مجلة المقتبس/العدد 27/الصنائع الإسلامية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 27/الصنائع الإسلامية

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 4 - 1908



نشرت مجلة العالم الإسلامي الفرنسوية فصلاً مهماً للمسيو كليمان هوار من علماء المشرقيات في الأدوار التي تقلبت على الصنائع الإسلامية قال: أصدر كل من المسيو سالادين والمسيو ميجون مختصراً في الصنائع الإسلامية وقع في مجلدين ضخمين أحدهما في الهندسة الإسلامية والآخر في فن التصوير والنقش. ولقد لفت أنظار الناس معرض الصنائع الإسلامية الذي أقيم في قسم مرسان سنة 1903 والمعرض الذي وافق وقته زمن انعقاد مؤتمر المستشرقين الدولي في الجزائر سنة 1905 لأعلاق الصنائع الإسلامية التي كانت حتى الآن مزهوداً فيها اللهم إلا عند بعض الغلاة في جمعها ممن حصلوا على مجاميع بديعة منها. ففي البحث في هذا الموضوع تتجلى لنا القرون الوسطى في الشرق وتحيا أمامنا على مثل ما كانت عليه. وما من أحد يصدق اليوم بأن العاديات القديمة تستحق إعجاب أرباب الصنائع والمولعين في اقتنائها فقط بل أن ارتقاء فن الآثار ارتقاءً خارقاً للعادة بفضل الاكتشافات المدهشة في السنين الأخيرة والبحث في آثار القرون الوسطى اليونانية والغربية قد وجه أنظار المتعلمين. فمن الواجب من ثم أن يجعل حظ عظيم من البحث للقرون الوسطى الإسلامية لأنها من أجمل الأدوار التي يتأتى للإنسانية أن تفاخر بها وكانت مراكز الحضارة التي أنشأتها قديماً تلك المدنية في آسيا حلقة ضرورية لنا تربط أوروبا بالشرق بل تقرب بين القرون الحديثة والقرون القديمة وتصل عمران البحر المتوسط بتمدن آسيا العليا.

إن درس الصنائع المصورة اليوم هو من المتممات الضرورية للتاريخ كما كانت الجغرافية ولا تزال كذلك فدرسها نافع للنظر في الآثار القديمة التي عرفناها منذ القدم كما هو ألزم بالشرق مما هو موضوع الأبحاث الأخيرة وقبل أن يبدأ بها لم يكد يعرف عنها شيء. وقد جعل المؤلفان النبيهان المشار إليهما من التصوير الشمسي أكبر مساعد لهما في كتابهما الوجيز فجاء الأول من نوعه وكان من هذين المجلدين مجموعة تصاوير إذا فتحها المرء تتمثل لعينيه مصانع الشرق وشؤونه عياناً إن لم يكن رآها من قبل ويتذكر بأعيانها إذا كان أتيح له متع نظره فيها ذات يوم. سهلت أسباب التنقل وأصبحت قريبة المنال فغدت الأستانة والقاهرة والهند غير بعيدة المزار كما كانت. وربما غدت كذلك طهران وأصفهان عما قريب ولذلك جاء الزمن الذي تعرض فيه على الجمهور في صورة كتاب مجمو الأطراف زبدة ما يعرف عن ارتقاء الصنائع وترتيب المصانع الإسلامية.

لم يتأت والإسلام في مبدأ ظهوره وشعشعته الأولى محصور في حدود شبه جزيرة العرب ولم ينتشر بعد في البلاد المجاورة أن ينشأ شيء من الصنائع في تلك الأصقاع المقفرة التي تطوفها العرب الرحالة على قلة مدنها وبلدانها ويقضي فيها التجار عيشة بسيطة خالية عن أبهة الحضارة. وكان المعبد العظيم في الحجاز عبارة عن مكعب من الصخر خال من الزينة وقد بقي زمناً طويلاً بدون سقف ثم غطي بسقف من الخشب على يد عامل من القبط نجا من سفينة يونانية غرقت فألقته الأقدار في بلاد العرب وجذبته مكة إليها لأحوال فغير معلومة. وكانت القوافل عند عودتها من سورية وقد سرحت الطرف في المصانع العظيمة فيها على العهد الإمبراطوري تقص أحاديث عجيبة مما رأت فأشربت نفوس الشعب تلك القصص وكان منها أن أنشئوا في صحاري شمالي بلاد اليمن جنات النعيم وهي إرم ذات العماد الغريبة وقد بًنيت في غالب الظن على مثال دمشق وتدمر وبعلبك وكانت العرب الرحالة ترى أن القبور التي نحتها في الصخر في مدائن صالح جماعة من المستعمرين الآراميين في صميم بلاد العرب أنها بيوت الثموديين وذكرها محمد (عليه السلام) بأن الغضب الإلهي نالها لأنها أنكرت لأأن ناقة صالح غير مقدسة. وكانت المصانع التي خلفتها الشعوب القديمة البائدة تنسب إلى عاد ممن بادوا فلم يبقوا من الآثار غير ما خلفوه من أعمالهم التي حيرت عقول البدو.

