مجلة المقتبس/العدد 19/خرائب مدينة بمبي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 19/خرائب مدينة بمبي

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 8 - 1907



كان اسم بمبي يطلق في القرون الخالية على مدينة أنشأها الرومأن في سفح جبل يزوف (في إيطاليا) مدينة توفرت فيها دواعي الهناء فأحبها عظماء البلاد وأصحاب الوظائف العليا فكانت مباءتهم في تلك الجنة. شادوا قصورا يختلفون إليها في الأحايين ليسروا عن أنفسهم الهموم ويجددوا ما فقدوا من قومهم في مشاغل السياسة.

ومما كان يزيد جمال تلك المدينة أنهم كانوا يزينون جدران بيوتها ومنازلها بأنواع النقوش الملونة بالأنواع السبعة المعروفة وفي آخر كل الشوارع كان نبع يجلس بجانبه المرء وأمامه الحدائق الغناء يشرف على بحر الروم وتتجلى له المناظر البديعة فيخال أنه في جنأن السماء ويتمنى لو يبقى هناك أبد الدهر. إلى هناك كان الناس يتقاطرون فرادى وأزواجا فيفرح المكروب كربته ويتناسى المنكوب نكبته ويزيد عدد المتنزهين يوم تروق السماء فيجتمعون على تباين المشرب وقد تحلى بعضهم بالملابس الأرجوانية وجلس الآخر على مقاعد الرخام يستظلون فكان البيت في تلك المدينة كقصر صغير لا يقل في فخامته عن القصور هذا الزمان أو هياكل أسلافنا الأولين.

كانت مساكن عظماء الرومأن في بمبي مثال الرونق والجمال ونموذج الأبهة والكمال على أحد تلك القصور زائر فيجتاز المدخل المزين بالعمد الكثيرة ثم يأتي الردهة العظمى التي كان صاحب المنزل يستقبل الضيوف فيها بالحفاوة والإكرام ويصغي إلى شكاوي المظلومين ويسمع مصانعات المنأفقين وفيها كان يودع ماله يضعه في صناديق الحديد ويكل أمره إلى رب المنزل. ثم يفضي المتفرج إلى غرفة أخرى قد دقت أرضها بالفسيفساء وزخرفت حيطانها بالنقوش وأنواع الصور ورصعت بالفصوص الذهبية والياقوت وسائر أنواع المعادن الثمينة وفيها يحفظون سجلات الأسر وأخبارها لأول أمرهم وكان في المنزل غرف متعددة مهيأة لتنأول الغذاء وحجر للنوم مزوقة مزخرفة وغرف أخرى تجعل فيها العاديات والأحجار الكريمة.

ثم ينتهي المتفرج إلى غرفة واسعة أعدت لمحاكمة المذنبين وهذه تفضل سائر الغرف لأنها كانت على حديقة وفيها جميع أنواع المبهجات فمن ثمر يفتن النواظر بألوانه المتفاوتة ومن ينأبيع تنبعث مياهها إلى كل صوب وتلطف الهواء ينشأ عنها أصوات تشنف الإذان ومن أوان خزفية زرعت فيها نادرة الوجود وإلى جانب هذه وضع بعض أنصاب الرجال العظماء وكأنت النقوش على حوائط القصر تمثل بعض المشاهد في أساطير اليونان كالاستيلاء على أوروبا ووقعة لامازون وكثير من هذه المناظر لا يزال محفوظاً في متحف نابولي المشهور. وصوروا على أرباب القصر صورة كلب وكتبوا في أسفلها احترز من الكلب إشارة إلى أسطورة من أساطيرهم. وكانت تلف عمد المحكمة بأكاليل صنعت من الزهور تبدل كل صباح. والموائد كان يعمل أكثرها من شجر الليمون الحامض وتزين بالنقوش العربية وكانوا يهتمون جداً بالأسرة فيصنعونها من النحاس والذهب والجواهر ويضعون فيها المساند الكثيفة ويزوقونها بشغل الإبرة الذي لم يفقهم فيه أحد.

وكان صاحب القصر إذا أدب مأدبة لأهل الوجاهة والمكانة لا يألوا جهده في تجهيز كل ما من شأنه إبهاج الزائر فيجلس الضيوف على مقاعد الردهة متكئين على المساند ثم يغسلون أيديهم في الأواني الفضية وينشفونها بالمناشف الملونة بصباغ الأرجوان ثم يتنأولون الأطعمة ويأكلون الفواكه الموضوعة في أوعية ذهبية. وكانوا يأتون في أشد أيام الحر بالثلج ويستعملونه على الأخونة لتبريد الماء وإنعاش الجسم.

