مجلة المقتبس/العدد 17/تأثير العقائد والمقاصد في الأخلاق
مجلة المقتبس/العدد 17/تأثير العقائد والمقاصد في الأخلاق
أن العلماء الذين وضعوا المطولة والمختصرة في تهذيب الأخلاق لم ينظروا إلى هذا البحث إلا من عرض فلا يعثر لهم على كلام يكشف القناع عن حقيقته ويجمع أطرافه وإنما ذلك لأن الحوادث والأحوال لم تتجه بهم إلى الدخول من هذا الباب ولقد رأيت العصر يستصرخ الحراص على أنتظام الأحوال ويتقاضى الكتاب القائمين على هداية الناشئة إلى سبيل النهضة أن يقبلوا عليه إقبال المغرم بالدنيا على استخراج الكنوز المدفونة وأن يبذلوا الجهد في إظهار ما خفي من أسراره ويسنفذوا الوسع في ما حجب من ذخائره.
ولما رأيت أن الكلام فيه من جلائل الخدم التي يسع المنشئ أن يقوم بها لأهل العصر هزني الغرام بهذه المحمدية أن أتوفر ليلة على أنشاء مقالة أكلف المقتبس أن يحملها إلى قرائه المنبثين في الآفاق مع ما يحمل إليهم من أزاهره العاطرة وثماره الطبية الناضجة آملا أن تلاقي عند الشبأن الأدباء والناشئة النجباء ما يلاقي الزائر الكريم من الهشاشة وإكرام الوفادة في منازل الكرام وبيوت الكبراء وذلك بأن يكرموها بالمطالعة وتدقيق النظر فيما يترتب عليها من النتائج المفيدة بل من الأدوية الناجعة في شفاء أدواء الأخلاق إذا اندفعت النفوس لأتباعها وأحبت عليها.
تعريف الخلق
الخلق بضم فسكون والخليقة والفطرة والطبع والطبيعة والغريزة وما هو في معناها صفة باطنية تشبه الصورة الظاهرة فالكرم الذي طبعت عليه نفس زيد خلق يشبه ما ترى من الحمال في محياه والشجاعة التي فطرت عليها نفس عمرو بمنزلة ما ترى من طول قامته وامتلاء أعضائه. وقد اختلف أصحاب الحكمة الخلقية في قبول الأخلاق للتغير فمن قائل أن الأخلاق لا تقبل التغيير إلا متى صار الذئب حملاً والجمل برغوثاً ودليلهم أن الخلق الباطن مثل الصورة الظاهرة وهذه لا تقبل التغيير فهو كذلك لا يقبل التغيير ومن قائل أن الأخلاق تقبل التغيير فمن طبع على الشح تصيره بعض الأحوال أكرم من حاتم ومن فطر على الجبن فقد يقوم في خياله ما يحبب إليه الموت حتى أن الصورة الظاهرة في الإنسان تتغير تبعاً لحالة النفس كما يرى في وجه الغضوب والمنفعل والمسرور والكمد والخائف والمطمئن والخالي القلب والمهموم وإلا فأين هيئة من يتوقع العزل عن منصب عال من هيئة من يبشر بالارتقاء إليه وأين صورة من يرزأ ظهيره من صورة من يلقى نصيره وهل من فر من بيته وقد تداعت جدرانه كمن دخل صرحه وقد كمل وتزويقه فإذا علمت ذلك تبينت أن الرأي إنما هو رأي القائل بقبول الأخلاق للتغيير وإلا فمن أين تعلم الدب الرقص وأي الرأي أن لم تحدث تغييراً في الطبائع تبدلاً في الغرائز.
فإن كنت تريد أن تتعرف تصاريف الطبائع وأحوالها فلا بد من أمرين الأول أن تراقب ذلك في الناس وفي نفسك. والثاني أن تنظر إلى اختلاف العقائد وتبدل المقاصد في النفس البشرية حتى ينقلب الراغب زاهداً والزاهد راغباً والشجاع جباناً والجبان شجاعاً.
تأثير العقائد
العقائد مبادئ تقرر في ذهن صاحبها أنه يسعد بطاعتها ويشقى بعصيانها وأنه يهلك إذا خالقها وينجو أن أتبعها وترسم على لوح قلبه أن حفظها يكفل له خاتمة سعيدة وآخره حميدة وأن نبذها يدفعه إلى عاقبة شؤم ونهاية عذاب فهذه العقائد باطلها وحقها سواء من حيث التأثير في نفس المعتقد فمن استحكمت العقيدة في روحه هان عليه كل عزيز وغال في سبيلها فتحلو له نفس المرائر وتطيب له المكاره حتى إذا دعته إلى فراق الحياة لبى دعاءها فهذه أقاصيص الشهداء وأحاديث الأولياء تبسط أمامك من أثار العقائد الحية في الصدور ما تريك أفإنينه أن الأهواء البشرية أماء خواضع طوائع لملك الاعتقاد المتسلط على النفس وكم لك في سير الرسل الكرام من خطيب بأن لا سطوة في الكون على النفس إلا دون سطوة العقائد. وإذا ذكرت في النار كراماً لتمثال مولوك الذي أخذوه معبوداً يلجأون إليه. والهنود الأولى يرمون بأولادهم في النهر. أو أخطرت على بالك الشيوخ والعجائز الذين يأتون من أقاصي الأرض إلى أورشليم تبركاً بزيادة قبر المسيح غير مباليين بما يقامون من السفر ومكاره الغربة مع ما يستلزمه بعد الشقة من وفرة النفقة قطعت أن لا سيد للنفس البشرية إلا سيادة دون سيادة الاعتقاد.