أما الآن فليتمثل القارئ الفاتحين العرب يجولون في أكناف سورية ومصر وفارس وافريقية الشمالية وإسبانيا وكلها بلاد متحضرة مملوءة ببدائع الصنائع وأعمال الهندسة. ولكم كان العربي الرحالة يندهش عندما كان يقع نظره على بيوت ذات ثلاث طبقات في مكة ويثرب فتترآى له أنها قلاع وهو لا عهد له من قبل إلا بخيمته السوداء أو الدكناء المصنوعة من وبر العنز. وبعد أن كان المسجد البسيط الذي يسع النبي وأصحابه وهو عبارة عن كوخ خال من الزخرف مبني باللبن وجذوع النخل ليس فيه ساف من الحصا على التراب المرصوص ظهر للحال بأنه غير كاف لاستيعاب جمهور من دانوا بالإسلام وغير لائق بأن يكون بيت الواحد الأحد. وزد على ذلك فإن الفاتحين من المسلمين كانوا يشاهدون الكنائس الجميلة التي أنشأها المتقون من النصارى ويقابلون بين التأنق فيها وبين شقائهم في سكنى البادية.

اكتفى الخلفاء الأول بأن سكنوا بيوتهم التي يأوون إليها كما فعل أباطرة رومية الأول لأن المسجد كان لهم ميداناًُ ومحكمة وندوة. ولما صار الأمر إلى معاوية طمحت بهم نفوسهم إلى اتخاذ القصور يعمدون إليها ليستروا فيها غفلتهم وبذخهم وزهوهم.

فبالهندسة بدأ نمو الصنائع التي دعا إليها الفتح الإسلامي وما كان للعرب صنائع خاصة بل استخدموا باديء بدء من المهندسين وأرباب الصنائع من وجدوهم في البلاد التي افتتحوها فكان أسلوب البناء الإسلامية في الأمر سورياً في سورية وقبطياً في مصر وبيزنطياً في آسيا الصغرى ورومانياً بربرياً في أفريقية ورومانياً أيبرياً في إسبانيا وبارتياً وساسانياً في فارس وبين النهرين.

رأينا صوراً من الهندسة الآسياوية تنقل إلى البلاد المغلوبة على أمرها عند ما كان الشرق أولاً ميداناً للفاتحين. وأنك لتشاهد في أقدم المصانع المنقوشة المزينة فقي المغرب والمسجد الأعظم في قرطبة ومسجد سيدي عقبة في القيروان مسحة من الزينة الشرقية نقلها إليها صناع صحبوا الفاتحين أو نسجت على مثال صور الأقمشة والزرابي المطرزة والبسط المجلوبة من الشرق.

ومن مميزات الهندسة الإسلامية القبة ذات الشكل البيضوي وهي منقولة بلا مراءٍ عن أصل جاء من بين النهرين أي آشوري بابلي. وقد بقي منها نموذج سالم من الصورة البارزة في قيونجق زمن الدولة الساسانية كما هو المشاهد في صور أقواس المدائن وساروستان وفيروز آباد فتبين بهذا أن ماضي الهندسة الإسلامية كان عظيماً والتمدن الإسلامي جدد استعمالها. وإنا لنجد منارات جوامع سامر وابن طولون في القاهرة أبراجاً ذات أدراج على شكل حلزوني وبعيد أن لا نعترف فيما رأيناه بأنها بقايا من معابد رصد الأفلاك الكلدانية التي نجد برج بابل مثالاً مشهوراً منها.

