر العجلة وفيها العرب والفينيقيون والحيثيون والروم والبابليون والآشوريون والكلدانيون والأرمن واليهود.