مجلة المقتبس/العدد 26/نفاضة الجراب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 26/نفاضة الجراب

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 3 - 1908



ويل للمطففين

قامت مدينة أييري التجارية الصغيرة في جزيرة أيسلاندا في مكان بهيج على لسان من اليابسة يدخل في البحر ويتمثل للأعين ضيقاً يكتنفه من التلعات والمنحدرات العالية ولم يكن في هذه المدينة قديماً غير محل تجاري واحد وجواز تجاري صادر عن ملك الدانيمرك وهذا المحل يعرف من النظر إليه لأول وهلة. والمعروف في تلك البلاد أنه ملك رجل اسمه كريمور أنشأ هذا البيت التجاري في دار قديمة العهد على ما تشهد بذلك أعلامها وراياتها وكانت تمتاز بقلة ارتفاع حوائطها المتناسبة مع علو السقوف وكان في الشبابيك السفلى ألواح صغيرة من الزجاج وفي الطبقة العليا غرف صغيرة وزوايا صغرى كأن الظلمة من مميزاتها.

أما الآن فإن كريمور التاجر كان قد شاخ وابيضت لحيته كلها وكان ابن زهاء سبعين سنة ولكنه لم يكن في الحقيقة يعرف عمره على وجه الصحة إذ قد مضى عليه زمن طويل وهو لا يحسب أيامه وأعوامه لأنه قضى حياته في حساب أمور أخرى أهم في نظره من غيرها.

مضى عليه نحو نصف قرن عندما فتح مخازنه في آييري ولم يصرف ساعة من هذا الزمن إلا في ادخار المال بكل الوسائط وكان ذلك من السهل عليه إذ لم يكن ثمة أحد يباريه في تجارته بل لم يخطر على بال أحد أن يناهضه. وتعاقب جيلان من الناس بدون أن يحاول فرد فذ أن يقيم في تلك البلدة لينازعه في زبنة (زبائنة).

فكان وحده مستأثراً بحلواء الأرباح عرف من أين تؤكل كل الكتف فلم يراع في جميع أعماله إلا مصلحة نفسه فكان الحاكم المتحكم في مدينته يقنن قوانينها ويتصرف بحلوها ومرها. فكل شيء يباع في محلة بضعفي قيمته أو بثلاثة أضعاف والبضائع التي يبيعها من الناس تساوي ثلاثة أضعاف أقل مما تساوي في أي محل من المحال التجارية في أيسلاندا وكان مع هذا لا تأنف نفسه من غش زبنه في كمية البضائع وكيفيتها ويتقاضى عند الحساب ثمن بضائع لم يبعها ولا استلمها المبتاع. ولذلك لم يكن مما يدعو إلى العجب أن تقل البركة في آييري وضواحيها ولا يجد أهلها فلاحاً. كل ذلك وكريمور لا يهتم لما يجني على الناس ويكفيه على الدوام أن يزيد أعماله وأرباحه.

وبديهي أن كريمور لم يكن محبوباً في بلدة آييري إذ كان زبنه يعرفون كيف يعاملهم قبل أن يدخلوا مخازنه التي كانت قطعة من جهنم. ولقد شكا الناس كلهم من حاله إلا أن الفقراء كانوا أحق بالرثاء من غيرهم من السكان. وزد على ذلك فإن كريمور تولى منذ زمن طويل زمام جمعية الإحسان العام وأصبح يجز صوف الفقراء ويختلس الأموال المجموعة لإعالتهم والإدرار عليهم حتى لقد شاع على الألسن بأن ليس في آييري بائس يلجأ إليه إلا ويرجع من لدنه أفقر مما أتاه وكان من مبدأ كريمور أن الفقر مفسدة أبداً وأن المحاويج كلهم من الكسالى والمسرفين وكل من يطلب معونته يعامله أسوأ معاملة فلا يعود إليه بعدها مهما برحت به تباريح الفقر المدقع. ومن أخباره أن بعض البائسين مدوا أيديهم إليه يستنجدون نواله فضربهم عليها ضربة كسرها وبقي أثر الكسر بادياً عليها. بيد أن المضروبين ما قط شكوا أمرهم لأحد. وذلك لما وقر في نفوسهم من أن دعواهم عليه لا تسمع لأنه غني وتجارته ناجحة. فالقضاء إن لم يكن له فلا يكون عليه من أجل مظهره.

ومما لا شك فيه أن كريمور كان آية في نشاطه لا ينازعه في ذلك منازع يعمل حتى يكاد يتصبب عرقاً كما يعمل الوحش الضاري وقد قبض بكلتا يديه على فريسته. فيباكر بكور الزاجر إلى مخزنه قبل جميع مستخدميه ويخرج منه بعدهم كلهم ويتعب تعباً لا مزيد عليه بحيث لو جمع تعبه وقيس بتعب بضعة أفراد من مستخدميه لرجح تعبه لات محالة. فكان يضع بيده المعاجين ويكيل بيده الخمر ويزن القهوة ويخاطب الفلاحين ويمسك دفاتره بيده ليقيد فيها ولم يكن بحاجة إلى التقييد والحساب لأنه يأخذ ما يشاء وهو لم يتعلم ولا يحسن الكتابة إلا قليلاً. ولا يمنعه ذلك من أن يضع بيده الصوف والشحم في ميزان ويدفعه بيده قليلاً ليرجح ومن العادة أن يطالب المبتاع أن يحسن الكيل والوزن ولكنه إذا طالب بذلك يضحك منه كريمور ويجيبه باسماً رافعاً كتفيه أو مردداً بعض الألفاظ، فإذا ذهب الزبون يلتفت كريمور إلى مستخدميه ويوعز إليهم أن يستعملوا الكيل والميزان كما يستعملهما هو ويريدهم على أن يطففوا ويتلاعبوا ويقول لهم أن مهارتهم في ذلك متوقفة على حسن التخلص بلباقة. ومع هذا فقد كان قاسياً من وراء الغاية في معاملة مستخدميه وقد يقعد أحد منهم عنده زمناً مع أنه من الصعب إيجاد تجار آخرين يخدمونهم إذا خرجوا من محله وما كان يناديهم بغير الفظاظة والألفاظ الفجة الوحشية ويطعمهم أردأ طعام ولا يمتنع في الأحايين من صفعهم ليثبت لهم بأن يده خفيفة في الضرب خفتها في النشل والنهب.