رأت العرب في سورية ومصر الصناعة البيزنطية ودرسوها عن أمم وما هي إلا تشويه آسياوي للصناعة الرومية الرومانية أهم آثارها جامع أيا صوفيا في الأستانة. وبقيت الصناعة اليونانية آخذة في التبدل بعد فتوحات الاسكندر وظلت كذلك على أن خطر للملك قسطنطين أن ينقل عاصمة المملكة إلى ضفاف البوسفور ولا يخفى ما حدث من السرعة في تمازج العنصر اليوناني بالعناصر اللاتينية واللغة اللاتينية. فالتقاليد العسكرية والقضائية والإدارية فقط بقيت زمناً قصيراً بحالها أما الصلات المتصلة التي كانت لمملكة الروم بيزانس مع المملكة الفارسية فقد كان منها أن بدلت الصنائع بتأثيرات آسياوية وتقدمت فيها تقدماً هائلاً حتى أن الألبيسة وتزيين الأبنية الداخلي وقصور الأباطرة وأدوات تنعمهم وبذخهم كلها لم يكن فيها شيء يشير إلى أنه روماني.

سلمت عهدة مصانع ومعاهد من أوائل الهندسة الإسلامية وأعجبها المسجد الأقصى في القدس وإن شئت فقل قبة الصخرة إذا أردت أن تسميها باسمها الحقيقي. وليس هذا المسجد في الواقع جامعاً لأن هذا النوع من الأبنية معروف بما يماثله مثل مسجد عمرو بن العاص في القاهرة الذي أنشأ سنة 642م وهو عبارة عن حائط له عدة محاريب لضبط سمت القبلة التي توجه إليها الوجوه للصلاة. وكانت القبلة إلى القدس أولاً فأصبحت منذ ألف وثلاثمائة وخمس وعشرين عاماً إلى مكة ثم هناك صفوف من الأعمدة ومكان مربع مكشوف وفي وسطه صهريج ماء للوضوء. وعلى العكس من قبة الصخرة كان يستفاد من اسمها على ما هو المعروف فإنها تشغل فسحة المعبد. وهذا الشكل وطني جعل على رسم كنيسة العذراء في إنطاكية في شكل بيت مدور ذي قباب وعده المسعودي المؤرخ من أعاجيب الدنيا. ويوجد من هذا الشكل أيضاً في أواسط سورية وحوران وآسيا الصغرى وقد أنشئ هذا البناء على عهد الخليفة عبد الملك بن مروان الأموي سنة 684 ولما رمم بعضه الوليد سنة 707 جعل من خارجه الفسيفساء صنعها له صناع يونان بعث بهم إليه إمبراطور القسطنطينية. وعلى عهد السلطان سليمان القانوني استعيض عن أحجار الفسيفساء بكاشاني محلى بالمينا. فالقبة والحالة هذه هي صوان أو وعاء مقدس للصخرة والمسجد الحقيقي هو الذي يشرف على حوائط المكان في الجنوب ويدعى بالمسجد الأقصى وقد أشير إليه في القرآن والمراد به معبد سليمان.

بُنيت المساجد في المغرب على مثال جامع عمرو فجامع الزيتونة في تونس المؤسس سنة 732 مؤلف من أفنية موازية لحائط المحراب وفناء (صحن) أوسط كبير وصفوف من العمد مؤلفة من مواد قديمة أو بيزنطية جاءت من قرطاجنة الرومانية وأنشئ المسجد الأعظم في قرطبة سنة 785 على ذاك المثال ولكن زينته تختلف عن غيره من المساجد اختلافاً كلياً فإن القطع العديدة التي بقيت من آثار الغوط الغربيين واستخدمت في البناء تدلنا على أن المصانع المسيحية في إسبانيا قبل القرن الثامن كان لها أثر كبير في الهندسة العربية الأصلية.

والبحث في الهندسة الفارسية نافع على وجه خاص وذلك لأنها حفظت لنا تقاليد قديمة لها علاقة بالهندسة فأحسنت الانتفاع بها ورقتها وأكملتها. فإن بناء القباب كانت الطريقة التي اختيرت من بين أساليب البناء لقلة الخشب الذي يصلح للبناء في معظم أقطار تلك البلاد.

وبلغ من حذق الفرس الغريب أنهم يتمثلون لعينيك ذا نظرت إلى أبنيتهم كأنهم يلعبون بالمصاعب لعباً. ولم تبلغ أمة من الأمم مبلغهم في إيجاد طرق متنوعة غريبة في القباب على أشكال غير متناسقة إلا فرنسا فإنها قلدتهم في القرون الوسطى. وإلى الفرس يرجع الفضل في اختراع المقرنصات وهي من الصنائع الغريبة ذات النقوش التي تستر البناء البارز المشبك. وأكثر ما فاقت به فارس تفننها في تزيين الأبنية بالكاشاني (القيشاني وهو نقش رائع إلا أنه سريع العطب تبتهج العيون به ما دام الملاط (المونة) الذي يلصقه بالبناء الأصلي على حاله متماسكاً فإذا قلع لقلة العناية به وسقط وتناثر من آفات أصابته ودفن في الأرض نبت العيون عنه واستوحشت من النظر إليه.

