مجلة المقتبس/العدد 27/يتيمة ثانية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 27/يتيمة ثانية

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 4 - 1908



لابن المقفع

وقعت شبهة لبعض أهل العلم فيما إذا كانت هذه الرسالة المنشورة قبل هي اليتيمة بعينها أم هي يتيمة ثانية لابن المقفع ويزول هذا التناقض إذا لوحظ ما قاله إمام المتكلمين أبو بكر الباقلاني البصري المتوفي سنة ثلاث وأربعمائه فإنه ذكر في كتابه إعجاز القرآن أن الدرة اليتيمة كتابان أحدهما يتضمن حكماً منقولة والآخر في شيء من الديانات. غير أنه يبقى هناك إشكال في أنه ليس في إحدى الرسالتين ما يتعلق بالديانات كما قال الباقلاني وإذا رضينا بالظن فنقول أن هذا الاسم وضعه أناس لبعض رسائل ابن المقفع ومن هنا نشأ الاشتباه فعددها الناظرون. ويبعد أن يقال أن ابن المقفع سمى الرسالتين معاً باسم واحد لمخالفته في الظاهر لمقتضى الحكمة. ولو قلنا أنه سمى إحدى الرسائل فيبعد مع قرب عصر الناقلين عنه وقوع الاشتباه في المسمى مع شدة عنايتهم بجميع ما قال. أما الرسالة الثانية فمنقولة عن كتاب المنثور والمنظوم المحفوظ في دار الكتب المصرية لمؤلفه أبي الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور من أبناء خراسان ولد كما جاء في فهرستها سنة 204 وتوفي سنة 280 وهاك ما أورده ولم نحذف منه إلا بعض جمل أسرنا إليها بحرف (فـ) لأنها محرفة جداً ولم نهتد إلى وجه الصواب فيها قال أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر: ومن الرسائل المفردات اللواتي لا نظير لها ولا أشباه وهي أركان البلاغة ومنها استقى البلغاء لأنها نهاية في المختار من الكلام وحسن التأليف والنظام الرسالة التي لابن المقفع وهي اليتيمة فإن الناس جميعاً مجمعون أنه لم يعبر أحد عن مثلها ولا تقدمها من الكلام شيءٌ قبلها ومن فصولها قوله في صدرها ولم نكتبها على تمامها لشهرتها وكثرتها في أيدي الرواة فمن فصولها قوله في صدرها:

وقد أصبح الناس إلا قليلاً ممن عصم الله مدخولين منقوصين فقائلهم باغ وسامعهم عياب وسائلهم متعنت ومجيبهم متكلف وواعظهم غير محقق لقوله بالفعل وموعوظهم غير سليم من الهزء والاستخفاف ومستشيرهم غير موطن نفسه على إنفاذ ما يشار به عليه ومصطبر للحق مما يسمع ومستشارهم غير مأمون على الغش والحسد وإن يكون مهتاكاً للستر مشيعاً للفاحشة مؤثراً للهوى والأمين منهم غير متحفظ من ائتمان الخونة والصدوق غير محترس من حديث الكذبة وذو الدين غير متورع عن تفريط الفجرة ويتقارضون الثناء ويترقبون الدول ويعيبون بالهمز يكاد أحزمهم رأياً يلفته عن رأيه أدنى الرضا وأدنى السخط ويكاد يكون أمتنهم عوداً أن تسخره الكلمة وتنكره اللحظة وقد ابتليت أن أكون قائلاً وابتليتم أن تكونوا سامعين ولا خير في القول إلا ما انتفع به ولا ينتفع به إلا بالصدق ولا صدق إلا مع الرأي ولا رأي إلا في موضعه وعند الحاجة إليه فإن خير القائلين من لم يكن الباطل غايته ثم لزم القصد والصواب وخير السامعين من لم يكن ذلك منه سمعة ولا رياءً ولم يتخذ ما يسمع عوناً على دفع الهدى ولا بلغة إلى حاجة دنيا فإن اجتمع للقائل والسامع أن يرزق القائل من الناس مقةً وقبولاً على ما يقوله ويرزق السامع اتعاظاً بما يسمع من أمر دنياه وقد صلحت نياتهما في غير ذلك فعسى ذلك أن يكون من الخير الذي يبلغه الله عباده ويعجل لهم من حسنة الدنيا ما لا يحرمهم من حسنة الآخرة كما أن المريد بكلامه أن يعجب الناس قد يجتمع عليه حرمان ما طلب مع سوء النية وحمل الوزر. وقد وافقتم في مسارعة فيما سألتموني فطمعاً في أن ينفع الله بذلك من يشاء فإنه ما يشاء يقع.