وما كان كريمور يعنى بطعامه ولكنه قد يتأنق بعض الأيام ويتناول قطعة من اللحم المحمر وقدحاً من الشراب وفي ذلك اليوم يدعو بعض أغنياء الفلاحين من أهل تلك الناحية لتناول الطعام معه ولكن هذه المآدب الخارقة للعادة تنتهي في الغالب على أسوأ حال وذلك أن الفلاح يذكر له في خلال الحديث الغلط الذي وقع في ورقة الحساب الذي كان بعث به إليه التاجر فيجيبه كريمور بحدة وتنتهي حالهما من الكلام إلى الشتائم ومن الشتائم إلى الملاكمة وينهال الضرب على المدعو ويطرد من بيت التاجر طرداً.

ومن المحقق أنه لم يلتئم أحد معه قط وقد تزوج أربع مرات وماتت أزواجه الأربع سأماً من الحياة معه. وكان كريمور يتعزى عن فقدهن في الحال إذ لم تأت السنة على فقد الواحدة حتى يكون عروساً في آخرها. دام ذلك إلى أن ترمل للمرة الرابعة وقد رزق ولدين من زوجه الأولى ماتا كلاهما واسم البكر آرني كان ساقطاً حقيراً شريباً خميراً يكره كل عمل حتى انتهت الحال بوالده أن طرده من بيته فأخذ يقرع البيوت ويستجدي الأكف في آييري وهو يسكر حيثما نزل وكيفما اتجه. ثم سدت في وجهه جميع الأبواب فرجع إلى دار أبيه طافحاً سكراً فطرده أبوه ولما لم يقدر أن يقف على رجليه زحف إلى السرب (قبو) وكان غير مقفل كما ينبغي فشوهد في الغد ميتاً وهو ملقى على كوم من الصوف أما ابنه الثاني المدعو يوحنا فكان على العكس من أخيه حسن السلوك ذكياً للغاية لا يكل ولكنه غرق بينا كان يسبح في البحر في العشرين من عمره في آخر سنة له في المدرسة فكان فقده على كريمور أول يوم حزن فيه مدة حياته.

فقد تلقى مصابه بفقد زوجاته الأربع غير مكترث لما أصابه ولكنه لما كان يذكر أمامه ابنه يوحنا كان وجهه يتغير على أن حزنه عليه لم تبد في وجهه إماراته بكثرة واكتفى بأن يقول أن دفن الميت يكلف كثيراً وأن جميع الشعائر التي تقام في الجنازة لا تفيد الميت شيئاً ومن رأيه أن يجعل الميت في تابوته وأن يحمله أهله إلى المقبرة بدون توسط أحد من رجال الدين لما في ذلك من الاقتصاد في النفقة والتخفيف عن الميت وآله.

وكان اسم زوجته الأخيرة كودرون وهي أنشط نسوانه الأربع ولما بنى بها كريمور شعر بالشيخوخة وضعف الذاكرة وتقهقر الأشغال. ولكنها عندما استلمت إدارة بيته وضعت كل شيء موضعه وسار كل شيء على نظامه وأخذت تجارته حياتها السالفة وذلك أنها كانت منتبهة للغاية فتدخل مرات كل يوم إلى المخازن على غفلة لتفاجئ المستخدمين وتنظر في الدفاتر وتحقق الحسابات وتكلم الزبن إذ كان لسانها فصيحاً كما كانت يدها رشيقة وحركتها خفيفة. على أن الشيخ كريمور لم يرض عن زوجه لأنها كانت تتراءى له بأنها تكلفه من النفقة أكثر ممن تقدمها من زوجاته. ويعتقد أنها مسرفة لأنها تريد أن يكون لزوجها ما يجب أن يكون له وأن يقبض كل واحد أجرته وهو مما يسميه جنوناً وقلة تدبر.

وعندما كانت تطلب منه دراهم كان يردد أبداً عليها نغمة واحدة وهي: أن القليل الذي استطعت أن اقتصده سيبذر في الحال عندما أقضي نحبي. . بيد أنه ما تنبأ به لم يتحقق قط فماتت كودرون ولداً فانحصرت ذرية كريمور في طفل اسمها ماركوس وهو ابن ابنه يوحنا المتوفى وكان ولداً متعقلاً ولكن صورته مزرية وقليل النشاط والحركة فتبناه جده بعد أن فكر زمناً أن يتركه عالة على المدينة ولم يرض بقبوله في بيته غلا تخلصاًُ من أن يكون فريداً وحده لا عقب له.

