مجلة المقتبس/العدد 26/الفولاذ والحديد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 26/الفولاذ والحديد

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 3 - 1908


كانوا لا يرون أن يتجر الملك ويزارع فكان أدنى فرد في حواشيهم يملك مالاً أكثر منهم لأن هذا من شأن الرعية ومن ملك الرقاب يعاب عليه أن يملك المال والعروض ومن أخذ الممالك لا يجمل به أن ينلك قطعة أرض منها. هكذا كان شأن كثيرين ومنهم صلاح الدين يوسف ونور الدين محمود بن زنكي. وفي التذكرة الحمدونية أنه كان لعمر بن عبد العزيز سفينة يحمل فيها الطعام من مصر إلى المدينة فيبيعها وهو واليها فحدثه محمد بن كعب القوطي عن النبي عليه السلام أيما عامل تجر في رعيته هلكت رعيته فأمر بما في السفينة فتصدق بها وفكها وتصدق بخشبها على المساكين.


الفولاذ والحديد

إذا برد الجو كثيراً ونزلت درجة الحرارة إلى 20 تحت الصفر تقل مقاومة الفولاذ خمسة أسداس ما كانت عليه من قبل وقد ثبت في الجليد الأخير أنه تتحطم الخطوط في السكك الحديدية والتراموايات فيتكسر الحديد المصفح كما يتكسر الزجاج ولا سبيل إلى ملاقاة ذلك إلا بإحماء الخطوط كأن يصب عليها ماء حار للغاية وإلا كانت حياة الركاب في القطارات التي تمر بعد ذلك عليها في خطر مبين.

مضار التدخين

ثبت أن الدخان أو التدخين يضر بالنساء أكثر من ضرره بالرجال ولاسيما في أبان حملهن وحبلهن فكثيراً ما كان بعضهن يسقطن الحمل من رائحة الدخان حتى ن بعض النساء المستخدمات في معامل الدخان كن يسقطن حملهن قبل الأوان وإذا ولدن فلا يولدن إلا أولاداً مشوهة صورهم وكثيراً ما يموتون صغاراً جداً قبل غيرهم من الأولاد قال العالمان اللذان أثبتا ذلك وعلى هذا فيجب على الأطباء أن ينبهوا الحبالى ألا يدعن أثناء الحمل إن كن ممن يدخن.

فقر الشعراء

مات في لندرا منذ ثلاثة أشهر في مستشفى المجاذيب شاعر اسمه فرنسيس طومسون كانت حياته على أدب فيه أشبه بالشاعرين جيلبر الفرنسوي وشاترتون الإنكليزي فقد كان أبوه طبيباً في منشستر فأراد أن ينصرف لتعاطي الكتابة وقد تخلى عنه أبواه فعاش في لندن عيشة ضنكى فتعاطى أولاً بيع الثقاب (عيدان الكبريت) ثم صار بواباً ثم خادماً في أبواب دور التمثيل وقد عزم ذات ليلة أن يسمم نفسه إلا أنه ذكر قصة شاترتون الشاعر الذي سمم نفسه وما جرى له فعدل عن ذلك ولم يعلم أن السعادة كانت في انتظاره في الغد وقد تناول جائزة عن قصيدة نشرتها مجلة إنكليزية وبعثت له بها وبعد ذلك أخذ يكتب وينظم ونظم أغنية سماها غروب الشمس لم ينظم أحسن منها منذ عهد شيلي كما قال بذلك كبار النقاد إلا أن عقله قد أصيب بشيء من الخلل فقضى في مستشفى المجاذيب. وبعد هذا فلا يحسبن أحدٌ أن جميع الشعراء والكتاب ينامون في الغرب على فرش من ورد كما يقول الفرنسيس بل طالما أقض مضجعهم وخوى مربعهم.

العملة

كتب أحدهم في مجلة إنكليزية أن العملة يزداد اتحادهم في القيام على أرباب الأموال في الغرب فالنازعون إلى هذه الثورة هم ثلاثة ملايين عامل في ألمانيا ومليون في فرنسا وثمانمائة ألف في النمسا وأربعمائة ألف في روسيا وثلثمائة ألف في البلجيك ومائتان وخمسون ألفاً في إيطاليا ومائة ألف في إنكلترا ومئة ألف في سويسرا وخمسة وثلاثون ألفاً في الدانيمرك وخمسون ألفاً في السويد وأربعون ألفاً في هولاندة وثلاثون ألفاً في إسبانيا.