وصناعة الكاشاني قديمة جداتً في البلاد الإيرانية فقد زين ملوك الأخمانيين قصورهم بنقوشها البديعة التي جعل بعضها في قاعات متحف اللوفر المظلمة ولا يزال يأسف على الهواء المضيء والشمس المشرقة في سهول فارس. وبدأ استعمال الكاشاني في فارس بعد ظهور الإسلام فيها فجعل القرميد أولاً محلى بالمينا في أطراف الأحجار مفصولاً من داخله بآجر أو بملاط من الجير والرخام ثم استعملوا نوعاً من البناء ملوناً مؤلفاً من قطع صغيرة مجزءاً موضوعاً بعضه بجانب بعض. كما فعلوا في أبنية الرخام أو الخشب في إيطاليا توصلاً إلى تزيينها بصفائح من الكاشاني على سطوح متسعة وقد شوهدت منذ القديم عندهم بنايات بارزة داخلها أزرق كالفيروز وأبيض كالعاج ويكثر انعكاس الأشعة التي تلمع فيها كلمعان السيوف كما تشهد في إمام زاده يحيى وفي ورامين وهو فقي القرن الثالث عشر. وأبنية أصفهان التي أنشئت على عهد الشاه عباس الأول أجمل مثال من هذه النقوش العجيبة وتتمة ارتقاء طويل في الصناعة. ويتيسر تتبع أدوار هذه الصناعة إذا بحث في مصانع السلجوقيين في قونية التي أنشئت في القرن الثالث عشر وفي البنايتين اللتين أنشئتا على الطراز الفارسي في مدينة بورصة وفي المسجد الأخضر وقبر محمد الأول اللذين أسسا في القرن الخامس عشر.

بنيت جميع المساجد التي أنشأها سلاطين بني عثمان على مثال كنيسة أياصوفيا. وقد كثر البناء على هذا الشكل في جميع المساجد التي أسست في المملكة العثمانية بعد القرن السادس عشر فالصورة الأصلية من هذا البناء هي إذاً بيزنطية ولكن الأسلوب الفارسي يظهر في بعض أنواع الزينة كالأبواب والكوى المقرنصة مثلاً. ومسجد بايزيد أقد أسلوب من هذا النوع عمره المهندس خير الدين. ومسجد محمد الثاني الغازي أنشأه خريستو دولو محل كنيسة الحواريين وخرب كله في زلزال سنة 1763 ثم أعيد بناؤه على عهد السلطان مصطفى الثالث إلا أنه لم يرجع إلى ما كان عليه من أسلوب البناء.

وأقدم المصانع الإسلامية في الهند مسجدا دهلي وأجمير اللذان أنشئا في القرن الثالث عشر. وهما من المصانع التي قامت على أسلوب جينا كما أثبت ذلك الرحالة فرغوسن والرسم العام منه ندي ثم أثرت فيه الأساليب الإيرانية والغربية وظهرت فيه النقوش المشجرة وهي تذكر بقصر ماشيتا وهو ساساني أو ببعض محال من أيا صوفيا.