(2)

ماتت كودرون فكان موتها فاتحة سوء الطالع على كريمور فاتخذ خادمة بعد أخرى وكلما غير خادمة تزداد حال بيته اختلالاً فهن لا يعرفن إلا الإنفاق ولم تجرأ واحدة منهن أن تعمل له عملاً نافعاً لأن الشيخ كان كثير الظنون والسارقات والسارقون يعبثون بأمواله في كل مكان. على أن حذره لم يحل دون دخول فساد على أعماله فأخذ المستخدمون لا يخافون بأسه وكل منهم يسرق من المخازن ما يروقه ناسياً بالقصد أن يقيده فدخلت تجارته في دور الانحطاط وأصبح كريمور إذا غضب وأراد أن يعاقب المتلاعب من كتبته وخدامه يمسكون بذراعيه ويديه فلا يفلتونها إلا إذا رضي بأن يعود إلى السكون ولا يعود إلى العربدة.

وحدث في غضون ذلك حادث كان فيه القضاء المبرم على هذا التاجر ومحله وذلك أن تاجرين غريبين جاءا ذات يوم إلى آييري وأنشأا محلاً تجارياً فأخذ زبن كريمور يتخلون عنه واحداً بعد واحد فخفض أسعار بياعاته إلى أرخص مما يبيع ذانك التاجرين وزاد في رواتب مستخدميه إلا أن ما أتاه لم يأته بفائدة وارتفعت ثقة الناس من محله منذ زمن وأصبح في الحور بعد الكور وفي الخسران بعد الربح حتى لم يعد يرض أحد من الفلاحين أن يعامله مخافة أن يعود ثانية فينشب فيه مخالبه ولكن كريمور بذل جهده في مقاومة سوء البخت فكان يدفع كل سنة من ماله عجزاً كبيراً.

وكان من هذا الجهاد أن قل ماله بالتدريج وكل ما يصرفه من ثروته على هذه الصورة كان في الحقيقة من لحمه ودمه فاستولى الضعف على قواه الطبيعية وحل الوهن محل القوة التي كانت عضده في شؤونه خلال خمسين سنة وأقام عنه وكيلين لإدارة أعماله ولم يكن منهما إلا أن زادا الطين بلة وأخذا بسوء سلوكهما يبعدان الفلاحين عن معاملة المحل كما كانوا من قبل وكانا يصرفان معظم النهار في ملاطفة صاحب المحل ليحلا من قلبه مكاناً يتذرعان به إلى نيل مآربهما منه ومن ماله فيحتالان على مدح جميع أعماله ليحرزا ثقته ولم يكن إلى ذلك العهد قد وضعها في إنسان وما اقتربا منه إلا ودعواه بيا صديقي العزيز ويقال أنهما كانا يسرقان من الصندوق أكثر مما يضعان فيه من الدراهم.

وبعد ذلك وفق كريمور إلى الظفر بخادمة على هواه تتولى أمور بيته اسمها مريم جاوزت الخمسين من سنها وتمرنت في خدمة البيوت ومعاناة الرجال وكان ما يرضيه من طبعها في الأكثر هو أنها تمقت كل المقت ما كان يسميه بالنظافة والنظام اللذين لا فائدة منهما فلا تمسح أرض الدار إلا في الأعياد الكبرى ولا تكنس الغرف إلا صبح الأحد ولا تعنى بزينتها إلا إذا بقي لها وقت فكانت (فرشات) الثياب يطول عمرها معها لأنها قلما تستعملها في نفض الثياب. تخف أبداً إلى الاقتراب من ذاك الشيخ وتطيعه لأول كلمة يفوه بها وتقص عليه ما يجري في الدار والمخزن والمدينة وما يقال فيها وما لم يقل وتنسب سوء القصد لكل من كان لكريمور بعض الثقة فيه وتزيف أقوالهم وتوردها في قالب لا يفهم منه لا عكس ما يراد منها ثم تعرض عليه بأن الناس كلهم يسرقونه إذا لم يعهد إليها بأن تراقبهم.

فوقع كلامها من قلب الشيخ موقع التصديق حتى زادت ثقته بالناس ضعفاً واقتنع بأنه محفوف بفئة لا غاية لها إلا أن تنهب ماله حاشا مريم فإنها الوحيدة التي ما عراه شك في أمانتها ولم تكن مريم تسرق مالاً بل توفر من جميع النفقات ولاسيما من الطعام وخصوصاً طعام المستخدمين فبدخولها بيت التاجر دخله الجوع. ومن المميزات التي اختصت بها مريم أنها كانت تحسن الانتفاع بكل شيء وما قط طرحت بقية من بقايا اللحم ولذلك كانت تستنشق في غرفة كريمور التي يقف فيها عندما يترك مراقبة المستخدمين روائح كريهة منبعثة من تلك اللحوم المدخرة.

عرفت مريم كيف تحسن معاملة زوجها وتستولي على عقله كما تحسن معاملة الناس وتخدعهم وكان صوتها رقيقاً تتلطف مع الزبن وتلاطف الأولاد وتوهم كل من يكلمها لتتوسط له أمام كريمور أنها مساعدته فيما يريد وأنها مبرأة من كل غاية إلا من النفع العام على أنه لم يحدث من أثر هذه الغيرة كلها ما يعود على محل التاجر بالفلاح وأخذ الانحطاط يزادا في أشغاله يوماً فيوماً على ما تبذله هذه الخادمة من وسائط نجاحه.

