مجلة المقتبس/العدد 32/المسلمون والذميون والمعاهدون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 32/المسلمون والذميون والمعاهدون

مجلة المقتبس - العدد 32
المسلمون والذميون والمعاهدون
ملاحظات: بتاريخ: 1 - 9 - 1908



الإحساس دليل الحياة

التضامن رائد العمران

(تابع لما قبله)

جاء في عرض كلامي عن الأقباط في الجلسة الماضية أنهم يعاقبة واعتمدت على المقريزي وابن خلدون وسائر المؤرخين. فلم ترق هذه الكلمة في عين حضرة صاحب المجلة القبطية فاستدركها وقال أنهم أرثوذكس. ولكن رأي المقريزي في ذلك يؤيده العلامة القبطي ابن البطريق وقد اعترف حضرته بذلك. فليكن الأقباط أرثوذكساً أو ملكيين أو ملكانيين أو نساطرة أو كاثوليك أو بروتستانت أو يعاقبة أو موارنة أو مرقولية وليقولوا ما شاؤوا في اللاهوت والناسوت والحلول والاتحاد والمشيئة والأقنوم والطبيعة فإنما هم مصريون قبل كل شيء وتلك أمور داخلية وعقائد تعبدية ليس لها مساس بموضوعنا الذي نحن فيه اليوم.

ولكنني لا أترك هذه الفرصة دون الوقوف معه ومناقشته في قوله كان عددهم عند الفتح الإسلامي ثلاثين مليوناً. وغاية ما أقول أن عبارته عليها مسحة من المبالغة الشرقية التي لا مصداق لها سوى الخيال. أنا لا أحب المناظرة لأنني أعتقد أن تولع الشرقيين بها قد أوجب ما نراهم عليه من التقهقر والانحطاط. ولكنني لا يسعني أن أمر على هذه الكلمة بدون احتجاج ولو كانت من غيره لكانت مما لا يؤبه له ولا يعتد به أما وقد صدرت من فاضل مشهور بالتدقيق والتحقيق ومعروف بسعة الاطلاع وكثرة التنقيب فليس له أن يرسل القول جزافاً دون أن يعززه بدليل أو بشبه دليل.

وقال ابن البطريق القبطي أن المقوقس اجتمع مع عمرو بن العاص على عهد بينهم واصطلحوا على أن يفرض على جميع من بمصر من أعلاها إلى أسفلها من القبط دينارين على كل نفس شريفهم ووضيعهم ممن بلغ الحلم وليس على الشيخ الفاني ولا على الصبي الصغير الذي لم يبلغ الحلم ولا النهى شيء وأحصوا عدد القبط يومئذ خاصة ممن بلغ منهم فكان جميع من أحصي ستة آلاف ألف إنسان فكانت فريضتهم إثني عشر ألف ألف دينار وفرض عليهم هذين الدينارين ودفع ذلك عن رقابهم بالأيمان المؤكدة.

وقد أجمع المؤرخون من المسلمين وغير المسلمين على أن رجال مصر البالغين لم يزيدوا في ذلك العهد عن ستة ملايين. وليس يصح في الأحلام أن يقال أن النساء والأطفال والشيوخ الفانين كان عددهم أربعة وعشرين مليوناً أي أربعة أضعاف هذا العدد. وأنا أقول أن الأقباط أهل ذمة ووفاء فلا يصخ أن يقال أن دلسوا في الحساب وخانوا في الإحصاء فضلاً عن قيام العرب عليهم لأن مصلحة الفاتحين كانت تقضي بزيادة عدد الرؤوس لتتضاعف لهم الأموال وتبلغ الجزية ستين مليوناً من الدنانير بدلاً من اثني عشر ألف ألف دينار.