وقد كان أول سلطان لبيجابور (كذا) ابن السلطان العثماني مراد الثاني الذي ارتقى من رتبة ضابط في الحرس إلى عرش الملك فأنشأ له دولة وبنى حفيد حفيده عادل شاه أجمل مصانع تلك المدينة. وطرز بنائها مأخوذ من أسلوب غربي حتى لقد ذهب الرحالة فرغوسن عندما ذكر أصل هذه الدولة وكيفية نشأتها إلى أنها اختارت من الصناع فرساً وأتراكاً. ودخل التمدن الإيراني والصناعة الفارسية إلى الهند على عهد فتح بابر (ظاهر الدين محمد من أحفاد تيمورلنك) وتأسيس مملكة المغول العظمى. وعلى عهد السلطان أكبر انتشر الأسلوب الهندي في البناء فظهر بمظهر بديع مع المحافظة على أشكاله الغربية وعرف كيف يمزج في المصانع التي لها صورة خاصة الظرف والبهجة عن الفرس ويضمها إلى متانة الأسلوب الجيني والأفغاني. فقد قال مؤرخ فنون البناء الهندية (فرغوسن) أنهم كانوا يبنون كالجبابرة وينقشون كالصياغ. ولا يفوتنا النظر هنا بأن استعمال الكاشاني على طريقة عامة لم يبق له أثر في تلك البلاد بل أخذت الهند تبني بالحجارة والرخام وهو أدل على البراعة في الصناعة وأمتن وأفخم. وأما النقش الفارسي على جماله فقليل البقاء ويا للأسف أشبه بزينة مسرح التمثيل تزول إذا صفر لها من عهدت إليه إدارة حركة التمثيل ليجعل غيرها مكانها. ولا يعلم لأي أمة ينسب مهندس بناء تاج محل في آكرا (الهند) ولكن المعلوم أن السلطان محمد الرابع بعث إلى شاه جنان مهندساً يبني له في أحمد آباد قبة نور محل ولا ينبغي العجب إذا رأينا من بعد هذا العصر الأشكال الفارسية مطبقة على البناء من الرخام في حجم كبير. ويقال أيضاً أن رجلاً فرنسوياً من بوردو اسمه أوستين أو أوغوستين الذي لقب نادر العصر قد عهد غليه النظر في أعمال ترصيع الحجارة الكريمة التي ازدان بها تاج محل من داخله وخارجه. ولذلك كان الحق مع المسيو سلادين في قوله بأنه يظهر بأن يد مهندس أوروبي قد رسمت الصور الواضحة ورسوم جانب البناء الكثيرة التدقيق في هذا المصنع ولعل هناك أثراً من التأثير الغربي.

أما في الصين فإن هندسة الجوامع صينية محضة ولم تقتبس شيئاً عن البلاد التي يتكلم أهلها بالعربية ولا عن فارس ولا الهند.

لم يكن للنقش إذا قيس بالهندسة شأن ظاهر. ولا يسعنا هنا أن نبحث في استعماله للتزويق فإن ما لدينا منه قليل لا يعتد به وقد ازدانت حوائط قصر عمراً بالنقوش ولكنها بيزنطية وكان ملوك الفاطميين يزوقون قصورهم في القاهرة بصور ذات أرواح كما قال المقريزي. وجلب اليازوري وزير المستنصر بالله إلى مصر ابن العزيز والقصير وهما نقاشان مشهوران الأول من البصرة والثاني من العراق فكانا يمثلان بما ينقشان نساءً يرقصن ومشاهد مأخوذة من التواريخ المنقولة عن التوراة على نحو ما أوردها القرآن ولكن لم يبق شيء مما نقشاه. وما على من أرد أن يتمثل كيف كان النقش عند العرب إلا أن ينظر إلى نقش المخطوطات ولا سيما الصور المصغرة التي تستعمل فيها رسوم الأشخاص والحيوانات دليلاً. ويرتقي عهد أقدم المخطوطات العربية من هذا النوع إلى صلاح الدين وبعبارة ثانية إلى الدولة الأيوبية وهي من أصل بيزنطي على ما يتجلى كمها كل التجلي. ومن أهم الأمثلة في هذا الباب كتاب مقامات الحريري المخطوط وهو مما ملكه شفر (العالم الفرنسوي) وألحق بمجامع خزانة كتب الأمة بباريز كتب كاتبه اسمه في آخر ورقة منه واسمه يحيى بن محمود بن يحيى بن أبي الحسن نشأ في واسط من بلاد ما بين النهرين.

ومما حواه صفحة تمثل جيشاً للعباسيين يحملون العلم الأسود ويضربون بأبواق ضخمة فارسية كما رسمت أيضاً مشاهد من غير هذا الشكل وتجد فيها كلها أثراً ظاهراً من تأثيرات الرسم البيزنطي وذلك للتوسع في صنعها الذي يشبه رسوم الحيطان على الكنائس الكبرى.