الكبراء وما يشربون

طلب أحد كتاب الفرنسيس إلى كبار كتاب بلاده وعلمائها وشعرائها والمتفننين فيها يسألهم ما يعولون عليه من المشروبات فكان معظمهم على أن الماء هو خير ما يتعاطاه الإنسان وقد نشرت المجلة الباريزية أجوبتهم فجاء في اجوبة العازفين عن المشروبات الروحية كلمات حري بكل شرقي يقلد الغربيين فيما يشكون منه في العادات أن يعتبر به فمن لا يتعاطون الكحول إلا في الندر: جول كلارسي فهو لا يرى أنها تفيد في فتح القرائح وتوقد شعلة الذكاء كما يدعي من يتعاطون المسكرات ومثله أرنست هربرت وكاميل فلاماريون وأميل زولا وسولي برودوم وماسنيه وجول لميتر وهنري لافدان وفيكتورين ساردو وموريس بولينا وبول بورجه وأدمون هاركور ودالو وبول وفيكتور مارغريت وبنيامين كونستان وبيرلوتي وأوجين كاريير وأميل أوليفييه. ويكاد أن يكونوا كلهم مجمعين على أن الكحول مضر حتى القليل منه والأحسن الامتناع عنه دفعة واحدة.

الصينيون واليابانيون

كتب أحدهم في بعض المجلات الإفرنجية الكبرى مقالة قابل بها بين الصينيين واليابانيين فقال أنهم ليسوا من عنصر واحد فالأول من عنصر مغولي والآخرون من عنصر ماليزي واختلافهم في الأصول كان سبب اختلافهم في الفروع أي العادات والأخلاق وكان من اليابانيين أن تحرروا من قيودهم وقبلوا المدنية العربية لأنه لم يكن لهم مدنية أما الصينيون فهم ما زالوا يتناغون بمدنيتهم ويعتمدون على قوتهم ولهم من معتقداتهم ما يتفانون معه في الخضوع للكبير والفناء فيه. ومن القواعد المتبعة في شريعة كونفشيوس أن تكون الشفقة الأخوية أساس كل عمل فالشفقة تجمع بين الأب وأولاده والشفقة تربط بين الملك ورعيته والشفقة تجمع بين الزوج وزوجته والشيخ والفتى والصاحب وصاحبه. والصينيون يرضون بالقليل ضعاف الإرادة لا شجاعة فيهم ولا يحبون أن يلقوا بأنفسهم في المخاطر والمخاوف ولئن أخذوا الآن يعملون في تقليد الأوروبيين في الجندية فإن أمر تشبههم بالأوروبيين يطول ويصعب دخول المدنية الغربية عليهم.

وعلى العكس في اليابانيين فإنهم من عنصر منوع فكرياً يفكر الياباني فيما تعرضه عليه من الأفكار ويحاول أن ينقل عنك ما يليق بالمتمدنين أن يعملوه من العادات والأخلاق والأفكار وهو يتروى في كلامه فيزنه في ميزان التعقل ولا سيما أمام الغريب عن جنسه واليابانيون ليسوا خفافاً في حركاتهم فلا ييأسون ولا تسمع لهم صوت تألم وقد يموت الياباني ولا تسمع له ركزاً بل تراه باسماً والرضا هو أساس طبيعته ولا ترى الياباني متجبراً غضوباً وإذا غضب فلا يغضب إلا عن سبب قوي جداً ولا يهرق في سيبيل غضبه دماً. ولئن أخذ بعض العملة في بلاد اليابان يعتصبون الآن إلا أن اعتصابهم ليس كاعتصاب العملة الأوربيين قد يؤدي إلى الخصام وتجريد الحسام بل أنه ينفض في يومه. الياباني فرح مسرور في حاله يعتاد كل عيش مهما كان فيه من الشظف والقلة والتعب والنصب هذا ولا يفوته أن هناك مطالب سامية وعيشة راضية أكثر مما هو فيه ولا ترى الياباني ينتحر من أجل شيء إلا إذا أصيب بما يثلم شرفه فيختار أن ينتحر على صورة لا يسمع به أحد. واعتقاد اليابانيين بتناسخ الأرواح هو سبب غلبتهم الروس في كوريا ومنشوريا والتناسخ عندهم بعد موت الإنسان يكون على ست صور فإذا كان الميت ممن عاش في تقى في الحياة الدنيا تنتقل روحه أو تتقمص في جسم أمير أو شريف أو رئيس أو وزير وإذا لم تكن سيرته حسنة في الدنيا تتقمص روحه في أجسام أيامى ويتامى وعميان وعجزة وإذا كان رجلاً شريراً تتقمص روحه في جسم حصان أو حمار أو دابة تكفيراً عن سيئاته وإذا كان بين بين في الشر والخير يتقمص كالطيور الداجنة أو سمكاً أو غيره من حيوانات الماء أو هواماً وحشرات.

