مجلة المقتبس/العدد 32/اتقاء الشقاء

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 32/اتقاء الشقاء

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 9 - 1908



نشر المسيو نوفيكوف العالم الاجتماعي الروسي هذا الشهر كتاباً سماهالظواهر الاقتصادية والطبيعية ومسألة شقاء الناس قال في بعض فصوله أن أمر بؤس البائسين وغنى الموسرين قد شغل بال كثيرين وهي من المسائل المعقدة ذات الأطراف والتضاعيف. فيرى بعضهم أن الشقاء من الأمور الطبيعية كالفيضانات والزلازل وقلة الأمطار وأن من يحاول إبطاله من لاعالم كالذي يتخيل أن يجري أنهاراً من اللبن ويغرس أشجاراً تأتي بأرغفة من العجين مخبوزة. ومنهم من يقول أنه ليس ثمت شقاء على حين تثبت الإحصائيات أن تسعة أعشار الناس لا يأكلون عندما تطلب معدهم الأكل أو هم فقراء مقتر عليهم في أرزاقهم ويرى بعض أرباب الأديان أن الشقاء أمر تقضي به المشيئة الربانية ولكنهم لم يستطيعوا أن يدعوا أن الشقاء حسنة من الحسنات لئلا ينسبوا إلى المولى تعالى الظلم لعباده بل أنهم وقفوا عند حد الجنات التي وعد بها البائسون وأن العالم دار محن وأكدار وغربة لا دار قرار وراحة وأن الحياة الحقيقية السعيدة يتمتع بها المرء بعد وفاه. بيد أن كثيرين من رجال الدين وإن قالوا بأن الشقاء مما يثاب عليه صاحبه إلا أنهم ينعمون ويترفهون يأكلون الأطايب ويسكنون القصور ويلبسون الوشي والديباج ولذلك ما قط منع رجال الدين الناس من السعي في الخلاص من مخالب الشقاء وتحسين معاشهم وتكثير أرزاقهم. وأرى أن الأنفع أن يقضي المرء حياته في هذه الدنيا في رفاهة لأن ذلك لا يمنعه من ممارسة الفضائل ثم إذا كتبت له الجنة يذهب إليها ويتمتع بما وعد فيها من النعيم وهذا خير له من أن يعيش في دنياه شقياً لينعم باله في الآخرة. ولكن من لا يقولون بخلود النفس وعددهم آخذ بالنمو يرون هذه الفلسفة خيالية.

ويرى بعضهم أن الشقاء آت من استئثار بعض أشخاص بأموال طائلة وحرمان الفقير منها وأنه لو كفت أيدي الأغنياء عن احتكار القسم الأعظم من الثروة ولم يحرم منها السواد الأعظم بل قسمت بينه قسمة عادلة لأصبح الناس كلهم في سعة وفارق الشقاء بين بني آدم أخر الدهر. وليس احتكار أولئك الأفراد لثروة المجموع هو الحل الوحيد لهذه المعضلة بل أن الفقر ناشئ على الأرض من قلة الأرزاق اللازمة للحياة وإذا كانت هذه القلة ناشئة من أسباب المحيط والبيئة يصح أن يقال أن البشر في شقاء لأنهم لم يحسنوا استخدام الأرض وتسخيرها لحاجياتهم.

لا يبطل البؤس بتقسيم الأموال على السوية لأن تلك الأموال غير كافية لرفع الشقاء كما علم بالإحصاء فقد تبين بأنه إذا حجزت جميع الأرباح والمداخيل التي تزيد عن خمسة آلاف ليرة لتوزع على من تقل مداخيلهم عن هذه القيمة لا تزيد مداخيلهم أكثر من 12 بالمئة عما هي عليه الآن ولذلك اقتضى زيادة الثروة عشرة أضعاف ما هي عليه اليوم لإنقاذ البائسين من بؤسهم ونحسهم. ولعمري أي رفاهية ينالها العامل الذي يربح الآن ثمانية قروش في يومه إذا صار يربح تسعة وهل بهذا القرش يكون مرفهاً من أهل الطبقة الوسطى؟ وبعد فلا سبيل إلى حل المسألة الاجتماعية لا بزيادة الأرباح ألفاً في المئة والسبب الثاني في سقوط دعوى من يدعون بأن في تقسيم ثروة الأغنياء تفريجاً لكربة البائسين أن ثروة الأغنياء ليست بحراً لا ينضب وبراً لأحد له فلو فرضنا أن مورغان المثري الأمريكي له دخل سنوي قدره 38 مليون فرنك ووزعه على أهل الولايات المتحدة لما أصاب الفرد سوى فرنك على أن هذا الغني لا يتأتى له أن يوزع على أهل بلده هذا القدر من الملايين إذا صودرت أمواله في السنة السابقة. وهكذا العمل بجميع الثروة فإنها إذا حجزت دفعة واحدة ووزعت دفعة واحدة لا يكون منها دواء مسكن لهذا الجرح المؤلم إلا مؤقتاً لما عرف من أن مطالب الحياة غير متناهية وغنى يوم لا يعد غنى لأيام.