وكان لكريمور في غرفة مجاورة للغرفة التي ينام فيها خزانة من شجر الكابلي جعلها صندوقاً لوضع ماله ولما كانت أعماله سائرة على قدم لنجاح كنت ترى جرار الزانة طافحة بالنقود الذهبية والفضية وفي وسطها أكياساً ملأى فأخذت هذه الأكياس تنقص شيئاً فشيئاً منذ انحطت تجارته حتى لم يبق واحداً منها بل قل ما كان في الجرار من النقود وفرغ كثير منها بتة.

(3)

حدث ذات يوم من أيام الخريف بعد أن عادت القطعان من المراعي أن منافسي كريمور في تجارته باعوا من فلاحي آييري كثيراً من البضائع أتتهم بأرباح وفيرة ولما نمي الخبر إليه انزعج انزعاجاً شديداً وأصابته سكتة دماغية فوقع في مخزنه لا حراك فيه فنقل إلى غرفته وأضجعوه في سريره واستدعوا الطبيب. وكان هذا شاباً لم تمض بعد سنوات قليلة على نيله الشهادة سكن في تلك البلدة حديثاً. فخف لفحص المريض فرآه غائباً عن رشده فقضى الليل كله بالقرب من سريره وهو يمرضه ولما طلع النهار رجع إلى الشيخ كريمور صوابه.

ودام دور نقاهته طويلاً وأنشأ كريمور يسير على رجليه قليلاً حتى استطاع أن يطوف محله زاحفاً وكان الطبيب يعنى بصحته كثيراً. وكان هذا الطبيب قد حاز ثقة الجمهور لا لحذقه بل أنه اشتهر بالنضج.

وما مكان للشيخ كريمور اعتقدا كبير في الطب لأن صحته القوة قد أعفته من اتلالتجاء إليه على ان الدكتور توردور قد استولى في الحال على عقله وكلما كان يزوره يتهلل وجه الشيخ كريمور بشراً وطلاقة. فكان الناقه ينتظره وهو جالس على كرسيه الكبير طول النهار ساكتاً لا يتكلم كالحجر الأصم وكانت الضربة قد أصبته في جانب فمه فأفلجته فلم يعد يتكلم إلا ببطء شديد ولا يلفظ في الأحايين إلا بعض مقاطع من الحروف كثيراًُ ما تكون مبهمة لا تفهم.

أشار كريمور ذات يوم بعد أن انصرف الطبيب من غرفته إلى خادمته مريم أن تقترب منه وسألها أن تقرأ له شيئاً فأخذت من صندوقها التوراة وكانت الكتاب الوحيد الذي احتفظت به طول حياتها ففتحت باب رؤيا القديس يوحنا الإنجليلي وقرأت الآيات التي ورد فيها ذكر تعذيب من يعذبون في النار والكبريت لا تنالهم الراحة ليلاً ولا نهاراً.

فقاطعها كريمور والغضب آخذ منها قائلاً: ما أنحس هذا النبي يوحنا يتكلم عن هذه النار وهذا الكبريت اللذين ليس لهما أساس. وحدق بها بعينيه اللتين كانت تبرقان بشرر الغضب فذعرت منه حتى ارتجفت كلها وعادت فأخذت بيدها الجورب الذي كانت تحيكه قبل أن تشرع في القراءة له. أما كريمور فلم يرفع نظره منها وظل ساكتاً لا يتكلم وأخذ وجهه يتغضن أبشع تغضن من هنيهة إلى أخرى ويحرك ذراعيه وكأنه يريد طرد أحداً يهدده بالقبض عليه. . وكانت غرفة الخادمة متصلة بغرفة سيدها فذهبت إليها عندما رأته قد نام إلا أن النوم لم يجئه في تلك الليلة ولم يتمكن من إغماض جفنيه وترك نظره يسرح وهو في قلق يبدو عليه في غرفته وأخذ من وقت إلى آخر يتنهد ويلفظ كلمات متقطعة.

وكان بالقرب من سرير كريمور منضدة صغيرة يضيء عليها مصباح في الليل منذ وقع مريضاً ومن عادة مريم أن تنزل الفتيل للاقتصاد من الزيت وهكذا رسمت ظلالاً مشوشة على الحائط. وفي تلك الليلة أراد كريمور مخالفة عادته في ترك الفتيل صغيراً بحيث لا ينطفئ فقد وأراد أن يكون يكبره ليكون ضوءه كثيراً لأن الظلام كان يخيفه.

فظنت مريم أن الشيخ راقد وأخذت تسير نحو غرفته سيراً لطيفاً فلما سمع وقع قدمها صاح والذعر آخذ منه: مريم مريم. فأجابته فقال لها أتظنين بأن الموت سيأخذني؟ فقالت له: إن الموت بعيد عنك لأن صحتك تحسنت كثيراً عن ذي قبل وعما قريب ستشفى كل الشفاء فأجابها بقوله: نعم صحتي أحسن وقريباً اشفى ولا أموت.