المطبوعات الاشتراكية

للاشتراكيين جرائد ومجلات في عامة مدن أوروبا وأميركا ودعوتهم ما برحت في انتشار متزايد سنة عن سنة حتى أن جريدة من جرائدهم اسمها الدعوة إلى العقل في مدينة جيرارد من أعمال الكنساس في أميركا قد بلغ المطبوع منها كل يوم 350 ألفاً فأصبحت أكثر الجرائد الاشتراكية انتشاراً وقد أسست سنة 1895 ولا تزال في نمو.

نفقات الجيوش

زار أحد قواد الأميركان بلاد الألمان والفرنسيس وحضر مناورات الجيوش فعاد يقول لأمته أن جيشها من أضحك جيوش العالم أكثرها نفقة وأقلها فائدة قال: خمسمائة ألف جندي فرنسوي يكلفون أمتهم في السنة خمسمائة مليون فرنك وستمائة ألف جندي ألماني يكلفون حكومتهم خمسمائة وخمسين مليون فرنك وستون ألف جندي أميركاني يكلفون الولايات المتحدة أربعمائة مليون فرنك وإذا أضيف إلى ذلك ما تنفقه أميركا في الشؤون العسكرية الأخرى يبلغ سبعمائة مليون مسانهة. تنفق كل هذا من أجل جيش يبلغ معدل من يفرون منه في السنة ستة آلاف جندي.

نساء أميركا

يؤخذ من إحصاء سنة 1900 أن النساء في الولايات المتحدة أقل من الرجال فقد كن 33 مليون امرأة مقابل 34 مليوناً وثلثمائة ألف رجل وأن نحو خمسة ملايين ونصف من النساء يضطررن إلى الكدح لمعاشهن وأن عدد العاملين من الرجال 23 مليوناً وبلغ النساء هناك نحو نصف الرجال في معاطاة الأشغال العقلية فهن 430 ألفاً لقاء 820 ألفاً من الرجال وعدد المعلمات منهن ثلاثة أضعاف عدد المعلمين فهناك 27 ألف معلم و115 ألف معلمة والقاعدة العامة في المدارس الأميركية تربية البنين مع النبات.

محصول النحاس

كان النحاس غالي الثمن في السنة الماضية وقد زاد محصوله ثلاثة أضعاف ما كان عليه منذ عشرين سنة فصار سنة 1906، 700 ألف طن بعد أن كان سنة 1886، 217 ألف طن كما أن استعماله في الأمور الصناعية كثر على تلك النسبة على أن بعض مناجمه كادت تنضب مادتها منه فكانت قديماً كورنوايل في إنكلترا تصدر أكبر كمية من النحاس أما الآن فالولايات المتحدة هي أكبر مصدرة له وكذلك المكسيك وبيرو أما مناجم إسبانيا فإنها إلى الضعف.

صنع الألبان

تبين أن الطريقة المستعملة في بلادنا لصنع الجبن والسمن من الألبان المختلفة قد تخلصت منها بلاد الغرب كل الخلاص بفضل الأدوات الجديدة فلم يبق أحد هناك يعاني الألبان كما يعانيها فلاحنا وراعينا بيده ويد ذويه.