فنحن اليوم في عصر النور والتحقيق ويا حبذا لو أننا نربأ بأنفسنا عن تلك المبالغات الشرقية. وسعيد بن البطريق هذا هو قبطي مصري قال المكين أنه تولى بطريركية الأقباط فكان في أيامه شقاق كثير وشر متصل بينه وبين شعبه أدى بمحمد بن طغج صاحب مصر إلى إرسال قائد من قواده إلى تنيس فخيم على الكنائس وما بها وكان فيها شيء كثير من الذخائر حتى أن ذهبها وفضتها وزنت بالقبان لكثرتها وعبى القائد جميعها في الأقفاص وتوجه بها إلى مصر فمضى أسقف تنيس على جماعة الكتاب فتوسلوا لدى الأمير سنقر واستقر الرأي على إعادة كل هذه الذخائر في نظير خمسة آلاف دينار فباعوا من الأوقاف والعقارات التي للكنائس بقيمة المبلغ وحملوه إليه وبلغ الأخشيد أن الأسقف باع الأملاك بدون قيمتها فأرسل إلى تنيس وطالب المشترين بفرق الثمن. فلما علموا أن شقاقهم أوجب هذا اصطلحوا واجتمعوا في كنيسة واحدة. كان مولده في يوم الأحد لثلاث بقين من ذي الحجة سنة 263 وفي أول سنة من خلافة القاهر العباسي صار بطريركاً على إسكندرية وسمي أتوشيوس وذلك في 8 صفر سنة 321 وبقي في الكرسي والرئاسة سبع سنين ونصفاً ثم أصابه إسهال بمصر فحدث أنها على موته فصار إلى كرسيه بالإسكندرية وأقام به عدة أيام عليلاً وتنتح في آخر رجب سنة 328.

والبطريرك تعريب للفظ رومي معناه أبو الأسرة أو رب البيت قال المسعودي في كتاب التنبيه والإشراف أنه بالرومية بطرياركس تفسيره رئيس الآباء ثم خفف وقد سماه المسعودي والإسلاميون بطريرخ ثم بطريرك ثم خفف في الاستعمال فصرنا نقول بطرك ونكتبها بطريرك كما نقول جنبية ونكتب جنباواي وكانوا يكتبون جنبويه وكما نقول أبشيه وأبشاي ونكتب أبشواي وكانوا قبلنا يكتبون أبشويه وكما نقول بيه ونكتب بك وهكذا. وأما البطريق فهو تعريف للفظة رومية هي كما جاء في دائرة المعارف البستانية فإن لفظة هي خاصة بفريق الأعيان عند الرومان أهل رومية وأما فهي عنوان على المتقلد بوظيفة كبرى في الإدارة أو في العسكرية عند الروم أهل القسطنطينية وهم الذين كان لهم بالعرب اشتباك واختلاط وعنهم عربوا هذه الكلمة بلفظة البطريق. وإن كانت اللفظتان مشتقتين من مادة واحدة لكن الاصطلاح لم يكن واحداً عند الأمتين. فإذا جمعوا اسم أصحاب الوظيفة الدينية فقالوا بطاركة وإذا جمعوا اسم أصحاب الوظيفة المدنية أو العسكرية قالوا البطارقة. وقد يخلطون بينهما في الجمع كما قال المستهترون بحقيقة الألفاظ المعربة اسم أعجمي إلعب به كيف شئت.

وقد كان ابن البطريق صاحبنا معاصراً للإمام المسعودي وصديقاً له وقد اجتمعا معاً بالفسطاط. وقال في التنبيه والإشراف ما نصه: وأحسن كتاب رأيته للملكية في تاريخ الملوك والأنبياء والأمم والبلدان وغير ذلك كتاب محبوب بن قسطنيطين المنبجي وكتاب سعيد بن البطريق المعروف بابن الفراس المصري بطريرك كرسي مارقس بالإسكندرية وقد شاهدناه بفسطاط مصر انتهى تصنيفه إلى خلافة الراضي. وقد اشتهر بين المسلمين كثير من النصارى بهذا الاسم فأولهم ابن بطريق النصراني الذي كان أمين سر سليمان بن عبد المكل الخليفة الأموي بدمشق. كما كان سرجون بن منصور الرومي النصراني أمين سر من قبله للخلائف معاوية بن أبي سفيان، ويزيد بن معاوية ومروان بن الحكم. وكان في أيام أبي الدوانيق المنصور العباسي رجل اسمه البطريق أمره بنقل أشياء من الكتب القديمة. واشتهر في أيام المأمون رجل اسمه يحيى بن البطريق كان في جملة الحسن بن سهل وتحت رعايته وكان لا يعرف العربية حق معرفتها ولا اليونانية وإنما كان عليماً باللغة اللاتينية وهو من جملة الوفد الذي أرسله المأمون إلى ملك الروم عندما غلبه واستظهر عليه وتوالت بينهما المراسلات فكتب غليه المأمون يسأله الإذن في إنفاذ ما يختار من العلوم القديمة المخزونة ببلاد الروم فأجاب الملك إلى ذلك بعد امتناع فأخرج لذلك جماعة منهم الحجاج بن مطر ومسلمة (سلم صاحب بيت الحكمة) وغيرهم فأخذوا مما وجدوا ما اختاروا فلما حملوه إليه أمرهم بنقله فنقل وقيل أن صاحبنا يوحنا بن ماسويه الذي وصف أحسن دواء لأوجاع المعدة كان من جملة ذلك الوفد. وقد نقل ابن البطريق هذا واسمه يحيى من مؤلفات أرسطوطاليس إلى العربي كتاب السماء والعالم وهو في أربع مقالات وكتبا لحيوان وهو تسع عشرة مقالة ولخص جوامع كتابه في النفس وصله في ثلاث مقالات ثم نقل إلى العربي أيضاً كتاب البرسام للاسكندروس الطبيب الذي كان قبل جالينوس. وقد أرسله المأمون في مهمة أخرى للبحث عن كتاب لأرسطو. وعندي نسخة من كتاب بخط اليد عنوانه كتاب السياسة في تدبير الرياسة المعروف بسر الأسرار وهو من الكتب المنسوبة لأرسطو وقد ترجمه ابن البطريق هذا على اللغة العربية وإليكم ما قاله في مقدمته مخاطباً المأمون:

بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر

أما بعد أصلح الله أمير المؤمنين وأيده على حماية الدين والرعاية لأحوال المسلمين فإن عبده امتثل أمره والتزم ما حده عن كتاب السياسة في تدبير الرياسة المعروف بسر الأسرار الذي ألفه الفيلسوف الحكيم الفاضل أرسطو طاليس لتلميذه الملك الأعظم الإسكندر المعروف بذي القرنين حتى كبر سنه وضعفت قوته عن الغزو معه. وكان الإسكندر استوزره واصطفاه لما كان عليه من صحة الرأي واتساع العلم وقوة الفهم وتفرده بالخلال السنية والسياسة المرضية والعلوم الإلهية مع التمسك بالورع والتقى والتواضع وحب العدل وإيثار الضمير. . . فلم يدع الترجمان يحيى بن البطريق هيكلاً من الهياكل التي أودعت الحكماء فيها أسرارها إلا وأتاه ولا عظيماً من عظماء الرهبان الذين لطفوا (انقطعوا) لمعرفتها إلا أتاه وقصده وانتحاه حتى وصل هيكل عبدة الشمس الذي كان بناه هرميس الأكبر لنفسه فظفر فيه بناسك مترهب ذي علم بارع وفهم ثاقب فتلطف به واستنزله وأعمل الحيلة حتى أباح له المصاحف المودعة فيه فوجد في جملتها الكتاب المطلوب الذي كان أمره أمير المؤمنين بطلبه مكتوباً في رق مصبوغ بالفرفير بالذهب المحلول منقوطاً بالفضة البيضاء المحلولة. فرجع إلى الحضرة المنصورة ظافراً بالمراد. فسعى بعون الله وبسعد أمير المؤمنين وجدّ في ترجمته ونقله من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي.

أفرأيتم كيف تطرق بنا الحديث والحديث ذو شجون من ابن البطريق المصري إلى سميه البغدادي إلى الخليفة المأمون. وهل علمتم أن هذا الخليفة ورد على وادي النيل وكان له في رحلته بها شؤون يا لها من شؤون.

ففي سنة 217 هجرية وقع أمران عظيمان اضطرب لهما بال المأمون ولم ير في أحد من أهله ولا من ذوي عمله الكفاءة لهما فندب نفسه وعزم على الخروج من بغداد. وذلك أن ملك الروم كتب إليه يسأله الموادعة والمهادنة وبدأ في كتابه بنفسه وكانت قد حصلت بمصر فتنة عظيمة واضطرب أمرها. فعزم المأمون على الخروج لغزو ملك الروم ولإصلاح ذات البين بمصر. فأمر بعقد الألوية السود وهي شعار بني العباس كما تعلمون (ونقول بهذه أن بني العباس كان لهم لوآان فابيض يعقدونه لمن يولونه الأعمال والحكومات وأما الأسود فهو خاص يعقدونه لولاية العهد على الخلافة) ثم أمر بجمع المسودة وهم جيوش بني العباس وشعارهم السواد.

وقبل أن أسوق إليكم الحديث عما جمعته من شوارد هذه الرحلة العجيبة أخركم يا بني أمي ويا بني عمي بأمر هو من باب تحصيل الحاصل فأنتم تعلمون جميعاً أن أهل مصر عموماً يهيمون بالبصل غراماً تستوي في ذلك الطائفتان الصغرى والكبرى، بل إن بني إسرائيل حينما هاموا في التيه ولم يجدوا عن البصل من بديل ولم يعثروا على شبيه حردوا على موسى الكليم. وبما أننا سنحضر ركاب المأمون فلا بأس من ذكر نادرة من نوادره الكثيرة في إكرامه للعلماء حتى ولو كانوا ممن يأكلون البصل والثوم ويشربون النبيذ ويقومون للحنزير الحنيذ.

