مجلة المقتبس/العدد 22/التعليم في ألمانيا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 22/التعليم في ألمانيا

مجلة المقتبس - العدد 22
التعليم في ألمانيا
ملاحظات: بتاريخ: 15 - 11 - 1907



أعظم حسنة تسجل لألمانيا فصلها التعليم الديني عن التعليم الذنيوي بدون أن تمس أحدهما بسوء وتعطي لأحدهما ما سلبته من الثاني ولذلك استقام أمرها وأصبحت مدرسة العالم فلم تغل في محاربة الدين كفرنسا ولم تبالغ في التعصب له كاسبانيا بل كانت بين بين واليك ما قاله صاحب كتاب ألمانيا الحديثة ونشوئها في كيفية فصلها للتعليمين على اسلوب حكيم قال ماترجمته:

جاهدت ألمانيا في سبيل نشؤها المادي ولم تترك الجهاد في طريق ارتقائها العلمي وإحداث تعليم وطني لبلادها تتعاوره الايدي بالإصلاح كل حين.

ومن المحقق أن الحكومة الألمانية أخذت على نفسها أن تنظم قواها الدفاعية والهجومية وإن تنمي شعبها وثروتها وتسهر على امن رعاياها ورفاهيتهم المادية ولكنها لم تقف عند هذا الحد في القرن التاسع عشر بل ما كاد يطلع فجره حتى قام الفيلسوفإن فيختي وهيجل يحققأن الأماني بما أنشآه من الاوضاع العلمية ويدلأن الألمان على الطرق التي تبلغ بهم أقصى درجات الارتقاء.

ومابرح هذا الاعتقاد منذ نهض هذان العظيمان ينتشر ويقوى حتى ادى إلى نتيجتين عظيمتين إحداهما تولي الحكومة لادارة التعليم بدل الكنيسة وأخذها على عاتقيه تنسقه ومراقبته وتوفرها على نشره على اختلاف درجاته توفراً لم يسبق له نظير وثانيتهما أن الأمة انتظمت حالها على التدريج فايقنت بما تسأل عنه مع جميع أفرادها ورأت أن من واجبها أن تحتفظ برأس مالها الإنساني فتحمي المساكين والضعفاء خاصة وتدفع عنهم عوادي الهلاك واسواء الفساد الأدبي وتمد إليهم يد المعونة في الازمات وتقيهم عوارض العجز والزمانة.

وهكذا كان نجاح التعليم العام وتنظيم التضامن الاجتماعي أول مابذلت الحكومة الألمانية عنايتها به.

أخذت الحكومة أولا بالتتابع تصبغ التعليم بصبغة عامية وتسلب من الكنيسة هذا الحق بعد أن كان في القرون الوسطى لها وحدها القول الفصل في شؤون التعليم. ففي أواخر القرون الوسطى سقطت الكليات تحت مراقبة الحكومة وبعد دخول عهد الإصلاح (قيام لوثيروس المصلح في النصرا نية) سقطت في يدها المدارس الثانوية أيضاً. وفي القرن الثامن عشر والتاسع عشر جاء دور المدارس الابتدائية فآل أمرها إلى الحكومة تصرفها كما تشاء وتهوى.

قبضت بيدها على أزمة التعليم وأخذت في إدخال التغيير عليه. فقد كأنت الكليات والمدارس اللاتينية فيما سبق ترى من أهم واجباتها أن تخرج رهباناً ولاهوتيين فتعنى المدارس الابتدائية بنشر مبادئ الاعتقاد الديني بين الأمة لم تلبث أن نزعت عنها الصفة الدينية فأصبحت مجامع علمية لا يتصدر فيها اللاهوتيون اليوم كما كانوا امس ولا يتصدر فيها الفلاسفة واللغويون كما كانوا في أوائل القرن التاسع عشر بل الصدارة فيها كل الصدارة لرجال العلم والأطباء.

انتظمت المدرسة الألمانية على صورتها الحاضرة في أوائل القرن التاسع عشر وخلعت عنها اللباس الديني بل صبغة الفكر الأدبي المولد من الحضارة اليونانية التي ازدهرت دراستها على ذاك العهد في ألمانيا وانشأت تعلم تعليماً من مجملات العلوم كعلم اللغات والتاريخ والرياضيات والعلوم الطبيعية. ثم نزعت يدها من يد الكنيسة بتحريص بستالوزي وأخذت تلقي في نفوس التلاميذ الاعتماد على النفس وحب العمل وتبث فيهم بحسب مطالب اللاهوت الأدبي الذي قال به (كانت) الفيلسوف القول بحب الذات او بالشخصية الحرة المستقلة.

ولئن كان التعليم العام نحو منتصف القرن الثامن عشر قد بقي على صبغته الدينية ولاسيما في البلاد التي تنتشر فيها الكثلكة فإن المدرسة الابتدائية في القرن التاسع عشر أصبحت على التدريج مدرسة وطنية تشرب فيها قلوب الشبأن محبة للوطن كانها دين ثان. كل ذلك بفضل العناية التي صرفت لتعليم اللغة الألمانية وتاريخ ألمانيا.