ويغلط الاشتراكيون في خلطهم بين الثروة والمال وما الثروة إلا نتيجة تغيير المحيط بأن يقوم عمل الإنسان على قاعدة معقولة. وجمهور الناس يخطئون في تصورهم الثروة أنها ليرات وجنيهات موضوعة في صناديق أرباب المال فكما أن هذه النقود لا تحتاج إلى التجديد كل سنة وكما أنها كمية معروفة لا يمكن زيادتها يتوهم الناس أن الثروة كذلك وأنها إذا حصلت في اليد تبقى أبد الدهر. الثروة مؤلفة من بعض الوجوه من مجموع الغلات التي جعلت في الأسواق وينبغي أن تستخرج على الدوام من المحيط الطبيعي. لنفرض أن محصول القطن في سنة بلغ 12 مليار كيلو وأن هذه الكمية تسد حاجة البسر فليس هذا بشيء بل يقتضي أن تغل السنة التالية مثل هذه الكمية لأن محصول السنة السابقة قد استهلك وفني ولنفرض بأن في الإمكان توزيع الغلات على مساواة غلات السنة السالفة فإن مسألة الثروة العامة لا تنحل أيضاً إذ يلزم إعداد كمية مثلها للسنة التالية ولكن إذا لم يجر تقسيم السنة الماضية بحسب أدق قواعد العدل ومن غير أقل شدة تقل غلة السنة التالية ويعدو الشقاء فيبدي نواجذه.

وما المسألة في الحقيقة متوقفة على توزيع الأموال بين الناس بل أن المسألة آتية من عدم كفاية ما تنتج الأرض من الضرورات ولو غلت ما يسد عوز الناس لما عادت الغلات تساوي شيئاً بل تصبح إذ ذاك كالماء في الأنهار والحصا في شواطئ البحار. وعلى ذلك فالواجب أن نحسب ما ينبغي لنا من بر وأرز ولحم وقطن وغير ذلك لنضع ميزانية مدققة لموارد البشر وهذا لا يتيسر الآن في دور الفوضى والطفولة الذي نحن فيه. ويؤخذ من أحدث الإحصائيات أن على الحنطة سنة 1907 بلغت 1086 مليون هكتو لتر موزونها 87 مليار كيلو وإذا فرضنا أن في كل هيكتو لتر 80 غراماً فلو فرضنا كل إنسان يحتاج لغذائه إلى مائتي كيلو في السنة لاقتضى لنا ثلاثمائة مليار كيلو في السنة. وبهذا ترى أن على الحنطة أقل مما يلزم بثلاثة أضعاف. ولعلك تقول أن بعض الشعوب تتغذى بالجاودار والذرة والأرز والمانيوك (شجيرة في أميركا يستخرج من جذعها دقيق مغذ) والموز وغيره ولكن تلك الشعوب لو تيسرت لها الحنطة ما اتخذت عنها بديلاًُ ولو اعتبرنا شعوب أوروبا وأميركا وحدها وهم نحو ستمائة مليون نسمة لاقتضى لهم على هذا المعدل 120 مليار كيلو مع أن محصول الحنطة في العالم 87.

وهكذا في سائر لوازم الحياة فالسكر مثلاًُ لا يحصل منه إلا على نحو 12 مليون كيلو في السنة ويقتضي 50 كيلوغراماًَ في السنة لكل إنسان تمكنه حالته من استعماله أي أنه يقتضي للبشر 75 مليار كيلو منها لأوروبا وحدها 30 ملياراً. فما لدينا من السكر لا يكفي سدس البشر إذا حسبنا مجموعهم وإذا حسبنا أهل أوروبا فعندهم ثلث ما يلزمهم منه.