فقد كان بلغه قبل ذلك أن الشيخ كلثوم بن عمرو العتابي قد توفي ثم بلغه أنه لا يزال على قيد الحياة وهو من أكابر الشعراء المرسلين وأفاضل البلغاء المطبوعين فأرسل إليه لينادمه قبل سفره حتى لا تفوته مجالسته إذا مات الرجل وهو في الغزاة أو في مصر فلما دخل عليه أدناه وقربه حتى قرب فقبل العتابي يده ثم أمره بالجلوس فجلس وكان إسحاق بن إبراهيم الموصلي نديم الخلفاء ونادرة زمانه حاضراً فقال له المأمون: بلغتني وفاتك فساءتني ثم بلغتني وفادتك فسرتني. فقال العتابي: يا أمير المؤمنين لو قسمت هاتان الكلمتان على أهل الأرض لوسعتاها فضلاً وإنعاماً وقد خصصتني منهما بما لا يتسع له أمنية ولا يبسط لسواه أمل لأنه لا دين إلا بك ولا دنيا غلا معك. فقال له: سلني. فقال: يدك بالعطاء أطلق من لساني بالسؤال. فوصله صلات سنية وبلغ به التقديم والإكرام أعلى محل. ثم أقبل عليه يسائله عن حاله وهو يجيبه بلسان ذلق طلق فاستظرفه المأمون وأقبل عليه بالمداعبة والمزاح فظن العتابي وكان شيخاً جليلاً نبيلاً أنه استخف به. فقال: يا أمير المؤمنين الإيناس قبل الإبساس. وهذا مثل مشهور ولكن المأمون اشتبه عليه قول الرجل فنظر إلى نديمه إسحاق مستفهماً فأومأ إليه وغمزه على معناه حتى فهم. فقال: يا غلام ألف دينار. فأتى بالذهب وصبه بين يدي الأديب. ثم أخذوا في المفاوضة والحديث وغمز المأمون إسحاق بن إبراهيم الموصلي عليه فجعل العتابي لا يأخذ في شيء إلا عارضه إسحاق وزاد عليه. وبقي العتابي يزداد عجبه من إسحاق حتى لم يطق صبراً. فقال: يا أمير المؤمنين أتأذن لي في سؤال هذا الشيخ عن اسمه؟ فقال: نعم. فقال: يا شيخ من أنت وما اسمك؟ قال: أنا من الناس واسمي كل بصل فتبسم العتابي وقال: أما النسبة فمعروفة وأما الاسم فمنكر. وما كل بصل من الأسماء؟ فقال إسحاق: ما أقل إنصافك! أتنكر أن يكون اسمي كل بصل واسمك كل ثوم وكل ثوم من السماء؟ أو ليس البصل أطيب من الثوم. فقال كلثوم العتابي: لله درك فما أحجك! يا أمير المؤمنين ما رأيت كالشيخ قط. أتاذن لي في صلته بما وصلتني به فقد والله غلبني. فقال المأمون: بل ذلك موفر عليك فنأمر له بمثله. فقال إسحاق: أما إذا قررت بهذه فتوهمني تجدني. قال: ما أظنك إلا الشيخ الذي يتناهى إلينا خبره من العراق ويعرف بابن الموصلي. قال: أنا حيث ظننت فأقبل العتابي عليه بالتحية والسلام فقال المأمون وقد طال الحديث بينهما: أما إذا قد اتفقتما على المودة فانصرفا سالمين.

وخرج المأمون من بغداد بجيوشه وجحافله حتى دخل بلاد الروم غازياً لينتقم من ملكها الذي قدم نفسه عليه في المخاطبة وهنالك تناهت إليه الأخبار باستفحال الثورة في مصر وتعاظم الخطب وتفاقم الأمر حتى خرج أهلها من مسلمين وأقباط عن طاعة الخليفة لما نابهم على السوء من ظلم عامله عليهم وهو عيس بن منصور الرافعي. فامتنع المصريون كافة عن وزن الخراج وطردوا العمال. فترك الجنود ببلاد الروم لمحاصرة القلاع وتتميم الغزوة وسأتبعه في طريقه خطوة خطوة وأذكر ما فعله ببلادنا لخير الأقباط والمسلمين وما أبقاه فيها من المآثر التي دوى ذكرها وطمس خبرها وتنوسي أمرها على أن يخرج من وادي النيل مرموقاً بالعيون مشيعاً بالقلوب محموداً من جميع الشعوب.