الجرائد الأميركية

ذكروا أن عدد الصحف الأسبوعية في الولايات المتحدة بلغت الخمس والعشرين سنة الأخيرة مبلغاً من الارتقاء لم يسمع به فمنها ما يباع بقرش واحد ولا يكون أقل من مئة صفحة كبيرة حوت ضروب الإعلانات كل غريب وكل ما يهم القارئ معرفته من أخبار البورصة والفضائح والهذر والإفادات العالمية والحوادث المنوعة محلية كانت أو خارجية والقصص والصور الهزلية وألعاب الأولاد وصفحات تقطع لتكون كتباً فهي غذاء رواح الملايين من الناس وكثيراً ما تملأ بالسخيف ولكن الأمة ترغب فيها وتجعلها سمرها ولذتها.

الإنسان والمحيط

رأت إحدى المجلات الروسية أن حالة الإنسان آخذة بالتعدل في كل مكان بفضل أساليب الارتقاء التي تكاد تكون متحدة في الأمم حتى أن أهل البلد الواحد يقلُّ بينهم الشبه إذا تعاطوا صناعات مختلفة بخلاف ما يكثر الشبه بين أهل البلاد المتنائية ممن يتعاطون أعمالاً متشابهة فلذلك تجد رجال الطب والمحاماة في إنكلترا وألمانيا وفرنسا يشبه بعضهم بعضاً في منازعهم وعيشهم أكثر مما يشبه الإنكليزي الإنكليزي والألماني الألماني والفرنسوي الفرنسوي وهي ترجو أن يجيء على العالم زمن أحسن من هذا تنتشر فيه الحضارة في جميع أنحاء الأرض فترتفع من بين أهلها العداوة والبغضاء والإنسان ابن محيطه لا ابن طبيعته.

خزانة أديسون

أهم ما أعلنه أديسون مخترع الفونوغراف أنه وفق إلى اختراع خزان للكهربائية سيوضع عن قريب موضع العمل فيغير نظام المواصلات الكهربائية لأنه يرخص سعرها بنقلها من ممكلة إلى اخرى ويقول أهل العلم أن عجلات الأتوموبيل ستقل أثمانها فيتيسر لأهل الطبقة الوسطى أو الدنيا أن يقتنوها ويركبوها وهكذا أقسم العلم أن يسوي بين طبقات الناس في الاستمتاع بملاذ هذا الوجود ومنافعه.

مطبوعاتنا في أميركا

يسرنا أن نبشر القراء أن علماء المشرقيات من الأميركان أخذوا في العد الأخير يعنون بطبع مؤلفات العرب فقد طبع ريشاردس كوتهيل أحد أساتذة كلية كولومبيا في نيويورك كتاب تاريخ قضاة مصر تأليف أبي عمر محمد بن يوسف ابن يعقوب الكندي مع شروح لأبي الحسن أحمد بن عبد الرحمن بن برد عن نسخة وجدت في المتحف البريطاني وهو في 150 صفحة وثمنه ثمانية فرنكات.

الفحم الحجري

نشرت إحصائية المجلس التجاري في أنفرس إحصاء بحاصلات الفحم الحجري في العالم من سنة 1850 إلى سنة 1906 فدلت على أن محصوله كان في منتصف القرن الماضي 89881357 طناً وما برح ينمو حتى بلغ سنة 1906، 1893249557 طناً أي أنه زاد عشرة أضعاف عما كان يستخرج من الولايات المتحدة 375397000 طن وتجيء بعدها بريطانيا العظمى فتستخرج 25105000 ثم ألمانيا تخرج 136480000 ثم فرنسا فالبلجيك.

مقاومة السكيرين

سويسرا من أكثر البلاد الأوروبية مقاومة للمسكرات ومما رآه الأستاذ فوريل أحد أطباء المجاذيب فيها لمقاومة السكيرين وتحقيرهم أن تجعل إدارة السكك الحديدية مساء كل أحد مركبة أو مركبتين تكتب عليهما (للركاب السكارى) فكل من شوهد أنه سكران أو شرب مسكراً يدعى إلى الجلوس في تينك المركبتين إن أراد السفر وهي طريقة تندى لها وجوه من لهم إحساس من الركاب الذي يتعاطون المسكرات فيقلعون عنها.