ثم سكت وخفت مريم بالانصراف من غرفته فناداها قائلاً: أتعتقدين يا مريم أنني سأذهب إلى النار متى حل بي ريب المنون؟ فأجابته: أنت تروح إلى النار سامحك الله على مثل هذا الفكر أما أنا فلا أعتقد بأنه يخشى عليك من النار. ولما سمع ذلك أجابها: نعم لن أذهب إلى النار. ثم غاص في بحر السكوت من جديد وعاد فقال لخادمته: هل عملت شراً وارتكبت كبيرة أعاقب عليها؟ فقالت له: كلا إنك كنت سليم الصدر أبداً وما قط أسأت إلى إنسان وعلى العكس فإن كثيرين قد أساءوا إليك فنهبوا منك مالك وخدعوك بكل حيلة من أحاييلهم. فأجباها بقوله: نعم إن الناس أساءوا لي. أساءوا لي هؤلاء الملاعين. ثم استولى السكوت عليه وقال بعد لحظة: أتظنين أن من خدعوني يروحون إلى جهنم. فقالت له: إذا نجا أحدهم من النار فيكون في نجاته وجه الغرابة. فأجابها: إن المسألة ظاهرة وسينتقم المولى لي منهم إذ يرى أنني عاجز عن الانتقام بنفسي لنفسي وإلا لما كان ثمت عدل. فنهضت مريم ورتبت وسادتي كريمور ووضعتهما وضعاً حسناً تحت إبطيه ليتمكن من الجلوس وتسريح النظر في الغرفة وبعد ذلك انصرفت لتنام وأطبق كريمور جفنيه ولم يعد يتحرك حتى ظنته قد رقد. إلا أنه لم يلبث هنيهة أن فتح جفنيه وأخذ منه الهلع وهو يحدق في زاوية الشباك ويصرخ هناك في تلك الزاوية ضوء أنجدوني فقفزت مريم إلى الأرض وأسرعت فأوقدت المصباح فبدد النور غياهب الظلمة وصارت الغرفة كأنها في رابعة النهار. وكان العرق يكلل وجه كريمور ويحاول أن يمسحه وهو يفيض عليه وعيناه تشخصان إلى كل ناحية من أنحاء الغرفة ذات اليمين وذات الشمال وفي اعلاها وأسفلها وشعره الأبيض كالثلج مسترسل على جبهته وعيناه تنظران وتحدقان والهلع آخذ من قلبه مأخذه. فأخذ يسأل مريم قائلاً: يا مرين أتعتقدين أن هناك جهنم؟ فأجابته أن سؤالك عن النار أشبه بمن يسأل عن وجود الله تعالى. فقال لها: إذاً فأنت أيتها المجنونة المقدسة تروحين إليها والناس كذلك لا سبيل إلى النجاة منها. فلم يسع مريم إلا أن قالت له: لا تفكر في هذا ليس ثمت مسمى لهذا الاسم (جهنم). فأجابها نعم ليس ثمت جهنم. والتفت كريمور إلى الحائط وأطبق جفنيه وقال لها: تسهرين هنا طوال الليل ولا تطفئين المصباح بل اتركيه موقداً يسطع بنوره. قال هذا وهو ينظر إلى السقف ثم تقلب وعندما رأى مريم قد جلست بالقرب من سريره وأنها أضاءت المصباح وأوقدت مصباحاً آخر بدا عليه الاطمئنان واستغرق بعد ذلك في النوم فنام حتى الصباح.

ولما استيقظ أجلسته مريم في كرسيه حضر الطبيب فسأله عن صحته ثم كلمه في شؤون وشجون إلا أن كريمور كان مشغول القلب فلم يجب الطبيب بغير لا ونعم ثم انقطع الطبيب عن كلامه فأنشأ المريض ينظر إلى الطبيب وحاول أن يضحك من شق فمه الذي لم يُفلج وقال له: يقال أيها الدكتور أنك لا تعتقد بشيء. فأجابه الدكتور قائلاً: ما من أحد وهو لا يعتقد بشيء يا عزيزي كريمور. فقال هذا: أعني بقولي يا حكيم أنك لا تعتقد أي أنك لا تعتقد بالشيطان. فاستضحك وقال وهو يدرك ما يجول في خاطر صاحبه: أو تعتقد بأن للشيطان وجوداً؟ فقال كريمور: كلا لا وجود للشيطان. قال هذا وحاول أن ينهض من كرسيه وأمسك يد الطبيب فقال: كنت أعرف حق المعرفة بأن ليس ثمت وجود شيطان ولا جهنم أيضاً. فقال الطبيب: نعم أنا على ثقة من أن الشيطان وجهنم لا وجود لهما. فأجاب الشيخ المريض: إنك تعرف ذلك وأنت الذي درست العلوم وأحكمتها. فقال الدكتور لا يعترف العلم بوجود شيطان ولا جهنم. فقال الشيخ إذا كان العلم لا يعترف بوجودهما فذلك لأنه صحيح. قال هذا وقد أخذ مقعده من كرسيه وأطبق جفنيه وسطع في وجهه بريق الفرح ثم همس قليلاً بصوت يكاد لا يفهم قائلاً: نعم ليس في الوجود شيطان ولا جهنم العلم يعرف ذلك ومن أعرف من العلم بمثل هذه الأمور. ثم فتح عينيه وأخذ يحدق في الطبيب وإمارات الشك تقرأ في وجهه كأنه يريد أن يبحث في ذهنه عن أمر لا يعثر عليه وينتظر الطبيب أن يعينه عليه.