ذهب المأمون إلى الشام فاشتاق للمنادمة فطلب رجلاً شامياً لمجانسته ومحادثته فأدخل له خواصه أديباً منهم وقالوا له: يا شامي أنت داخل على أمير المؤمنين فلا تسأله عن شيء حتى يبتدئك فإننا أعرق الناس بمسألتكم يا أهل الشام. فقال: لا أتجاوز أمركم. فلما استدناه المأمون وكان على شغله من الشراب قال له: إني أردتك لمجالستي ومحادثتي فقال الشامي: يا أمير المؤمنين إن الجليس إذا كانت ثيابه دون ثياب جليسه دخله لذلك غضاضة فأمر له بخلعة. فداخل الذي أدخله غضاضة ورعدة شديدة من هذا التهجم. فلما لبس الشامي الخلعة ورجع إلى مجلسه قال يا أمير المؤمنين: إن قلبي إذا كان متعلقاً بعيالي لم تنتفع بمحادثتي. قال الخليفة: احملوا إلى منزله خمسين ألفاً. فقال الشامي ولي عليك يا أمير المؤمنين خصلة ثالثة أرجو أن تنعم بها أيضاً. قال: وما هي؟ قال قد دعوت بشيء يجول بين المرء وعقله فإن كانت مني هنة فأغتفرها. قال: حباً وكرامة. فكانت الثالثة برداً وسلاماً على الذين أدخلوه وعجبوا من حلم المأمون وكرمه.

وقد اغتنم الخليفة فرصة وجوده بالشام لتحقيق مقدار السنة الشمسية فرصد ذلك بدار الرصد بدمشق المعروف بالشماسة وكانت له دار رصد أخرى ببغداد.

فلما كان في دمشق قل المال عنده حتى أضاق فشكا ذلك لأخيه المعتصم الذي تولى الخلافة بعده وكان المعتصم قد ورده خبر بأن ثلاثين أل ألف قد حملت إليه من خراج الأعمال التي يتولاها للمأمون فقال له: يا أمير المؤمنين كأنك بالمال قد وافاك بعد جمعة. فلما ورد خرج المأمون والقاضي يحيى ووجوه خاصته وسائر الناس لاستشرافه فوردت الصناديق محمولة على أباعر بأحلاس موشاة وجلال مزوقة وعليها شقق الحرير الصيني الأحمر والأخضر والأصفر فكان منظرها يروق العيون ويأخذ بمجامع القلوب فضلاً عن العجب بما عليها من الذهب. فقال المأمون ليحي: هل يصح أن ينصرف أصحابنا هؤلاء خائبين على منازلهم وننصرف نحن بهذه الأموال قد تمسكناها دونهم إنا إذا للئام. ثم دعا كاتبه فقال: وقع لآل فلان بألف ألف ولآلا فلان بمثلها ولآل فلان بخمسمائة ألف وما زال كذلك حتى فرق أربعة وعشرين ألفاً ورجله في الركاب ثم أمر بدفع الباقي للجند. وكان رجل من الكتاب حاضراً وهو العيشي صاحب إبي إصحاق النديم فأخذ ينظر للمأمون ولا يرد طرفه عنه بحيث كان الخليفة لا يحول نظره إلى جهة ولا يلتفت إلى شيء إلا وقعت عينه عليه فقال لكاتبه وقع لهذا بخمسين ألف من الستة آلاف الألف لا يختلس ناظري.

ثم أتى مصر فكان كلما دخل قرية أو مدينة ينزل على دكة قد بنيت لأجله ليكون مقامة مرتفعاً عن رطوبة الأرض فتضرب له على الدكة قبة بسرادق عظيم وتقيم العساكر حوله وكان يقيم في القرية يوماً وليلة فجاء عن طريق الفرما وفيها حضره الشعر فقال:

لليلك كان بالميدا ... ن أقصر منه بالفرما

غريب في قرى مصر ... يقاسي الهم والسدما

والسدم هو الهم مع الندم والحزن والغيظ والميدان موضع ببغداد اسم لبلد بكورة سابور من أعمال فارس ولا شك أنه تفكر أثناء وجوده بها في فتح قنال السويس الموجود فقد روى أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد الشطيبي (كذا) الأندلسي وقيل شهاب الدين أحمد المقري الفاسي في كتاب الجمان في مختصر أخبار الزمان المحفوظ منه نسخ متعددة بمكتبة باريس الأهلية أنه سعى في توصيل البحر الأحمر (بحر القلزم) بالبحر البيض المتوسط (بحر الروم) ولكنهم صرفوه عن هذه العزيمة خوفاً من الروم على مكة والمدينة كما خوفوا عمر بن الخطاب من قبله وهو أول من فكر في ذلك في الإسلام. ومر على دمياط ونزل عند قرية صغيرة اسمها بوره (وهي التي تنسب إليها العمائم البورية والسمك البوري وقد انحلت هذه العمائم باندثار القرية ولا يزال السمك باقياً يستطيبه المصريون إلى اليوم) فدخل عليه بكام القبطي من أهلها وكان ذا ثروة واسعة فخطب من المأمون عمارة بورة فقال له أسلم فتكون مولاي وأوليك فقال بكام: لأمير المؤمنين عشرة آلاف مولى مسلم أفلا يكون له مولى نصراني. فضحك منه المأمون وولاه عمالة بورة وما حولها. فبنى الرجل بها كنائس كثيرة حساناً وكان على باب داره المسجد الجامع فقال لأهل بورة من المسلمين أنا أبني لكم مسجداً جامعاً غير هذا واهدموا هذا المسجد من على باب داري فقالوا له ابن المسجد ونحن نصلي في هذا حتى إذا فرغت من بنيان ذاك صلينا به وهدمنا هذا المسجد. فبنى مسجداً كبيراً حسناً فلما فرغ منه ثقال لهم: فوالي بما وعدتموني فقالوا لا يجوز لنا في ديننا أن نهدم مسجداً قد صلينا فيه وأذنا وجمعنا فبقي المسجد على حالة وصار في بورة مسجدان تقام فيهما الجمعة فكان المسلمون يصلون جمعة في هذا وجمعة في ذاك. وكان بكام في يوم الجمعة يلبس السواد شعار بني العباس ويتقلد السيف والمنطقة ويركب برذوناً وبين يديه أصحابه فإذا بلغ المسجد وقف ودخل خليفته وكان مسلماً فيصلي بالناس ويخطب باسم الخليفة. ثم استمر الخليفة في سيره حتى جاء إلى قرية حقيرة فلم ينزل بها وهي طا النمل من مديرية الدقهلية وقد حرفنا اسمها تبعاً لأهلها فصار المشهور الآن (طنامل) وهما قريتان إحداهما شرقية والأخرى غربية وكلتاهما تبعدان عن مدينة المنصورة نحو ثلاث ساعات ولم تكن المنصورة موجودة في عهد المأمون لأن بناءها كان بعد ذلك في أيام الملك الكامل الأيوبي أثناء هجمات الصليبيين على مصر. فلما مر على القرية لم يدخلها لحقارتها فلما تجاوزها خرجت إليه عجوز تعرف بمارية القبطية صاحبة القرية وهي تصيح. فظنها المأمون مستغيثة متظلمة فوقف لها وكان لا يمشي أبداً إلا والتراجمة بين يديه من كل جنس فذكر له ان القبطية قالت: يا أمير المؤمنين نزلت في كل ضيعة وتجاوزت ضيعتي والقبط تعيرني بذلك، وأنا أسأل أمير المؤمنين أن يشرفني بحلوله في ضيعتي ليكون لي الشرف ولعقبي ولا تشمت الأعداء بي. وبكت بكاءً كثيراً فرق لها المأمون وثنى عنان فرسه إليها ونزل فجاء ولدها إلى صاحب المطبخ وسأله: كم تحتاج منم الغنم والدجاج والسمك والتوابل والسكر والعسل والطيب والشمع والفاكهة والعلوفة وغير ذلك مما جرت به العادة. فأحضر جميع ذلك إليه بزيادة. وكان مع المأمون أخوه المعتصم وابنه العباس وأولاد أخيه الواثق والمتوكل ويحيى بن أكثم والقاضي أحمد بن أبي داؤد فأحضرت القبطية لكل واحد منهم ما يخصه على انفراده ولم تكل أحداً منهم ولا من القواد إلى غيره. ثم أحضرت للمأمون من فاخر الطعام ولذيذه شيئاً كثيراً حتى أنه استعظم ذلك. فلما أصبح وقد عزم على الرحيل حضرت إليه ومعها عشرة وصائف مع كل وصيفة طبق فلما عاينها المأمون من بعد قال لمن حضر: قد جاءتكم القبطية بهدية الريف: الكامخ والصحناه والصير فلما وضعت ذلك بين يديه إذا في كل طبق كيس من ذهب. فاستحسن ذلك ومرها بإعادته. فقالت لاوالله لا أفعل. فتأمل الذهب فإذا به ضرب عام واحد كله. فقال: هذه والله أعجب ربما يعجز بيت مالنا عن مثل ذلك فقالت يا أمير المؤمنين لا تكسر قلوبنا ولا تحتقر بنا فقال: إن في بعض ما صنعت كفاية ولا نحب التثقيل عليكي فردي مالك بارك الله فيك فأخذت قطعة من الأرض وقالت يا أمير المؤمنين هذا (واشارت للذهب) من هذا (واشارت للطين) ثم من عدلك يا أمير المؤمنين وعندي من هذا شيء كثير فأمر به فأخذ منها وقطعها ضياع وأعطاها من قريتها طا النمل مائتي فدان بغير خراج وانصرف متعجباً من كثرة مروءتها وسعة حالها.