سكة حديد بغداد

كثر الباحثون في هذه السكة ومستقبلها وجلهم يحسنون الظن بها ويعلقون الآمال الواسعة على ما سيتم من العمران في البلاد التي تجتازها. وهذا الخط هو أعظم خط حديد أنشيء في البلاد العثمانية بل أهم خط قام لأنه يربط أقصى المملكة بأقصاها ويمر في أصقاع كان لها مجد قديم وحضارة زاخرة وطوله ألفان وثمانمائة كيلومتر ويكلف خمسمائة مليون فرنك أو أمكثر ويقتضي له العمال والأعمال والأدوات والآلات الجسور والقاطرات وغيرها ما لا يكاد يقع عليه الحصر ويتيسر أن تقطع المسافة بين الأستانة وبغداد في خمسة أيام وهي الآن لا تكاد تقطع في خمسين يوماً لراكب المطايا.

يقولون أن بلاد بابل وآشور ستحيا بعد مواتها بهذا الخط الحديدي وأن آسيا الصغرى سيرجع لها ما فقدته من أسباب العمران وسيكون من العراق مصر جديدة تزرع القطن والحنطة على شطوط الرافدين ودجلة والفرات فتخسر بذلك مصر بعض وارداتها ولاسيما أن السكة البغدادية ستتولى نقل البريد إلى الهند وتختصر الطريق من البحر فتفقد السويس بعض مكانتها لأن البريد الهندي ينقل عن طريق الأستانة فبغداد فالكويت فبمباي في عشرة أيام وهو الآن لا ينقل من طريق السويس بأقل من أربعة عشر يوماً.

وتقول مجلة العالمين أن مخبآت مدينة هارون الرشيد وما يروى عنها من الأقاصيص الشعرية ويجري في مخيلات العامة من ذكرى عظمتها الغريبة على عهد الخلفاء ومساجدها العربية ذات القباب والتيجان وأسواقها وفنادقها ـ كل ذلك أثر في عقول كبار ملتزمي مد هذا الخط الحديدي فحلموا بتمديده إلى بغداد وما أكثر المطامع التي أخرجت هذا المشروع من القوة إلى الفعل. وقد نشأت فكرة الملاحة في نهر الفرات وربط الهند ببغداد منذ ستين سنة فنالت شركة إنكليزية سنة 1851 امتيازاً بإنشاء خط حديدي من السويدية أي سيلوسيا القديمة في خليج الإسكندرونة إلى الكويت على الخليج الفارسي وإذ لم تحصل على رهن للضمانات الكيلومترية سقط امتيازها. وفي سنة 1872 عاد مشروع سكة السويدية والكويت إلى الحياة وقدرت نفقاته بعشرة ملايين جنيه وطوله بألف وأربعمائة كيلومتر ولكن قلة ما في طريقة من البلاد العامرة التي يرجى الانتفاع منها صرفت القلوب عنه.

وتحدث الناس في لندن بعد فتح ترعة السويس أن تربط الإسماعيلية بالكويت بخط حديدي يمر بصحارى بلاد العرب وكان هذا الفكر من الأحلام ولا يبعد أن يتحقق أمره بعد زمن. وحاولت روسيا أن تمد سكة من طرابلس الشام إلى الكويت مع إنشاء ناشطة (فرع) منها إلى كربلا بحيث يجتاز بادية الشام وطوله ثمانمائة كيلومتر فسقطت أماني الشركة التي تألفت بطبيعة الحال ثم تعاقب نيل الامتيازات في آسيا الوسطى فأنشأت شكرة إنكليزية سنة 1856 سكة حديد أزمير ـ دينار وقامت بعدها شركة إنكليزي أخرى فنشأت سكة حديد أزمير ـ قصبة وهي ساردس عاصمة كيريزوس ثم امتدت إلى مدينة الأشهر وتعاقبت الشركات الفرنسوية والبلجيكية والعثمانية في الأناضول والروم إيلي.

ولقد شبه بعضهم البلاد التي مر بها خط إسكي شهر ـ قونية بمضايق سويسرا إذ ضل فيها الصليبيون بزعامة غودفري دي بوليون وقاسوا الأمرين من الجوع والعطش ولذلك تحامى الدخول فيها كونراد الثالث أحد ملوك الصليبيين من الألمان وفريدريك الأول الألماني الملقب ببربروس وقيل أنهما خفا إلى الخروج منها.