أما سؤالكم عن الزمان فإن الزمان الناس. والناس رجلان والٍ ومولى عليه. والأزمنة أربعة على اختلاف حالات الناس فخيار الأزمنة ما اجتمع فيه صلاح الراعي والرعية فكان الإمام مؤدياً إلى الرعية حقهم في الرد عنهم والغيظ على عدوهم والجهاد من وراء بيضتهم والاختيار لحكامهم وتولية صلحائهم والتوسعة عليهم في معايشهم وإفاضة الأمن فيهم والمتابعة في الخلق لهم والعدل في القسمة بينهم والتقويم لأودهم والأخذ لهم بحقوق الله عز وجل عليهم وكانت الرعية مؤدية إلى الإمام حقه في المودة والمناصحة والمخالطة وترك المنازعة في أمره والصبر عند مكروه طاعته والمعونة له على أنفسهم والشدة على من أخل بحقه وخالف أمره غير مؤثرين في ذلك آبائهم ولا أبنائهم ولا لابسين عليه أحداً. فإذا اجتمع ذلك في الإمام والرعية تم صلاح الزمان وبنعمة الله تتم الصالحات ثم أن الزمان الذي يليه أن يصلح الإمام نفسه ويفسد الناس ولا قوة بالإمام مع خذلان الرعية ومخالفتهم وزهدهم في صلاح أنفسهم على أن يبلغ ذات نفسه في صلاحهم وذلك أعظم ما تكون نعمة الله على الوالي وحجة الله على الرعية بواليهم فبالحري أن يؤخذوا بأعمالهم وما أخلقهم أن لا تصيبهم فتنة أو عذاب أليم.

والزمان الثالث صلاح الناس وفساد الوالي وهذا دون الذي قبله فإن لولاة الناس يداً في الخير والشر ومكاناً ليس لأحد وقد عرفناه فيما يعتبر به أنه ألف رجل كلهم مفسد وأميرهم مصلح أقل فساداً من ألف رجل كلهم مصلح وأميرهم مفسد. والوالي إلى أن يصلح أدبه الرعية أقرب من الرعية إلى أن يصلح الله بهم الوالي. وذلك لأنهم لا يستطيعون معاتبته وتقويمه مع استطالته بالسلطان والحمية التي تعلوه. وشر الزمان ما اجتمع فيه فساد الوالي والرعية (فـ) فقولي في هذا الزمان أنه ألا يكن خير الأزمان فليس على واليكم ذنب وألا يكن شر الأزمان فليس لكم حمد ذلك غير أنا بحمد الله قد أصبحنا نرجو لأنفسنا الصلاح بصلاح إمامنا ولا تخاف عليه الفساد بفسادنا وقد رأينا حظه من الله عز وجل في التثبت والعصمة فلم يبرح الله يزيده خيراً ويزيد به رعيته مذ ولاه فعندنا من هذا وثائق من عبر وبينات ونحتسب من الله عز وجل أن لا يزال أمامنا يسارع في مرضاة ربه بصلاحه لرعيته والصبر على ما يستنكر منهم وقلة المؤاخذة لهم بذنوبهم حتى يقلب الله له بصلاحه قلوبهم ويفتح له أسماعهم وأبصارهم فيجمع ألفتهم ويقوم أودهم ويلزمهم مراشد أمورهم وتتم نعمة الله على أمير المؤمنين بأن يصلح له وعلى يده فيكونوا رعية خير راع ويكون راعي خير رعية إن شاء الله وبه الثقة.

والذي يحمد من أمير المؤمنين أنا ذاكر ما تيسر منه (فـ) وقلما نلقى من أهل العقل والمعاينة منكراً لنعمة الله بأمير المؤمنين على المسلمين (فـ) ومن أشد جهلاً وأقطع عذراً ممن لم يعرف النعمة ولم يقبل العافية نعوذ بالله أن نكون من الذين لا يعقلون فتفهموا ما أنا ذاكر لكم وتدبروه بالحق والعدل فإن المرء ناظر بإحدى عيون ثلث وهما الغاشتان والصادقة وهي التي لا تكاد توج=د. عين مودة تريه القبيح حسناً. وعين شنآن تريه الحسن قبيحاً. وعين عدل تريه حسنها حسناً وقبيحها قبيحاً. فتفكروا فيما جمع الله لأمير المؤمنين في معدنه وفي سيرته وفيما ظاهر عليكم من النعمة والحق والحجة بذلك فيما عسى القائل أن يبتغي فيه المغمز والمقال فلعمري أن الشيطان من أهواء الناس وألسنتهم في الأمر لمصيب وأن له لمستراحاً حين يستوفي أمنيته ويصدق عليهم ظنه ويوحي إليهم بمكايده فيجعل الله كيده ضعيفاً وحزبه مغلوباً وجعله وإياهم نصيباً لجهنم من أجزائه المقسومة لأبوابها وحطبها ووقودها وحصيها ليعدَّ لها فمن كان سائلاً عن حق أمير المؤمنين في معدنه فإن أعظم حقوق الناس منزلة وأكرمها نسبة وأولاها بالفضل حق رسول الله نبي الرحمة وإمام الهدى ووارث الكتاب والنبوة والمهيمن عليهما وخاتم النبيين والصديقين والشهداء والصالحين بعثه الله بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ثم هو باعثه يوم القيامة مقاماً محموداً شرع الله به يدنه وأتم به نوره على عهده ومحق به رؤوس الضلالة وجبابرة الكفر وخوَّله الشفاعة وجعله في الرفيق الأعلى .