ثم سار حتى وصل الفسطاط عن طريق المطرية وعين شمس متبعاً في ذلك خط السير الذي اتبعه الجيش الإسلامي مع عمرو بن العاص في أيام الفتح في سنة 20 هجرية فدخل الفسطاط يوم الجمعة 9 المحرم سنة 217 وكانت قد بنيت له قبة على الجبل المقطم فنزل فيها وكانت تسمى قبة الهواء وكان مع المأمون فراشون من النصارى فبعدت عليهم الكنائس التي في القصر فاستأذنوا المأمون في بناء كنيسة يصلون بها تكون بالقرب من قبة الهواء فإذن لهم فبنوا من فضلات قبة الهواء كنيسة مرتمريم التي في القنطرة وهي التي عرفت في ما بعد بكنيسة الروم.

وفي أثناء إقامته في الفسطاط أرسل ملك النوبة وفداً إلى المأمون ذكروا عنه أن ناساً من مملكته وعبيده باعوا ضياعاً من ضياعهم لمن جاورهم من أهل أسوان وأنها ضياعه والقوم عبيده ولا أملاك لهم وإنما تملكهم على هذه تملك العبيد العاملين فيها فحول المأمون على عامله بأسوان تحقيق هذه المسألة وأمره بالاستئناس بمعلومات من بها من الشيوخ وأهل العلم فوصل الخبر إلى أهل أسوان الذين اشتروا تلك الضياع وعلموا أن عدل المأمون سينزعها من ايديهم ويردها على صاحبها فأعملوا الحيلة حتى لا يضيع عليهم الثمن الذي دفعوه وتذهب عليهم الأعيان التي تملكوها فتقدموا إلى البائعين من أهل النوبة واتفقوا معهم على أنهم إذا أحضرهم الحاكم المولى من قبل المأمون يقولون بأنهم ليسوا عبيداً لملك النوبة وأن يقولوا بحضرته وبحضرة الشيوخ والشهود والعدول: سبيلنا معاشر المسلمين سبيلكم مع ملككم ويجب علينا طاعته وترك المخالفة له فإن كنتم أنتم عبيداً لملككم وأموالكم له فنحن كذلك. فلما جمع حاكم أسوان بين البائعين وبين رسول ملك النوبة والنائب عنه في هذه القضية المهمة اعتمدوا على هذه الحجج ونحوها مما لقنها لهم أصحاب الحظ والمصلحة في ثبوت البيع ونفاذه فصح البيع لعدم إقرارهم بالرق لملكهم.

هذا وقد أنشأ المأمون أثناء مقامه بمصر جسراً (كوبرياً) يصل بين مصر القديمة وبين جزيرة الروضة وانتقل إلى المنيل فأعجبته هذه الجزيرة الجميلة فبنى بها جامعاً ومقياساً كما ذكره عبد الرشيد صالح بن نوري الباكوبي المولود في مدينة باكو من بلاد الروسيا وهو من أعيان القرن التاسع للهجرة في كتابه المسمى بتلخيص الآثار في عجائب الأقطار المحفوظ منه نسختان في مكتبة باريس الأهلية ولم يتم هذا المقياس في أيام المأمون فأتمه المتوكل العباسي وهو الباقي إلى اليوم. وقد كان القبط يتولون مقاييس النيل إلى أيام المتوكل في سنة 247 فتولاه المسلمون بعد تمام مقياس الروضة وأولهم أبو الرداد المعلم الذي كان مؤذناً في جامع عمرو يعلم الصبيان القرآن واستمرت هذه الوظيفة في ذريته حتى سنة 938 ويقول الموكلون به في أيامنا هذه أنهم من عقبة.