فمشروع السكة البغدادية اليوم ألماني وفي ألمانيا نشأ وكبر حتى أخرج من القوة إلى الفعل ولا سيما بعد أن كثرت صنائع الألمان وصادراتهم وهم يلوبون على مصرف يصرفونها فيه فنظروا ذات اليمين وذات الشمال فلم يروا أحسن من هذه البلاد وخصوصاً وقد نالت الشركة احتكار مخازنها ومستودعاتها والانتفاع بالشلالات والمعامل الكهربائية والمناتجم المختلفة على طول هذه السكة وما يتفرع منها على مسيرة عشرين كيلومترً من كل جهة عن يمين الطريق وشماله.

فاستفاد التجار الألمان وسيستفيدون من هذا الخط كثيراً لأن الأقطار التي سيجتازها ما زالت بكراًُ لم تمس فآسيا الصغرى لم تستثمر إلا من جهتها الغربية على يد شركات إنكليزية وفرنسوية. أما أرمينية وبين النهرين والعرق فإنها لم يدخلها إلى الآن غير علماء الآثار فقط وما أشبه آسيا الصغرى ببلاد إسبانيا فهي محاطة بجبال شاهقة وحيث يقل المطر فهناك القفر. والسكان بادية رحالة يقتاتون بمواشيهم وينتجعون لها الكلأ فهذه القطعة من تلك البلاد هي أشبه بمملكة قشتالة لقلة خصبها وأمراعها ولكنك ترى فيما يحيط بتلك الشبه جزيرة في سفوح تلك الجبال وما يتخللها حيث تنساب المياه على أعلى قمم الأطواد وتتحلل من ثلوجها الحدائق الغلب والحقول العامرة بالذرة والحنطة والشعير والكرمة والرمان والزيتون والبرتقال والنخيل فهذه البلاد أشبه ببلاد الأندلس.

ولقد عرف الرومان واليونان أن يحسنوا الانتفاع من تلك الأصقاع الغنية قديماً وسيكون من نصيب الخط البغدادي اليوم أن يعيد إليها بهاؤها فهو سيجتاز مملكة كريزوس أي قونية وقيصرية وأرغلي وما دامت البلاد قريبة من الساحل فبشرها بالرخاء وبشر حاصلاتها بالتصريف وكلما بعدت عنه فهناك الشقاء المبين. ومنذ سنين كنا نسمع بأن بعض العمال يحرقون الحنطة التي يأخذونها عشوراً لأنهم لم يجدوا سبيلاً على نقلها إلى البلاد التي تحتاج إليها وكذلك قل عن الفلاحين وزهدهم فيما تخرج أرضهم من الغلات والثمار بعد أن يفيض عنهم أضعاف أضعاف ما يلزمهم.

هذا ما كان من آسيا الصغرى أما بلاد أرمينية وآشور وبابل فستحيا حياة طيبة بعد أن حربت منذ خمسة آلاف سنة وزيادة وبعد أن دام عمرانها الغريب ثلاثة آلاف سنة فعدت من أعظم الممالك تمدناً وحضارة. هذا وشمس تلك البلاد شمسها ومياهها مياهها وارضها أرضها. والبلاد من حلب إلى الموصل ينبت فيها القطن وفي الموصل كان يعمل الشاش الرفيع وإليها نسب اسمه الغربيون كما نسبوا اسم الدمقس عندهم إلى دمشق.

وقال بعض الباحثين في هذا الخط أن العراق كان على عهد العباسيين يغل عشرة ملايين طن من الحنطة ويطعم ستة ملايين من السكان وليس فيه اليوم أكثر من نصف مليون نسمة يعيشون في مسكنة وأن السكة البغدادية ستضمن الأمن والتجارة في تلك الربوع فتعود غليها حياتها السالفة وتكون بقطنها ونخيلها وحبوبها مصراً ثانية وتستثمر مناجم الحمر الموجودة على الضفة الشمالية من دجلة في سفوح سلاسل جبال فارس ومنابع زيت البترول التي يعبث بها الآهلون فيوقدون فيها النار للتسلية إذا مر بهم سائح عظيم ويقتضي ذلك عشرين سنة من الزمن فيأتي الماليون بأموالهم ليستثمروها في تلك البلاد كما استثمروها في عبر القافقاس وتركستان وإسبانيا ومصر وتأتي البضائع الألمانية لتصرف على أهل تلك البلاد وينهال علماء الألمان للبحث عن آثارها وعظمتها ويخلدون لأمتهم من المفاخر مثل ما خلد ماريت وشامبليون الفرنسويان في مصر من الآثاؤ والمحامد. إن الألمان في مدهم الخط الحديدي في بلاد يكاد يكون أكثرها خراباً الآن قد تعلموا بما استفادوه من دروس ملوك السكك الحديدية في الولايات المتحدة أمثال فندربلت وهاريمان ممن أثبتا لأوروبا بأن السكة الحديدية ولو مدت في قفر تكفي لأن تحيله روضاً ممرعاً آهلاً بالسكان وآية من آيات العمران.