إلا أن الطبيب سكت وهو يتأمل في كريمور ويتلو في جبهته ما ينمُّ به قلبه الذي لا يكتم السر كالصبي. ثم ظهر كريمور مظهر من زال عنه همه وأخذ يد الطبيب وقال له: وماذا يقول العلم عن الحياة الثانية؟ فأجابه الطبيب العلم لا يستطيع أن يبين حقيقة العالم الثاني فإن هذه المسألة من المسائل الاعتقادية. ثم سأهل: وهل أنت يا دكتور تعتقد بالآخرة؟ كلا لا أعتقد. فقال المريض الظاهر أن ليس هناك آخرة إذ العلم لا يعترف بها ولا يثبتها. ثم ملكت على الشيخ كريمور مشاعره وسكت وأخذ يهز رأسه وفتح فاه وأغلقه ثم فتحه ثانية وأغلقه. وبدا على سحنته أن في قلبه سراً يريد أن يحل مشكلته وحاول الابتسام وإن منعته شفته المفلوجة منه فقال: من البلاهة بل غاية في البلاهة ما يذكرونه عن الجزاء بعد الموت وهل للجزاء من حقيقة؟ فاه بهذا السؤال وهو محتاج لجواب إيجابي فكان جواب الطبيب له: إذا عنيت بالجزاء أن على المرء أن يذكر ما قدمت يداه وأن هذا هو الجزاء فإنني لا أرى فيه شيئاً من البلاهة ولطالما اعتقدت بأن كل امرء في ذاته بل الإنسانية بمجموعها يجب عليهما أن يحاسبا عاجلاً أم آجلاً عما أتياه من الأقوال والأفعال في هذه الحياة الدنيا. ولما سمع الشيخ هذه العبارة قال: إنني لا أفهم. فأجابه الطبيب: ومع هذا فأنت مدرك ما أعتقده من أنه لا بد من وقت يجيء في هذه الحياة أيضاً ويكافأ فيها الخير ويعاقب الشر. فقال الشيخ يجازى في هذه الحياة بالذات هذا غير ممكن بل متعذر كل التعذر.

ولما فاه الشيخ كريمور بهذه الكلمات فاه بها بلهجة الفزع وقد تمسك بذراعي الكرسي وهو يحدج الطبيب ببصره وقالا: كلا أنك لا تقول ما تفكر فيه وما أنت إلا مردد لما كنت سمعته فقل لي ماذا يقول العلم وما أظن العلم يقول بما أنت تدعيه فما يعلمك العلم؟

فأجابه الطبيب: ليس للعلم في هذا الموضوع شأن وما أنا مصرح لك باعتقادي بعد تجاربي الخاصة ومعرفتي في الحياة. فلما سمع المريض ذلك حاول ان يقلل الشدة لأنه لاحظ أن ما صرح به من معتقداته قد أثر تأثيراً شديداً في المريض فاستلقى على ظهره في الكرسي من جديد وأخذ يطبق عينيه ويفتحهما ويطوف الغرفة والفزع الشديد آخذ منه واصفر وجهه أكثر من ذي قبل وأصبحت يديه بلا حراك على ذراعي المقعد وقال: تجاربك أيها الطبيب تجاربك تقول بذلك؟ فقال الطبيب: نعم هذا هو اعتقادي أعتقده وأكرر وأقول غير هياب ولا وجل أن كل امرء في هذه الأرض يجازى عما قدمت يداه إن خيراً فخيراً وإن شراً فشر وتؤخذ منه الفائدة (الربا) وفائدة الفائدة أضعافاً مضاعفة.

فلما فاه الطبيب بهذه الجملة نظر إليه كريمور نظرة من يحب الاقتناع بأن هذه الأفكار هي من الأفكار الخاصة للدكتور ليس إلا وقال: مع الفائدة وفائدة الفائدة ولكن هذا القول فظيع وهو معتقد غير مقبول.

وهنا أدرك الطبيب أن هذا الحديث لا يزيد المريض إلا ضيق صدر فقاطعه وقال: عليك يا صاح أن تطرد من ذهنك الأفكار السيئة وأن لا تفكر إلا في شفاء جسمك وأن تساعد على نقاهتك ما أمكن وها قد أصبحت أحسن صحة من ذي قبل فما عليك إلا أن تعنى بالشفاء كل العناية. ثم سلم وانصرف.

فنظر إليه كريمور حتى إذا غاب عن نظره عاد يحدق في كل مكان محاولاً أن يجلس في كرسيه بحيث كان ينظر إلى الغرفة بمجموعها وأنه لكذلك دخلت عليه الخادمة فقال لها أريني ماركوس فقد تاقت نفسي إلى رؤيته. فنادت مريم هذا الولد وكان في غرفة في الطبقة العالية يستعد للذهاب إلى المدرسة وكاد يأتي على صفحة من كتاب النحو اللاتيني ويستظهرها كلها. فخف إلى غرفة جده وكتابه مفتوح في يده وأخذ مقعده في زاوية من زوايا الغرفة. ولما سمع كريمور بقدوم حفيده سكنت نفسه بعض الشيء وأغمض عينيه ليحاول أن ينام ولكن استيقظ مرتجفاً قائلاً: يا ماركوس هل أنت عندي؟ فأجابه الولد نعم يا جداه أنا هنا.

ومنذ ذاك اليوم أصبح يجيء الولد إلى غرفة جده كل يوم ولم تنعكس صحة هذا ولكنها لم تتحسن أيضاً وعلى هذا النحو مضى الأسبوع. والطبيب يعود مريضه كل يوم وقد ظهر له أن كريمور يكاد لم يستعد قواه إلا ببطء شديد ولم يعودا يبحثان فيما بينهما عن المعتقدات وقد حاول المريض أن يعود إلى الخوض في هذه الموضوعات ولكن الطبيب كان يقاطعه ويدخل في شؤون أخرى.