ثم أن محصول القطن في العالم أربعة مليارات كيلو فتجد من مليار وخمسمائة مليون نسمة وهم سكان الأرض خمسمائة مليون مكتسون كسوة تامة و75 مليوناً نصف كسوة و250 مليوناً عراة بالمرة. ولكي نكسو البشر عامة يقتضي تسعة مليارات وخمسمائة مليون كيلو من القطن. ومتى تأملنا أن القطن لا يستعمل فقط في الثياب بل أنه يدخل في ألف صنف من الحاجيات المنزلية والصناعية يسوغ لنا أن نحكم بأن محصوله غير كاف وربما لا يبلغ ثلث ما ينبغي لنا منه. وهكذا لو نظرت في جميع المواد اللازمة لجاء الحساب بمثل هذه النتيجة.

وتدل الإحصاآت أن 401 من كل ألف ألماني يربح الفرد منهم 246 فرنكاً في السنة و538 يربحون 345 و48 يربحون 1120 و13 يربحون زهاء 3476 و93 في المئة من النمساويين يربحون أقل من 1266 فرنكاً في السنة. ويبلغ معدل ميزانية الأسرة الموسع عليها في رزقها 1150 فرنكاً في السنة هذا ووربا بالنسبة لسائر الكرة تعد غنية فقد حسبوا دخل الهندي فكان سبعة سنتيمات في اليوم على حين يحتاج إلى مائتي فرنك لمعاشة في السنة على أقل تعديل وهو لا يربح فيها إلا 23 والحال في الصين أتعس وأنحس فلو عدلنا بين ثروة الفرد في البلاد الغنية كالولايات المتحدة مثلاً والبلاد الفقيرة كالصين والهند لا يصيب الأسرة أكثر من ألف فرنك وهذا القدر على قلته في عصر مثل هذا العصر يصعب نيله ولو كان لكل أسرة ألف فرنك في السنة وهو بعيد الحصول لما ساغ لها أن تأكل ما يغذيها فقط دع عنك بقية لوازم الحياة.

وقد انتهت بنا الحال أن صرنا نعد الهواء في هذا العصر إذا كان مباحاً من النعم وكذلك الماء بعد أن أصبح 12 مليون كيلومتر مربع من أصل ثلاثة وثمانين مليوناً محرومة في أوروبا من الهواء وأصبحت تباع زجاجة الماء القراح في كولكاردي في أستراليا الغربية في أول أيام تعدين مناجم الذهب بسبعين سنتيماً وأصبح الماء العذب في باكو على ضفاف بحر الخزر مما يفاخر به ويعد من دواعي الرفاهية. وليست الإنسانية سعيدة بمساكنها أيضاً فالروسي يسكن في كوخ مغطى بالقش أضيق من أفحوص القطا ولو اقتضى له أن يبدل هذا المسكن بمسكن مغطى بالقرميد مصنوعاً بالحديد لوجب على روسيا صرف ستة عشر ملياراً من الفرنكات وهذا لا يتيسر إلا بعد أن تمر الأجيال أثر الأجيال.

وبعد فليس الشقاء حادثاً منن قلة موارد الأرض ولو كان كذلك لما تطالت نفوسنا إلى الخلاص منه وكان علينا كالموت قدراً مقدوراً ولكن الأرض إذا أحسن استخدامها تعطينا عشرة أضعاف ما تعطينا الآن ويعيش الناس في بلهنية وسعادة فإن موارد هذه الكرة لا حد لها إذا عملنا لها عملها كما قال لي اليزة ركلوس الجغرافي الفرنسوي الكبير. فلو أتقنت الطرق الزراعية باستعمال الأسمدة الكيماوية وتطبيق الزراعة على العلم أي بسقيا الأراضي الجافة المياه وتجفيف الأراضي المغمورة بها لأتت الأرض من الغلات والثمرات ما تعد معه غلات اليوم وثمراته مضحكة من حيث كمياتها. هذا وفي الأرض منابع للثروة غير ما ذكرنا ففيها معادن لم تمسسها يد البشر. وإنك لتجد في جبال الأورال بروسيا من المعادن كميات وافرة لم يقم في فكر أحد أن يستخرجها ومثل ذلك في أفريقية وأميركا بحيث يصح أن نقول أن ما استخرج من ركاز الأرض ومناجمها أقل بقليل مما لم يزل مدفوناً في صدرها وبطنها فنحن لسنا في شقاء إلا لسوء تصرفنا في استخراج خيرات الأرض والانتفاع بنعم السماء لأن طريقتنا في أعمالنا ليست موافقة لمصلحتنا ومتى تعلمنا معرفة تطبيق أعمالنا على المصلحة الحقيقية فالشقاء يرحل عن هذه الكرة.