قدر العمر

تحت هذا العنوان نشرت مجلة الحياة البيتية الفرنسوية مقالة لطيفة قالت فيها ما تعريبه: قال طبيب إنكليزي اسمه أوسلر منذ عهد ليس ببعيد في خطاب فاه به أمام طلاب إحدى المدارس الجامعة في أميركا رأياً أحدث بعض الهياج في الأفكار وهو أن الرجل إذا بلغ سن الأربعين يقل الانتفاع به على الجملة وإنا لو تأملنا مجموع الاكتشافات والأعمال البشرية وأسقطنا منها ما تم للناس بعد بلوغ هذه السن لتجلى لنا أن عمل الناس بعد الأربعين لا يعد شيئاً مذكوراً. فالعظائم قام بها العظام قبل أن يتجاوزوا الأربعين من أعمارهم والعمر الحقيقي الذي ينتج فيه المرء ويبني به المجد هو ولا جرم بين الخامسة والعشرين إلى الأربعين وإن المرء إذا جاوز الستين ينقطع عمله ولا يستفاد منه بتة. قال وقد نرى من بلغوا هذه السن من الأمم الراقية يعهد إليهم بإدارة الحياة السياسية والتجارية أو الصناعية ولكنهم قلما أغنوا الغناء المطلوب وأثمروا ثمرة جنية.

على أن بعض المناصب قد يعهد بها إلى أناس من أبناء الستين ولو وسدت إلى أقل منهم سناً لحسن أثرها أكثر ولكن أناساً كثيرين أتوا بعد الستين من جلائل الأعمال ما هو من مفاخر الدهر أمثال غلادستون وبسمرك ومولتكه. وبديهي أن ذلك لا يثبت أن أعمال الشيوخ أرقى من الرجال الذين استكملوا قوتهم وفي ذلك ما يدل على أن الرجل قد ينيف على الستين وهو حافظ لقواه العقلية في معاناة المطالب العالية.

لا جرم أن دعوى الأستاذ أوسلر منقوضة برجال جاؤوا والنفع تم على أيديهم بعد أن شابوا ووهن العظم منهم. ومن هذه الفئة كانت ملك الفلاسفة فإنه لما نشر كتابه (فقد العقل المحض) كان ابن سبع وخمسين سنة ولو صحت قضية أوسلر لكان كانت معدوداً في الغابرين منذ سبع عشرة سنة. ومن المحقق أن كانت قضى حياته كلها في التأمل بفلسفته وليس ثمت دليل على أنه قضى عمرها بعد سن الأربعين منقطعاً عن كل عمل ولا يتأتى أن ندعي أن كانت لو مات في الأربعين لما خسر العالم بموته شيئاً من كتاباته.

وإذا بحثنا في حياة لابلاس الفلكي فإنا نجده قد قال رأيه في نظام العالم حوالي سن الخمسين ولم ينجره إلا عندما أناف على السبعين. وكذلك الحال في حياة ليل العالم بطبقات الأرض مجدد هذا العلم فإنا نراه قد أتم معظم أعماله بعد سن الأربعين ولم يتخلص من قيود تقليد ما تعلم غلا بعد أن جاوزت سنة الربعين ودخل في دور التجديد.