ثم عدا المأمون إلى بر الجيزة وذهب إلى الأهرام. قال شيخ الربوة الصوفي الدمشقي في كتاب نخبة الدهر في عجائب البر والبحر المطبوع في بطرسبورغ ما نصه: ولم تزل همم الملوك قاصرة عن تعرف ما في هذين الهرمين إلى أن ولي المأمون الخلافة وورد مصر فأمر بفتح واحد ففتح بعد عناء طويل واتفقن له لسعده المعين على تحصيل عرضه أن فتح في مكان يسلك منه إلى الغرض المطلوب فانتهى بهم الطريق إلى موضع مربع في وسطه حوض من رخام مغطى بالكف عما سواه. ويا ليت لو كان أمر بفتح هرمين أو ثلاثة من الأهرام الصغار المبثوثة فيرهما لكي يبين الأمر جلياً له وللناس.

وروى المقريزي عن صاحب تحفة الألباب أن المأمون أصعد بعضهم لتعرف ما بداخله وبعضهم لذرعه من الخارج.

فأفضى الذين صعدوا إلى القبة التي في أعلى الهرم من الداخل إلى قبة صغيرة فيها صورة آدمي من حجر أخضر كالدهنج فأخرجت على المأمون فإذا هي منطبقة فلما فتحت وجد فيها جسد آدمي عليه درع من الذهب مزين بأنواع الجواهر وعليه حلة من ذهب قد بليت ولم يبق منها سوى سلوكها من الذهب وكان على هذه الموميا طلاء بمقدار شبر من المر والصبر وعلى صدره نصل سيف لا قيمة له وعند رأسه حجر ياقوت أحمر كبيضة الدجاجة يضيء كلهب النار فأخذه المأمون وقال هذا خير من خراج الذهب. وقال كثير من المؤرخين أن هذا التمثال الأخضر لم يزل معلقاً عند دار الملك بمدينة مصر إلى سنة 611 هجرية.

أما الذين صعدوا فوقه فقد انتهوا إلى قمته بعد ثلاث ساعات فوجدوا رأس الهرم قدر مبرك ثمانية جمال. وبناءً على أمر أمير المؤمنين أرسلوا إلى أسفله حبلاً فكان طوله ألف ذراع بالذراع الملكي وهو ذراع وخمسان.

وقد قاس المأمون تربيع الهرم فكان أربعمائة ذراع في مثلها. ولقد أجمع مؤرخو العرب على أن المأمون توصل إلى فتح هذا النقب الموجود إلى يومنا هذا بعد جهد شديد وعناء طويل فكان بداخله مهاوي ومراقي يهول أمرها ويعسر السلوك فيها وأن النفقة على نقبه كانت عظيمة والمؤونة شديدة.

هذه هي الحقيقة التاريخية مجردة من المبالغات الشرقية. ولما كان أمر الأهرام قد بقي مكتوماً على الخاص والعام حتى فتحه المأمون فلا غرابة إذا رأينا أهل الشرق وهم مغرمون بالأوهام شطحوا مع تيار الخيال فلفقوا على ذلك أقاصيص وأساطير ما أنزل الله بها من سلطان ولكنها لعمر الحق فيها عبرة وحكمة كبيرة لقوم يفقهون. ذلك أن كتاب العرب أرشدوا أرباب الألباب إلى أن السعيد بن السعيد هو الذي يتوصل للعثور على ما يوازي نفقته عند تطلبه الكنوز والدفائن ولذلك قالوا بأن المأمون وجد وراء الباب حوضاً من حجر مغطى بلوح من رخام وهو مملوء بالذهب وقالوا أن المأمون أمر بحسبان ما صرف على النقب فبلغ قدر ما وجد في الحوض من غير زيادة ولا نقص.

ولعل هذا الرمز البديع يكون راجعاً لمن ينفق العمر والمال في تطلب الدفائن والكنوز والمطالب والخبايا فليس لكل الناس سعد كسعد المأمون وقد رأيناهم جميعاً يعودون بصفقة المغبون فلعلهم بعد هذا البيان يفكرون ويتدبرون ويسعون لاكتساب المال من طريقه المشروع وسبيله المأمون.

ثم توجه المأمون إلى الصعيد فأحل ركابه بمنف حضره الشعر في الحال فقال على سبيل الارتجال:

سألت أطلال مصر ... عن عين شمس ومنف

فما أحارت جواباً ... ولا أجابت بحرف

وفي السكوت جواب ... لذي الفطانة يكفي

ثم استمر حتى وصل إلى مدينة فقط من أعمال الصعيد بمديرية قنا. ومن لفظة فقط اشتق اسم القبط. ومنه أخذ الروم لفظة إيجيبتوس للدلالة على مصر والمصريين.