مضت على ذلك أيام والعجوز لا يترك كرسيه إلا للنوم في سريره وقد حدث أنه جر نفسه مرة وحده وساقاه ضعيفتان إلى المخزن وكان متصلاً بداره ولم يلتفت في الحقيقة إلى ما كان يجري فيه أمامه وقد هدد بيده المستخدمين الذين كان يعتقد أنهم يزنون ويقيسون على الصول وعاد فاستشاط غضباً منهم على نحو ما كان يغتاظ أيام صحته عندما دار في خلده بأنهم يحسنون الكيل والوزن والقياس. وأتت عليه ساعات وهو يردد ما قاله لبعض مستخدميه عندما رآهم يزنون بالميزان ويقيسون بالمقياس: لا تزنوا هكذا بل أقل من ذلك وإلا فأنا. . وبقي يردد هذه النصيحة بدون أن يكلم أحداً بعينه ولكن هذا التهديد كان ينبعث من فؤاده كنه عام لجميع من يخالفوه إرادته.

ولم يطل مقامه في غرفته وهو يشعر بأنه أحسن حالاً فيها من حيث الصحة وأخذ يطوف غرفته ويتماسك وكان عليه لما فيه من الضعف أن لا ينهض من سريره ولكنه كثيراً ما يمشي في ألبسته الرثة ويقف أمام الشباك ويهز رأسه ويقول وهو صموت بل يحنق ويقول همساً: مع الفائدة وفائدة الفائدة! يقول هذا ثم يهز رأسه هزة غريبة وينظر إلى كرسيه الكبير فيقع فيه ويطبق أجفانه وينام ولكن نومه لا يطول فيستيقظ في الحال كأن قلقاً عظيماً أخذ من نفسه مأخذاً ويسحب نفسه متثاقلاً نحو الشباك ويطل على ما وراء غرفته ويعاود تلمك الكلمات التي طالما رددها وهي: الفائدة وفائدة الفائدة.

وكان حفيده ماركوس يتالم من أخلاق جده أكثر من غيره لأنها كانت في الغالب سيئة وكان جده إذا استغرق في أفكاره يكلم نفسه ثم ينايد: يا ماركوس يا ماركوس أين أنت يا مضحك؟ فيجيبه ما أنذا يا جداه. ويقب منه وفرئضه ترتعد فيسأله الشيخ الهمُّ ماذا تعمل يا كسلان؟ فيقول أتعلم النحو يا جدي. فيجاوبه: تتعلم النحو ومن هذا يا متوان ذهب وزن لي سكراً ناعماً. يقول هذا وكأنه يمد يده إلى الولد ليصفعه ولكن هذا يغطي أذنيه بيديه لينجو من الصفع. ويذهب إلى المخزن كالسهم المرسل فيأتي جده في أسرع من لمح البصر بالسكر الذي طلب منه إحضاره ويجيء به حاملاً كيساً منه بكل قوته ومعه أكياس صغيرة ويأخذ يملؤها بأن يزنها في ميزان صغير وضع على منضدة فما هو إلا أن يقول له جده لا تكثر يا نحس واجتهد بأن تعطي أبداً قليلاً فالناس لا يدركون الكمية التي أنت تضعها. ثم تكمد جبهة الشيخ وبعد هنيهة يعود هذا فيصرخ: أين أنت يا ماركوس يا غبي؟ فيخف إليه الولد وهو خائف يترقب وقد وضع يديه على أذنيه ويتقدم نحو كرسي جده قائلاً هاأنذا يا جداه فيسأله ماذا تصنع؟ فيقول له إنني أزن سكراً. فيعود ويقول ومن قال لك ذلك؟ وأين كتابك في النحو؟ فأنت تزن سكراً بدل أن تتعلم دروسك يا كسلان وتتظاهر بأنك تتعلم مع أنك لا تصلح لشيء.

وعند ذلك يجر الولد الكيس إلى المخزن ويرجع على زاويته ولكن كريمور لا يتركه زمناً مستريحاً فتارة يطلب منه وزن السكر وأخرى يوعز له بدروسه وهكذا بدون تسلسل في أفكاره ولا رابطة في أوامره.

(4)

ولما نقه كريمور ذات يوم بعض النقاهة طرد ماركوس من غرفته وأغلق الباب إغلاقاً محكماً ثم أخرج من جيبه حزيمة من المفاتيح وكانت مفاتيح خزانة الكابلي وما كان يفارقها قط. حتى كان يذكرها في أضيق حالات مرضه. ويضعها تحت مخدته. فذهب إذ ذاك نحو الخزانة وفتحها وأخرج منها الجرار بعد الآخر وقد أصبحت معظمها فارغة غلا قليلاً وكان بعضها فقط يحوي القليل من النقود الذهبية فجردها كلها بيده ثم وضعها وهو يهمس قائلاً: قد ذهبت كلها ولم يبق إلا القليل! ثم عالج صندوق كبير فأخرج غطاؤه ولم يكن فيه غير كتاب متوسط الحجم فلما رآه وقف قليلاً وهو يحدق فيه ثم أخرج القفاز من يديه وتقدم من الشباك ورفع طاقيته فوضعها على المنضدة وفتح الكتاب ولم يفتحه ليقرأ فيه بل إنه لم صفحة اسمه وهذا الكتاب هو تفسير الكتاب المقدس باللاتيني وكان لابنه الصغير عندما كان في المدرسة. ولم يقرأ ما فيه ولكن نظره وقع على الصفحة التي كتب عليها بيد طفل مبتدئ هاتان الكلمتان يوحنا كريمور وبقي ينظر في الكتاب ملياً وهو يمسكه بيده وعيناه ناظرتان لهذا الاسم وهما لا تريان غيره وعندها فاضت بالعبرات فتساقطت على الاسم وعلى الصفحة وحاول أن يكفكفهما بكم قميصه الممزق. وعند ذلك أطبق الكتاب ووضعه في الصندوق وأدخله في الخزانة وأغلقها ووضع طاقيته على رأسع وقفازه بيده وراح يخطر في الغرفة وسرموجه (شبشب أو صرماية) في رجله ليسمع صوته ووقف جاعلاً رجله على الأخرى بالقرب من النافذة ونظر إلى خارج وتنهد وهو يكلم نفسه قائلاً: مع الفائدة وفائدة الفائدة ولعل هذا صحيح. ثم علت وجهه الكآبة والحزن.