إن ما كتب في مصر من المصاحف هو من الصنائع البديعة فتراها محلاة بالعناوين المزوقة والنقوش المدورة الموضوعة في الحواشي من أجمل ما تخط يد وهي من زمن المماليك ولا يعرف المرء بما يعجب في صناعة مزج الذهب بالأولوان بدقة الرسم ولطفه أو بالذوق العظيم الذي أوجد ألوفاً من التراكيب المزينة الهندسية. وقد انتشر الرسم المصغر في فارس أكثر من غيرها فظهرت الكتب المزينة بالرسوم بظهور دولة المغول التي أسسها هولاكو حفيد جنكيز خان. وربما كان هذا النقش قد ظهر بتأثير الصنائع الصينية (لأنه كانت للساسانيين كتب مزينة بصور لم يذكر عنها كتاب مجمل التواريخ غير أخبار ركيكة) أما الاكتشافات الحديثة في خوقند التي لم يطلع عليها المؤلفان المشار إليهم (ظهر مصنف المسيو ستين حديثاً) فقد أوردت لنا أمثلة من الصناعة البوذية والفارسية معاً ويجب أن يبحث فيها عن الأصل الذي أخذت منه فارس طريقتها في النقش وعلى هذا فتكون تركستان الصينية هي الطريق التي دخل منها إلى إيران تأثير آسيا الشرقية.

ومهما يكن من منشأها فمن المحتمل أن فارس نقلت طريقة التصوير المصغر عن مملكة إيلخان. وبذلك ساغ لنا أن نجعل الرسم ثلاث طرق أو ثلاثة مذاهب وهي المغولي والتيموري والصفوي ومن الجنس الأول الصورة المصغرة الوحيدة التي رسمت في تاريخ جهان خوشاي لعلاء الدين الجويني (المحفوظة في مكتبة الأمة بباريز) وهي تمثل المؤلف يقدم نسخة من كتابه إلى آراغون. وقد تجلى تأثير الصين كل التجلي بعد عهد تيمور بحيث أن النفس لتحدث المرء إذا نظر إلى رسوم ذاك الدور فيما إذا كان هناك أناس من أرباب الصنائع من الفرس تخرجوا على أيدي أناس من الصينيين أو أن هؤلاء النقاشين هم صينيون في الأصل جيء بهم إلى فارس فرسموا ما رسموا.

بين العصر الماضي وهذا العصر بون بعيد لأنه دور التوسع الصناعي الموافق للعهد الذي كانت فيه بلاد فارس وتركستان غاصة ببدائع المصانع. ولقد غصت بخارى وخيوه وطاشقند بالصناع الذين ازدانت بمصنوعاتهم دور الكتب في أوروبا ثم أن عصر الصفوية السعيد قد أزهرت فيه صناعة بديعة غريبة تعلم أربابها في سمرقند وبخارة ولما انتقلت إلى الهند مع سلاطين المغول همايون وأكبر وجهانكير وأورنك زيب أنشأت فيها بدائع في الرسم والنقش بأسلوب يتنافس الناس في أوروبا في الحصول عليه. وما هذه الرسوم إلا مستندات ثمينة لا تقدر بقيمة سواء كان من حيث التاريخ أو للوقوف على الأحوال الاجتماعية في الهند في القرن السابع والثامن عشر. والصناعة الصفوية لينة سهلة تتجلى فيها العواطف الرقيقة ذات بهجة فاتنة. واشتهرت النقوش التي كتبت بقلم رصاص بوضوح التقاطيع وثبات الشكل والصورة.

وانتقل النقش على عهد الشاه عباس الأول الذي كان يحب الأبهة وهو على شيء من الأفكار العالية والمدارك الواسعة من الكتب المخطوطة إلى حوائط القصور في أصفهان وما زال من هذه النقوش بقايا في قصر علي قبو وقصر الأربعين عموداً. وقد كان السائح الروماني بيترو دلافال استصحب معه نقاشاً في رحلته إلى بلاط فارس فمن الممكن أن يكون الشاه أخذ رأي النقاش وباحثه في الرسوم الكبرى التي اعتاد الطليان رسمها على الجدران فنبه فكره إلى أن يزوق قصوره على مثالهم. ولكن هذا القياس الفرضي وكان على بيترو وقد أطال رحلته بوصف ما عمل ورأى أن لا يقصر في ذكر ذلك. على أن كثيراً من النقوش الفارسية تشعر بتأثيرات النقش الإيطالي.

وكثيراً ما تكون جلود الكتب غاية في الجمال ومن الخسارة أن مؤلفي كتاب الوجيز المشار إليهما لم يدخلا في تفصيل ذلك. ولقد شاهدت في الأستانة بعض المولعين بالآثار يأخذون الجلود القديمة كافة ليجعلوها في المتاحف مثالاً من أمثلة الحذق في الصنائع. والجلود المصمغة عند الفرس غاية في الجمال ويتألف من بعضها جداول حقيقية.

(الباقي للآتي).