وكان من يريدون كؤوس الخمر على الحضور في خلال المأدبة يقدمون لهم من أفخر خمور الدنيا وفريق آخر من الخدم يرقصون لأتراب الزائرين وأصحاب الغناء يوقعون الألحان ويغنون شيئا من أغاني هورس أو انقر يون وإذا انتهت الوليمة تنبعث المياه العطرة بغتة من قساطل لا ترى فتؤرخ كل ما تحويه الردهة وتنتعش نفوس الجماعة ثم تبرز موائد أخرى وقد فرشت عليها صنوف الطعام فتعيد قابلية الضيوف ويأكلون ما لذ لهم أكله ثم تختفي هذه الموائد وتبرز بدلا منها موائد أخرى يلعب عليها بعض أعضاء مجلس الأعيان والقنأصل والحكام بالنرد فيخسرون الممالك والمقاطعات بهذه اللعبة أو يربحون. هذا الفساد يقوم به زمرة طرأ على أمة الرومأن في ابتداء هبوطها. ويعقب هذه المشاهد مشهد الرقص يقوم به زمرة من الفتيات يدهشن الناظرين بما يأتينه من التفنن في ضروب الرقص الغريب ويغنين من الأغاني ما يسبي القلوب ويلعب بالعواطف والنفوس.

هكذا كانت أحوال بمبي في القرن الأول بعد الميلاد يؤمها المتنزهون من أطراف البلاد ويفضلونها على منازه الدنيا. طرأت عليها نازلة جائحة في الثالث والعشرين من شهر أغسطس عام تسعة وسبعين والناس فيها في الملاهي دهمتهم طوارق الحدثان وثار بركان في ظهيرة ذلك النهار وطفق يقذف الرماد والحمم من جوف الأرض ويدفعها إلى المدينة فطبق الدخان من كل ناحية. دخان كثيف أسود كالقار أحال صفاء المكان ظلمة مدلهمة فعقبه أنين وعويل وشتائم المنكوبين بعضهم بعضا في ساعة أضاع فيها الأخ أخته والعروس عروسه والزوج زوجته والأم ولدها في آن تعذر على الأنام أن ينظروا من الموجودات سوى لمعان كان يلمع من قمة البركان.

فمادت الأرض بسكانها من أركانها وبدأت المنازل تهدم وأصحابها يستجيرون ولا مجير فيرحم والبحر يتراجع عن اليابسة كانه ارتعد فرقاً من ثوران بركان يزوف وهيجانه وكشف الهواء بما أنقذف إليه من الغبار ثم تراكمت كل هذه المقذوفات وحملت إلى المدينة فطمرتها ومحتها من هذا الوجود.

أدرك أهلها الموت وهم منغمسون في لذائذ الحياة فهلك الضيوف في ردهات القصور وربات الحجال في الخدود والجند في ثكنتهم والسجناء في محابسهم ومطابقهم والأرقاء بقرب الينأبيع حيث كانوا يتنزهون وأصحاب التجارة وهم يبيعون السلع في مخازنهم وطلبة العلم وهم بين المحابر والدفاتر وحاول بعضهم الهرب فقادهم العميأن الذين تعودوا السير في حالك الظلمات فبغتهم البوار وانقلب الناس من المدن المجاورة إلى بمبي بعد تلك النازلة ببضعة أيام فلم يلفوا هنالك سوى بقعة مغطاة بالرماد وفي الأعماق طمر ألوف من البشر ورقدوا رقاداً لم يعقبه قيام. طمروا فطمرت معهم لذائذ هم وعفت من بعدهم الأثار مدينتهم وتقوضت معالمها. وقد تسنى لها في القرن الثامن عشر أشخاص تمحضوا لدراسة الأثار فطفقوا ينقبون في تلك البقعة وبعد أن تكبدوا المشاق وجدوا المدينة في الحالة التي طمرت بها فبعض المنازل لم يزل ثابتاً وبعض النقوش لا تزال ظاهرة وهياكل الموتى موجودة في الأماكن التي أدرك الموت أصحابها فيها منذ عهد سحيق فالسجين لم يزل مغلولاً بالأغلال والعروس لابسة سلاسل الذهب والأساور والشحيح قابضاً على درهمه والكهنة مختبئين في أجواف تماثيل أربابهم المجوفة ليخدعوا أتباعهم إلى ما آخر ما هنالك من المناظر المدهشة والمشاهد المذهلة. هذه أثار دولة الرومأن التي خفق نسرها في كل جو وعقدت رايتها في كل أرض فكانك في دراستك أثار بمبي تستطلع أخبار الرومان أيام كانوا في أعلى ذرى رقيهم وسيطرتهم وتتجلى لك مظاهر حضارتهم منذ ظهورهم مضافة إليها مظاهر التمدن اليوناني التي نقلها الرومان عن اليونان والمظاهر التي اقتبسها هؤلاء عن أمم المشرق التي كان في القدم الكعب الأعلى في العمران وقد انقرضت كانها لم تكن تلك سنة الكون تغير دائم تصدق على جميع العوالم ولا تزال تفعل في هذه الموجودات حتى ترجع بها إلى العدم كما كان عليه الحال في غابر الأزمان.

يافا

خليل الخوري