ولا يزال الكنيسة إلى اليوم تأثير مهم في ألمانيا ولاسيما في دائرة التعليم الابتدائي.

وقد ظلت المدرسة على الجملة تقر بالإيمان وتعترف به ومازالت تعلم تعليماً دينياً اعتقادياً.

ومن العجب أن ترى ثمت مدارس كاثوليكية اوبرتستانتية او إصلاحية تعلم تحت حماية الحكومة حقائق دينية بادية التناقض وهي خاضعة في كثير من الأحوال للتفتيش الكنائسي. وقد ثبت أن الاصوات ما برحت تعلو بالشكوى من هذه الحالة فيشتكي المخالفون من الزام أولادهم بتعليم مناف لإيمانهم او لمعتقدهم العلمي.

حتى انك لترى في المعلمين كثير يقيمون الحجة على الاكراه في تعليم الدين بحسب قانون لا ينطبق على معتقداتهم الدينية الخاصة. وهناك حزب عظيم من القوم يطالب على الدوام بالاستكثار من المعاهد التي تقبل التلاميذ من كل المذاهب.

والظاهر أن ألمانيا لاتنوي الان نزع النصرانية من المدرسة حتى أن أرباب الأفكار الحرة وهم بعيدون عن كل معتقد لا يرون بان نزع الصبغة الدينية من التعليم في ألمانيا هو من الممكن او مما يرغب فيه وهم معتقدون بانه متى أصبحت المدرسة (كافرة) لا دين لها يحول قسم وافر من سكان البلاد ولاسيما من الكاثوليك وجوههم عن المدارس العامة وينظمون لأبنائهم مدارس خاصة يتلقى فيها الأبطال التعليم الديني الذي يراه ذووهم ضرورياً لهم. على أن جمهور كبير من الألمان لا يرون (المدرسة الحرة) على الطريقة الفرنسوية من الانموذجات التي تحتذي والأمثلة التي ينسج عنها.

يرى المسيو بولسان وهو من مشاهير المؤرخين في علم التربية ومن أرباب التأثير أن فرنسا الكاثوليكية إن رأت اضطرارها إلى تأسيس مدرسة عامية حرة لتكون متشبعة بالروح الوطنية فإن هذه الضرورة لم توجد لحسن الطالع عند الألمان لأنهم اعتادوا مجاراة للنشوء الديني أن يوفقوا بين العلم والدين والمعرفة والإيمان ولهم من التوراة اداة لا مثيل لها من التربية الأدبية لا تغني عنها أجمل الشذرات المنتخبة من كتب الآداب العامة. إذا فلا مانع الأساتذة من احتفاظهم بالتعليم الديني والتوارة وإن يعدوا عقول النابتة الألمانية لتعليمها مبادئ النصرانية التاريخية مشذبة من صبغتها الدينية مقتصراً على مافيها من لباب الآداب. اما أنا فلا اعجب مما يذهب إليه العالم المشار إليه من هذا التوفيق إذا كان هوالمقبول بين أهل الطبقة الوسطى في البلاد أكثر من المذهب المتطرف الذي ينبذ من المدرسة كل تعليم ديني.

فالتعليم العام على هذا الوجه بتحرر من قيوده كما أنه يكون أكثر انصباغاً بالصبغة الديمقراطية.

ولقد كان التعليم في ألمانيا بادئ بدء مقصوراً على طائفة خاصة من الناس ثم صار تعليماً اكليريكياً في القرون الوسطى ثم عالياً وارستقراطياً على عهد النهضة (سنة 1453) إلى القرن الثامن عشر ثم أصبح مدنياً بامتتزاجه بفلفسة إنكار الوحي والانصياع بصبغة الحضارة اليونانية فساغ بذلك لأهل الطبقة المتحضرة. ومن الألمان أن يرأسوا الحركة العقلية. وفي القرن التاسع عشر اقتربت ألمانيا شيئاً مما كانت ترمي إليه من التهذيب الوطني الذي نادى به فيختي فيخطبه للامة الألمانية.

زالت الحواجز التي كانت تحول دون اصناف التعليم ولم تبق اللغة اللاتينة لغة إجبارية لكل من أراد التهذيب العالي. وانتزع من المدرسة المدنية على التدريج ما كان لها سابقاً من صبغة مدرسة لاتينية وكان من النجاح الذي تم للمدارس الابتدائية او قرب بينها وبين المدارس الثانوية وإن قلت على التوالي مسافة الخلاف بين الأساتذة الذين تخرجوا في المدارس الدينية وبين الأساتذة الذين تلقوا التعليم العلمي لاسيما وأن التعليم على اختلاف درجاته أصبح يلبس ثوب العمل والحقائق. وكان تعليم الطبقات العالية في المجتمع الألماني في أواخر القرن الثامن عشر عبارة عن تحسين الذوق والأدب فخلف هذا التعليم في أوائل القرن التاسع عشر التعليم الأدبي. وقد رأينا النشوء نحو الفلسفة الحسية الذي تم بين الطبقات المستنيرة وكان من أمر هذا النشوء بالطبع رد فعل في معاهد التعليم فغدا التعليم على اختلاف درجاته أكثر تشبعاً بالروح الأدبية أو الفلسفية وأقل تمسكاً بالنظريات. وقامت بجانب المدرسة الأدبية مدارس احدث من مدارس الفلسفة الحقيقية والحسية وزادت العناية بتعليم العلوم واللغات الحية فكانت وافية بحاجات أهل المدن الصناعية أو التجارية ونشأت بالقرب من الكليات في كل مكان مجامع علمية ما زالت على ارتقاء ونماء. وهكذا أخذ يتداعى الحاجزالقديم الذي كان قائماً بين المتعلم في القديم العلوم الأدبية واللغوية والأمي الذي لم يكن وأحداً للكل بل يحق لكل فرد أن يأخذ منه بقدر ما تسمح له قواه الطبيعية والعقلية محل التهذيب الأدبي واللغوي الخاص بعلية القوم وأهل الطبقة المستنيرة منهم.