تأثير المقاصد
وإذا راقبت الناس وعوامهم وخواصهم رأيتهم إلا قليلاً منهم يجورون على عقولهم ويغالطون حسهم ويكذبون عيونهم في سبيل مقاصد تحيك في نفوسهم فإذا كلفت أنفسهم بشيء أو مقتته يخال من يسمع كلامهم فيه أنهم قد فارقوا ألبابهم أو أن البابهم قد فارقتهم فإن أحب أحدهم بلدة جعل الحسن مقصوراً عليها وقال سعادة الحياة لا تعرف إلا تحت جوها والتنزه لا يطيب إلا في كرومها وبساتينها وأن الظماء لا يسقى إلا بورد مائها وأن كرم الخلال لا يتعدى سكانها والتبحر في العلم لم يعهد إلا لعلمائها وأن الفصاحة لم تظهر بدائعها ولم تبد روائعها إلا على السنة خطبائها وشعرائها وإن رئاسة الصنائع قد انتهت إليها وأن الجود لم يضرب خيامه إلا في أرضها وبالجملة فإنها المخصوصة من بين بلاد الله كلها بأنها مجتمع المحاسن الطبيعية والصناعية وأنها الحرية بأن تستبد بمجد التفوق على كل بلدة في الأرض وإذا كره بلدة قال نسيمها يحمل نسم الأمراض وثمارها تورث الأسقام وحرها يذيب الأجسام وأهلها خبثاء لئام وعلماؤها أقل من صغار الطلاب علماً وخطباؤها أقل الناس عقلاً وأضعفهم تصوراً ليس لهم من مقتضيات الخطابة إلا الجراءة يبيع الخرز بسعر الدرر وينادي على النحاس كما ينادي على الذهب بل استغرب أمر من يعرض القطن ويقول هذا حريراً ثم والنحاس ذهباً.
وأعلم أن تساوي البلدتين هواء وماء وأدباً وعلماً وتجارةً وزراعةً عند جميع الناس لا يرده عن قصر المحاسن عليها دون الأخرى إذا كان له من وراء مدحها غاية كما لا يردعه عن سلب كل حسن عن البلدة الأخرى وهكذا يفعل بهم الكلف والمقت في سائر الأشياء وأنل لترى أثر هذا الأمر في تلاميذ المدارس فقد يقوى قصد أحدهم تارة فتشد رغبته ويكثر تحصيله وقد يضعف تارة فتضعف رغبته في الطلب ويقل تحصيله وقد نرى في الطلبة من رسخ في نفسه فضل العلم فذلك لا يعتريه في طلبه ملل ولا يأخذه ضجر ولا يستطيل زمأن التحصيل وإن طال ويحسب الكتب مغاوض اللؤلؤ ومعادن الذهب.
الخلاصة
قصارى القول أن من أراد حمل الناس على محمدة فلا مندوحة له أن يزرع في نفوسهم يزور الانتفاع بها واكتساب الفائدة بتحصيلها حتى إذا تمكن تصور ذلك في أذهانهم أقبلوا عليها إقبال الناس لهذا العهد على ما يحب من الأزياء وعلي سبيل الاستطراد أقول أن من أراد الاقتدار على الترغيب وبلوغ الأرب فليقف أثار مخترعي الأزياء فهؤلاء هم أئمته العظام وشراحه الكرام وكل ما كتب الخطباء من التنبيهات لا يعدل بجزء مما يجري على ألسنتهم أو يصور في دفاتر أزيائهم فهؤلاء قد عرفوا الطباع البشرية وخبروا الأهواء الإنسانية وقبضوا على مفاتيح القلوب وعرفوا طرق الوصول إلى امتلاكها فمثلهم مثل واعظ كلف أن ينهى النساء عن إتيأن المعابد بالزينة والروائح الطيبة فقال لقد شكا إلي واعظ البلدة انكن تأتين المعبد متطيبات وعلى رؤوسكن أنواع الزينة وأنه طال ما نهى عن ذلك فزادكن النهي تمادياً في الأمر فاجنبه أن لاحق لك في ذلك. فتعجب واستغرب وقال ما السبب قلت إلا أن الأدب يقضي على كل من تعلم أن رائحة فمها خبيثة أن تتعطر وتتزين حتى لا تؤذي جاراتها فما سمعت النساء هذا الكلام حتى صفقت كل واحدة تنزل ما على رأسها من أنواع الزينة حذر أن يظن أن رائحة فمها خبيثة ومن هجرن التزين والتخلق والتعطر واقتصرن على الذهاب إلى المعبد بالأثواب النظيفة فقط.
فلو لم يكن هذا الواعظ فظنا ذا علم بما ركب في الطباع لذهب كلامه بلا فائدة كما ذهب كلام واعظ البلدة من قبل.
بيروت
سعيد الخوري الشرتوني