(5)

وفي بعض الأيام دخل ماركوس الصغير وهو يبكي إلى المطبخ حيث كانت مريم قائلاً: إن جدي مات في كرسيه. فقالت له وكيف ذلك ولم تكن حالته في خطر لم يكن وجوده حملاً ثقيلاً علينا ثم قصدت الغرفة فوجدته ملقى على الدف وقد ظهر لها أنه جاءته نوبة وهو في كرسيه وأدركت في الحال أنه لم يمت فحملته إلى سريره واستدعت الطبيب فحضر ورأى كريمور غائباً عن رشده وعيناه مغمضتان وقد فلجت جميع أعضائه. فوقع الطبيب في حيرة ولما سألته مريم بأن يوضع على رأسه خرق تجعل في ماء فاتر وأن يفصد إلا أن كريمور قضى الليل كله وجميع نهار الغد بدون حركة. وعند المساء فتح عينيه قليلاً ورجفت يداه وكان ماركوس جالساً على صندوق بالقرب من سرير كريمور وعيناه تفيضان بالدمع وهو ينظر إلى جده ومريم واقفة بالقرب من الشباك ترتب الكراسي ففتح كريمور شفتيه قليلاً كأنه يريد أن يتكلم وتنفس الصعداء فلم يبن منه إلا مقطع واحد من مقاطع الحروف وهو الفا الفا أي الفائدة وهي الكلمة التي طالما رددها بقوله الفائدة وفائدة الفائدة ثم أغمض عينيه وعاد الفالج فاستولى عليه فجأة وارتعشت أعصابه وأخذت عينه تتجه صوب حفيده قائلاً: مار. . . مار. . ماركوس! فأجابه الطفل: ها أنذا يا جدي فقال وما تصنع؟ فأجابه: لا شيء يا جدي.

ثم ظهر كأن عينا كريمور خرجتا من محجرهما وأكمد وجهه وقال بصوت لا يفهم: الفا. . . حنا! ثم عانى كثيراً وحشرجت روحه وتقلصت شفتاه وحدق بعينيه في السقف وراح لا حراك به. فتقدم كل من مريم وماركوس نحو سريره. فقالت المرأة: لقد مات! فوقع الولد من الصندوق الذي كان جالساً عليه ووضع يديه على وجهه وشهق بالبكاء كأن صدره أوشك أن يتصدع. ما مريم فكانت تنظر إلى تلك الجثة الهامدة ولا فكر لها إلا أن تطمئن وتتأكد أنه مات حقيقة. ولما ثبت لديها موته ألقت بيدها إلى تحت مخدته وتناولت حزيمة المفاتيح ثم أغلقت باب المسكن ودخلت على حين غرة إلى الغرفة التي كانت فيها الخزانة وفتحتها. وصرفت وقتاً في معرفة كل مفتاح وجراره إلا أنها تمكنت من ذلك بعد العناء ولما فتحتها قالت والغضب آخذ منها: فارغة كلها فارغة لعنة الله عليها كلها فارغة.

ورأت في أسفل إحدى الجرار بضعة نقود ذهبية وفضية فأخذتها ووضعتها في جيبها وهي تنظر إلى خلفها مخافة أن يباغتها أحد. ثم نظرت ذات اليمين فبصرت بصندوق فبرقت لرؤيته أسارير جبهتها وقالت كنت على أن أنساه ولعل فيه الخير الكثير وبعد أن عاجلته طويلاً فتح لها ولكنها لم تجد فيه غير كتاب التفسير. فقالت وقد استشاطت غضباً ما هذا الكتاب العتيق وما السر يا ترى في إخفاء هذا الكتاب في الصندوق الكبير فما عتمت أن أخذته وألقته طعاماً للنار وأغلقت الخزانة وعادت إلى غرفة الميت فرأت ماركوس ينتحب ويبكي فوضعت حزيمة المفاتيح تحت مخدة كريمور وخرجت تاركة الباب وراءها مفتوحاً قليلاً وذهبت إلى المخزن تنادي المستخدمين قائلة أن معلمكم قضى نحبه فتعالوا أعينوني حتى نقوم بما يجب إكراماً له فهبوا إلى غرفة الميت أما هي فاقتربت من ماركوس وانحنت عليه بحنان وأخذته إلى ناحية وقالت له: لا تبك يا بني ثم أنشأت تمر يدها على خديه وجعل الولد يتمسك بعنقها فقال له بصوت كئيب: مات المحسن إلينا فيا له من خطب جسيم يا ماركوس عزاؤنا في أننا سنراه في السماء فالله رحيم وهو سيتفضل علينا ذات يوم أن نشاهد من أسدى إلينا أياديه. وما جدك يا ولدي إلا مع الأبرار في السموات العلى!