وإذا نظرنا إلى حقيقة الشقاء نراه يرجع إلى ثلاثة أصول رئيسة وهي المصائب الطبيعية والفساد والأحوال الاجتماعية فالأولى وهي من الغرق والشرق والحرق والزلزال وانفجار بركان والموت يمكن تلافي خطرها باقتصاد كل فرد عشرة أو عشرين في المئة من دخله يدخرها لحين الحاجة وبذلك إن لم يرفع عنه ثقل المصيبة فإنه يخففها على الأقل ويأمن تغييرات الفلك وسوء الطالع. والفساد يمكن تلافيه أيضاً كتلافي المصائب الطبيعية بأن يزيد الصالح من عمله قليلاً وينفق ما يفيض منه على أخيه. فرفع المصائب وتخفيف ويلات الفساد هو إذاً مناط بكثرة الإنتاج.

وما الخطأ الذي يحول دون الانتفاع بثمرات الأرض وثروتها إلا ناشئ مما يذهب إليه أكثر الناس من أنه لا يغتني مغتن بسرعة إلا إذا طالت يده لسلب مال أخيه لا بأن هو بنفسه. وهذا الفكر هو الذي جعل السرقة والغش واللصوصية والتعدي والامتياز وبعبارة أوجز جعل الاختلاس نافعاً لمن يأتيه. فإذا قدر للإنسانية أن تنجو من هذا الخطأ الفادح فالرفاهية العامة مضمونة للكافة. وما دام البشر ينظرون إلى الاختلاس على ضروبه بأنه نافع فسوف يبقون في شقاء وعلى العكس يكونون أغنياء سعداء متى اعتبروا الاختلاس ضاراً ومتى زاد التناسب حدة أورث الحياة ضعفاً تاماً أي موتاً. والتناسب بين المخلوقات والمحيط من حيث علم النفس هو الحقيقة وعدم التناسب هو الخطأ. ومن هنا كانت الحقيقة مولدة للاستمتاع والخطأ آتياً بالتألم فالخطأ هو مثل مرض عقلي ونتيجته بالطبع ضعف التركيب النامي إفرادياً كان أو إجماعياً قال بوهن: أليس الذكاء الإنساني الذي يراه كثيرون حاسة من شأنها الإحاطة بالأمور هو الأحرى بأن يكون قلة الكفاءة في إدراك الحقائق وذلك لأن الحيوانات تعرف أموراً قليلة ولكنها تسقط في أمور أقل منا فهي تفوقنا على ما فينا من ذكاء لأنا معشر البشر نعرف أموراً كثيرة ولكننا نخترع نظريات كثيرة حشوها الخطأ والخطل. فحالة الإنسان من بعض الوجوه أتعس من حال الحيوان لأن المصائب الناتجة من سوء تأويل الحوادث أعظم ن المصائب التي يكون منشؤها الجهل مباشرة فكما أن الصحة والمرض أمران متوازيان متعاقبان في هذه الحياة يسيران كنهرين يمزجان مياههما بعضها ببعض هكذا الحياة الطبيعية تمشي مع الحقيقة والباطل كتفاً إلى كتف منذ قرون وسنين وسوف تسير كذلك إلى آخر الأزمان.

والخطأ الأساسي في الاقتصاد أن فكر الاختلاس والنفع المرجو منه هو في الحقيقة روح الشر ويحول دون سعادة البشر فإذا تمكنا من شفاء نفوسنا من هذا المرض العقلي فالمسألة الاجتماعية تنحل لساعتها. ودواء الباطل بالدعوة إلى الحق. فالباطل يشفى لأنا نرى منه جزءاً يضمحل كل يوم بفضل انتشار العلم فلا ينبغي اليأس من القضاء عليه ولا بد من أن يأتي يوم تتغلب فيه الحقائق الاقتصادية على الناس ويرون الاختلاس ضاراً فيجندل الشقاء أبد الدهر.