وهكذا قل في داروين فإنه لما بلغ التاسعة والأربعين لم يكن قد أتى غير البحث وجمع الحوادث ففي سن الخمسين طتب كتابه (صل الأنواع) وكلنا نعلم أنه نشر أهم أعماله من سن الخمسين إلى السبعين وكان عمره اثنتين وستين سنة عندما كتب كتابه (أصل الإنسان) ويصدق على هربرت سبنسر ما يصدق على داروين في قوة العقل في الشيخ وقتها في الكهل والشاب أو أكثر فقد بلبغ الحكيم الأربعين من عمره ولم يعمل غير استعداد لما يريد القيام به وهو لا يهتدي إلى السبيل المؤدية إليه. أتت عليه أربعون سنة وهو لم يرسم (فلسفته التأليفية) إلا رسماً خفيفاً وفي الثانية والأربعين نشر المبادئ الأولية وفي الثانية والخمسين نشر مبادئ علم النفس وفي السادسة والخمسين نشر كتابه (علم الاجتماع) وفي الحادية والستين نشر كتاب (العدل) ولما أتم أعماله كانت قد بلغت سنه الثمانين. وذا تخطينا رجال العلم والحكمة إلى النظر في تراجم الساسة وأرباب الرجل نجد كثيراً أمثال بسمارك وتيرس بل وفرنطكلين الذي خدم بلاده في السبعين من عمره وكان سبباً في تأسيس الوحدة الأميركية كما نجد خريستوف كولمب قد اكتشف أميركا في السادسة والخمسين من عمره وطاف ماجلان حول الأرض وهو في التاسعة والربعين ولعل صاحب تلك الدعوى يقول أنه لو كان غير هؤلاء واصغر منهم سناً مكانهم لعمل عملهم ولكن من الثابت أن من كانوا قبلهم وعلى عهدهم أصغر منهم عمراً ولم يأتوا ما أتوا.

ولا يفوتنا هنا ذكر العالم الألماني هومبولد فإنه كتب أهم كبته (الكوسموس) وهو في السادسة والسبعين ولو صح قول الأستاذ المشار إليه لكان هومبولد منذ 36 سنة قليل الفائدة على الجملة. وقليل في أسفار العلماء يحوي ما حواه كتاب هومبولد من بعد النظر وسعة المدارك. وكذلك كان شأن كيتي فإنه كان ينيف على الستين عندما رسم نظريته في الألوان وفي الخامسة والستين انصرف إلى أعمال علمية ولم يكن يعانيها من قبل وبرَّز فيها وكان في الثمانين عندما أنجز كتابه (فوست) وأحسن فصوله ما كتبه في آخر أمره.

ومن جملة علماء الموسيقى وانيير الألماني فإنه لم يبلغ قمم مجده إلا في الخمسين ومعظم كتبه النافعة نشرها بعد الستين وكذلك الحال في هايدن الموسيقي الألماني وهاندل وفيكتور هوغو كان في الخمسين غيره قبلها وكذلك باستور.

وبهذا رأيت أن رأي الأستاذ أوسلبر لا يخلو من غرابة كان فيه بعض الحق. فالأمر موقوف على نوع العمل الذي يُعمل والصفات التي يحرزها العامل. ومن الثابت أن كثيرين يعجلون كثيراً في الانقطاع عن تنمية قوتهم العقلية ويدخلون في مضمار فيعلمون في الحال ما يلزم له دون أن يتمكنوا من زيادة شيء يذكر بعد

ذلك فهؤلاء هم من الفئة التي يعجل لها قلة الفائدة.

ولكن الرجال الذين يثابرون على التعلم إلى الخمسين أو الستين ويظلون يبحثون ويوجدون الحقائق أو يخزنون الأفكار والقضايا وينسقون وضعها ـ الرجال الذين لا ينفكون عن تنمية عقولهم على الدهر بما يعانونه من الأعمال التي تستدعي اهتمام الذهن وانصراف القلب هؤلاء يدوم أمد الانتفاع بهم ولو بلغوا أرذل العلم وكثيراً ما يتأخرون في الإبداع والإيجاد إلى الربعين والخمسين ويظلون يبدعون إلى خاتمة أعمارهم أي السبعين والثمانين. وما رأيناه من أعمال بسمرك وغلادستون ومولتكه في تغيير حال السياسة في أيامهم أكبر دليل على أن المعمرين ليسوا بنتائج عقولهم دون من لم يعمروا مثلهم في النشاط والفضل وأن الشيوخ لا يلزمون بيوتهم بدون استثناء ويجلسون إلى مواقد النار للدفء وقضاء الوقت في التسلية.