وعلى الجملة فقد عملت ألمانيا في خلال القرن الماضي بهمة لم تعرف الوناء في سبيل نشر العلم بين جميع أبنائها والاشك أن حماستها في ميدان المدارس اختلفت صعوداً وهبوطاً في تلك الحقبة من الزمن. فكانت شديدة للغاية في خلال الثلث الأول من القرن الذي وضعت فيه أسس تنظيم التعليم العام من المدرسة الابتدائية إلى الكليات ثم بردت في خلال الثلث الثاني من نالقرن خاصة فكانت حكومات ألمانيا على عهد الثورة بين سنتي 1830و 1870 يحذرون بل يعادين التعليم العام ولكنه عادت إليه حياته غداة الغلبة التي كتبت لبريوسيا وتوطيد كلمة الأمبراطورية.

وقد جرى بين الناس جرى المثل بأن المعلم الألماني كان هو الظافر الحقيقي في معركتي سادوفا وسيدان وأن الغلبة ألمانيا اتتها في الحقيقة من سر تقدمها في مضمار العلم والتهذيب. لا جرم أنه بدرت اليوم بوادر الشك في فضيلة تأثير حالة تشبه الحالة التي دفعت أرباب الأفكار عندنا (الفرنسيون) ان يطالبوا باسقاط العلم وتفليسه فأثبتوا والسويداء متغلبة على عقولهم بأن العلم الذي يرجى أن يكون منه كشف اسرار ما في الكون وأن يأخذ بايدي الأخذين من معينة فيقودهم إلى وجهة عامة ويسوق أرادتهم سوقاً لم يؤد قط إلى حقائق قطعية مطلقة. بلى كان من منافعه أن حل بعض المعضلات حلاً قليلاً موقتاً لا يزال على الدهر موضع النظر والتنقيح. وكثير في الناس من شعروا دفعة واحدة بان قد انتهكت قوأهم بما يقضى عليهم تعلمه من المعارف الكثيرة التي تؤهلهم إلى الأحاطة بعض الشيء في دائرة من دوائر العلم ولذلك يئسوا او كادوا من هذه الحالة التي توشك أن تكون مستديمة لهذا النشوء الذي لا حد له وتستلزمه دواعي العلم. وربما ظهر اليوم ما كان يخالج افئدة الطبقة الخاصة وبعض أهل الطبقة الوسطى من سوء الظن لتستقبل الذي استحكم منها حوالي منتصف القرن. وتتساءل الحكومة فيما إذا كانت لم تسرف في بث التعليم بين طبقات الأمة وفيما إذا لم يكن التعليم نقمة لا نعمة على قسم عظيم من الأمة وفيما إذا كان لا تتعذر أرادة شؤون امة نالت من التعليم شطره او نصفه. وقد ساعد القلق الذي سببه النجاح الاشتراكية على نشر هذه الشكوك بين أناس كانوا منذ عهد غير بعيد مقاومين كل المقاومة بل مقتنعين كل الاقتناع بانه من الفروض العينية على الحكومة أن تبذل العلم وتنشره بين جميع رعاياها.

وقد ظل الرأي المعتدل موقناً على الجملة كما قال المسيو بولسان بانه لا تحرز المكانة العليا في الجهاد العام نحو التفوق والسلطة الا الأمم التي تحسن أن تضمن لفتيانها تعليماً متيناً وتهذيباًَ راسخاً بما تنظمه من المدارس المتقنة وما تكونه من البيوت الناحجة من حيث شؤونها الاقتصادية والسالمة من شوائب المفاسد الأخلاقية.

ويرى العارفون أن تأويل الارتقاء الذي قامت به ألمانيا أتى من اسرع الألمان قبل جميع الأمم في وضع التعليم الإجباري قبل غيرهم ومن عنايتها بتخريج أساتذة عارفين ما امكن في جميع فروع التعليم.

ويستنتجون من ذلك بان جهل السواد الأعظم من الأمة لا يتأتى أن يكون البتة ضماناً لراحة مملكة وبقائها وأن الطاهر من مصلحة الحكومة الملوكية انها تطلب تفإني الحكومة في نشر التعليم وأن المستقبل مضمون للأمم التي تحسن أكثر من غيرها حل مشكلة التعليم الوطني.